الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

وجدانية كولن والتناظر بين تيمة الرحم وتيمة الكهف

سيرة أهل الكهف إيعاز للأتباع بما ينبغي أن يكونوا عليه من استعداد روحي وتجرد من الحياة في سبيل خدمة الإيمان، إن التكهف هو أن تعيش الآخرة في الدنيا، من أجل أن لا تكون لك من غايات إزاء الغاية الإيمانية الكبرى.

وكل الأصفياء عاشوا مرحلة التكهف قبل نيلهم البشارة، والتكهف تعيشه أيضًا الجماعات المراهنة على التجديد، وإعادة الإنسانية إلى رشدها ومسارها الصحيح في التاريخ. ويمكن لأصحاب الخير والإيمان أن تمر بهم في العصر الراهن ظروف تضطرهم إلى أن يعيشوا ما عاشه الفتية في الكهف، فرارًا بدينهم وموثقهم إلى الخالق؛ ذلك لأن حوادث التاريخ تسير في شبه دورة معادة، فإذا لم تكن تفاصيل التاريخ واحدة، فهي نفسها في المجملات والكليات (قانون الأسباب والنتائج)، من هنا قالوا: التاريخ يعيد نفسه.

لقد عاشت الجماعة الأولى من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- تجربة كهفية حرجة، فكانت دار الأرقم هي مثابتهم وكهفهم الذي يلجأون إليه؛ تسترًا من عيون المشركين. وكما وجدت الدعوة الحضن الأول في دار الأرقم، فإنها وجدت بعد ذلك في الهجرة فرصة خروجها إلى العالم، لكن متطلبات انتشارها اقتضى البذل، بذل النفس والمال.

وإذا كانت ممارسة مهمة التبليغ اليوم قد تهيأت بواسطة الأساليب السلمية الخالصة، فالمؤكد أن نشر العقيدة في العالم بات يعتمد على المال والرأسمال وقوة تموين المشاريع الدعوية، لذا غدا الاستثمار من أجل توفير أسباب الدعوة والتبليغ أمرًا حتميًّا، لكن على العاملين أن يعتبروا بتفاصيل ما حدث لأهل الكهف. فكما كشفت الدراهم موقع أهل الكهف، فإنها قد تكشف الدعاةَ في كل عصر وتعرضهم للفشل، "فرجل الفكر والدعوة إن كان لا يرغب في التعرض للقبض عليه مِن قِبل الأعداء، أو من قبل الأصدقاء، أو من قبل مجتمعه، فيجب عليه ألا يبتعد عن حب الربح والكسب فقط، بل عن أي ضعف دنيوي في هذا المجال" .

لا يمكن لمن يتصدى للدعوة أن يهمل موضوع التمويل المادي، ولكن بشرط أن تكون النصوص الإسلامية من آيات وأحاديث وتصرفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوة ونبراسًا له في الإنفاق وفي ضبط سياسة تمويلية احتسابية.

إن تسخير الجهد في توفير مصادر التمويل التي تساعد على دعم الدعوة، أمر يدخل ضمن الواجبات الشرعية؛ ذلك لأن الجهد المبذول في تحصيل المال من أجل الدعوة يُعد عبادة.

يقول كُولن: "الكعبة.. رحم للنور المحمدي" . ويقول أيضًا: "المستقبل يتطور إلى براعم في رحم اليوم" .

حيال الترديات المعنوية، تجنح أرواح الأطهار إلى التجدد واستعادة النقاوة الأولى. وكما تترجم سيرة الفرد الصالح عن هذا الوازع التطهري، تترجم عنه أيضًا خياراته الفكرية، ويشف عنه أداؤه الأدبي، لاسيما الأداء الصافي الذي تعرب عنه شعرية الخطاب، أو ينعكس من خلال استثمار دوالّ تُحيل بسفور لافت إلى معاني أنثروبولوجية بعينها مثل "الرحم والولادة والنشوء.."، وما في مؤداها من رموز التجدد والتطهر.

يقوم في خَلَد كولن تناظرٌ بين صورة التخلق الرحمي وبين وضع التكهف؛ إذ التكهف سِمَةٌ أساسية تتهيأ بها الشخصية إلى الريادية من خلال اعتماد حياة التنسك والهجرة؛ لذا قويت رابطة التماثل بين الحالين في وعيه. فكما تتخلق المضغة، وتكتسب قابلية الوجود حين يودعها الخالق نَسَمة الروح في الرحم، كذلك تتشكل الشخصية وتنشأ خلقًا جديدًا حين تنصهر في بوتقة الكهفية.

الفرد الذي يجتاز امتحان الكهفية يتأهل للريادة وشق الطريق؛ إذ الرائد صانع خطط، خلّاق فرص، مُنجِز انتصارات. بل إنه يتأهل لأن يعيش حياة البرزخ بروحه؛ لإدمانه التفكير والتلاوة، فهو يمثل الجسر بين الواقع والحلم، بين الصفوف ومعقد آمالها. والجامع بوصفه كهفًا للمعتكفين، كان رحًما، تخلََّقَتْ فيه شخصيةُ الداعية كولن بامتياز.

ولو تساءلنا ما أهمية التخلق الروحي بالنسبة إلى الإنسان؟ لأجبنا أنه تجدد في الهوية، وولادة ثانية، وانبعاث من غمار الإهمال، وتجاوز لأوضاع العقم التي تَكْبِسُ على الحياة، وتحيد بها عن سواء السبيل. ولا ريب أن أسوأ مظاهر العقم أن تسير الأمة القهقرى على صدى حُداة سوءٍ يُصوِّرون لها الليل نهارًا، والتأخر تقدمًا، والعناء راحة.

ولقد تجسدت روح التخلق الراسخة لدى كولن في مظاهر وتوريات عدة، منها ثراء المسار الحياتي، وعصامية رهان التحصيل العلمي.

ومنها أيضًا الإنجازات الثقافية والتربوية والإعلامية التي يدأب على التوسع فيها. ولعل اختياره اسم "حراء" عنوانًا لمجلة خدمية، يعكس روحية التخلق التي يحياها على الدوام. فحراء توعز بشيء من معاني التخلق والانصهار التي عاشها سيد الأنبياء في ذلك الغار المبارك.

ومنها الوضع الشخصي، ويعبر عنه خيار العزوبة، وتبني قضية الدعوة إلى الله. فنهج العزوبة ووقف النفس على نشر الهداية، هو عين التخلق؛ لأنه توجه روحي ووجودي يراهن على توطيد أسباب تخليق الإنسان المسلم الجديد، وبناء الأجيال الطليعية التي ترابط من أجل النصر وبناء النهضة العالمية الثانية أو الثالثة كما يسمّيها كولن.

في كهفية المسجد، وبعد صراع مرير ضد النفس والشيطان، اكتسب كولن الطبيعة الثانية ، وأزال عنه الطبيعة الرثة، تمامًا كما يجدد الطفل أسنانه اللبنية ليستنبت أخرى، أقوى وأصلب. كان المسجد رحمًا تخلَّقَ فيه كولن، واكتسب شخصية المهندس (الأرشتاكت) الروحي، المعبأ بحمية التعمير والعمران. فمن على أرضية المسجد وضع كولن التصاميم، وضبط البيداغوجية، ورسم خطة العمل المستقبلي، ورفع عقيرته بالأذان، يستنفر الجموع ويراودها للسير وراءه، تصنع الغد.

نجح كولن بمعونة الله وتوفيقه في أن يؤم الجيل، وشق نهجًا جامعًا، يستوعب أهم أسباب الانبعاثة المراهنة على استنقاذ الإرث، وتحقيق الإقلاع. ولا يمكن المقابلة بين الرجال وهممهم ومدى رجاحتهم في ميزان التاريخ. وشتان بين من يتجند العمر وراء أهداف شخصية، غارقة في الذاتية وفي "الأنانية"، وبين من ينهج نهج الرسل ، فيستغرق العمر في الدفع بالإرادات وراء بناء الحضارة التي أناط الله أمر تحقيقها بعباده الصالحين، شرطًا لإنجاز وعده لهم بالاستخلاف.

لقد تحولت أفكار كُولن إلى فلسفة مدنية تبني، وإلى منهج إنشائي يراهن على تشييد حضارة الغد، وإلى رحم ولود للفكر النشط، المهيأ لإنسان المستقبل. ولأن كولن يؤمن بشمولية النهج القرآني، ونفاذه من حيث اكتساب الفاعلية والنجاعة، فقد رسا بفكره على القصص القرآني -مبدءًا- واستلهم منها للعاملين خطة الطريق، كما رسمها التوجيه القرآني وبين تطبيقاتها في ما قصَّه من خبر الفتية أهل الكهف.

يأخذ القلب في وجدان كولن -هو الرجل القلبي- صورة معمار، فالقلب بالنسبة إليه سقف وعمارة وموطن إقامة حميمة لأهل النباهة، السالكين إلى الله طريق الوصال: "الذي يحيا بحياة القلب يصبح كيانًا فوق الزمن، أما الذين لم يجدوا أنفسهم في قلوبهم، فتراهم.. في شكوى دائمة" .

ولأن مشاعره اكتسبت تلك الخاصية البيولوجية التي تجعل الزهرة المنزلية، وهي في موقعها تحت السقف، تزدهر وتمد أغصانها في كل اتجاه، فقد طفقت رابطة الألفة مع المسجد تنمو وتتوطد إلى درجة أن أضحى يستشعر أنه بات جزءًا من الرحاب، بل لقد بات يرى في المسجد قلبًا خافقًا بالحرارة والحياة، فكان يتهيأ له أنه يسكن ذلك القلب (صورة التكهف)، وأنه لا يفتأ يبحر في مجرى نهره، كقارب بشراع، يشق المحيط، يستكشف أقاليم بكرًا، سترحل إليها الجموع، في وقت ليس بالبعيد.

"إن البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد، وتحول إيمانه ومعتقداته إلى جزء من طبيعته، يعين حدود هذا العقد وإطاره" .

إن صورة الإقامة في القلب، هي من الصور التي ألحت على مخيلة كولن؛ بحيث يمكن لتيمة القلب في كتابات كولن أن تشكل موضوع بحث مستقل.

ولما كان لفظ الصدر رديفًا للفظ القلب في الوظيفة، كان الاستخدام المجازي لهما واحدًا؛ إذ كلاهما مثابة للفيض والحب والإكبار، فكل شيء نفيس من مشاعرنا ومُثلنا وعلاقاتِنا، نُودعه رحابة القلب والصدر، فهما الصعيد الذي لا يطرقه إلا ما كان خالص الحميمية، مُعظَّمًا، وحائزًا منا على حق الافتدائية. وهو ما ظل يستشعره كولن حيال الرموز من آل عثمان؛ حيث يقول عنهم: "عظماء تركيا لم يغادروا الصدور" .

سنة إيوائه إلى الطابق الخامس إيعاز -شعوري أو لا شعوري- برغبته في أن يجسّد دور القبة، من حيث احتضان الجموع، ووقايتها، وإظلالها، بل هي رغبته في تجسيد دور المئذنة، والنهوض بأعباء المهمة الإيقاظية السامية على نحو ما تؤديه (المئذنة) كل ميقات.

لقد أضحى رقم (5) مع مرور الأيام مصطلحًا يعني القمة والذروة؛ إذ لا يطيب المقام للأستاذ إلا في تبوئ أعلى الأدوار وأقصاها، ثم لا ننسى البعد التكهفي الذي تتضمنه رمزية اختيار أعلى الطوابق؛ إذ إن حياة الأستاذ كولن حياة انخراط عروجي، بات من لوازمها الخلوة والاستغراق في أجواء "حرائية"؛ حيث يستشرف أفق الفجر.. ثم إن التصاق الداعية بالسُّنة يجعله يختار موقع الفوقية، ألم نر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتموقع في عريش بُنِيَ له في تلة، من حيث راح يتابع المعركة الحاسمة في بدر الكبرى؟

يرى كولن أن القرآن العظيم، وهو يقدم خبر الفتية أصحاب الكهف، ويعرض تجربتهم ورد فعلهم حيال عقيدة الجحود، إنما شاء أن يطرح مثالاً عمليًّا أمام المؤمنين، يستلهمون منه ما يبنون به المنهج القويم لدفع الظلم والبغي والإكراه وأنواع الخسف جميعًا.

الكهفيون شكّلوا طليعة تمردت على الوضع الكفري السائد، ولم يسع تلك الطليعة المؤمنة، وهي ترفض ما أحاط بها من أوضاع الضلال، إلا أن تهجر الواقع، جسدًا وروحًا.

لقد كان تمرد الفتية الكهفيين خيارًا إيجابيًّا؛ إذ كانت له غاية سامية، باعثُُها رغبةٌ جموحٌ في إصلاح الحال العامة التي كان عليها المجتمع، فتمردهم -من ثم- تمرد الرحمة، بحثًا عن اللطف لهم ولغيرهم، وكان العجز الموضوعي (لا الوهمي) وحده يقف حاجزًا بينهم وبين الإصلاح، فكان لهم في سيرة التكهف بديلاً عن الاستسلام.

ويستكشف كولن في معرض قراءته لقصة أهل الكهف، فلسفة التعالي البَنَّاء التي صدر عنها الفتية حين لاذوا برحاب الله، يتعبَّدون، ويترصدون أن تتهيأ الفرصة، فيتحركون لإصلاح ما أفسد الكفر، وترميم ما قوّض الجحود. بل إنه يرى أن خروج الفتية عن النظام الجاحد ومفاسده، كان ضربًا من المقاومة المثمنة، بل لقد كان ذلك الخروج يُمثّل وجهَ الحق، وعينَ المسؤولية التي كان على أولئك الفتية الأبرار أن يتحملوها إزاء تفاقم الأوزار من حولهم.

وانطلاقًا من هذا التقويم لتجربة الكهفيين، يقابل كولن بين خيارهم الإيماني وبين خيارات عبثية راهنة تنغمس بها أجيال أنشأتهم المدنية المعاصرة وفلسفاتها التمردية اللاّإيمانية، فعاشوا زائغين، يجاهرون باستخفافهم بكل القيم، ويتفاخرون بمنابذة المقدسات ودَوْسها، لا أفق لهم إلا الاعتداد بالذات (طغيان الأنا) وجعْلها مركزًا ومدار الاهتمام، بل لقد حولوا ذواتهم إلى "آخر" مارسوا عليه شذوذهم وأنهكوه بشتى تجارب الانغماس والانتحار الشنيع.. لقد ساقهم الكفر وانعدام المعالم وفقدان المرجعية الروحية إلى الخسران المبين.

فجنوح تيارات ثقافية متزايدة في هذه الحضارة المادية المعاصرة، وما أفرزته من فلسفات الكفر، هو -في أكثره- تمرد أناني وفعل سلبي ضد الأخلاق؛ إذ العجز عن تحقيق التكيف الناتج عن سوء التربية ، وتفكك رباط الأسرة، هو -في الغالب- الباعث للمتمردين الجاحدين على إعلان عقيدتهم العبثية. فالحياة عند أصحاب هذا الانسياق، محكومة بمنطق اللامعقول، فهي من ثمة مجرد تجربة تغوي بالتهتك. فلكأنهم آمنوا بأن خير سبيل لتحقيق الذات هو ضرب الأخلاق، وإسقاط المثل، وتجاوز القيم الروحية.. إنهم يسيرون بعكس التيار؛ إذ يرون أن الحياة مكابدة غير معقولة، لا تتمخض عن ثمرة أو مقصد.

العجز الموضوعي عن تحصيف الرؤية المدنية، وعقلنة المقاصد الاعتقادية، وتوجيهها وفق منطق الفطرة والإيمان الحق، كان هو دافع الكهفيين إلى رفض الواقع، والانسحاب خارج الحظيرة، حتى لا يفتك بهم الوباء المستشري.

أما محنة العجز عن استبانة مقاصد الحياة، وضوابط الاستقامة، والعماية عن إدراك الأبعاد الماورائية للحياة، فهي المهوى السحيق الذي يسقط فيه العبثيون؛ حيث يجعلون من الوجود تجربة تُعاش بلا موثق ولا وازع، ويتبنون عقيدة الهدم لذات الهدم ، فهم -من ثمة- والأنعام سواء، بل هم أضل.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.