الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

أياصوفيا.. ذات الأجنحة المقصوصة

لا يفتأ فتح الله كولن يتصور للقبة أجنحة، ولا يزال يرى أن في تعطيل وظيفة الجامع قصًّا لتلك الأجنحة. بذلك تَمَثَّلَ حالَ أياصوفيا التي نالها البلاء؛ إذ إن عاديات الزمن قد "قَصّت أجنحةَ هذا المعبد العظيم الذي كان قد امتزج بهوية هذه الأمة، وبحياتها الروحية عصورًا طويلة" .

من جهة أخرى نرى أن مشهد إحاطة "الضباب" بالمسجد، هو الصورة التي يتخيرها كولن للمساجد الواقعة في الأسر، تعبيرًا عن وضعية التعطيل التي تكبلها. وإذا كانت جمالية المسجد، كما يلقطها كولن، مركبة، "إبداع داخلي، ومنظر خارجي فخيم" ، مضاف إليهما "معان مادية ومعنوية كبيرة، ترتجف لها قلوب الأهالي" ، فإن أيا صوفيا -بحسبه- قد حُرمت الحسن الداخلي فلم يبق لها إلا قوامٌ مُتَهاوٍ، أشبه بعجوز تُوارِي تجاعيدَها بالمساحيق، وتضرب صفحًا عن التبسم، كي لا يسقط منها طاقم أسنانها المتآكل.

"أيا صوفيا التي نراها كسيحة اليوم، جددت عذريتها عبقريةُ خير الدين، ودشنها الفاتح، وتعاقب عليها أهل العبقرية يضيفون إليها تزيينات حسب الذوق الفني في عهد كل سلطان" .

كانت أياصوفيا بحق خامة معمارية، سجلت في تطورها، أطوار تنامي العبقرية العثمانية، وديناميتها، وأصالتها.

"أيا صوفيا امتزجت بروح أمتنا، وتشربت بها، وتغلغلت في أعماقها إلى درجة أنه على الرغم من مرور كل هذه السنوات، فإن من يقترب من جوارها، ويدخل في جوها النوراني المضيء الخاص، ومآذنها الغارقة في الصمت، يحس بتداعيات معان عديدة من عصورها المتنورة، وكأنها تهمس في أذنه كصديق قديم بعض الأحاديث، وتهمهم ببعض الكلمات، وتحاول التعبير عن بعض المعاني. وكلما اقتربنا نحن من جوارها نتأملها وننظر إليها كجوهرة خلّفها لنا أجدادُنا العظام، نتخيل أنها تبتسم لنا، وتحاول أن تخاطبنا، وتهمس في أرواحنا بعض المشاعر الخفية" .

ويلح عليه الحزن لرؤية أياصوفيا -كشأن كثير من المساجد والمقدسات- تعيش البطالة والاحتباس، فتستدعي المشاعرُ مرة أخرى مشهدَ الضباب، تُصوِّر به الحال المكفهرة "إن أياصوفيا بمنظرها الضبابي، وبلونها الضارب إلى البرتقالي.. هي أقرب ما تكون إلى زهرة برية غريبة، وليست زهرة من الأناضول" .

فالوصف بالضباب، والتلوين بالمشهد الداكن، هو الصفة التي لازمت الإعراب عن حال الانكسار التي رأى كولن المساجد التركية تعيشها. ولا شك أن نفور كولن من الضباب -هو ابن الأقاليم المثلجة على مدار أشهر من السنة- يعود إلى مزاج يكتئب بمنظر الرطوبة الدكناء. فمزاجه كما تترجم عنه أدبيته المتفتحة على الألوان- مزاج ربيعي، يعشق الضوء والانفراج والمواسم المبرعمة. لذا سنراه يواتر استخدام نعت الضبابية في مواطن الكدر والتألم، فيصف بها الزمان والمكان وأحوال الاحتواء والإطباق "الليل الضبابي الذي يلف كل شيء" ، "سيزول الضباب الجاثم على صدرها" .

وذلك لما يجده في صفة الضباب من ملاءمة مع ما يقوم في نفسه من أسى حيال الأوضاع، وما لحق الدين والمقدسات من استهتار.

صمود أيا صوفيا يرمز للقوة التي تُؤمِّن البقاء الملي في الأناضول. فأياصوفيا هنا، بهذا الدور الذي حدّده لها كولن، تمثل سائر الكيانات التعبدية التي -إذا ما فعَّلناها- ستستعيد مهمتها، بأن تكون رباطات لا تنفذ من صددها إلى الحمى أيادي الأعداء.

ولقد تعود كولن أن يقرأ سيرة كل معلم معماري، ويستعيد تاريخيته، كما فعل مع أياصوفيا والأقصى، والكعبة والسليمانية، وما سواها.

ففي ذلك نشر لصحائف مُذهَّبة خطَّتْها الأمة بيمينها، لكن التغريبيين لا يريدون للأجيال أن تعرف ذلك.. من هنا كان حرص كولن على قراءة مسار كل مسجد يستدعيه الذهن، وتسوق إليه الخواطر المحمومة؛ إذ في ذلك تذكير للأمة بهويتها.

بل نراه لا يفتأ يكشف عن نفسيته من خلال تشخيص تلك المعالم، فحين يصور لنا أياصوفيا على ذاك النحو المكسور الذي تبدو فيه، وهي "كشخص سُدَّ فوهُ بعصابة قوية، فلا يستطيع التفوه بكلمة، بل تكتفي ببلع ريقها.. تحاول أن تقول شيئًا، أو تبوح بشيء فلا تقدر، وبحزن العجز والهجر تكاد تنكفئ على وجهها كمدًا وحزنًا، وتتحول إلى مجرد كومة من اللبنات الجامدات" ، فإنما كان يصرح بما يعيشه هو، وما يكتنف عالمه الذاتي من غبن ومصادرة، بل إنه يصف واقع الأمة ويقرأ حالها وما تنوء به من أرزاء وهوان، فما كانت حال الصالحين إلا حال أممهم أبدًا.

وجلي هنا، أن كولن ظل دائمًا يرى في المنشآت المعمارية موجودات حية، معبرة، تقاسمنا المشاعر، فهي بالقياس إليه كائنات ذات فكر وروح، وأن هذه الخاصية من الحيوية والوجود الحق، لا تزايلها إلا في حالة واحدة، عندما تتوقف عن وظيفتها الروحية، أو -بالأصح- حين تُعاق عن القيام بها.

ولا يزال يرصد للمسجد المعطل عن وظيفته صورة الكائن المعتقل، أو الشخص الواقع تحت طائلة التكميم. ما أشبه المسجد "بشخص يرنو ببصره إلينا، ولا يستطيع أن ينطق بما في قلبه". فمنظر المساجد منكسة، يستثير مواجعنا؛ إذ تجمعنا وإياه لواحم موصولة بالسماء. وبطبيعة الحال فإن القهر والعجز لا يتيحان لنا أن نفعل شيئًا لتخليصها وتحرير أنفسنا مما ننغمر فيه من هوان. فلا يسعنا عندئذ إلا أن نتأسى بمزيد من أحلام اليقظة، وسط أجواء مقيتة من الحداد، "كلما شاهدنا حالها هذه -أياصوفيا- بدت في أعماق أرواحنا آمال عوالمنا الداخلية، ورغبات من خيالاتنا. هنا تنتبه جميع مشاعرنا النائمة والغافية، وتتحفز للقائها واحتضانها في صباح يوم مشرق، ومشاهدةِ أحلامنا المرتسمة عليها، وندع أنفسنا في سيل من أحلام، في ديار من الضباب والدخان" . فالمشنقة المنصوبة لأحلامنا، تعبر عنها تارة أخرى صورة الضباب الرديف بالدخان؛ دلالة على الانهيار.

إن العجز والهرم والقهر هي الخلفية التي يتكون منها ديكور لوحة أياصوفيا. ومن خلال شَخْصَنَة أياصوفيا، يصنع كولن ملامح لوضع الأمة قاطبة، ويُظهر ما يسكنها من تطلع إلى التحرر، إلى المخَاض:

"أيا صوفيا التي اصفرّ وجهها، وبهتت من البكاء الألوانُ والأنوارُ، وانهدت طاقتها بعد كل هذه السنين العجاف.. أياصوفيا هذه حملقت على الدوام بنظرات واهنة، تحمل كل معاني العتاب في وجوهنا، وطوال أعوام عدة انتظرت بكل ما حواليها من حزن منعكس على الزهور الباهتة اللون، وعلى نافورات الوضوء المترقرقة بحزن، والطيران الحزين للحمام البري.. انتظرت على الدوام البطل الذي ينقذها" . تُرى، هل حديثه هنا عن أياصوفيا أم عن الأمة بالذات؟

المهانات نفسها، والحجر عينه، والانتظار ذاته.. فالحال هي الحال، وحكم الفرع من الحكم على أصله. وواضح أن تواتر لفظ الحزن في السياق، جاء علامةً شعورية معبرة عن ما تتكبده روح كولن، بل أرواح المسلمين الواعين بهول الدراما، حين حيل بينهم وبين مقدساتهم، وأحبطوا عن ممارسة سيادتهم الروحية والمعنوية.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.