الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

كولن.. الإعجاب بالفن والعشق والخدمة

كلما استطرد كولن بالحديث عن الكفر (الكفر نظام مغلق، وخانق..)، نشعر أن طعم الانقباض والانحصار والانحباس ينبعث في النفس، ويعرب عنه الخطاب بصورة متقززة متقرفة؛ إذ الانفعالية تسفر عن وجهها. وذلك أثر عكسي من آثار ما كابدت النفس وتجرعت نتيجة طغيان المفسدين.

وتسعفه لغة العمران والتعمير في الحديث عن الوضع الإسلامي القائم؛ إذ تقترن في حسه أحوال الانسحاق المزمن التي وطّنتها في ضمير الأمة السياسات (المتهالكة)، وتتقاطع مع أحوال التهدم والتبدد (والخراب) التي تتراءى له في واقع المجتمعات الإسلامية وفي مستواها المادي المتدني، فيأتي الخطاب محملاً بمشاعر وصور الانهيار، ولذا نرى كولن يدعو إلى وجوب إثبات وجودنا، وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى، بتعمير خراب حسّ الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن.

وحين يحمل المرء روحًا ثورية، مجنونة بعشق المُثُل والكمال، فلا ريب يكون أكثر جنوحًا بمشاعره إلى الفن، والتفتح عليه، تذوقًا وإنجازًا. وكل انجذاب إلى لون فني ما، إنما يدل على قابلية تتشرب أجناس الجمال جملة؛ إذ لا يتعاطى المسكون بعشق الفن إبداعية حصرية ما، إلا ومنافذ قلبه مشرعة في وجه بقية الأجناس. فالرسام شاعر، والشاعر نحّات، والعازف سارد ملحمي، والمسرحي مُنشِد.. إنما المصلح يستجمع في شخصيته كل هؤلاء، ويحتوي سجاياهم؛ لأن فطرته هيّأته لأن يكون على مستوى من الإبداعية شمولي؛ إذ رهانه على بناء الإنسان كلي، وتعقيدات تلك المهمة تقتضي الخبير المستوعب لكافة الأسس التي تقوم عليه إنسانية الفرد، حتى لا يكون الجهد محدودًا، وعرضيًّا، وسطحيًّا.

ولم تفتأ الأيديولوجيات والطوباويات تفشل في تخريج الإنسان الكامل، وبناء المدينة الفاضلة إلا لأنها طفقت تتعاطى مع الإنسان بعُدة معرفية قاصرة، لم تكد تجتاز بالحلم مسافة، حتى ينهار.

ولا يزال جهابذة الإصلاح، يتميزون بالقدرة الخارقة التي تراهن على جعل الواقع الغليظ مشاهد من الحسن يغدو بها الخط البياني للمدنية في ارتفاع؛ إذ بذات التركيز والحرقة والإنهاك الذي ينجز به الرسام لوحته، والكاتب رائعته، والنحاة مجَسَّده، كذلك الإصلاحي، ينبري لتشكيل روح عصره، فينشئ الصرح المدني الجديد، وبذاك يتيح لمجرى التاريخ أن ينعطف نحو الحياة الأفضل.

يؤمن كولن أن القدرة على توظيف اللغة دليل العبقرية، "الكلمة طريق إلى القيادة وإلى الخلود" ، بل إنه ليعتبرها من عوامل التأهيل والقدرة على القيام بدور يسهم في توجيه مسار الأمة، ويحقق المرضاة الإلهية.

وإبداعية كولن التي اتخذت من الخطاب المنبري، والدرس المسجدي، والكتابة التنويرية، مجالها الأرحب، هي من الغزارة والأصالة ما جعلها تستفيض، فتشمل مجالات التفكير والتنظير الموصولة بالإنسان وبحضارته.

وإذ يمارس كولن الكتابة، فلأن وازع التعبير يلحّ عليه؛ إذ الحرف أوكسيجينه، والكلمة رئته، ودافعية التفريغ الشعوري هي حاجة من حاجات النفس التي تضغط على ذوي القرائح بلا هوادة. إن الكتابة عند الألمعيين رسالة وفن؛ لأنها تقترن عندهم بروح الإصلاح، فالكلمة الإصلاحية تنفذ إلى الساحة وهي معبأة بطاقة التغيير والبناء والترميم والتسوية، إنها تتصدى إلى المفاسد، مشحونة بطاقة احتراق، وقودها فؤاد المصلح ووجدانه وكيانه.

إن أهل الفن يصوغون بالفن أرشتكتور نفوسهم، ويجسّدون ما يحملونه من فكر وجمال وأسرار في ما يشيدون من صروح الإبداع. ولا تهيم الجماعات والشعوب بأشعارها الوطنية ودواوينها القومية، إلا لأنها تجد فيها ما يحيي ضميرها الجمعي، ويُندِّي مشاعرها المشتركة، ويغذي روحيتها، ويوقظ وعيها، ويخصب أحلامها في التقدم والتعمير.. الفنون السامية قطاع من الإرث الرمزي للأمم، وقد تنبغ أمة ما في لون أو أكثر من ألوان الجمال والتعبير، ومن المؤكد أن الشعر الروحي التركي رصيد عالٍ من التعبيرية بلغت منجزاتُه مستوى ألحقه بالعالمية، ونفس الحظ بلغته المعمارية العثمانية.. وحين ينوّه كولن بتراث أمته الأرشتكتوري، فلأنه يجده يلبي لديه الحاجة الوجدانية للتغني بالهوية ومظاهر فلاحها.. ثم إن كولن بطبعه التمثلي، وروحه المتولهة بالعشق، ينخطف بكل مظهر جمالي ذي صبغة روحانية، من هنا كان شغفه بالمعمار المسجدي قويًّا، لما يمثله ذلك الرصيد التراثي الباهر من مقومات رمزية ومعنوية موصولة بالهوية والتاريخ والعاطفة الدينية.

بهذه الروح المسكونة باللطائف أحب كولن الفن عامة، وأحب الأدب خاصة، وعشق الكلمة، ورأى فيها نعمة يسبغها الله على العبد حين يجعل له حظًّا من موهبة الإبداع: "اللغة نعمة كبيرة من النعم التي أسبغها الرحمن الرحيم على الإنسان، فبها يتغنى الإنسان بإنسانيته، وبها يتوجه نحو العلم، وبها يعيش في الأجيال القادمة" .

ولقد وعى أهمية ودور الكلمة في التجنيد وتحشيد الأخيار وراء المشاريع والنهضات: "الكلمة أهم واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى قلب آخر، والذين يحسنون هذه الواسطة من أرباب الفكر، يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إبداعها في القلوب وفي الأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود، أما الذين لا يحسنون هذا، ولا يستطيعون، فإنهم يقضون أعمارهم في معاناة فكرية، ثم يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن يتركوا أثرًا فيها" .

بل إنه لواضح هنا أن كولن يرى في الفن وفي الكلمة الهادفة وسيلة البقاء، ثم إنه يؤمن أن الفن عامة، والأدب خاصة هما اللسان المعبّر عن هوية المبدع، والمُجَلِّي لخصائص شخصيته. فالتعبيرية الأدبية تستوعب من مقومات شخصية الكاتب والأديب والمصلح ما قد لا يعي به هو نفسه؛ إذ الانبثاق الوجداني الذي تتم به عملية الإعراب، يحمل معه من لوينات النفس، ومن سمات تفكيرها، ومعالم هويتها، ما يتيسر معه على القارئ المتمحص، أن يستكشف صفات ومكنونات تلك الشخصية، أو بالأحرى شيئًا مما يميز أعماقها. فالتعبيرية في الفن كالتعبيرية في الدين، لا تُوارَى، ولا تُمارى، ولا يوضَع فوقها حجاب؛ لأنها في الحالين تنبثق من الوجدان: "من أراد أن يبحث عن العظماء في الفن وفي الفكر، فليبحث عنهم بين المفكرين المؤمنين بالحق تعالى، والذين لا يستبدلون بعبوديتهم شيئًا" .

وإن أبرز سجية يقف عليها الدارس لخطاب كولن، هي الوازع الأخروي الجلي في نفسيته، فقد لبث هذا الوازع حاضرًا في ثنايا مكتوباته، الأمر الذي يجعلنا نقول: إن كولن يرى الحياة من خلال الآخرة، فقد نمت لديه رؤية روحانية جعلت البعد الأخروي يغدو جزءًا مركزيًّا من وعيه (في حين البعد الأخروي عند الإنسان العادي، مقموع بإرادة الفرد نفسه؛ لأن حب الحياة لا يترسخ إلا بنسيان الآخرة، أو جعلها احتمالاً بعيد الوقوع).

إننا نجد هذا الحس الأخروي لديه يأخذ صيغًا عدة، فهو حينًا تعَلُّقٌ بالميتافيزيقا، وهو حينًا آخر، اعتمال رومانسي جذاب، وهو حينًا ثالثًا مشاعر استثنائية خرجت عن المعتاد، وتكيفت على الماوراء، كالتطبيع مع الموت، والحديث عنه حديث الشوق، بل والنظر إلى واقعة الموت على أنها ليلة العرس.

لقد رأينا كولن يستدعي ذكر الآخرة في مواطن إعرابية لا تحتمل هذا الاستدعاء، بالقياس إلينا نحن الذي يضعون الدنيا في مركز الاهتمام: "لم أر مثل جمال بلدي موضعًا آخر فيه كل هذا الجمال والسحر الذي يبعث حزنًا أخرويًّا رقيقًا في قلوبنا" .

فالرؤية هنا على الرغم من شحنة الابتهاج التي صدرت عنها، إلا أنها سرعان ما وجدت في استدعاء الآخرة سقفًا تنويهيًّا تنتهي إليه، الأمر الذي يبين أن كولن تخطى روحيًّا الاعتبارات التي يتداول بها المجتمع قيم الموت والحياة والغنى والوجاهة، وغير ذلك من الأفكار والأحكام والمسلَّمات التي يتبعها الناس. والسر في هذا هو أن كولن أفلح في تعديل علاقته بالدنيا، ونجح في تغيير ما بنفسه، فتوثقت من ثمة صلته بالمُثُل التي مجَّدها الدين، وقرَّرها أسسًا لبناء الحياة.

ولا ريب أن الروح التي صدر عنها هذا التعبير السالف، تحمل شيئًا من آثار صلته بالأرشتكتور؛ إذ جمال المعمار وخلابة الزخرفة التي ساكنها في المسجد، كانت موصولة على نحو وثيق بعالم الآخرة، فوطدت أكثر من هذا المنحى التذوقي الذي جعل الحواجز بين الدنيا والآخرة تنهار في حسّه.

كانت إرهاصات الإبداع الفني تلوح على كُولن منذ الفتوة، ولا تفتأ تظهر في سلوكه وميوله.. لقد أبدى مبكرًا نزوعًا ذوقيًّا وجماليًّا تجسد في ما كان يحرص على إضفائه على نفسه وهيئته من سمت الأناقة والتهندم والزينة. إن حرصه على مظهره كان يعكس طبيعة سيكولوجية تجد في مكامنها الفطرية الدوافع الجارفة نحو الجمال والحسن. فجذوة الفن هكذا تبدأ، شَغَفٌ بالحسن يتركز على الذات، ثم يستحكم الميل والنزوع ويضحى عشقًا وانحيازات إبداعية قد تتألق في اللوحة، أو النص، أو المخطط المعماري، وقد تتكشف في صورة فلسفة نهضوية، وعقيدة عمل خلاق، يتخذ من صنع الإنسان الصالح هدفه ووسيلته لتحقيق الغاية الجمعية السامية.

أهل الله يسلكون إلى تنفيذ الإبداع خطة احتسابية متجردة؛ إذ يرون أن علة ومصدر كل ما ينفذونه من أعمال ومشاريع إنما هو الله، منه استمدوا الكمال والفلاح، وإليه يرفعون الجهد ويحتسبون العطاء، فيما يرى غيرُهم أن الموهبة والعبقرية هما مصدر ما أنجزوا ونفّذوا.

لقد كان كولن عقلية تأملية، ولا ريب أن العقل التأملي يتغذي -لبناء تصوراته وتمثلاته- من كل شيء تقع عليه العين، لاسيما إذا كان هذا الشيء من طبيعة فنية تخاطب المشاعر بواسطة لغة الصنعة والتساوق والتنفيذ المبهر كما هو شأن المعمار.

ولا بد أنه كانت تمر عليه الأوقات الطويلة وهو -في إقامته داخل المسجد- مركوز النظر، يتتبع هندسة القبة، ويلاحظ رهافة الفوهات الفضائية المرتسمة على دوحة الأقواس، ويرصد التجويفات المعلقة في الهواء، والمتلاحمة من غير ارتكاز ظاهر. لقد لبثت تلك المشاهد، وما تبعثه في النفس من خواطر وأفكار، ترسو على مهل في قاع الوعي، ولا ريب أن كولن كان يُمعِن بخياله في الاسترسال وراءها، ويمزج في خواطره خواطر أخرى كانت تسكنه، تتعلق بتعمير من نوع آخر كان يحلم بإنجازه. لقد كان يستلهم من تفاصيل الشبكة المعمارية التي تظله، أسرار التكوين والإنشاء؛ إذ كانت نفسه تنوء بآمال كبرى وبرامج بناء ومشاريع جنينية تملأ روحه، كان يستلهم من نسيج القبة كُنْهَ وسر التموقع الدقيق الذي أخذته الأحجار دون أن ينبو بها امتداد أو محيط. كان يستحصل علم الخدمة والتجنيد، يستقرئ مبادءه في تشكيلات السقف، وتحديبات الأعطاف، وفي تساوق الفصوص وتصافف الدعائم المنحوتة، وفي توازي الأعمدة الأسطوانية المترامية، وتوازن الأطواق المجنحة في الهواء بلا سند جلي إلا تساند كلي -غير ظاهر- ناجم عن تلاحم أفراد وفقرات المشهد.. على ذلك النحو كانت أبواب فقه الخدمة وأسسه، تنبثق في ذهن كولن وهو يتقرَّى فضاء الجامع وهندسته ومعماره، ويدقق في تفاصيل ردهاته، وتراوح عرصاته.

"أحيانًا يرتفع صوت جديد من المنبر أو من المحراب أو من إحدى المقصورات الخلفية، يتناغم مع ذلك الترتيل المتكرر المنساب بهدوء ونعومة من المعبد، فتحس بأن فيضًا من الضياء والنور قد نثر فوق طرقنا وأنفاقنا وممراتنا، ونتوجه إلى بُعد آخر باِيقاع آخر، وكأننا تلقينا أمرًا جديدًا بالتحرك والمشي".

إن كولن هنا يكشف لنا عن شاهد من شواهد تجربة التنسك التي عاشها في النافذة بين جدران جامع "أُوجْ شَرَفَلِي"، وإنه لفي وسع المرء أن يستقرئ من هده الشواهد شريطًا عن سيكولوجية الأستاذ في تلك المرحلة والظروف. على أن ما يهمنا الآن في هذه التصريحات، هو المرفد المعماري الذي ما فتئت تسترفده، فاللغة الفضائية والتعبيرية الضوئية، ومخاطبات الحركة، جلية في السياق، كأثر من آثار الوجدان المسجدي.

سلوك الاعتصام الذي عبر عنه إيواؤه إلى النافذة، يعكس سيكولوجية مركبة تُعَبِّر عن نزوع التصون والتفرد من جهة، وتعبّر عن جنوح فطري إلى مساكنة المجتمع والجماعات من جهة ثانية.

ثم إن الدلالة الروحية، الامّحائية، جلية في ذلك السلوك، لقد كان كولن يتأبَّى عن أن يقتطع بقعة لنفسه في الرحاب الطاهرة، فكان أن تنكب وعاش على الهامش، في وضعية برزخية؛ إذ هو موصول بالرحاب، معزول عنها في ذات الآن، وذلك تدبير اقتضاه حسّ الأدب والحرمة التي تملأ أعماقه حيال المسجد، فكم هي بالغةٌ، دلالةُ تلك القصص والأخبار التي تواترت عن رموز من آل عثمان كانت تحملهم روح تعظيم الدين على أن يتجشموا شاقّ الأوضاع؛ توقيرًا للمقدسات، كان أحدهم يقضي ليلته قاعدًا؛ تأدبًا أن يتمدد في اتجاه يوجد به المصحف مثلاً.

كان الفضاء المغلق للمسجد حيث يقيم، يشكّل لروحه سماء تظله، فكان يعيش هناك أشبه بأهل التحنف حين استغرقتهم الحاجات القلبية، فلبثوا يَسْتهدون الآفاق، ويبحثون عما يرشدهم إلى اليقين.

لقد كان يعاني من حرقة متفاقمة وهو يبحث عن الوجهة التي تمكّنه من أن يجد النهج السديد للعمل.

كان يؤمن بأن العلماء هم -حقًّا- ورثة الأنبياء، وكان على وعي بأن هؤلاء الورثة حين ينخرطون في العمل، ستلازمهم المخاضات الشاقة، وتستغرقهم أحوال من التكهرب هي بحجم الرهانات التي يتصدون لتحقيقها.

لقد لبث يسقط على قطاع الأرشتكتور الديني لبلاده، عواطف لا تغور؛ إذ ظلت تلك المعالم تمثل له مِلكية من الكنوز القدسية، بحيث كان يترآى له في كل نقطة وامتداد، وكل خط وانحناءة، ملمحٌ يوعز بالماضي المجيد، هذا الماضي الذي بات في عهد الردة فريسة للتكسير والتكسيح.

الأرشتكتور فن الموازين التي لا تحتمل أدنى خلل في المقايسة، ولا تتقبل أي انزياح ولو بشعرة، عن نصابها، في حضرته تتلقن النفس والمشاعر أبجدية التسديد، وقواعد الموازنة والتنسيق. المسطرة الأخلاقية تستمد أيضًا معاييرها من حقل المعمار.

ولقد تحدث هيجل في معرض تحليله لفن الأرشتكتور قائلاً: لا يحتاج الإنسان إلى ما قد منحته الطبيعة الخارجية (من إمكانات)، ولكنه يحتاج إلى عالم منجز بيده هو، ولأجله هو وحده، عالم مهيأ لتأملاته الداخلية، ولتتحاور الروح مع الله ومع ذاتها. فالمعمار منجز إنساني يتزاوج فيه الجانب الجمالي مع الجانب النفعي.

والنفس بمساكنتها معمارية المسجد، تستمد الإلهام من مصدرين: من الفن، ومن الدين، وتتطبع بالرقة والغنى والجوهرية التي تنهلها من جو المساكنة تلك، وكل ذلك عاشه الأستاذ كولن، وحمل في أعماقه آثاره.

كولن تحول إلى جزء في الكيان الأرشتكتوري حين أقام في النافذة. تحول كولن بدوره إلى أرشتكتور رمزي حين سكن النافذة، وصار جدارًا يحمي الوديعة، أشبه بحال الخضر مع كنز الأخوين اليتيمين كما تقص مواعظ القرآن. المسجد صار جسده؛ إذ حل فيه، يحتمي به، ويعتصم ضد نوازع الفتوة والغربة وهروبًا من حرب تراهن على دكِّ أسوار تلك الروح العذراء التي حملها الفتى بين جوانحه. قصد إلى المسجد فرارًا من ملاحقات بائعات الهوى اللائي أطمعهن فيه شبابه وملامح النبل والجاذبية البادية عليه.

سكن المسجد ليُتاح له أن يقتل شيطان الجسد المتأهب في داخله، واستقر تحت سواري الجامع لواذًا من شرور الغواية والانغماس التي كانت سياسة العهد الطوراني تبيد بها أخلاق العفة والطهر والإيمان، فكانت تلك النقلة إلى المسجد أول خطواته على طريق التخلص من درن الجسدية، ليستبدله بطهر القبة وحرمة أجوائها الروحانية، فلم يبقَ له منذئذ إلا أن يندمج قي الحجارة، وأن يتحول إلى حبة طابوق في كيان من الغرانيت، ليصير بمر الأيام، كينونة روحية كريستالية تشعّ بوهج القرآن. منذئذ تحول كولن إلى روحاني، تتعشق أعماقه معارج الماوراء.

هي برزخ، ومحطة انتظار على الطريق إلى المبتغى، وهي كوة من حيث تهفو الروح إلى أن تقبس أنوار الله، ونسائم فتوحه. النافذة هي ثغر المرابطة، من حيث يُرصد العدو، وتنطلق الحملات ضد العدوان. بل النافذة اختيار نهائي للمقام الذي بلغته العشيرة -آل عثمان- حين احتضنت راية الله، وأضحت ملة، مُحَضِّرة للعالمين.

النافذة هي الإسلام ذاته الذي اختار كولن أن يثبت عليه، بعد أن عمل المبطلون على ترحيل القبيل، إلى خارج حظيرته، إلى مواطن تخييم، بوادي الضلال. يتماهى كولن في النافذة، ففيها معنى الشفوف، والشفوف مطمح ذوي النفوس المزكاة. ويتعشق العمارة لأن من خصائصها صفة الصلابة، والصلابة الإيمانية خصيصة أصلية يروض عليها الدين الإسلامي، ويوطنها في النفوس السوية.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.