الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

نموذج الفاعل التاريخي

نموذج الفاعل التاريخي -كما يتمثله كولن- هو النبي أو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فالحراك الذي باشره الأنبياء عليهم السلام كان له هذا الأثر التسديدي الحاسم في المسيرة الإنسانية الكبرى؛ لأنهم تجهزوا لإحداث القطيعة على أكمل أحوال التجهز الروحي والقلبي، واستهدفوا تغيير الأبعاد الحياتية برمتها، فلم يهملوا الجانب المادي، ولم يستغرقهم الجانب الغيبي وحده، وإنما وازنوا في الدعوة -وظلت الدعوة عندهم عملاً وبناءً-، فكان الناتج هذه الاستقامة (والاستفاقة) التي طفقت ترتد إليها البشرية على هدي الدعوات السماوية.. وبذلك ظل الطريق يتمهد نضيدًا، ويتجدد للإنسانية كي تواصل سيرها في كَنَف الأخلاق والهداية السماوية.

ومما لا ريب فيه أن مهمة الدعاة اليوم هي ذاتها مهمة الأنبياء في زمن البعثات؛ إذ خاتم النبيئين أورث العلماء وظيفة النبوة فـ"العلماء ورثة الأنبياء"[11]، ولذا وجب على الداعية أن يتقمص ملء التقمص، روح النبي، ويجسد سُنته وعنفوانه ومكابداته واستناراته.

وعملية تخريج رجل الفعل والتاريخ عملية شاقة، يقتضي الشرط التنشيئي فيها استغراقًا لا مناص منه، ليكون الصقل تامًّا، والتهيئة كاملة؛ ذلك لأن مهمة تشكيل العزيمة أشبه بعملية تشكُّل البلورات المرجانية،[12] تقوم على الصبر المتناهي، والاستغراق المركّز على الذات، من أجل تحقيق عملية التخلق والتصلب والتبلور.

إن التاريخ هو العين التي نرى بها وجه المستقبل، وما نسميه تطورًا ما هو إلا تثمير لسجل المآثر، واستلهام لرصيد المنجزات التي تمت للأمة على مر أطوارها، واستغلال ذلك في بناء الذات وتقرير المصير.

إذ التاريخ مادة نافعة في تحريك الحمية، وهزّ الأريحية، فالجماعات والأقوام -مثل الأفراد تمامًا- يسكنها وازع التحدي، وإثبات الذات، ففي ممارسة التحدي إشباع لحاجة "الأنا" من مشاعر الفخار، وإغناء لحسّ المجد والمآثر في وعيها، وهو ما يحرّك فيها طاقة الفعل والنعرة والإقدام النافذ.

وتكون المضاهاة والتباري مع السلف كما تكون مع الغير، فإذا كان التقصير مسجلاً من جانب السلف، عملت الذات على تعديل المسار، والارتفاع بالمكانة، واستنقاذ الذاتية من عثارها؛ إذ انعكاسات نتائج الانبعاث والتحديث تشمل الماضي مثلما تشمل الحاضر. فإنجازاتنا الراهنة هي مداواة ومعالجة لما تركته نكسات الماضي، وانكسارات التاريخ فينا من رضوض وخذلان، كما أن انهزامات الحاضر هي تدنيات وتسفلات وتَدَنُّسات نرتكبها نحن في حق الأسلاف والأعقاب على السواء، وهي إساءة لأمجادهم المحققة، وتسييب للإرث، وتلغيم للأرضية أمام الأجيال.

ومن التعاسة أن يقتصر استظهارنا للتاريخ أو قراءتنا لصفحاته على تحصيل نوع من التعويض المجاني في مشاعرنا إزاء ما نتخبط فيه من تردٍّ وتَوَحُّلٍ.. أو لمجرد الذبّ السخيف عن الذات، والترويح عنها، وانتشالها الوهمي من رغام الهوان والخسة التي تلاقيها بسبب حال العجز والصَّغَار في عالم غطرسته تتزايد، واستخفافه بالمستضعفين يتصاعد، بل والتنكر لوجودهم ذاته يتأكد.

إن الوعي بالتاريخ وبصحائفه البيضاء، يعد أكبر محفّز على بعث الهمة، واستحداث قابلية التجدد والظهور. فسائر الأمم تستمد من ماضيها عوامل تحقيق المكانة والشأن، فلكأن التاريخ خزّان أرصدة لموازنة العجز، ومُوَلِّدُ طاقة يعطي الحرارة والوقود.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.