الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

كولن وقراءته للمعمار

أربع فعاليات -على الأقل- يترسمها كولن في المعمار، ويتبناها في الارشتيكتور، فالمعمار مجال تنفيذ بامتياز، وصعيد التخليدات الكبرى، ومَجْلى الجمال الفني، ورحاب الإلهامات الروحية والتعبدية.

هناك تواصل وتناغم بين سيكولوجية كولن وبين المعمار، فهي سيكولوجية ذات استبصار أركيولوجي تستوعب الطبقات وخُطا الإمبراطوريات التي عرفتها بلاده، بل إنها سيكولوجية تسبر الزمن، فتتبيَّن في لحن المرتل، وتنغيم المنشد، وتحنان المؤذن، أصداء الماضي ونبرات أهل الفن من آل عثمان، إنها تثمل بهذا الكورال الرباني الذي تصنعه أصوات المؤذنين، والقراء، والذاكرين، والمخطوفين.. إن تأوهات الوجد في حلقات أهل الوجد، تنفذ إلى كيانه في شكل حزم ذهبية؛ لأن المَشْغَل التعبدي يجنح على الدوام بالنفس إلى أن تتحول هي بالذات إلى مُصَلَّى وباحة وصَحْنًا تتأدى فيه مهرجانات الحب.

سنرى شغف كُولن بالعمارة يتوسع ليشمل مساحة أخرى من التذوقات الفنية تعكس هي أيضًا حس التأنق والتزين قد عبر عنها استعاريًّا وتمثليًّا، واستلهمها من حقل المدنية، وتحديدًا من مجال المصنوعات، فقد رأيناه مثلاً يشبّه جمال الآيات القرآنية وتناسق بيانها بالدانتيلا "كل كلمة في القرآن.. مختارة بصورة دقيقة، وكاملة، ومشغولة مثل تطريز الدانتيلا" ، ورأيناه يتحدث عن الخطوط الملونة والحرير والنفائس.. وواضح أن الإحالة في أكثر الأحوال، هي إلى عالم المدينة، فالدانتيلا هي تخريج متفنن في توشية المنسوجات والملبوسات، وكذلك تلوين الخطوط هو من لوازم الثقافة، والثقافة المدنية بالأخص؛ إذ الصباغة ودهن المنازل والقصور نشاط المتمدنين، والأمر نفسه يقال عن المصوغات والأحجار الكريمة.

لا ريب أن للعمارة بُعدًا عشقيًّا في حس كولن وذائقته، من حيث إن العمارة هي صعيد التجليات السامية لقيمة الثبات. بل إنه بما لها من ميزة الديمومة والحضور، أضحت بالنسبة إليه موضوع تَمَاهٍ فيزيكي، فبحكم المعاشرة لا بد أن تنمو في لا شعوره روحية التحدّي كالتي يلهمه إياها صمود العمارة، روحية تجعله يمعن في المقاومة والمرابطة، لاسيما وأنه يسير على طريق الكفاح، وإن من شأن وجدان المكافح أن يستلهم معاني الثبات في كل ما يعرض له، فلا غرو أن يتلقى كولن من المعمار مستلهمات القوة والدوام.

فحياته -بالنظر إلى ما انخرط فيه من عراك- كانت موقوفة على إنجاز مهام التعبئة، من هنا يأتي ذلك الحرص الذي يشدد عليه الأستاذ كولن، حول لزوم صيانة الحياة، مخافة أن يكون رجل الإصلاح صيدًا سهلاً، ومنازلاً بلا جدارة أمام الأعداء. بل لقد رأيناه يؤكد على وجوب أن يتوخَّى المصلح اليقظة في نشاطه، حتى لا يسقط سقوطًا مجانيًّا في الساحة، وأن عليه أن يتسلح بالحذر والوعي، لا حبًّا في الحياة كذلك الحب الدنيوي الجبان الذي يبديه الماديون؛ لأنهم يعيشون بلا أفق ولا احتساب، ولكن بقصد المرابطة لأجل تحقيق الأهداف وانتزاع النصر للقضية.

على ذلك النحو يقوم التفاعل بين العمارة المسجدية وبين من يرابط فيها ويقف العمر على الجهاد. بل إن الشريعة ذاتها، بالنسبة للصالحين هي العمارة الروحية التي يقيم العبد أدوارها، طبقة فطبقة، داخل أعماقه، حتى تكتمل، فيغدو بها -من ثمة- صرحًا شامخًا، وذروة تستشرف منها الأجيال والإنسانية مطالع الفجر، لما تجده في سيرتها من خوارق البطولة، وبواهر البذل.

وإن صورة "البناء - المعمار" التي رأينا خطاب كولن يستدعيها في مساحة من كتاباته، هو إعراب شعوري يصدر عنه الداعية؛ لما يراه في فن العمارة من قدرة على الترميز للهوية الدينية التي هي مركز وجدانه؛ إذ العمارة كينونة ارتفاقية ماثلة في الفضاء، تستجمع خاصيتي الحسن والنفع، وهما خاصيتان تجسدهما العقيدة بامتياز، من هنا كانت الصلة الشعورية قوية بين كولن وبين الأرشتكتور. بل إن صفة الدوام التي ميزت التراث الأرشتكتوري العثماني، وقوة ثباته في وجه حملات الردة، لتستند على مبدأ دوام الحقائق القدسية ذاتها، بما فيها الكعبة أول بيت أُسّس للناس ليعبدوا ربهم بعيدًا عن الشرك والوثنية. ألم ينعت كولن الكعبة بأنها الأصل والمرجع لكل ما ابتكر الإنسان من أنساق المعمار.

على أن العمارة التي يتعشَّقها كولن على نحو راسخ، هي دور العبادة، فهي التي تجسّد مقوم الثبات والمضي على طريق صون الهوية، فلكأن تلك الدور- بمظهرها الشامخ- تعلن تحديها للأعداء، بل وكأنها تنوب عن الأمة المغلوبة على أمرها، فتتولى المساجلة بَدَلَها، والمناضلة على حقها في البقاء والاستمرار والعزة.

إن جامع أياصوفيا الذي رثاه بوقفة دامعة ومتأججة بالحسرات، قد مثل في نظره واقع الأمة حين هيض جناحها، وجردت من روحيتها، وصارت أشبه بالجثمان بلا حراك.

تَنَاجي كولن مع هيكل أياصوفيا، استثار في مشاعره مسلسل العهود والانتماءات التي عرفها ذلك الإنجاز الأرشتكتوري البديع.. الأمم التي تفاعلت معه تأسيسًا وتطويرًا، إهمالاً وصيانة، المسيرة التي قطعها قبل أن ينتهي إلى معسكر الإسلام، يستظل براية محمد -صلى الله عليه وسلم-.. الهيكل الارشيتكتوري الذي راح كولن يجيل النظر فيه، بدا له كتلة صورية بلا حياة؛ إذ الروح هي التي تعطي البدن حيويته، وتعيد النبض إلى أوصاله. طفق كولن يرى في أياصوفيا رمة بالية، (مانكان) يُقْرِفُها دَوْرُ الانحطاط الذي تحترفه، فهي من ثمة مغصوبة، لا خيار لها إلا أن تمضي في عرض لحمها بِذِلّة.

عشق كولن للعمارة، وجذله بها، يستجيب لنداءات قلبية كثيرة، تستوطن روحه، وتستقر في وجدانه، لعل من تلك النداءات أن كولن يقرأ في المعمار معنى الخلود. فالعمائر وإن كانت هياكل عُرضة للهرم، إلا أنها لا تفنى، والقرآن ظل يحيل إلى الآثار العمرانية السحيقة. فهذا التأبي عن الزوال، يكتسب في روح كولن قيمة علوية تتناغم مع روحانيته وإيمانه بدوام وأزلية الروح. فكل مظهر تتحقق فيه معاني الديمومة، هو صعيد تنجذب إليه المشاعر؛ لأنها بفطرتها التوحيدية تنجذب إلى المعاني والدلائل الإيمانية السامية، وتؤثرها، وتسكن إليها، من هنا قامت محبة الأقطاب للطبيعة، لا على أساس أن الطبيعة مسرح خلاب، تهيم النفس في مباهجه ومفاتنه، وتتمرس بالخواطر التخففية فيه وحسب، ولكن أيضًا لأن الطبيعة تشكل لهؤلاء الروحانيين كتابًا، تحمل سطوره إلى قلوبهم نشوة اليقين وعذوبة الصدق.

وكولن يرى في المعمار أيضًا الحقل الذي يكفل تحقيق البعد التطبيقي (والأمة هانت حين فقدت سجية العمل التطبيقي). فالمعمار -من ثمة- مجال تتمازج فيه فلسفة النظر والتخطيط مع مقتضيات الإجراء والتنفيذ ولا تنفكان، وذلك ما يستهويه فيه؛ لأن كولن شخصية عملية نافذة في الواقع الحيوي، فهو لذلك ينجذب إلى الارشيتكتور؛ لأن الأرشتكتور هو فن المشاريع الملموسة والإنجازات المنتهية. ثم إن كولن رجل البرامج المتكاملة، وحقيقة الارشيتكتور أنه العمل الشمولي الذي يستجمع شرط الجمال وشرط المنفعة، فحتى المنشآت الرمزية التخليدية (نصب الحرية، أو تذكار الشهداء..) يتجسد فيها البعد الجمالي والبعد الاستنفاعي؛ لأن المعنى الجمالي في المجال الرمزي هو بُعد استنفاعي بالقوة.

ومشغوفية كولن بالارشيتكتور تتبرر بكون الارشيتكتور يقوم على الصنعة؛ إذ تقتضي التنفيذات المعمارية وجود الموهبة الجمالية، وتقتضي أيضًا توفر قابلية الضبط الرياضي والتدقيق الهندسي التي تجعل العمل وطيدًا، يقاوم التقادم والهزات، أرأيت كولن كيف ينوه بالمتانة؟!

بل إن العمارة فن يستوجب الخبرة الكيماوية والفيزيائية؛ إذ لا مناص من مراعاة شروط دوام المنشأة وصيانتها من عوادي التآكل والتأكسد المفضية إلى الانهيارات. لقد تلازم الدين مع الفن في وجدان كولن، وبات أحدهما يدل على الآخر، بل إن الفن في الإسلام -بحسب كولن- وجد في مجال التنفيذات المسجدية ضالته؛ إذ أضحت العمارة أبرز مضمار تجلياته، "ألم يجعل الفن -وهو يرافق الإيمان- هذه الدنيا معرضًا للجمال بالمعابد الفخمة، وبالمنابر التي تشبه أصابع الشهادة المتوجهة على السماء، وبفن الحفر على أحجار المرمر وبالألوان والتصاميم الجميلة وفنون الخط والتهيب والنقوش الجميلة جمال أجنحة الفراش؟" ، بل لقد رأى كولن أن المنْشَطَ التعبدي ذاته عامل إلهام، وترقيق، وشحذ للذائقة، فالمداومة التعبدية من أهم الكيفيات المساعدة على تربية القابليات النبيلة في النفس، وترقيتها.

يقول كولن: "العبادة نبع فياض مبارك لتقوية نواحي الخير والجمال والصدق في فكر الإنسان، وإكسير سحري يصلح أهواء النفس ونزعاتها الشريرة، فيجعلها شبيهة بالملائكة، والشخص الذي يتوجه إلى هذا النبع، كل يوم عدة مرات، بالفكر والذكر، هو شخص عازم على السير في درب الإنسان الكامل، ويكون قد عثر على الملجأ الذي يحفظه من دسائس الشيطان" .

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.