الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

مهمة رجل الفكر ونضاله

إن مهمة رجل الفكر ونضاله من أجل ظهور النظام الجديد، وتدشين التاريخية الجديدة التي على أمتنا أن تدشنها، مهمة مركزية، ولا مناص منها، بالنظر إلى ما يؤمَّل منه من تضحيات وعطاءات لفائدة الأمة: "إنسان الفكر والحركية هو رجل الانطلاقة والحملة، الحركي، المخطِّط، الذي يقوم ويقعد على خفقان شدّ العالم بالنظام الجديد، ويمثل حركة إقامة صرح الروح والمعنى من جديد بعدما آل إلى السقوط ومنذ عصور، ويفسر قيمنا التاريخية كرةً أخرى.. فهو في خطّ الحياة الممتد على مدى فصولها من الحس إلى الفكر، ثم إلى الحياة العملية.. وينشغل بحس البناء والإنشاء أبدًا، إنه ولي الحق اللدني الذي يُعِدُّ قادةَ أركانِ الروح ومهندسي العقل وعمال الفكر، بدلاً من استخدام القوة المادية لفتح البلاد ودحر الجيوش، وينفخ بلا كلل نَفَس البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشد أعوانه إلى سبيل عمران الخرائب"[34].

إن ما قامت به الدوائر التغريبية على مستوى التضليل والإفساد أمر فظيع، فلقد لبثوا يقترفون من المآثم المخزية ما انجرفت به مجتمعاتنا أو كادت إلى هاوية المسخ، لقد حملوا الأمة على أن تسلك طريقًا غير طريقها؛ ذلك لأنهم كانوا هم أنفسهم مخترقين بعلة الاستيلاب، لقد "خلب أبصارهم بريق رقي الغرب الصوري والمادي، فتكدرت بصائرهم.. فجرّدوا جموع البشر من السجايا الملية، وحرموهم من حسّ التاريخ، وسلبوهم الأخلاق الفاضلة، لهثًا وراء تقليد أعمى وشعارات خداعة.. بدلاً من إمداد أدمغتهم بالعلوم التجريبية وقلوبهم بالحقائق الدينية بلوغًا إلى الغنى المادي والمعنوي"[35].

إن عوامل الانبعاث متوفرة لدينا، ولعل سجلنا التاريخي مليء بالمحفزات المعنوية التي تجعلنا -إذا ما تدارسناها واستحضرنا عبرها وعظاتها- نعقد العزم ونمضي بإصرار وبلا هوادة إلى العمل والانبعاث، "ولا بأس أن نقول: بأن التاريخ التليد المجيد، والشعب المحظوظ الذكي الذي حمى وحفظ قضيته الكبرى منذ ألف عام، فطوّرها وصوّرها حسنًا وشكلاً، يحس بالتهاب جذوتها في الأرواح كرةً أخرى بوازع الحنين المزمن الحاد، فإن كثرة من الجيل الجديد يَبدُون وكأنهم رموز هذه القضية، وممثلو هذه الرسالة بفيض مشاعر الوحدة والتضامن، والعزم على الرقي بشعبهم فوق شعوب العصر، وكأن مآل المستقبل إلى أن يكون سرادقًا أبديًّا لهولاء ما لم تهب عاصفة مضادة لا تبقي ولا تذر"[36]؛ "إذ إن تلك المحركات التاريخية وجذور الشعب المعنوية لا زالت قائمة على قدميها ومتانتها"[37].

إن من واجب الصالحين أن يصنعوا تاريخهم وفق روحيتهم ومرجعياتهم، وأن يباشروا صياغته بعزيمة لا تلين، فكما ينخرط الزائفون في العمل الهدمي، وفي قولبة المجتمع على أسس مشاريعهم الهجينة المستجلبة، يتوجَّب على رجال الدعوة أن يصمموا مشاريع الخير والاستنقاذ والسعادة التي تفيد في بعث الأمة وتحقيق شخصيتها، "ففي كل زمن يوجد المجعجعين والادعائيين والمغالطين، ويوجد إلى جانبهم العاملون ببصيرة، المتثبتون في التسديد، المراهنون على ربح معركة المصير، فهؤلاء موجودون اليوم وسيوجدون غدًا، فالتاريخ هو تاريخ الذين يتشاتمون ويفترسون، وينصبون الفخاخ، ويفترون الكذب، كما هو تاريخ الصالحين والطيبين"[38].

لقد حان الوقت لأهل الصلاح أن لا يبقوا في وضع المتفرج، بل عليهم أن يخوضوا في الجهد الذي لا محالة سيستقطب الدفعات والجيوش، ولا بد أن تتجدد معه حمية البذل والتسابق على الحسنى، وعندئذ "يحق لنا أن نترقب نسيجًا مباركًا بألوان الغد السعيد يحظى باهتمام الإنسانية جمعاء، من هذه النقوش الصغيرة التي تغزلها بمغازل أفكار الخير أجيال محظوظة في الزمن الحاضر"[39].

إن رجال النور يحيكون التاريخ برِقّة ولطافة،[40] لا يتعجلون النتائج، ولا يتركون الفرص تضيع، يسددون ولا يخطئون الرمية، وكل ذلك نهوضًا بالأمة. وليس تحقيق رهان النهضة بالأمل العزيز إذا توسلنا إليها بوسائلها و"إذا قيّمنا الدنيا التي نعيش فيها تقييمًا صحيحًا من وجهة أفق الحكمة الذاتية، ففسَّرنا الأشياء والحوادث تفسيرًا صحيحًا، وشخَّصنا المتطلبات الأساسية لبناء إنساننا الداخلي.. وانشددنا بفكرة التواجد والحضور إلى الأبد، وما الذي يعيق الأجيال البصيرة عن تقدم الصفوف، ما دامت قادرة على تقييم الماضي والحاضر والمستقبل على صعيد واحد، وحامية لأعراف المجتمع وتقاليده وحركيات تاريخه، وماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات؟"[41].

وإذا أردنا استخلاص بعض ما قرأ به الأستاذ كولن فقه التاريخ وقوانين الانبعاث، قلنا: إنه من تجربته الميدانية، ومن خِضَم انغماره في العراك الدعوي، ترصد طبيعة الحراك والقواعد والعوامل والمفعِّلات المترابطة والصانعة للمدنيات أو المهدمة لها، وتبين الحقائق التي لا بد من الأخذ بها في تفعيل المشروع الانبعاثي والحضاري الذي ينشّطه، ولقد بات يعمل ويدعو العاملين المصلحين إلى وجوب مراعاة السنن الحضاري والمحركات التاريخية كما يسميها، والأخذ بها في عملية الإحياء ورسم خطط الإنهاض.

ومثلما تعلّم من علم التاريخ الكيفية التي لبثت المحركات الاجتماعية تعمل بها في بناء المدنية، أدرك أيضًا أن من نجاعة عمل الدعاة والعاملين أن يكونوا على معرفة بالتاريخ ونواميسه؛ إذ لا بد أن يعرفوا كيف يفسّرون قِيَمه كي يتسنى لهم إدماج تلك القيم في برامجهم النهضوية.

"فيلزم لوراثة الأرض السعيُ الجاد في الصالحات ابتداءً، بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه، ولنتذكر دائمًا أن المجتمعات التي لا تلتفت إلى الشريعة الفطرية المتجلية من القدرة والإرادة، وإلى مجموعة القوانين الإلهية الظاهرة من الكلام في الكائنات، وأن الأمم والشعوب التي تتعرض إلى التبدل داخليًّا في حياتها المعنوية، مصيرها إلى الخذلان غدًا، مهما كانت ظاهرة اليوم. هو ذا التاريخ وما أشبهه بمقبرة للأمم المنقرضة، يصرخ عاليًا بصوت الحقيقة: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:11).[42]

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.