الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

البعد المعماري للزمن

"هناك إنسان ينحت الزمن لحسابه، وهناك إنسان ينحته الزمن طوال عمره" .

المواسم بالنسبة لكولن، هي تشكيل فاخر من الفرحة والتقوى، والعزم على التجدد، وترميم معمارية الروح. يُعَدُّ كتابُه "ترانيم روح وأشجان قلب"، سجِلاً للعواطف والتدفقات الشعورية التي تطرأ عليه حين تحل المواسم القدسية، لاسيما شهر رمضان والعيدان.

ومما يتراءى لنا ونحن نقلب صفحات هذا الكتاب، أن روح الداعية تفتأ أجواؤها تتغير كلما هلَّ عليه موسم مقدس، أو وطئ مكانًا مباركًا. فللزمان والمكان سلطان على النفس، لا مهرب منه، ولا مفر.

بهذا السجل الذي جاشت فيه أعماق الداعية روحيًّا وقلبيًّا، وانفتحت على المواسم والفضاءات القدسية، نجد عالمه الداخلي مرصودًا. فمن أول ما نلاحظه أنه لا يعيش هذه المواقيت والأصعدة إلا في جو الحفاوة الصامتة ، أو أنه لا يحييها إلا وهو سابح في بحر التأمل والتدبر واستشعار الأحوال التي تغمره.

المواسم الفضيلة -بالنسبة إليه- زوّار يحلون بساحنا من أقاليم خارج الزمنية، وكل مناسبة قدسية إنما هي يد تمتد إلينا من وراء الزمن، وتخرجنا خارج الزمن. هذا بالضبط هو معنى العيد، أن لا نجدد الزمن، إنما نرحل من مملكته سويعات، إلى خارج حدوده، هناك حيث نعيش "بشرى البداية في ضمن النهاية" .

لرمضان زمنية مقيسة على قامة كل صائم، وللعيدين لون قزحي يرى فيه كل مبصر عشقه من الألوان، وتلك هي معجزة الزمن؛ إذ هو خيمة واحدة تظلنا، وكل منا يعيش أُفقه الخاص به؛ إذ تحتَ سقف تلك الخيمة هناك من يستدفئ بشمس وهاجة، وهناك من يستنير بقمر منير، وهناك من يحيا الليل الداجي، وهناك من يستشرف إشراقة الفجر، وآخر يُشَيِّع بحزن اصفرار الغروب، ولكلٍّ ساعةٌ وميقاتٌ، والنهر واحد، والزمنية قاطرة تقلّنا جميعًا.. هناك الصاعد المتعجل، وهناك النازل المتردد، وهناك المتأهب، وهناك الغافل.

ونجد الحس الأرشتكتوري يرسم الزمنية في مظهرها القدسي (موسم رمضان) ومبناها التشكيلي النمائي (الحركي)، فكولن حين يعرب عن عشقه لرمضان الفضيل، إنما يصور هذا العشق من خلال ابتداع هندسي فضائي: "إن أيام رمضان (...) تكون مركزًا لكل الاهتمامات (...) وعمودًا حلزونيًّا من النور للتسامي.." .

إن الشعرية هنا تمزج بين ذائقة الفضاء (عمودًا)، وبين إحساسية الحركة (حلزونية)، زيادة عن حسية اللّون (النور)؛ لأن المقام حبوري، احتفالي، تجددي.

يعيش كولن العيد بزمنية الماوراء؛ إذ يدرك لذلك الموعد السحري "دقائقه وثوانيه النورانية التي تعدل السنوات" . بل إنه -شأن أهل السر- يرتد بروحه إلى النبع ذاته الذي نفحته منه تلك النسائم والهبَّات، فينشر جناحيه على المشهد كله، ويقبض على شغاف قلبه، يكفكف مدامع من لم تَلُحْ ناحيتَهم لفتةٌ من العيد.

يخرجه الموسم الحافل عن نطاقه؛ إذ يتحول إلى خلق جديد، "ويصبح كأصحاب الأرواح الهائمة فوق المكان وخارجه" .

قد تسنح له المناسبة السعيدة أن يشارك الآخرين فرحتهم، هنالك يستشعر أنه أدى إحسانًا، لكن تفوقه على نسبية الزمن بأبعادها الثلاثة، لا يتم إلا إذا شاد مرصده القلبي، وعاش عالمه الساحر خارج هذا العالم المحدود. بل إنه يتحول إلى معنى العيد نفسه بكل أحاسيسه ووجده ولهفته ومشاعره.

إن العيد بالنسبة إلى كولن هو قبة (أرشتكتور) وارفة، تزرع الحقول بالياسمين؛ إذ "في كل عيد تقريبًا نتخيل وكأن العيد قبة محاكة من النور والألوان والمعاني والروح فوق رؤوسنا، وكأننا نستطيع مشاهدة اللانهاية من النافذة الصغيرة أو الكبيرة (انظروا إلى التداعيات) الموجودة في هذه القبة" .

تسكن كُولن في المسجد مشاعر عروجية، لا تقرُّ في المكان إلا على مقدار تحصيل الامتلاء القلبي، ثم تعاود الارتحال، بل إن كل مشهد في أرشتكتور المسجد، هو جناح يُقِلُّه إلى الفردوس، وكل بقعة هي مهبط للروح، تسكن إليه منهكة، بعد تجنيحها في آفاق التأمل.

للروح في كل يوم رحلة أو أكثر، تحملها من الأين إلى الأين. اليوم موسم، وللروح رحلتها الموسمية، أشبه بالطير، تقطع اليابسة من أقصاها إلى أقصاها، وتجتاز المحيطات من الحافة إلى الحافة، لا تتزود إلا في مضائف يعدها لها الله، ولا تحط إلا في منازل تستهدي إليها بالغريزة، وتنفذ إليه بنور التوكل الذي يعمر صدرها.

المسجد في تلك المواسم النهارية يضحى مصيفًا لمهرجانات وكرنفالات قزحية، وصعيدًا زمرديًّا، تلونه الشميسة ساعة الإشراق، كل شيء من حوله ينضح بالانتعاش.

"في المسجد نشعر كأن أعماقنا امتدت إلى السماء، ونحس بأن فيضًا من الضياء والنور قد نُثر فوق طرقنا وأنفاقنا وممراتنا، ونتوجه إلى بُعد آخر بإيقاع آخر، وكأننا تلقينا أمرًا جديدًا بالتحرك والمشي، في المسجد تدأب الروح على الهجرة من الذات إلى الذات، ومن إقليم إلى إقليم، وعند كل سجدة تترجى الجوارح نيل الرضا والتوبة.. وليست التوبة إلا نوعًا من التعمير والإصلاح في الداخل، نستطيع بدموعنا المسكوبة تعمير وسد كل ثغرة.. في قلوبنا، أحاسيس المسجد تلمسنا فتوقظ الذعر فينا، وكأن العشق والشوق اللذين كانا في غفوة في ركن من أركان القلب.. يستيقظان فجأة عند ذلك تنهمر.. المعاني والأسرار القرآنية وألطافها، وتسقي كل وديان النفس والروح" .

كأن بلدنا على الدوام مثل مراصد على سطح الأرض موجهة إلى الأبدية، وهو بهذه البيوت المباركة يكتسب هيبة كهيبة البحر المتلاطم تلاطم الأمواج، في المسجد أصوات لاهوتية.. تدق أبواب الصدور ومنافذها، في المسجد يصل العاشق إلى عتبة أذواق لدنية أخرى، عند ذلك.. يتنزه في ردهات سحرية لعالم كعالم الأحلام، في المسجد يتم وصول القلب إلى ساحل الإيمان، المعبد بات المثير الذي يوقظ فينا كل حس وذوق.

لا تتجلى الهندسة ولا ينعكس الارشتيكتور في حسه وروحه خطوطًا ودوائر ومنكسرات ومنحنيات ومضلعات، إنما تجسدها أعماقه وبواطنه مشاعر وأذواقًا وصورًا قلبية وفسيفساء إيمانية متلألئة.

إن تجربة مُقام كُولن وإيوائه إلى نافذة المسجد يترجم مطمح المرابطة في الثغر، وحلم الانسياق في رابطة وديوان أهل الذكر؛ بحيث يغدو حجرة في الجدار المحصن للأمة، كما يعني التطلع إلى تحقيق الجبهة القوية التي تستطيع سد الفرج وإقامة الصف المتراص الذي يسد منافذ الريح، ويوصد الأبواب في وجه الهجمات، وملء الثغرات.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.