الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

مقام خيرية الأمة

إن تخلي المسلمين عن الميثاق، وتحللهم من الالتزام بدينهم، هو ما زحزحهم عن مقام الخيرية، وإن تنبههم اليوم إلى مسؤوليتهم الكونية -على رجع الضربات والتهشيمات التي لحقتهم ولا تزال تلحقهم مذ هانوا بين الأمم، وأضحى مصيرهم في يد العالمين- هو الذي جعلهم يثوبون إلى الدين، ويعملون على التواصل معه من جديد؛ إذ أيقنوا أن هوانهم ناتج عن مفارقتهم لتعاليم العقيدة، فحين تحللت عرى الإيمان في القلوب حلَّ الجهل والفقر والتفرق، وسهل على الخصوم أن يبتلعوا الأمة أوطانًا ومقدّرات، وأن يستبقوها في حالة الخزي راسفة.

طبيعة المأمورية المحمدية طبيعة دعوية، ريادية. والريادة لا تتجسد إلا ضمن صلات وأواصر انفتاحية، إنسانية، تمازجية. فالمأمورية الإسلامية من ثمة مسؤولية، وواجب ترشيدي تجاه الآخرين.

ومعلوم أن وظيفة الترشيد لا تسوغ إلا إذا كان الناهض بها راشدًا، من هنا كان العمل المنتظر منا مزدوجًا، فهو موجّه إلى الذات بقصد ترقيتها، وهو موجّه إلى الآخر بهدف تسديده، فبترشيد الذات تتهيأ هذه الذات لتأدية مأمورية الدعوة، وبكمال شمائل تلك الذات، تكتمل القوامة والمسؤولية ويتهيأ الأداء.

ومن المؤكد أن الانخذلات والانقهارات والشناعات التي تعيشها اليوم الأمة المؤتمنة على العُهْدَة، تسيء أكثر إلى الإسلام، على الرغم من أن الإسلام رسالة تامة الأركان، مهيأة دائمًا لأن تغدو منهجًا للحياة لا يبلى، لكن وضع الضعف والشَّوْهِ الذي عليه الأمة المتقهقرة لا يفتأ يتفاقم، ولا تنفك هي -لذلك- ترزح في الانحطاط، وتخسر الأشواط بعد الأشواط، وتلحقها الانكسارات، لا ترفع رأسها، ولا تحظى بأي اعتبار، ولا تزيد بتهلهلها وصغارها إلا في الإساءة إلى الإسلام ذاته. لقد باتت اليوم النعوت الشنيعة التي يتصف بها المسلمون نتيجة التخلف، تُطلق على الإسلام بصورة آلية؛ إذ يتوهم الغرب المعادي أن انحطاط المسلمين الراهن عائد إلى "حطة" دينهم، قياسًا بما مر به الغربيون أنفسهم حين كانوا منغلقين في دهاليز الأكليرجية الكنسية.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.