الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

الخطوط والتشكيلات وأثرها على موجدة الإنسان الصوفي

"القلب المشحون بشيء من المشاعر يحس كل لون وصورة، وصوت، ونفَس، شعرًا ونغمًا متلونًا بألوان اللانهاية".

توفر بيئة المعمار إطارًا حافلاً من ارتسامات الانشراح التي يطيب للنفس أن تتذوقها، وأن تتمرس بها ذهنيًّا، وربما حتى جسديًّا. إن مصطلح "المواقف" الذي يتردد عند المتصوفة، يعكس في جوهره تلك الجاذبية التي تحدو القلب إلى تغيير الخفقة، وتبديل الإيقاع، وتنويع الخطوات والأشواط ، تمامًا على نحو ما يجنح الجسد في الأحوال المختلفة إلى تبديل الوضعية، وتجديد المنطرح، فالجسد يتقلب بإرادة أو بغيرها (لا شعوريًّا)، بحثًا عن وضع الارتياح.

الخطوط التي تُظِلُّنا في المحيط المنزلي أو المعتكفي، تمارس علينا بأنواعها قوة جذب. وإنّ سُمك القبة فوق رؤوسنا ليس كما هو حال السطح القريب من رؤوسنا؛ إذ شعورنا بحجم الانفساح من دواعي الانشراح. ومثل ذلك نستشعره في تأدية الصلاة؛ إذ التمرس بوضعيات الركوع، والسجود، والانتصاب، وبالاستغراق في القعدة، والتربع، وفي ما سواها من الأوضاع الجسدية، هو في الواقع خطوط يصنعها الجسد، بدافع البحث عن الارتكاز الممتع، والاستناد الذي يتهيأ فيه للروح أن تتمثل الأداء على أكمل وجه.

إننا ننام لتجدد النفسُ طاقتها، ونقعد للتلاوة كي تستجِمَّ ملكاتُ الاستقبال بكيفية مفيدة، وننهض للصلاة ونؤديها واقفين على وفق حركاتها وسكناتها؛ إرواء لحاجتنا إلى العذوبة. وكل ذلك يتم موصولاً بالإطار المكاني الذي نحن فيه، فحين ندخل المسجد، ننجذب إلى بقعة ما، ونتخطى إليها السواري، بل حتى حين نخلو بأنفسنا داخل المسجد، ترانا نتخير موقعًا للتنفل، أو للتلاوة، أو للتأمل.. ولو تساءل أحدنا لماذا أحيانًا يجد نفسه وقف وغادر مكانه، وسار إلى بقعة أخرى في المسجد، واحتلها؟ لما خفي عليه الباعث النفسي، والجاذبية الحية التي تشدنا إلى تخيير الحيز.

إن الفضاء بخطوطه وحجمه ومساحته وشكله، يؤثر على الروح، وعلى الجسد الحالِّ فيه، أو المقيم به. وإن الأثر لَمتبادل بين الظرف والمظروف، فإذا كنا نميل إلى صبغ البيت بلون معين، فليس ذلك بدافع مزاجي وروحي ذاتي فحسب، ولكن أيضًا لأن من لونية الجدران، ومن سمكها أو شفوفها تنبعث ناحيتنا آثار كهرو-فيزيكية، لا مناص لنا من تلقيها والتفاعل مع أثرها على نحوٍ أو آخر، حتى وإن كنا لا نشعر بذلك إلا في ما ندر.

ولما كانت المآثر الحضارية وفي مقدمتها المعمار، مقومات روحية، وذات سلطان سيكولوجي على المجتمع، فإن المؤكد أن تأثيرها على الأفراد المؤهلين وجدانيًّا وقريحيًّا، يغدو أكبر وأرسخ؛ إذ إن نفوسهم المرهفة، كما تتفتح على الطبيعة وعلى ألوان الجمال، تتغذى بها وتستمد القوة، كذلك هي تنجذب إلى مجالي الجلال الذي يمثله قطاع المعالم التراثية، لاسيما ما جسَّدته القريحة الفنية في ماهيات معمارية خارقة، كتلك التي أنجزها الفن السناني.

إن ما كتبه كولن عن السليمانية وعن أياصوفيا وغيرهما، إنما هو تَوَلُّهٌ جارف، يعبّر عن استحكام سحر الجلال الذي انغرس في المواجد التركية، بتأثير المركبات المعمارية الباهرة العظمة.

"من الصعب التعبير عن المكاسب التي حصل عليها الإنسان جراء بحث ومناقشة حتى الأمور الدنيوية في المعابد، أي في الأماكن التي تظلها العناية الإلهية" .

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.