الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

مرصود كولن الأدبي وحقل المعمار

تقوم العملية الذهنية كما تجسدها الكتابة، على توظيف ما يمْثُل في الوعي وما يثوي في اللاشعور من مقدرات إعرابية وتصورية، تنبني عليها فاعلية القول والنشاط الكلامي. من هنا تتلون مخاطباتنا بألوان وأصداء من المشاعر والأحاسيس، تخلفها فينا تجارب عشناها حينًا ما، وتعْلَقُ أصداؤها تلك بالوجدان وتستقر في اللاشعور. إننا في تصريحاتنا وأقوالنا، لاسيما تلك التي تصدر عن أصالة إعرابية وتسديد فكري جاد، نمزج رصيدًا حيويًّا من لوينات نفسياتنا، ونكشف عن ظلال من متجذراتنا العاطفية، فهي تصدر عنا في صورة خلجات وتَرَشُّحات يبعث بها اللاوعي، ويتحقق بها الوعي والفكر والخطاب؛ ذلك لأن الإنسان ابن لاشعوره كما يقول كولن، تتكشف بواطنه ومواجده وما تأثرت به سيكولوجيته (من تجارب مر بها في الراهن، أو عبر مراحل العمر)، وما استوعبه من عوامل بيئية وثقافية وجمالية، ترسبت في الروح، وحبلت بها مَبِيضات الإحساس والارتشاح الانفعالي، لتُسَرِّبَها عند الاقتضاء في شكل دوال وصور ومجازات واستعارات، وما إلى ذلك من القيم البلاغية والأدبية الواصفة، واللاقطة، والمقربة للأفكار والمعاني التي يبثها الكاتب. يرى كولن أن الإنسان ابن لا شعوره، وكلّ سيتصرف حسب طبيعته.

وإذا عدنا إلى تفحص مقومات خطاب كولن، فسنجد أنه كان يستلهم من حقل العمارة مساحة ملموسة من تشبيهاته.. وبما أن إقامته في أكثر مراحل العمر طراوة وتأثرًا (زمن الفتوة والشباب) كانت في المساجد ودور العبادة، فلا بدع أن تنتمي طائفة من صوره الثابتة، وتشقيقاته اللغوية المتواترة، إلى فن العمارة.

استمع إليه مثلاً وهو يتحدث عن بعض شطحات ابن عربي، ستجده قد استخدم لغة المجاز الموصولة بالمعمار؛ ذلك لأنه وجد في معجمية المعمار مندوحته في وصف هذا الصوفي، وفي قول ما يريد قوله عنه بالكيفية الأخلاقية المناسبة: "ابن عربي ضاقت عليه أُطر الباب، ولمست رأسُه القبةَ المضروبة على رأسه ومقياسه".

فلفظ القبة الذي وظَّفه كولن هنا توظيفًا تصويريًّا موفقًا، جاءت به الصورة بارعة، واضحة الدلالة، وهي صورة انبثقت عن وجدان توطدت الصلة بينه وبين المسجد أو النافذة تحديدًا، يؤيد هذا أنها وردت متبوعة بما يجانسها في سياق واحد، نقصد لفظ الباب.

لا بد أن نؤكد هنا أن الكفاءة الأدائية، مشروطة باحتياطنا من الخبرة ومن مخزون اللاشعور؛ إذ في عملية البث، والإعراب، والأداء، لا تمتد يد الذهن والوجدان إلا إلى أقرب الدوال الأقدر على التعبير عن الموقف، والأنسب لتغطيته (أو بالأصح لتعريته)، والكشف عنه.

إن التلقائية هي تلك المرونة والآلية والتوفيقية التي نستظهر فيها مشاعرنا أو نواري عنها. من هنا كانت اللغة هي السجل الذي يُوَثِّق لنا خريطة حياة الفرد وتجاربه؛ لأن الإنسان وإن ظل يتوسع في معجميته، ويكيّفها مع المراحل، إلا أنه يظل موصولاً بمنابت لغوية وبمحاصيل صُوَرية، يتعلَّق بها وجدانه (أو تتعلق هي به)، وتختم بمبصمها على ملكات الإنشاء لديه، فهو لذلك يتداولها برجاحة، وعلى نحو سافر أو مقنَّع.

سنرى لاحقًا كيف كانت تيمة الباب والقبة والنافذة، من الدوال التي يلفتنا تواترُها في كتابات كولن، لاسيما في كتابيه "ترانيم روح وأشجان قلب، و"ونحن نقيم صرح الروح". وإذا أردنا أن نسارع إلى إعطاء تفسير تبسيطي لهذا التواتر (التداول)، فعلينا أن نتذكر حياته في النافذة، بالمسجد؛ إذ كانت النافذة تأخذ شكل باب من حيث مساحتها، وتأخذ في الآن صبغة قبة أو مكتنف.

وعلينا أن نتذكر من صعيد آخر تجربة أخرى عاشها كولن الطفل، وقد تبدو أنها غير ذات أثر لمن لا يقدّر مدى تجاوب النفوس الغضة مع الحوادث التي تعيشها تحت ضغط معين، وفي ظروف عمرية معينة. وهذه التجربة كان كولن عاشها يوم كان يدرس الدين والعربية تحت السرية، يومها قطع الثلج بينه وبين مسكن المعلم جار الأسرة الذي كان يتعلم كولن وبعض أفراد أسرته عليه، فأصر الأب على أن يفتح نفقًا ويهيئ ممرًّا تحت سمك الثلج، ينفذ منه الصبية إلى بيت المعلم، حتى لا ينقطعوا عن التحصيل، وحتى لا تظهر آثار خطاهم على الثلج فيفتضحون.

إن هذه التجربة موصولة بالباب؛ إذ لا باب للنفق الثلجي، وهي أيضًا موصولة بالكهف الذي سنرى كيف سيحفل كولن برمزيته ويستلهم معانيها لحياته؛ إذ إن ذلك النفق الثلجي أتاح للأسرة أن تخرج عن وضع الحصار، وهي كذلك موصولة بالعقيدة الإسلامية ذاتها؛ إذ هي تجربة تحقق لهم فيها على نحو ما معنى الصراط المستقيم. نؤكد ذلك لأن مشاعر الطفل تتلقى الأحداث، وتعيش الوقائع، بتصور غير تصور الراشدين.

ونسجل من جهة أخرى أن مصطلحات المساحة المكانية كانت هي كذلك أحد مصادر تشبيهه (ضيق الوجود.. رحابة الأنس). بل إننا نجد أن مقومات الأرشتكتور العصري تلابس هي كذلك حاسته التعبيرية، فلذلك جاء الخطاب مفتوحًا على تقنية المعمار الحديث وتجهيزاته؛ إذ إنه يجد في المعمار مادة أدائية ودلالية توسعية. فـمرفق "المصعد" مثلاً، الذي هو آلية العمارة الحديثة، يوظفه كولن في خطابه الصوفي؛ لأنه يتيح للتعبيرية أن تغطي بواسطته أفقًا سلوكيًّا وشعوريًّا تجديديًّا. إن تيمة العروج التي لبثت تدور حولها مخاطبات السالكين، ظلت تحيل إلى الأثير، وإلى البراق، وإلى ما شاكل ذلك.

إن هذه الموضوعة قد انفتحت على وسائل الارتفاق المعاصر، فأدمجت ضمن أدواتها مرفقَ المصعد. وهو كما نعلم من لوازم الأرشتكتور الحديث. ومعلوم أن اللغة الشعرية حين تدمج مقومًا دلاليًّا ما، فإنها تخرجه تخريجًا إحساسيًّا جديدًا؛ بحيث لا يعود الذوق الخطابي يرى فيه سِمَتَه التعيينية الأولى، بل يرى تجلية أخرى تُوسِّع من مدلوليته، وتضفي عليه قيمة غير التي كانت له.

لا يفتأ يستمد من حقل المعمار مجازاته وتوشياته وإشاراته، إرسالاً للذائقة الخطابية على سجيتها، وإفساحًا للمجال التعبيري في وجهها؛ لتسترفد من أودية الوجدان ما استقر فيه، وتوطَّنَ، من مؤثرات فن العمارة وتجلياتها، "نزيد بغزل النقوش على أردية تسربل المستقبل"..

ولما كان التصميم مكينًا لديه على ترسيخ الخطوات، وتعميق أسس المشروع النهضوي، رأيناه لا يفتأ يشدد على تأصيل أسس العمل الحركي، وجعلها وطيدة لا تهتز.. ولا يزال يحض على توخي السبل والشروط التي تضمن استمرار العمل، وتطور نتائجه، وقد وظّف لهذه الدعوة، عُدَّةً لغوية يستعيرها من حقل العمارة: "نجدد إعمارها، فمن الأسس المهمة لنهضتنا.. العشق.. والمتانة" .

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.