الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

البكائية[43]

لم نكن نعرف موضوع الشريط، ولم نتهيأ لمتابعة أي بثٍّ مصور. فمن ذا الذي ينزل إسطنبول وتتطلع نفسه إلى الأشرطة والتسجيلات؟! البهجة والاعتبار والتأمل والوقائع يشاهدها نزيل إسطنبول تجري تحت بصره، وملء سمعه.. وشدتنا الصور الأولى، كان المنظر رحاب صلاة حافل بالأقواس والمصلين، وتابعتِ الكاميرا شخصا يتقدم وعلى رأسه طاقية بيضاء، لا هندام له، يتقدم في انشغال بادٍ، وانتهى الشخص إلى المنبر، عاين الناس، وعلى ملامحه ظلال تَرَدُّدٍ، اشتحان، تأهب مرير، وبلع ريقه مرات، ثم أخذ يتكلم.

بدأ كولن بكائيته هادئا.. مجرد خطاب.. ثم صعّد من الوتيرة والوطأة، ثم طوح به الدمع بعد أن ظلت ملامحه تتربّد وتقاوم شحنة الانفجار، ثم تملكته نوبة نشيج.. وحين استبدت به الغصة تحركت مواجع الاعتلال منه، وبات قصاراه أن يستعيد أنفاسه.. كان يختنق كمن يصعد في السماء.. كانت الحال تشتد به حتى لكأنه يتأهب للموت، للرحيل. وأحست الجموع دقة الموقف، وهبَّتْ ناحيته تعزي نفسها. لوَّحت الاذرع والأكف والأكمام والأردية تروّح على الوجه الذي انغمر في الضعف، وتبارت تطفئ النار المتوهجة حيالها في أعماق الشيخ. تحول الوجه مجمرا متقدا يلفح من بعيد.. مساحةٌ من الزمن ضافية استغرقتها المعاناة.. أشواط من المناضلة كابدتها الروح وهي تستعيد سكينتها.. البحر المتهيج انحسر والأمواج تهادنت والثورة خمدت وأنفاس العاصفة خبت.. الأنامل تقبض على اللجام.. أعادوا البيعة وجددوا الموثق وانحنى الفارس يرد على تلويحات الإكبار، وتأهب لجولة أخرى، ودخول المعترك من جديد بروحية أمضى وعزم أصلب.

الشاشة كلها دمع.. كولن يبكي.. دمع ينذرف من الجنبات والسقف والثريا والهواء، الجدران تبكي.. ساد السكون، لم أكن أدري ما تفاصيل هذا الموقف الجلل، لم هذا النحيب؟ أردت أن أصيح "اشرحوا لنا يرحمكم الله"، لكنني تماسكت، قلت إن الصورة تشرح ذاتها بذاتها، لا يمكن أن أفوت فرصة هذا اللقاء العذري مع المناحة.

كولن جديد يخرج من كولن قديم، وسبحان الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومضى الصوت يتكسر بالدموع، ثم يتمالك، ثم تعروه العثرات فيقع، ثم ينهض، ويروح بجهد جلي يَنفُض عنه الوهنَ، ثم يسترسل ليترنح من جديد وليظهر انخذاله.. شحناء من الغصص تمسك بتلابيبه.. كقطيع من إيناث الذئاب أمسكن بخناق فريسة، فطاولنها، وأنشبن الأنياب في نحرها، ولبثن ينتظرنها تتهاوى أرضا ليقمن الوليمة..

وعلى حالٍ تُراوح بين الهزيمة والنصر مضى كولن يرتب صفوفه ويساجل ذاته ويرتكز على عصاه، كطائرة تجتاز ممرات راعدة من الاضطراب الجوي. وشرع يستعرض الأسماء اللامعة من فرسان البعثة والفتح، أرباب السيف وصناع الكرامات، مَن تخلوا عن كل شيء لأجل مناصرة الله ورسوله. استحضر ذكرى استشهاد أبي أيوب الانصاري على مشارف القسطنطينية محققا بذلك الاستشهاد نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بأنه سيموت في الغربة.. واستدعى أسماء كواكب آخرين ممن شكلوا مجرة الإسلام في مستهل دعوته..

وتريّث عند اسم خالد بن الوليد السيف المسلول الذي ضرب الله به مُلك الساسان والروم، واستعرض بذات الصوت النازف مآثر هذا الصحابي الفذ ووقائع انتصاراته التي لا تعد، وانتهى إلى الحديث عن واقعة وفاته. فقد خرج من هذه الدنيا لا يملك شيئا.. هو الذي فتح الامبراطوريات.. واستدعى إلى الأذهان حادثة عزله، وكيف أنه سلم القيادة دون أن يكون له شيء أو أن يفكر في أن يكون له شيء من مباذل الدنيا. كان ما في ملكيته يساوي ما في ملكية أي مؤذن عندنا اليوم.

هكذا وبعبرات تشرق صوته مضى كولن يعدد معالم العظمة في حياة خالد.. عاش باسلا، وخاض المعامع الكثيرة، والحاسمة، وهو يبحث عن الشهادة.. وفي فراش الموت كان يتحرق على الشهادة كما يتحرق الأسير في قيده على الانعتاق.. زاره أحد أصحابه، فأراد خالد أن يقوم له فلم يستطع، فبكى، فسأله صاحبه ما يبكيه؟ قال ليس هناك بقعة في جسدي إلا وفيها جرح سيف أو طعنة رمح، ولكني لم أمت فارسا، وها أنا ألقى حتفي كميتة البعير.. ثم أرسل قولته المشهورة "فلا نامت أعينُ الجبناء!".

وهنا انفجر كولن وهو يقول بلسان الحسرة: حبذا لو متنا وبقي هو.. عاش من غير أثقال.. البطل الذي لم يكن له لباس صيفي ولباس شتوي.. مات ولم يترك شيئا..

استرسل كولن ينزف، توقف عند أسماء أخرى من سلسلة الزهر، ذكرهم بمآثرهم الخارقة، وتألم أن لا يكون له مثلهم باع وسيف صوَّال. تفجع أن يكون من المتعثرين في مضمار تسابق فيه الميامين. لكم تمنى أن يضع سيفا فوق قبر خالد، لأن الأبطال يحبون صوت السيوف..

وارتدّ كولن ينعي عجزه وقصوره عن أن يكون في مستوى ظل من ظلال أولئك الأماجد حتى يستطيع أن يمضي بالفتح والدعوة إلى آفاق أخرى: "أشكو إلى الله نفسي، أشكو أفكاري، أمراضي، للأسف لم أكن مثل خالد، لم أكن قدوة لكم، عاشوا في الدنيا وكأنهم يعيشون في فرح الآخرة، لم يفكروا في حق التمتع والاستفادة والكسب. لكن أنا أخذت خلال ربع قرن راتبا من الدولة.. كذبتُ عليكم كنت مرائيا.." وهنا يمسك بالمصحف ويرفعه ويقول مخاطبا إياه: "أعتذر إليك، لقد كذبتُ عليك، كان ينبغي أن يتوقف قلبي عندما أضمك إلى صدري"..

ثم يتوجه إلى المستمعين المنكسين قائلا: "لنستحِ من كلام الله، لنستح من الله، كنتُ أفكر في أن أمسك بأيديكم وأتجول بكم في السفوح التي يتجول فيها حمزة وعلي والصحابة الكرام، كنت أنوي أن أجوب بكم عصر السعادة، وألفت نظركم إلى ما كان يمثل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي من جلال وميمونية، كنت أريد أن أقول يا رسول الله هؤلاء طهر كالزهور، كنت آمل أن أُؤاخي أحدكم وأربطه بعلي، وآخر بعمار، وآخر بـ.. هذا كان حلمي.. أنتم مرشحون إن شاء الله أن تحققوا هذه الأماني، لكن أنا.. الذي عملت واعظا، وبعت القرآن، واستفدت من القرآن، لم أستطع أن أنقل إليكم روح القرآن، وإنما جعلتها وظيفة".

[1] مصطلح مفتاحي في العدة المفاهيمية التي يستخدمها الأستاذ كولن في مقارباته التحليلية.
[2] يسمي هذه السورة نهج السلوك، كما أفادني بعض طلابه.
[3] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:176.
[4] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:41.
[5] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:89.
[6] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:95.
[7] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:204.
[8] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:362.
[9] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:81.
[10] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:62.
[11] «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (رواه الترمذي، ص:995؛ رواه أبو داود، ص:992).
[12] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:81؛ ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:160؛ الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:17.
[13] من المفيد أن ننبّه القارئ إلى أننا في ما طرحناه ها هنا، لم نزد عن ترجمة بعض أفكار الأستاذ كولن، في بعض ما اطلعنا عليه من كتبه، وهي الكتب التي طفقنا نحيل إليها في التهميش.
[14] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:176.
[15] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:118
[16] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[17] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[18] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[19] رواه الترمذي، 2517؛ وأبو نعيم في الحلية، 8/390؛ والبيهقي في شعب الإيمان، 1212.
[20] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[21] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:202.
[22] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:89.
[23] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:233.
[24] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:331.
[25] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:441.
[26] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:16.
[27] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:10.
[28] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:18.
[29] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:19.
[30] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:28.
[31] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:29.
[32] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:38.
[33] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:41.
[34] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:63.
[35] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:74.
[36] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:104.
[37] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:107
[38] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:106
[39] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:119.
[40] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:122.
[41] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:127.
[42] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:14.
[43] هذا جزء مما كُتب بعد مشاهدة موعظة الأستاذ كولن التي ألقاها في 24 مارس 1991 بمسجد "حصار" في إزمير/تركيا..

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.