الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

تماهي الشخصية في المسجد

يتماهى شخص كولن في المسجد فيصير "هو" طفلاً، ويتماهى المسجد فيه فيصير "المسجد" بدوره طفلاً، والقاسم بينهما اليتم.

يُتمُهُ مزدوجٌ بفقدان جدَّيْه من جهة، ثم بإحساسه باليتم من حيث الهوية من جهة ثانية، وفي هذه النقطة كذلك يتواشج مع المسجد، فلقد رأيناه يُنْعِتُ المسجدَ بـ"يتيم العثمانية".

المسجد في مشاعر كولن سلطان نافذ الحكم، حارس للتراث، وضامن للاستمرار، والعلاقة التي تربطه مع المسجد علاقة مشهودة، فهو صاحبه ورفيقه الملازم له على مدى ساعات النهار، يجوبان الساحات، ويذرعان الحارات، وينزلان الأحياء وهما يسيران جنبًا لجنب، أشبه بتِرْبين شبَّا يسلخان المراحل معًا، فهما من ثمة مشاعر واحدة، وروحًا مشتركة، يتقاسمان الخواطر والخلجات؛ إذ بلغا من عمق التمازج ما باتت به أحاسيس الواحد هي أحاسيس الآخر، فهما لذلك يتحاوران بالصمت، ويتناجيان بالنظرة: "المعابد تهمس بوقار ورزانة" . بل إن مقاليد تحرير نفسه هي بيد المسجد: "نرى المعبد كأنه مؤذن يقوم بتحرير مشاعرنا المدفونة في أعماقنا" .

وأعمق ما تكون هذه العلاقة غورًا، حين يختليان إلى بعضهما بعض، هنالك تتشرَّع منافذ القلب بلا تحفظ، وتندلع مكامن الوجدان بكل ما وسعت من فيوض، وينطلق اللسان يعرب عن نشوة التوحد، فما من سر دفين إلا همس المسجد له به في تلك الخلوة التي تجمعهما، "تهمس المعابد أحيانًا في أعماقنا معاني عميقة، وخفية، تشرح بها صدورنا، وتشبع حاجات أرواحنا وخيالاتنا" . يقص عليه المسجد أخباره، ويفضي إليه بمكامن تشيع فيه الأمل وحب التطواف في المجهول "أحيانًا نستمع إلى المعابد بلذة ووجد عميقين، كأنها في جوها النوراني تحثنا على رحلة أبدية، فيلفنا قلق من يهم برحلة غامضة في طريق سري، لا نعرف عنه شيئًا" .. بل إن مواقف النجوى داخل المسجد لتبعث في أعماقه القوة والصلابة والتوثب، بل إن أطوارًا من التجنيح تنفتح في وجهه، فيحيى من ثمة أحوالاً من العشق والإبحار "أحيانًا نحس وكأننا نطوي المسافات في الأرض، وكأننا في سجال معها، وأحيانًا كأننا نذرع السماء، ونصل إلى أحوال خارج الزمان، وخارج المسافات" .

إن مفاعيل روحه الموصولة بالمسجد، هي مصدر هذا النبض العروجي الذي يتاح فيه للقلب أن يُحَلِِّّق في أقاليم الغيب المشرقة؛ حيث تخرج الحياة عن منطق الماقبل والمابعد، وتسري في روح الوجود سكينة تتسرمد الزمنية بها، وتغدو حالاً، هي ذروة الانتشاء التي ينفحنا بها المسجد في سوانح العشق.

فمما رصده كولن من تجربته في هذا الصدد بالذات، قوله: "يشعر الإنسان في المسجد باليوم والأمس، بالأمس وبالأبد معًا وبشكل متداخل، فكأنه يسبح في بحر واسع من فكر العبادة ومنبعها ومعناها" .

ما أكثر ما هيجته موسيقى السماء، وهي ترتفع من المآذن وتؤجج اللواعج في القلوب المتيمة بحب الله. إن وصْلة الأذان هي قمة أخرى نَبلغها في رحلتنا اليومية، ونحن نتعقب خطى الحبيب، ونستروح نسائم نشره. عشق الأذان يلح عليه؛ لأن كُولن رجل سمّاع، وكل قرآني لا بد أن يكون "سَمِّيعًا": "إن نغمة وصوت الأذان عندنا النابع من عواطف وأفكار الموسيقيين السابقين، هو اللسان الخاص لهذه الأمة" .

وإن أول ما طَبعتْنا به بيوتُ العبادة التي تُهيِّئُنا في جوها للآخرة أن جعلتنا نحذق الإصغاء، نتسمَّع تناغيم تكبيرة الإحرام لدى قيام كل صلاة، ونرهف الأذن إلى التلاوة. وما أعجب تلاوة الفجر وقنوته، ونسترق أصداء بعيدة لتراجيع السماء، تلك هي أصداء موسيقى الملكوت، فلأوامر ذي الجلال ونواهيه مواكب من الملائكة، تتنزل بها وتتصعد، والكون كله أهازيج تعظّم السلطان وتسبح بحمده، "كل صوت يرن في آذاننا.. ينشئ قببًا فخمة وعظيمة فوق رؤوسنا" .

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.