الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

الفحوى القدسي والمراس التعميري

وعلى صعيد الألمعية الذهنية، نسجل مدى قدرته على إقامة التوازي الوجيه بين الواقع والفكر، يتبدى ذلك مثلاً في تخريجاته التي يفسر بها الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية.

فهو بصير بتسديد معاني الحكمة، وتنزيل فحواها على الآيات، وذلك نوع من المراس الذهني التعميري؛ حيث تتمكن القدرة التأويلية من استيعاب المعنى وإنفاذه في لُحمة الدلالة القرآنية، وجعل المفردة القرآنية تتقبل المعنى التأملي الطارئ، وتترشح لتبنيه. وبنفس النباهة التوجيهية نراه يدرك الوقائع والأخبار والإشارات والمضمرات في السيرة النبوية ووقائع التاريخ، ويقرؤها بعين من يستخلص لأدواء الزمن الحاضر علاجات تم تجريبها.

ومن الواضح أن هذا المنحى التخريجي الدلالي يتساوق لديه مع ملَكة الارتجال والتوليد التي يتميز بها على صعيد الكتابة واصطناع المفاهيم والمصطلحات. ومن المؤكد أن هذه الملَكة هي امتداد لسجية التعمير المكينة في أعماقه؛ إذ لا ننس أن الارتياض الروحي الذي يدأب عليه الروحيون في وحدتهم، يرتكز بالأساس على فاعلية التخلية والتحلية؛ إذ جدلية التفكر والتدبر النشطة لديهم، تجد حيويتها في التجدد وتنويع الفرضيات، فهي سجال متواصل من أحوال التقويض والبناء الذي تعيشه الروح في خِضم تحسسها لنبض الأشياء وخفْق المعاني أثناء سباحة القلب في أمواج البحار.

فهذه السجية الإدراكية هي في الواقع أحد تجليات الحساسية التي يُكسبنا إياها الذوقُ، وتوفرها لنا العبادةُ، وينميها فينا التأمل والخلوة ومطالعة تجليات القدرة الإلهية؛ لأن التأمل يهيئ للروح ورشة عاجّة بالتعمُّل، هدمًا وبناءً، تظلها سماء السكينة والاستغراق.

يعيش الإنسان المسلم سَبْحَةَ التبتلِ في صلاته، ويعيشها في الاعتكاف، ويعيشها تارة أخرى في وتيرة ارتياد المسجد مرات في اليوم. وكل ذلك يتيح لروحه مراقي عروجية، أو على الأقل يهيؤها لأن تشارف -ولو عن بُعد- منائر النور، وتستروح نسائم الإيمان.

وإن عمق المشاعر والفيوض الذوقية في رؤية الداعية كولن هو بعض آثار ملازمته المسجد؛ إذ إن روحانية المسجد ببعدها العضوي، ممثلاً في ذلك الرصيد الحي من الزينة المعمارية المجسدة في رحابة المدى وتناسق أعمدته، وتناظر أقواسه، وفي تشكيل الزخارف، وتوالد النقوش التي تعمّ القبة والمنبر والحوائط، فضلاً عن أسْر المخاطبات التي يفضي بها صمت السكينة، كل ذلك يجعل النفس تستشعر أنها مغمورة في منابع من نور الأنس.. بل وكأنها في مقام يحمل إليها من المباهج ما يعطيها اليقين بأنها في حضرة الباري، وأن "الوجدان قد قرَّ في فلك طبيعته وفطرته، وأن الله يُسْتَشْعَرُ به في أنفاس الوجود والصورة واللون، في كل شيء يسيل إلى نفوسنا من مداخل الآذان والعيون والأحاسيس" .

هذا الاجتياح اليومي السلس الذي يمارسه علينا الجمال المسجدي، يهَبُ النفسَ مقدارًا من السماحة والرحابة المعنوية، ما يجعلها تتفتح على الحسن، فتتشرَّبه في كل مظهر من مظاهره، ولون من ألوانه، وليس هذا فحسب، بل إنه يحفّز في الروح بواعث إنتاج الفن، وإظهار ما تختزن الملكات من استعداد وجيشان.

لا بد من التأكيد مرة أخرى، أن الأصفياء، أهل الانشغال القلبي، هم أساسًا أصحاب ملكات فنية كامنة لا تفتأ تشعّ بوهجها من خلال سلوكهم وشخصياتهم. إن محمول أرواحهم من الحرارة -التي نراهم ينجذبون بها نحو تبني القيم والمثُل- يتولد مشبَّعًا بدافعية الذوق التي تستوطنهم، والتي تنعكس على هيئاتهم، وغالبًا ما تأخذ صورة وداعة مسلكية، أو لطْفٍ خُلقي، أو نبل شعوري.

هناك حس فني ملموس، ظاهر للعيان، يميز شخصية أهل التقوى الأصلاء، يكون بمثابة المطالع المعلنة عن الموهبة، والعنوان الدال على الاستعداد والتهيؤ القريحي.

إن مخزون الطاقة النورية التي تسكنهم وينجرفون بها وراء الأهداف والرهانات، يسع مُقدّرات رحيبة من الأحاسيس الفطرية الموصولة بقابلية الفن والحسن لديهم. أرأيتم كيف عبّر النبي الكريم عن هذا الوازع حين قال: «حُبّب إليَّ من أمر دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة» ؟ إن هذا الحديث الشريف يكشف من بعض جوانبه، عن وضع الانجذاب إلى ألوان الحسن. ذلك الانجذاب الناتج عن الاحتراق الفطري في الروح السوية، تشوقًا إلى الجمال، تشوقًا إلى الله.

وإن انجذاب أهل التقوى إلى الفن والجمال هو من جنس هذا التشوف الذي عبّر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق وفي أحاديث أخرى عديدة.من هنا نرى أهل الهمة يُنتجون جمالاً في ما يطرحون من تعاليم، ويصبغون بالحسن رؤاهم ووصاياهم، ويَصدُرون في كل ما يقررون عن روح متغذية بالفن؛ لأنها حبلى به، تُفرِزه كما تفرز النحلةُ شهدها؛ لأنها لا ترعى إلا شهي البراعم، ولا تُطَوِّفُ إلا على أزكى المزاهر. ولم تستحكم في نفوس أهل العشق تلك الطبيعة الملائكية، وتلك السكينةُ اللافتة، وذلك الامتلاءُ البادي في سمتهم وفي حركاتهم وفي تأملاتهم، إلا لأن في أرواحهم جوهرًا من إيمان، جذوةً من يقين، قبسة من مشكاة النبوة.

إن المُصلَّى حين يواظب على غشيانه الفردُ، يُكسبه أنَاةً كأَناة أهل الفكر، ورزانة كرزانة أرباب الفن. وحين نرى أتقياء ملتاعين بالشوق، تطاردهم حِدَّتُهم، وتقذف بهم من موقع إلى آخر تفجيراتٌ باطنية لا قِبل لهم بها.. ما أكثر ما وُصموا لأجلها بالجنون؛ فذلك لأن بركان الروح يعرف نشاطًا يقتلع الجبال.. في الحالين، حال الكمون وحال الثوران، روحُ التقي تتقد.. فهو هنا يُنضج الثمرة على نسائم فجرية وأشعة ربيعية، وهو هناك يصهر المعدن في فرن من الذوْب المشتعل.

ولا ريب أن مجانين العشق هم في مخاض متعسر دائم، وكياناتهم أبدًا ثائرة من الداخل، فهم -من ثمة- يتسربلون بأقنعة تُموِّه عن فوران أرواحهم، وما يحتدم في قلوبهم من جمر وحسرة؛ ضيقًا بالواقع ورفضًا لتشوهاته ومخازيه. إن العلة الباعثة على تلك الثورة واحدة؛ لأن المصلح كالفنان، تسكنه روح لا تهادن القبح، ولا تساكن الضعة وعوامل الانهيار.

ولا ريب أن كتابات كولن تسفر عن قريحة فنية جلية، فهو ذو أدبية عالية، واقتدار فكري وخطابي بارع. إن روحه روح الفنان، ومنهجه منهج المصلح، ووعيه وعي الخبير. لذا كانت صلته بمجال الفنون قوية وطبيعية، فالزهرة تبتسم للشمس بفطرتها، وإن حقيقة تواصله الوجداني بشتى الأجناس، لاسيما المعمار، وأصالة استمداده منه ما يغذي رؤاه ويطبع أحكامه، حقيقة تؤكدها النظرة الموضوعية؛ إذ إن الاحتكاك بالأشياء المؤثرة يهيئنا للألفة معها، وفي ضوء تلك الألفة تنطبع في دواخلنا انعكاسات من الماهية الحسية (الجاذبة)، وتحتل موقعًا نابضًا على مستوى الوجدان، وتندمج في منظومة الملكات وفي الذوق وفي الحس التقويمي عامة، فتضحى طرفًا من آلية التقدير والحكم والتمييز. وتلك كانت تجربة كولن في علاقته بالمعمار، وهو ما رأيناه يبرز في كتاباته؛ إذ شاعت الإحالة إلى المعمار، وحفل خطابه بالصور والمفاهيم الأرشتكتورية كما سنرى لاحقًا، بل لقد توسمنا في شخصيته المعنوية ذاتها صفة الاستيعاب الذي يميز العمارة المسجدية؛ إذ إن كولن ينهض اليوم بوظيفة المسجد ليس فحسب على صعيد التجنيد الجماهيري، والتهذيب السلوكي، والترقية الإيمانية، ولكن، وهذا الأهم، من حيث احتواء واكتناف واحتضان الأتباع.. إنه بمثابة الخيمة المنتصبة في قلب الصحراء، والمُشرعة في وجه الطارقين.

فما تنجزه فِرَق المتطوعة في كل آن من مشاريع الخدمة والرعاية والتنوير الروحي والتثوير المعنوي المُرَشََّد، يأخذ على صعيد الواقع شكل القباب السامقة والخيام الرحيبة التي لا تفتأ تتوالد وتتزايد في سماء الخدمة، تحتضن الفئات، وترفرف عليها بأجنحتها.

ولا بد من التأكيد أيضًا أن وازع الإبداع في روح المصلح النهضوي هو -حتمًا- من القوة والرسوخ بمكان؛ لأن المصلح يراهن على الأشمل والعيني والواقعي. فتحدياته مناطة بإبداع الواقع وتحويره في العمق، وهمَّتُه تعارك من أجل أن تَقلبه رأسًا على عقب، وتصمم له صورًا وظلالاً وتلوينات، وتضع مُثُله ورمزيته موضع التنفيذ، وتجهزه بما يعمم النفع، بحيث تحيا النفوس رخاءه، وتسعد بمكاسبه عمليًّا وليس افتراضيًّا.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.