الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

القبة في وجدان كولن

القبة هي التراث المشترك لبلاد الشرق، وتاج عمارته، ومَجْلى براعته الفنية وروحانيته القلبية. القبة صعيد الاكتمال، ومُجَسَّم الاستدارة، والعود على بدء. في تكورها وتشابك أقطارها وتساوي أوتارها يتجسد الإيمان والتوحيد ووحدة الأمة، بل وحدة الإنسانية عامة بإزاء الخالق.. توارثت مجتمعات الإسلام فن التقبيب، وبرعت فيه.

فمنذ العصر العباسي ومرفق القبة يعرف التطور والانفساح، فمن القبة المضلعة إلى القبة المبرجة، إلى القبة الصقيلة، إلى التاجية (تقف على قاعدة أسطوانية قائمة)، ومع العهد العثماني ازدهر معمار القبة المتوالدة. العثمانيون اصطنعوا المعمار للتعبير عن عبقريتهم، أو أن المعمار كان أظهر الآثار الجمالية التي أودعوها سيمياء شخصيتهم. المعمار العثماني توليد فذّ، واستلهام فريد لمعمارية الحضارات الآشورية والنبطية والفارسية، واليونانية والفرعونية والهندية.. هذه دورة الحضارات، كل حضارة تستخلص ما انتهى إليه السابقون من فنون، ثم تبصم عليه بروحها، فتكتسب على ذلك النحو حقَّ الملكية.

القبة في وجدان كولن هي العمامة، والعمامة رمز الإسلام وتاج المسلمين، وهي أيضًا خوذة مُحارب يحمل السيف، ومظلة تقيه الحر والمطر، وتكفل له العصمة والمنعة.

ولقد برز مشهد القبة في وعي كولن على أكمل صورة حين وقف على الروضة، في الحرم النبوي الشريف. فهنالك تمثلها هيئة موصولة بالجهاد والمجد، وبالتاريخ العظيم للسلالة المحمدية، وما قدمت للبشرية من أنوار الإيمان والعقل المبرأ من ميثولوجيا يونان ورومان. "تبدو القبة الخضراء.. وكأنها جواد أصيل وقف على قائمتيه الخلفيتين" .

بل يمكن أن نتبين علاقة التجانس بين صورة القبة والفرس المتوثب، وبين هذه الصورة التي يتمثلها كولن للمتنسك، حين يصفه في المشهد التالي: "إحدى ساقيه في أفق اللاهوت والأخرى في قطب الناسوت" .

فالضراعة من مضمرات عنصر القبة، وإن ذلك ليوعز بحال كولن؛ إذ حال الأمة البئيسة تستنفر قلوب أهل الكمال، فلا يزالون يستمدون اللطف والعون من الخالق.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.