الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

الأمكنة غير المعمورة بالإنسان -سيد الكائنات- فضاءات صماء، مجردة من الروح، لا هوية لها، إلا ما يطلقه الإنسان عليها من أسماء.وغالبًا ما تكون التسمية وصفًا للبعد التضاريسي، أو الموقع، أو القيمة والوظيفة، لكن ارتياد الإنسان للمكان، واستقراره فيه، يهيئ لظهور علاقة أُلْفَة مع ذلك المكان. وهذه الألفة تتعمق تبعًا لدرجة التواصل ونوعيته؛ إذ من ألوان التواصل ما هو حميمي، وما هو حاجيّ، وما هو كمالي، أو نفعي مادي، أو طقوسي روحي، إلى ما هنالك من أنواع الصلات التي تربط الإنسان بالمكان.

وإن الألفة مع المكان تولّد قابلية التماهي في المكان. وما أكثرها مشاهد الصالحين التي هي في حقيقتها مجرد مواقع اعتاد أولئك الصالحون على ارتيادها، أو الصلاة فيها، أو الاعتكاف داخلها؛ بل إننا نجد الناس يشيدون أضرحة لصالحين وزهاد ليسوا مدفونين على الحقيقة بتلك الأضرحة، إنما الاعتقاد فقط هو الذي يجعلهم يعطون تلك المواضع تلك الهالة والاحترام، فلكأنهم أودعوا هناك الروح أو آثارها الباقية التي تصوروا أنها علقت بتلك الرحبة.

إن هذا السلوك يؤكد الاعتقاد الذي يسود الثقافات، وهو أن أثر الروح ينطبع في البقعة والموقع والمعتكف الذي يلازمه الإنسان، فهي -من ثمة- باقية بذلك المعتكف حتى بعد أن تبرحه إلى بارئها.

وإن ظاهرة تحويل بيوت المشاهير من أهل الفكر والفن وغيرهم، إلى متاحف، إنما هو تقليد يترجم هذا الاعتقاد الذي يقطع بوجود علاقة من التماهي بين الإنسان ومتبوئه.

وكما يُسقِط الإنسانُ ظلالاً من نفسيته وروحه على المكان، كذلك يؤثر المكانُ بطبيعته الفيزيكية والوظيفية على الإنسان، ويترك عليه بعض صفاته، والفرقُ واضح بين إمام مسجد مثلاً، وبين عسكري. فالإمام يحمل شيئًا من سيمياء المسجد ووقاره، والعسكري يتصف بانضباط جو الثكنة وانغلاقها، والمتعامل يجد من الأحاسيس، ما يميز شخصية ذا عن ذاك.

ولا تزال أنواع التطور المادي والترقي الروحي تجد سبيلها من خلال التحولات التي يحدثها المكان في الإنسان، فالبدوي في استقراره بالمدينة يفقد خصائص كثيرة من بداوته لحساب التمدن، وساكن العشوائيات يتغير ولو على نحو شكلي، حين يُكتب له أن يسكن العمارة المهَيَّأة، بل إن القبائل في ماضيها تحولت من خلال الانخراط في حياة الروح، والتمرس بإنشاء المساجد وتعميرها، إلى أمم متحضرة ومحضِّرة. ولقد كان العرب أمة غير ذات شأن في التعمير، لكن الإسلام صهرها في بوتقة المسجد، (مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في أول أمره سياجًا من أعواد الجريد)؛ إذ سلك بها طريق البناء والتشييد، ولم تلبث أن مَصَّرت الأمصارَ، وأنشأت الحواضر، وتبعها بعد ذلك أمم أخرى كانت في الأصل شعوبًا بدوية كما هو حال الترك؛ إذ ما إن دخلت تلك المجاميع القبلية الآسيوية في الدين المحمدي، حتى تحولت إلى أمة تنجز الحضارة، وتنشر التحضير في بقاع الأرض، وعلى مدار عهود العصر الوسيط.

وشأن الأفراد شأن الشعوب؛ إذ الإنسان حين يتخذ من الأمكنة المقدسة مثوًى ومثابة للإقامة، فلا ريب يكون قد هيَّأ نفسه ووجدانه للتحول النوعي، والترقي الجذري، والانصهار الراسخ في عوالم الروح، وذلك ما عاشه كولن بصورة معمقة ولا مراء فيها.

صلة فتح الله كولن بالمعمار صلة مداخلة وتحاور، وعلاقته به علاقة تواصل عضوي حميم، بل إن المعمار بالنسبة إلى الفرد التركي المعاصر بصفة عامة، ظل يمثل أظهر شرط وجداني حضاري، وأبرز مقومات التجسير بين الأجيال المعاصرة وبين ماضيها وأصولها وأصالتها.. وكما لبثت الفرعونية حاضرة عبر الزمن في الخَلَد الجمعي المصري من خلال شخوص الأهرامات، ومثلما استمر حضور تراث أثينا الأركيولوجي يغذي عزة الأجيال اليونانية إلى اليوم وإلى الغد، وعلى نحو ما تجد كل قومية دواعي شموخها وامتلائها المعنوي في ما ينتصب حيال أجيالها من مآثر ومنجزات تجسد عراقتها في التاريخ، كذلك ظلت المساجد والتكايا والقصبات العثمانية، بفن معمارها العظيم، مصدر إشعاع وبثٍّ، تُفاعل بواطن الأتراك ومشاعرهم، وتوطّن فيهم روح الانتماء، وتعزّز لديهم آصرة النسب المحمدي الذي سعت الردة إلى الحيلولة بينهم وبينه.


لجوء كولن إلى خرابة مسجد

حين لجأ كولن إلى المسجد، كان يحمل في نفسه رضوضًا حيال ما كان أصاب المساجد من تحطيم وتقزيم وتهوين.

لقد عاش خلال مرحلة التحصيل، متواصلاً مع المساجد ورجالاتها من القرآنيين، ولبث يرى ويعي كيف حالت السياسة بين المساجد وبين الرجال المؤهلين لتعميرها عبادة وتعليمًا وترشيدًا. كان الأتقياء يمارسون التعليم في بيوتهم، وأحيانًا كثيرة في سرية أو تحت التضييق، وكان ميراث السلف من المساجد عرضةً للإهمال، إما بسن القوانين والإجراءات التي تستبقيها مهجورة، مع ما يلحقها نتيجة ذلك من خراب، وإما باستغلالها وتحويلها إلى مرافق دنيوية منافية للدين. ولقد وجد كولن نفسه في فُتوته يضطر إلى البحث عن مأوى يسكن إليه في رحلة التحصيل، فلم تسعفه إلا خرابة مسجد بأحد أحياء المدينة، استصلحها بمعية رفيق له، واستقر بها حينًا، ثم صارت منزلاً لطلبة قرآن آخرين محتاجين، خلفوه فيها.

لا ريب أن روحه في ذلك المُستَكَن الخَرِب، قد تألمت للمصير المشؤوم الذي رأى ميراث الأجداد القدسي يؤول إليه.. ومن المؤكد أن علاقته بالمسجد تعززت أكثر أثناء تلك الفترة بالذات؛ إذ وجد في كنف تلك السواري المهدمة دفئًا وحماية واحتضانًا عزَّ عليه أن يستحصله في مكان آخر. فلقد تعذر عليه -كما تحكي سيرته- أن يجد بقعة يكتريها بزهيد ما كان معه من مال.. ولا بد أن فكره كان يستغرقه التأمل في وضع الخراب الذي مُنِيَ به هيكل ذلك الحرم -ومئات المساجد أمثاله- في عهد التراجع، وأن ذلك المشهد كان يترك تباريح دامية على مشاعره وروحه، ولا بد أن عقله الغضّ في تلك المرحلة كان يختزن من الأحاسيس النازفة، ما سيؤسس لروحية إحيائية سيُكتَب له أن يضعها موضع التنفيذ في مستقبل الأيام.. روحية تراهن على حتمية الانتفاض والانبعاث الملي الذي يعيد للحياة شرفها، وللمقدسات حرمتها.

ولأن تلك المشاهد المتهالكة كانت قاسية ومؤثرة، فستظهر آثارها النفسية لاحقًا في كتابات كولن، وفي خطابه الفكري على صورة فلسفة عملية تؤمن بإمكانية الانتصار على التحديات، وكسب رهانات الترميم والتشييد، وستغدو صورةُ الخراب والهدم والظلمة والوحشة، من مفاتيح الفكر الانتقادي التجاوزي لكولن.


العلاقة بين عبقرية كولن والمعمار

لقد تمرس كولن بالمعاناة في جو من الحميمية مع المعمار حيث آوى إلى نافذة المسجد ومكث فيها ردحًا من الزمان، فكان أرشتكتور المساجد شاهدًا على مكابداته، وعلى ما عانى من وجع الوحم بما كان يحمل بين جوانحه من هموم المصير.. مصير الأمة.

ظروف القمع الشرس التي استهدفت الإسلام في بلاده، كانت تجعل من الداعية هدفًا مرشحًا للتصفية في كل آنٍ، ولذلك استمرت حياته تمضي على نهج شاق من المطاردة والاستهداف. من هنا كانت المجالدة والمجازفة الفداحة، فحمْلُ القضية، والسير على طريق غير وطيد، وسط أحوال من الضبابية والعبوس وانعدام المناصر والدليل، يجعل تجربة الحياة تجربة تغشاها المخاطر من بين يديها ومن خلفها، فلذلك ظل كولن يمضي وروحه على كفه.

العبقرية منحة إلهية تُنَمَّى بالخدمة، وتخبو بالإهمال. وأكثر ما يُرى أهل المواهب منجرفين وراء اهتمامات تستلبهم، فهم مفتونون بها، لا يهمهم أن لا يؤبه بهم وهم وراءها سادرون.

وإذا كانت الموهبة هي التي تصنع حياة الأفراد حين تستولي عليهم بسلطانها، وتجرفهم في الاتجاه الذي يتجاوب مع بواعثها، فإن الأفراد بدورهم قد يصنعون الموهبة ويُخرجونها من حيز الكمون إلى حيز الفعل، حين يتحاملون على عوامل الإعاقة في نفوسهم وفي ما حولهم، فيرتفعون بالإمكانات البسيطة والقابليات البكر، ويحولونها إلى سجايا خُلق، وقدرات إبداع، أشبه بالأرض البور، تُستصلح فتعطي الثمار.

ومن شأن مسيرة الإنسان في الحياة أن تصقله وتزوّده بالحكمة وبأسباب النجاح؛ إذ إن عالم الحس والشعور "يتوسع وينمو لدى الإنسان بنسبة طردية مع طبيعة الحياة التي عاشها، والآلام والمصاعب التي عاناها، والإنسان الذي عاش على هامش الحياة دون فكر منتج، ولا معاناة مُقَوِّية، لا يمكن أن تنمو أحاسيسه ولا حتى ملكاته الأخرى، بالمستوى الذي يحقّق له الأهلية والرشد، ولا تكون لمثل هؤلاء في أي وقت علاقة قوية مع الوجود" .

وليس من الاعتباط في شيء تأكيد العلاقة بين عبقرية كولن وبين مسيرته الحياتية؛ إذ عصاميته بدت -كما أسلفنا- تقوى منذ النعومة، واستمرت المراحل المتلاحقة تصقل فيه الملَكات، وما زالت العبادة، وبيئة المسجد، توفران له الباعث الذاتي للتفتح الحسي، والنضج الشعوري، ما صقل وجدانه، وأهَّلَه لأن يكون على هذا المستوى الخصيب من الكفاءة الإبداعية والفنية التي تتجلى في أعماله وسيرته وسيكولوجيته.

يقول كولن، متحدثًا عن أثر الانتقاش الذي تتْركه حوادث الطفولة في الإنسان : "بفضل هذه المشاعر وهذه الأحاسيس تبدأ أحيانًا الحقائق المقدسة والمبهمة التي ترسخت في أرواحنا في العهود المبكرة بشكل معارف بدائية.. تبدأ كالأزهار النضرة في شعاب قلوبنا، بفضل النور والإيمان اللذين يملكان قوة إثباتية، فنرى كيف أن تلك الحقائق المجردة التي قبلناها ببراءة الأطفال، تعود إلى كياننا ووجودنا، هنا نذوق ونحن في دهشة طعم تحول هذه الأسرار في صمت في أعماقنا، إلى براعم ثم تفتحها أزهارًا" .

ومما لا شك فيه أنه ورث عن إقامته في المسجد خصالاً ذوقية، تتكشف آثارها على أصعدة الذوق والفكر والوجدان.

فبين مقوِّمات وجدانه والمسجد، والمعمار (بالتبعية)، نشأت رابطة قوية من الأنس والألفة والمفاعلة. ذلك أن من شأن حياة الوحدة والتفرد، في كنف ذلك المبنى الطاهر، أن تهيئ النفس إلى أن تنشئ أواصر مع الفضاء الملابس لها، فضاء الأرشتكتور، وأن تتروض على استيعاب مكوناته اللونية ومفرداته التشكيلية، وعناصره البنائية. فمن طبيعة الإنسان، لاسيما في مناخ العزلة، أن ينمّي صلته بالمكان، وربما عبَّرت مذكراتُ كثير من المساجين عن هذه العلاقة بالمكان، وكيف كانت رابطتهم تتعمق بمرور الأيام مع الجدران، والسقف، وكوة الباب، بل ومع الشقوق والثقوب؛ من حيث يتشوفون إلى نقطة ضوء، أو نسمة هواء. وكيف كانوا -تحت رهق الوحشة والانفراد- يستبينون في صفحة الجدران، أشكالاً وهيئات وتصاوير، بعضها وجوه بشر أو حيوانات، وبعضها الآخر رسوم نصف مكتملة لنباتات أو جمادات، وبعض ثالث خطوط تجريدية، يتسلى الذهن بأن يضفي عليها من الافتراضات التخيلية ما شاء.

ومن غير شك أن كولن الذي آوى إلى المسجد في شبيبته كما آوى الفتية المؤمنون إلى الكهف، كان يجد في غنى المعمار، وجمالياته، وما ينبعث منه من قداسة وطهر، ما يهيئ قلبه للسياحة، وعقله للتدبر، وروحه للعروج. كانت الواجهات الأرشتكتورية من حوله، هي مكتبته من الألبومات، ومسرحه، والأوبرا التي يرتادها للتسرية، بل لقد كانت منتزهاته التي يقصدها للاستجمام.

ومن الطبيعي أن يترك ذلك النظام التحنُّفي بكل أطواره وتفاصيله، أثره على النواحي النفسية والقلبية والفيزيكية، فضلاً عن المواجد والخطاب. وهو ما تكشف عنه كتابات كولن.

لقد كان انغراس مواجده في تفاصيل التاريخ الإسلامي، واطلاعه على جوانب ذلك التاريخ المدنية والثقافية (لاسيما جوانب الرقة منه)، يقوي لديه المشرب الفني، ويعزز من رابطته بالمعمار.. فهو بمواهبه ككاتب وذواقة للفنون قد تواشج بعمق، وبصورة عضوية، مع تراث بلاده الحضاري، انظر تولُّهَهُ الروحي بالنغم الديني والتجويد والأذان، وكذا بالأدب الصوفي والجمال عامة.

ولأنه عالم مسلم، فقد وجد في حقل الرمزيات الذي كانت تحفل به بلاده، وخاصة منه الفن المعماري، أفضل وسيلة يركز عليها في إشهار هويته، ويستمد منها صلابة نضاله، ويؤسس على أرضيتها فلسفته ومنهجه الإصلاحي.

لا غرابة أن نرى دراسته للتاريخ ولسِيَرِ السلف، وخاصة سيرة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، تأخذ شكل الطرح المعماري؛ حيث جلَّى الوقائعَ في بنية أعطاها تصميمًا رائع التوزيعية، تمازج فيها التوثيق العلمي، والتسديد التوجيهي، مع التعاطي الوجداني الذي أسبغ على التفاصيل شعرية أحالتها لوحات زاخرة بالغناء.

ميزة فن المعمار أنه عضوي، يحقّق التشخص والملموسية من خلال تأثيث المكان (قبل تأثيث الزمان)، فحضور المعطى المعماري ثابت من خلال المثول العيني. وإن الفرق بينه وبين فني الموسيقى والشعر مثلاً، أن القيمة الفيزيكية الذاتية فيه، يتحقق لها الدوام والحيوية من خلال الثبات العضوي في الفضاء والمساحة، فيما هي في الشعر والموسيقى وبقية الفنون الزمانية قيمة سماعية بالأصالة، استدعائية بالحتمية؛ إذ تتوقف ملموسيتها على تفعيل الحركة والتواتر في الزمان، أي على الأداء. إن السنفونية هي تركيب بين الآلات والأشخاص المفعلين لها.. ومثول الواقعة الهارمونيكية محدد بشرط التجسيد والتنفيذ، وكذا المسرح وما سواه ، فيما العمارة حضورها حسي، مكاني، قارّ، دائم الشخوص..

الفن الزمني حضوري بالقوة، فإذا نُفِّذ كانت له حضورية بالفعل، أما المعمار فإن حضوريته بالفعل والقوة معًا.

في النضال الذي خاضه ويخوضه كولن، نشأت بينه وبين الجامع (أو بين مشاعره والأرشتكتور) حماية متبادلة، وتواطؤ ضد خصم مشترك.

التسامي، والتصون سمة تجمع بين المسجد كرحاب للعبادة وكأرشتكتور فني مبتدع، وبين كولن بوصفه رجل إصلاح وداعية للخير والرقي.. إن اعتزال المصلح وتنسُّكه يعطيه استحقاقًا راسخًا من الحرمة، تمامًا على نحو ما يكفل التعالي والتسامي للمسجد حرمته وسلطانه الذي لا يقبل التجاوز، •وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا§(الجن:18)، على أن قيمة هذا التسامي تتبدى في التأثير الحي، والتثوير المكين الذي يؤديه الداعية الرئيس في الأتباع والمجندين. فهو يحرّك الجماهير بذات القوة الخفية، ويؤثر فيهم بذات التأثير النافذ الذي للمسجد؛ لأن المصدر الروحي القرآني هو مادة التحريك المشتركة بين الطرفين.

هجرة كولن وكل نوراني، هي هجرة المسجد نفسه، وتغرُّبه تغربه، وسياحته في الأرض مُبلِّغًا وهاديًا ومخططًا للمستقبل الإنساني، هي سياحة المسجد وتخطيطه. فروح المسجد تحلّ في روح المصلح، تمامًا كما أن روح المصلح تحل في المسجد، وتعمره، •إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ§(التوبة:18).

لا يتصور كولن الإيمان إلا ورشة يشيّدها الإنسان، حجرًا حجرًا، ولُحْمة لُحْمة (الإنسان مكلف ببناء عالمه الإيماني والتفكيري). وكل قلعة لا بد لها من أسوار تمكِّنها من الصمود. ومسألة الإيمان مسألة ذاتية في الأصل، لا يمكن التعويل فيها على التلقي الخارجي وحده؛ لأن الجهد الأكبر الذي يثبت المبادئ الروحية هو الجهد الشخصي الذي يبذله الفرد في سبيل ترسيخها في قلبه ووجدانه، كي تتحول إلى شجرة تعطي الثمار والظلال.

ولا يمكن لمن يترشح للبناء أن يكون تام الكفاءة، ذا فاعلية، ما لم يتوفر على الإيمان الذي هو الدافعية الحق إلى البذل والتحسين وتجاوز الذات. من هنا جعل كولن من مهمة تطوير كفاءتنا الروحية، وبناء صرح الإيمان في نفوسنا، أمرًا يتلازم حتمًا مع ما ننهض به من مأموريات حياتية، حتى تكون وجهتنا الدنيوية والأخروية واحدة، لا انفصام فيها، وحتى تمضي مسيرتنا على نفس الجادة، وبكل كفاءة.

مساكنتُه رحبات المسجد قد نمَّتْ في ذائقته قدرة تمثُّلية متأثرة بالفن المعماري؛ بحيث اتسع حس الاستعارة لديه، وباتت التعبيرية تجانس بين المعاني الذهنية والتمثلات الحسية، وتعرض الصور في تشكيلات ذات منحى أرشتكتوري لا تخفى مرجعيته. فحين يتحدث -مثلاً- عن التلال الزمردية (عنوان كتاب)، فإنه يعبر عن أفق روحي واستشرافات قلبية، هي من مولدات التخيل الماورائي الذي طالما أحال إليه أدباء قلبيون ، لكن التخريج الحسي الذي ينجز فيه كولن هذه "الصورة- المعنى"، هو تخريج جلي الصبغة الأرشتكتورية؛ إذ لا يتعسر على القارئ أن يجد التناسب قائمًا وعضويًّا بين صورة التلال كما تظهر في الطبيعة، وبين قباب المساجد العثمانية في تقوسها وتدرجها في المشهد.

نفس الذائقة تعرب عنها مخاطبات لافتة في كتاباته، من ذلك عنوان كتابه الآخر "ونحن نقيم صرح الروح"؛ إذ الصرح من صميم حقل الأرشتكتور، ولكن إضافته إلى "الروح" وهي معنى مجرد، يجعل من عبارة "نقيم صرح الروح" صورة مجازية، مُشْرَبَةٌ بالمعمار.


المعمار مصدر إلهام تنظيمي وخدمي

ولما كانت توجهاتنا الروحية والفكرية تتغذى -وتزداد رسوخًا واستحكامًا- من سائر ما يقع لنا من تجربة، وما نحتك به أو يحيط بنا من فضاءات وأشياء وشروط حياتية وتكيفية، فلا ريب أن إقامة كولن في المسجد خلال تلك المرحلة الحساسة من حياته، قد قرَّبت الصلة وجدانيًّا بينه وبين بيئة الحرم المعمارية كما سنرى ذلك بعد حين.

فبيئة الإقامة تتهيأ عادة لأن تكون موضوع تأمل، وبالتالي مادة استلهام وعقلنة ، وهو ما يكون كولن عاشه في إقامته المسجدية؛ إذ طبيعة ذلك الاستقرار التنسُّكي كانت بواعثها موصولة بنوازع بعدُ جنينية في روحه، وكان الجو المشحون بالإيعازات التأملية وبالألفة الروحانية، يجعل من عناصر تلك البيئة (المسجد والمعمار وتوزيعاته)، وما يعمرها من نسائم الخشوع والقنوت، إطار استقراء قلبي، تتبرعم من خلاله أفكارُ الإصلاح والخدمة والاستنفار التي كانت أعماق كولن مسكونة بها.

أجل، لقد طفق كولن خلال إقامته تحت سواري جامع السليمية يستقرئ الصورة الشمولية التي يتلاحم فيها هيكل البناية، ولبث يتبين الكيفيات التي تترابط بها مفاصل الاختلاف والائتلاف التي ينهض عليها ذلك الصرح، ومن المؤكد أن روحه قد مضت تتعبأ هناك بالمعاني التي كانت تتكشف له عنها معمارية الصحن في تفاصيلها وكلياتها.

وغير مستبعد تمامًا أنه طفق يستجلي أحوال التناسب القائم بين ما يرسو عليه الكيان المسجدي من دعائم، وبين ما ينبغي أن تصير إليه كينونة الأمة من تساند، يجعل صرحها يقوم متماسكًا، متعاضدًا من جديد.

بل لا غرابة أن يعزز لديه التأمل في الأرشتكتور المسجدي قابلية الوقوف بفكره على شروط الحضارة المؤهلة للاستمرار، ومقاومة الزوال. فقطاع المساجد ظل -بجلال سمته، ووقاره، وركانته في المكان والزمان- يقاوم عاديات الانحطاط والزيغ والردة؛ إذ إن تلك المصانع الروحية التي استفرغ فيها المسلمون قريحتهم الفنية عبر القرون، وجسّدوا من خلالها مدى ارتباطهم وتماهيهم في الدين الحنيف، قد تأبت عن الإذعان والانكسار. وإن من شأن الاحتكاك بها، والركون إليها، لُجوءًا وإقامةً، أن يلهم العقل الحي، أسرار النهضة والاستمرار والمقاومة.

لا بد أن يكون كولن تعلم من المداومة على ترصد تجليات المعمار المسجدي، فقه الدقة، وضبط الأشياء، ووضع الأمور في نصابها، بحيث لا يخرج عنصر عن وظيفته، ولا عن موقعه. فتلك هي واحدة من أهم السجايا التي يورثنا إياها التفاعل مع الفن. ولقد أفاده ذلك المكسبُ النفسيُّ كثيرًا في مجال قيادة الجموع؛ إذ إن تجنيد الفاعليات، ورسم الخرائط والتصاميم لها، وإبداع الدافعيات التي تدير الحراك، وتتوسع في الأنشطة، وتتابع الإنجاز، هو علة النجاح الأولى التي ظل كولن يشدد عليها، والنهج الذي يحرص على اتباعه: "يجب عند القيام بالتخطيط من أجل تحقيق خدمة أو إنجاز عمل ما، دراسةُ العوائق المحتملة بجانب المساعدة والإيجابية. بذلك فقط يتم تلافي نقد القدر عند ظهور المشاكل" .

فالصرح العالي الركين، قبل أن يستوي ويبلغ مداه، كان مجرد فكرة، تحولت إلى ورقة وتصميم، ثم تداعى الصُّناع يقودهم المقاول، يجسدون المخطط على أرض الواقع، حجرًا حجرًا، ولمسة لمسة. هذا ما يتلقنه الإنسان حين يتربى في حضن المسجد، يرعى قابلياته وما يستبطن النفس من أحلام، ولا يزال في تلك الرحاب يستلهم فن الصبر والعراقة من سيمياء المعمار، ويتمرس بطرق التدرج في إنجاز المآثر.

على نحو ما تنشأ البناية على دعائم ذاتية، وهياكل عضوية، نابعة من أرضية قارّة، وممتدة إلى أعلى بالكيان كله، كذلك يبني الإنسان كيانَه بالارتكاز على المساند الذاتية، أي على الروح المزكاة، والمواجد المُرَقَّاة، يُسلح بها جدار الشخصية، ويحصنها، ويستمر في تعهد خزان المعنويات، يشحنه على الدوام، فالإنسان كما يقول كولن "مكلف ببناء عالمه الإيماني والتفكري، حينًا بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود، وحينًا بالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته" ، مستبقيًا المستوى الحيوي من التركيز والمثابرة، متكيفًا على الأوضاع التي تجعل جهده يتنزل في ورشة العمل مباركًا، وكأنه جهد أنفار لا نفر.

وإن أبرز ما ينبغي أن يوطده في نفسه من صفات: أن يكون فردًا في جماعة، وجزءًا من كل؛ لأن الجهد الفردي يظل حصريًّا، وربما لا يجد من يقدّر أهميته، ولا من يوظفه التوظيف النافع. فحياة المسلمين تحتاج اليوم أيما احتياج، إلى النهضات الجماعية، ومطامحُ الأمة تتحقق بالترابط، فالعصر عصر جماعة، لقد حلت الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محل الدهاء الذي كان للفرد، "وإن رهان ضمان الإقلاع الذي ينتظرنا كأمة منبعثة للتوّ من رماد الهزيمة، لن تقدر على الاضطلاع به إلا جماعة تتحمل دعوة مشبعة بالدهاء" . فالمَهمة جسيمة والتحدي عظيم؛ إذ الحسم يقوم على حتمية "إثبات وجودنا وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى، بتعمير خراب حس الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن" .

هناك أرشتكتور تجديدي نحن مطالبون بإنجازه؛ ترميمًا لأوضاعنا التي انتهت الرثاثة منها إلى العمق "فالدين خراب، والإيمان تراب" ، والأجيال التي نشأت ترتضع صدر التغريب، شبت "غِرَّة مخدوعة" ، "فوقعنا كأمة في ابتذال الذات فكرًا وتصورًا وفنًّا وحياة" .


معاني المعمار والاختلالات المعنوية

إننا نجد كُولن يُقوِّمُ بعين المعماري الأوضاع المتردية روحيًّا؛ إذ يرى أن الثقافة الإلحادية التي سادت بلاده، كانت عامل تخريب للوضع المدني التركي، وخطة هدم واستيلاب، تحجب عن الأمة نور الشمس، وتهيئها للهلكة المحققة، يقول كولن: "هذه الهيكلة الشكلية التي يمكن أن نصفها بتلبس الفكر الملي بلبوس الفسق، وتخريب روح الملة، قد أضرت أكثر مما نفعت" .

بل نجد أن بصيرة المصلح قد تماهت لديه في حس المعماري؛ حيث واظب في كتاباته وإحالاته التقويمية على توظيف قطاع من الدوال مستمدة من حقل العمران.

إن صورة البُناة المعماريين لابثة في قاع لاشعوره، تطفح وتطفو كلما توجه الوجدان إلى التحدث عن المصير الحاسم، والتفكير في الرهانات الكبرى؛ ذلك لأن وعي (و"لاوعْي") الداعية كولن متجذر في أرضية التاريخ، فلذلك نراه يجد كل ذلك التناغم العميق، والتجاوب القوي، مع شواهد ذلك التاريخ الماثلة للعيان في تراث معماري لا يفتأ الداعية يستمد منه تمثلاته وخطواته.

فلقد لبث خطابه يشاكل بين تلك الشواهد الشامخة، وبين القوى التي يرشحها لصناعة الغد، وطفق يستبين في صلابتها صلابة أبطال تلك المهمة الإحيائية الحاسمة وعزْمِ جنودها ومهندسيها، وما يتحلون به -أو ينبغي- من صفات المغوارية، والتمهر والنفاذ؛ "نعم أولئك ينشغلون بحساب الغد مع اليوم، قيامًا وقعودًا، ويستعملون الإمكانات والحركيات الحاضرة أحجارًا لإنشاء الجسور الموصلة إلى الغد، ويجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة" .

إن رهان هؤلاء الأبطال يستهدف -ليس فحسب- تحقيق النصر على أوضاع الانحطاط، وتغيير مظاهره المزرية إلى مشاهد للعز والقوة، ولكن رهانهم يتعاظم وتتعدد تحدياته بكونه يضع في الحساب اختصار الأشواط الزمنية، واختزال المسافات التي تستغرقها عملية البناء، فالمهمة جسيمة بجسامة أهدافها من جهة، وشاقة بفداحة ما تقتضيه من دهاء وقدرة على البذل، بلوغًا إلى النصر الذي لا يعقبه خذلان.

في هذا السياق المتفائل بما ستكون عليه مهمة الإحيائيين، نرى الخطاب مرة أخرى يستدعي صوره من قطاع العمارة (أحجارًا لإنشاء الجسور) للتعبير عن المستقبل، فالمادة الدلالية كما نرى، وردت مسكوكة؛ لأنها مستمدة من وجدان تعمقت فيه حسية الأرشتكتور، فباتت تشكل مساحة من تعبيريته.

إنها حال استرفادية تبين أن المعمار مَوْجِدةٌ حاضرة في فكر كولن بقوة وأصالة.


نشوء العمران ونموّ الوازع الديني

يعتبر كولن العمرانَ مقتضى روحيًّا ووجوديًّا للإنسانية، وليس فقط تدرجًا مدنيًّا تَحقََّق عبر مراحل التاريخ، فالإنسان كائن ديني بطبعه، بدليل انسياقه الفطري إلى إنشاء ثقافة الدين، ولو في شكل طقوس بدائية.

ولأن كولن يؤمن بأن المدنيات -مطلقًا- تتأسس على دعامة دينية، راح يؤكد مرارًا علاقة الدين بالتمدن، ويشدد على حقيقة ترابط الدين بالعمران، فظهور العمران موصول عضويًّا بتَهيُّؤ الناس للشرط التعبدي "ولم تقم مدَنية من غير معبد ومعبود" ؛ ذلك لأن الكائن البشري قد فُطر على روح التأليه؛ حيث حمل في أعماقه نوازع الإيمان بالإله المتواري في جلال ربوبيته عن الأنظار، فلذلك لبث الإنسان على مر الدهور يعنو بوجهه إلى الإله المعبود، ويشيّد المعابد، موصولاً على نحو أو آخر بالسماء، لا يكاد ينفك عنها. وحال الإنسان مع الدين ماضيًا، هي حاله مستقبلاً، "فلن يُنتزَعَ فكرُ المَعْبد والمعبود من قلب الإنسانية" مهما تقدمت، وأن "الوجدان يتفتح بالأمل على الله تعالى" في كل آنٍ ومكان، رغم عوارض الغفلة التي تطرق قلبه، والتي لا تدوم على كل حال، فطرة الله.

لا ريب أن هذه المسلََّمة الفكرية التي يقررها كولن بخصوص مبدأ تلازم الحضارة مع شرط الإيمان، قد تعززت لديه نتيجة القراءة والاطلاع على تجارب الأمم وتاريخ البشرية، لاسيما ما أصَّلته أخبار القرآن عن سنن قيام الحضارات، وأفولها، وعلل الازدهار والاندحار التي لبثت تعرض للمدنيات والقرى الظالمة لنفسها.

فلقد هيأ له المسجد مناخ التأمل في ظاهرة تتابع الحضارات، وفي قوانين بناء المدنيات، ولا يستبعد أن تكون مبادئ فكره الحضاري كما سجَّلها في كتابه "ونحن نبني حضارتنا"، وكتابه الآخر "ونحن نقيم صرح الروح"، وفي غيرهما، هي ثمار لِما لبث ينضجه وهو يأوي إلى المسجد، من آراء وخطرات، تولدت في روحه، وتأصلت، وباتت قناعة لها قوة النظرية.

أجل، في صوت المآذن رجْعٌ نحاسي لصوت سيدنا بلال، بل في تشكل المئذنة هارمونيك يجسد صائتة بلال t، ولم تجنح صوامعنا إلى التعالي، إلا لأن الأذان يؤدَّى عندنا بالصوت لا بالآلة (الناقوس)، فمن صدر كل مؤذن تنبعث جوقة من الأصوات مرفرفة، مخترقة الفضاء، تنشد التحليق بعيدًا، لتُسمع كل حي.

لا ريب أن معمار المآذن الإسلامية قد تشكل على إيقاع ذلك الصولفاج الذي توارثته أجيال المؤذنين عن عميدهم الأول بلال. بل إن كل مئذنة هي بلال. وما حُوربت المآذن إلا لأن الآخر توسم فيها طلعة سمراء لصحابي عاش في ظل أرشتكتور الصُّفة، ورشحته الحظوة الإلهية ليكون (سوبرانو) محمديًّا. ولقد تطبع المسلم على أن يرى في المئذنة سلمًا صولفاجيا، قبل أن يراها معمارًا يطاول السماء. وعلّمه الإسلام أن يثوب إلى الخشوع وهو على مدى من المسجد، فنداء المؤذن يحمل إلى النفس ما يرحل بها عما هي فيه، حتى الفاسق؛ إذا ترقرق الأذان في سمعه آذاه، وسبَّب له القلق.

"إن هذه الأصوات المرتفعة من المعبد.. نشعر بها وهي تفيض من قلوبنا كصرخة مدوية، فنحس وكأن قبة قلوبنا قد خُرقت أو ثُقبت، فنكاد نغيب عن أنفسنا" .

جو المسجد يعيشه المسلم حتى خارج المبنى؛ لأن نهار الأمة مزركش بنوبة تؤديها جوقة خمس مرات في اليوم.. "في كل مرة من هذه المرات التي تغمرنا فيها هذه الأحاسيس.. يبدو لنا وكأننا نشاهد صور جمال عوالم أخرى مجهولة من المنافذ المنفتحة على أعين قلوبنا" .


قطاع المساجد سجل بديع لمآثر العثمانية

سجلت المدنية العثمانية المجاهدة أبرز ملامح شخصيتها من خلال منظومة المنشآت الروحية والتعبدية التي شادتها، لاسيما قطاع المساجد؛ إذ صيّرت تلك المنشآت الباهرة الطَّرْزِ، سجلات تعكس مآثر السلاطين وما عرفته عهودهم من تطور، وتُقَيِّد ما كان لهم من أسهم في مجال خدمة الإسلام والأمة.

فلا غرو أن يكون حضور صورة المسجد ومعماريته المتميزة راسخًا في الوجدان التركي، بل لا مبالغة أن نقول: إن شيئًا من تاريخ الأتراك الجهادي قد عكست المعماريةُ المسجدية معانيه وعنفوانه، فالقباب في تجمعها فوق مناكب البنايات المسجدية، هي رؤوس جند مجاهد تعلوهم الخوذات، يَتَراصُّون زحفًا، يقتحمون القلاع، وإن منظر انتصاب المآذن الممشوقة في السماء، وقاماتها الفارهة، هو بمثابة الرماح المجهزة لخوض الوغى. إن ناصية كل مسجد تركي هي مشهد عارم لموقعة متفجرة تُظلُّها الحراب المسنونة، والتروس المحدَّبة.

أضحى المسجد العثماني مرفقًا روحيًّا ومقومًا رمزيًّا في الآن ذاته؛ لأنه موصول بخلفية انتماء حضاري عتيد؛ ذلك لأن مسيرة التاريخ جعلت من المساجد ومآذنها معالم لمسار مجيد يشهد بمفاخره ومنجزاته على عراقة الأمة التركية، ويُجَلِّي مآثرها في مجال رفع الراية المحمدية والذود عنها طيلة القرون.

إن المقوم الرمزي يتجلى اليوم في القيمة التداولية التي أخذها شكل المسجد؛ حيث بات يمثل الصورة المميزة للحاضرة التركية (إسطنبول ترمز إلى هويتها المدنية برسم المسجد).

المسجد العثماني إنجاز معماري فذّ، وصورة غير قابلة للاستنساخ، رغم أنها ظلت مادة استلهام وتوطين في ربوع البلاد الإسلامية عبر القرون؛ لِما ميز رسمها من جلال وشموخ.

العهد العثماني عمل على تعميم الطراز المعماري السناني على نحو أو آخر، فلذلك نجد التراث الذي ورثته البلاد العربية عن عهد الخلافة العثمانية تسود فيه معمارية الجوامع العثمانية بمآذنها الرشيقة وقبابها الركينة.. وما زال تراث الجوامع ذات الطابع التركي يترجح إلى اليوم في البلاد العربية بفخامة فنيته، بحيث باتت المدن التي تضمه تُصَنَّفُ في عداد الحواضر ذات الحظوة السياحية والثقافية العالمية.


الإحالة المعمارية في كتابات كولن

وكما تحفل كتابات كولن بصور تحيل إلى المعمار، ينفتح خطابه كذلك على معجم الهندسة، بحيث تتواتر الإحالة إلى مفاهيم قياسية ينجز الفكر بواسطتها مقاصده. فالخط والدائرة، والمحيط والامتداد والنقطة، والبداية والنهاية، والهندسة والمهندس، والرحابة والمساحة، والمسافة والسُّمك والسموق وغيرها من مصطلحات التخطيط، تمثل رافدًا ملحوظًا في كتابات كولن.. إذ إننا نشعر أن توظيفها يجعل الخطاب يتجهز بطاقة إفادية ملموسة. ومن المؤكد أن العبرة في مجال التداول ليست بالكمّ أو بحجم التواتر الذي يأخذه دالّ من الدوال، أو مفردة من المفردات المستقاة من حقلٍ ما من حقول المعرفة، وإنما العبرة بما يكون لذلك الدال أو تلك المفردة من وزن إفصاحي، وتمَيُّزٌ تعبيري موصول بالعمق النفسي للكاتب.

ذلك أن الشأن بالنسبة إلى المفاهيم والألفاظ المفتاحية، ليس في الرواج فحسب، وإنما في الصدى ومستوى الاستقطاب الذي يتحقق للدال في سياقات الخطاب، من هنا لاحظنا في كتابات كولن أن معجم المساحة والقياس له حضوره، وقوة إفادته، نتيجة الحس التوظيفي المعبر، الذي استُخدِم به ذلك القطاع المعجمي.

ولسنا هنا في موقف الزعم بأن خطاب كولن استثمر المعجمية الهندسية وحدها، ورجّحها على ما سواها، أو أن التأثر المعماري صاغ وحده ذهنيته وذائقته، كلا؛ لأننا نعلم أن الخطاب الفكري الحديث بات مفتوحًا على المعارف جملة، وأن المفكر هو مثقف ممتاز يتعاطى المعارف بأجناسها، فهو بطبيعته الموسوعية، يتفاعل مع مختلف الأجناس، ويوظف منها ما يقتضيه المقام، سواء بالمَتْح من معين لغتها واصطلاحها، أو باستعارة قوانينها ومعلوماتها.

وإن موسوعية كولن هي حقيقة لا مراء فيها، سواء في مجال التراث أو على صعيد المعاصرة والحداثة. فكتاباته متواصلة مع النظريات العلمية في حقل البيولوجية والكيمياء والفيزياء والآداب وعلم النفس، والتاريخ والعلوم الشرعية والأنثروبولوجيا، والفلسفة الحديثة وغيرها.. إنه قارئ متابع لآخر ما يظهر في الميدان الفكري، وهو فوق ذلك لا يتلقى المحاصيل المعرفية والنظريات العلمية إلا من خلال تمثُّلها وتفعيل المنظار الشرعي والتمحيص العقلي فيها. الأمر الذي يجعل منه قطبًا حقيقيًّا من أقطاب أسلمة المعرفة المعاصرين. ومن الطبيعي أن يتأثر خطابه بمنظومة معارف العصر، وأن يحمل فكره آثارًا وشواهد تعكس سعة ذلك الاطلاع المعرفي، ومدى العلاقة التي تربطه بهذا القطاع المعرفي أو ذاك.

فالقراءة -وهي أخت المعايشة- عامل تأثير في المواجد، والخطاب -مثل المسلك- هو أحد الأصعدة الأبرز التي تعكس حجم تأثرنا بمنهل معرفي ما، أو تفاعُلنا بصبغة ثقافية أو فنية بعينها، ودرجة ذلك التفاعل أو التعاطي.

من جهة أخرى، لا نتردد في الزعم بأن رافد المعمار كان له كبير الأثر في طبع وجدان كولن، وصوغ ملكاته التمثلية والتفكيرية، وأن الملابسة المستمرة للـ"كنِّ" المسجدي في مراحل الوحدة، قد أكسبته حسًّا أرشتكتوريا، بات ينعكس ليس فقط على الذائقة والرؤية، ولكن أيضًا على الإفصاحية والتعبيرية، ولعل لغة وصور ومخاطبات كتبه، لاسيما "ترانيم روح وأشجان قلب" و"ونحن نقيم صرح الروح" كما أسلفنا، عكست هذا المنحى الفني لديه بصورة لافتة، ولا مراء فيها.

الكهفية

للكهف في شعور المسلم معنى الهجرة؛ إذ إن الباعث إلى مساكنة الكهف هو الرفضُ والإدانة، واختيار المبدأ، وعدم المساومة عليه، والإعلان الصريح عن الانتماء إلى الحق.

إن رمزية الكهف تعكس موقف الاعتراض والإشاحة عن حياةٍ اختلت فيها موازين الروح، واهتزت روابط الإعلاء، نتيجة تَحَوُّل وازع العبادة -الذي جُبلت عليه النفوس السوية- من تقديس الله الأوحد وتعظيمه، إلى تقديس البشر والخضوع إليهم، مع ما يستتبع ذلك من خسران للحرية، وضياع للكرامة، وتسفل في القيم، وبهيمية في الأخلاق.

الكهف في معناه الفيزيكي هو وعاء مكاني، وسقف من نحت الطبيعة ورسْمها وتَهْيِئتها. ولقد شكل الكهف الخطوة الأولى على طريق ابتكار فن التخطيط المعماري.

وإن مفهوم الكهفية في القرآن يتقاطع مع معنى الاستتار والمعتزل. ومن المؤكد أن ثقافة التصوف في منزعها الاختلائي، تعود بجذورها إلى ما يقرّ في الذاكرة الجمعية من أصداء تركتها فيها قصة أهل الكهف بطابعها الاحتسابي الباهر، بل إن سُنة الاعتزال والتحنُّف ظلت قاسمًا مشتركًا بين سائر الأنبياء والرسل، ولقد تعقبهم في تلك السيرة، وعلى مدى العصور، أهل الله وعباده الصالحون. فلكأن اصطفائية السماء اقتضت أن يمحّص الله عباده المرشحين لنيل الفلاح الأخروي، فكان عليهم من ثمة أن يعيشوا مرحلة الكهفية، وأن يستغرقهم الانقطاع والتواري، ما شاء الله لهم أن ينقطعوا ويتواروا.

ولقد ترابطت في مشاعر كولن صورة الكهف مع صورة الغار (حراء)، وتلابست في روحه الوظيفة اللجوئية التحنفية التي يتقاسمها المرفقان (الكهف، وحراء).

فلقد تدرجت سيرته في الترقي صُعُدًا؛ إذ عاش مرحلة التكهف المسجدي يوم كان نزيل النافذة، وقبلها نزيل خرابة مسجد ، ثم عاش مرحلة تكهفية أخرى بالإيواء إلى سقف خشبي يوم عُيِّن قيمًا في أول مدرسة عمل بها، ثم دأب على حياة التكهف، وذلك بالإقامة في ما اصطلح على تسميته الطابق الخامس، وآل الأمر به في نهاية المطاف إلى أن يستقر من مقام الكهفية الروحية في الذروة؛ إذ اختار العيش التبتلي، جاعلاً بينه وبين الحياة مسافة من التقوى، من حيث مضى يفاعل المدنية المعاصرة بفكره وروحه وقلبه، مقلّصًا من مطالب الجسد إلى حد أدنى من الضروري؛ ليتأتى له التسديد الحاسم.

لقد هَدَّ الجسرَ المادي الذي يصله بالحياة الفاتنة، وتخطى إلى العدوة الأخرى من النهر (نهر التجرد)، وبات على هدي السلف، يلقي بأطواق النجاة إلى السالكين، يستنقذهم ويصمم لهم معابر إلى النهضة تقلهم بأقل التكاليف، إنه من موقعه ذاك، يقف متأملاً الجموع وهي تدور في الحلقة المفرغة، يبطش السيل الجارف بها، فتهلك النفوس، وتضيع النفائس، ولا يفتأ هو يحدو الجموع لما يصلحها، ويكفل لها النهوض والسعادات.

وما زال كولن ينوّه بأسرار سورة الكهف، ويرى أنها أتم مدونة سلوك وضعها الخالق لعباده، يعتصمون بها إزاء التمحيصات الكفرية، وإزاء صولات الجبارين وغشمهم.

ففترة التكهف كما يراها كولن ليست انقطاعًا عن الحياة، أو انسحابًا يخلي الميدان للقوى الطاغية والمتربّبة، وتركها تفعل ما تشاء، بل إنها اجتزاء لشطر من الوقت تتأهب فيه الروح، وتأخذ بأسباب القوة والثبات، تهيئة للشروط التي تكفل معاودة الجولة، قضاء على القهر، وانتصارًا للحق.

فالقرآن-كما يرى كولن- قد عرض وضع الفتية أصحاب الكهف، ليطرح أمام العاملين نموذجًا لمنهاج الثبات والسلوك المتأبي عن الانبطاح. من هنا كانت مرحلة التكهف والانعزال الروحي ضرورية في حياة المسلم. فهي أفضل "ريجيم" وأنسب ارتياض، وأنجع "روسيكلاج" يتيح إعادة تأهيل الروح، وتجديد معمارها، وتسليح أركانها بالمواد الداعمة الأقدر والأصلب.

ولما كانت الروح تتأثر بما يعيشه الجسد من أوضاع التكييف (سلبًا وإيجابًا)، كان الكهف أليق بالروح للتريُّضِ على حياة المرابطة والاعتصام. تجد النفس شهوتها في الانبساط بالمكان، والتوسع في النعم، والاستنامة إلى حياة الغفلة والأهواء، عكس الروح، فإن حياتها في التقييد والصوم عن الملذات، ومعاداة الأهواء.

ولا بد أن طبيعة الفضاء الكهفي تهيئ النفس لأن تفكر تحت وطأة الضغط والضيق، فترتحل من ذاتها إلى معارج تغدو فيها مِنَنُ اللهِ على عباده أكثرَ جلاء لها، وأقرب معايشة منها؛ إذ تضحى النفس تحت نير الشدة أعمق إدراكًا لسبوغ النعم، وأكثر استعدادًا لاستبانة معاني الرحمة والأفضال.

وإن الآثار المعنوية لسُنَّة التكهف، هي المقصودة في كل سلوك؛ إذ قد يعيش المتبتل ذو المكانة أحوالاً من التكهف وهو ينزل أرحب صعيد، من هنا نرى أهل الله الداركين يعيشون الامتعاض والحزن المكتوم حتى وهم يحيون في الألطاف والمنح الظاهرة؛ ذلك لأن للقطبية تكاليف باطنية، باهظة، ينوء بها الكاهل؛ إذ الأمر لديهم منوط بالروح، وبالمقام الذي تهيئه مجالاً لمرابطتها.

ومن المؤكد أن المكان يترك بصماته الظاهرة والخفية على الإنسان، فالشعوب تحمل في جنباتها الجسدية والشعورية شيئًا من فيزيكية أوطانها، وإنَّ ظِلَّ البيتِ لينفذ إلى كيان صاحبه لا محالة، ويترك شيئًا من الأثر عليه، ولا شك أن إقامة كولن في المساجد أورثته -أو عززت لديه- قابليات نفسية وإدراكية تميزت بها شخصيته الفكرية، لعل من بينها حس التوازن والتناسب البارز في تمثلاته، والذي عبّر عنه بما أسماه "قانون تناسب العلّيّة" كما سنرى لاحقًا. ذلك لأن مِسْحة المبنى المسجدي هي معرض من الأشكال والخطوط الزاخرة، وإنّ تعود الحس على مشاهدة تلك الأشكال والخطوط، وتمرّسه بملاحظة دقائقها، يكسب النفس قدرة رؤْيويّة مغتنية باليقظة إزاء المعالم والتصاميم والإحداثيات.

إن المعاينة المتواصلة للواجهات المُشَكَّلَة، والمداومة المنتظمة على تفكيك تعبيرية الفضاء من حولنا، لمن شأنها أن تعمل على إنضاج الوازع الجمالي لدى الإنسان الموهوب. فالنفس الحساسة تتشرب الحسن من مظاهر التوازن والتناسب التي تميز المعمار، وإن مقومات المبنى المسجدي -حيث عاش كولن سنوات التكهف الأولى- كانت تمثل له بيئة من الأشكال الزاخرة، والألوان الجاذبة، والتراكيب المتناسقة، ولا بد أنَّ تعوُّدَ حسُّه عليها، وتواصله عن قرب بها، كان يُكسبه ثراءً ذوقيًّا، وتوسُّعًا في مجال التجهيز التعبيري، والأداء الخطابي، والإدراك التمثلي.

ولقد هيأ الله فطرة الكائن الحي لأن تتطبع على تلقي التوزيعات المشهدية الكبرى من صفحة السماء ومن تجلياتها في البسيط الأرضي والآفاق من حولنا. وإن ذلك التعود الغريزي على الانسجام مع فيزيكية الكون المُشَرَّعة، قد شكّل الأرضية الشعورية التي يتحرك عليها الإدراك البشري في علاقته بالمكان، وفي ارتياحه إلى الفضاءات المفتوحة.

وإن الذهن في تواصله مع الأفضية الصماء، يعمل بلا هوادة على الانفلات من أسوارها، والنفاذ إلى ما ورائها، بدافع التجاوز ورفض الانغلاق الذي يميز سيكولوجية الإنسان. فالنفس تسعى إلى تخطّي الحواجز كلما أطبقت عليها العتمة وأرهقها الانحباس. ولم تنشأ الأسطورة وتتسع جغرافية الميثولوجيا إلا على هذا السبيل التجْنيحي الميل والجنوح الذي حدا بالإنسان إلى أن يركب قارب الخيال، لائذًا بالخيال من سجن الواقع وركود أوضاعه.

إن الأُلفة مع المكان هي التي تجعله يغدو جزءًا من الكيان المعنوي للإنسان، وإن الفطرة ذاتها هي التي تجعل حتى العجماوات، تحن إلى أوطانها، وتقطع المراحل إذا ضلت، وترتد إليها. من هنا كان للمكان تأثيره في النفس والوجدان، ومن هنا أيضًا نجد الكُتّاب والمبدعين يستدعون باستمرار تيمة المكان صراحة (مسرح الطفولة، الأطلال، بيئة المدينة، الريف.. إلخ)، أو هم يموّهون عليها، لكنهم يتخذونها أرضية لحركة الخيال؛ لما يجدونه من توق إليها، ولما اشتحنت به أرواحهم في أجوائها من خصوبة.

إن أشعار كولن وهو يتغزل بالسليمانية، وتواجداته بأياصوفيا وبالكعبة والقدس، وبمشاهد وتُرَب الصالحين، تؤكد أنه صاحب مشاعر توطنت على أن تستقرئ المعمار، وتستلهم منه روح التقوى والاستراتيجية والفكر والجمال.

ولقد ورث كولن عن صلته بالمعمار قابلية أخرى هي التوحيد الذوقي؛ إذ إن من شأن استقراء مجالي الحسن عامة، أن يترك ذوي الأرواح الطاهرة يزدادون يقينًا بالخالق؛ إذ صورة الخالق التي انغرست في ضمائرهم ومواجدهم ليست إلا هالة من الجمال الخارق، والتناغم المذهل، والحسن غير الموصوف. وكلما عرض لهم مشهد جميل، استشعروا -فورًا- انبعاث ذلك الفيض الساحر الذي يستوطن أعماقهم عن ماهية الله وكماله.

فالإنسان "يؤمن أول ما يؤمن بما يصل إليه من هذا العالم بواسطة حواسه الخمسة، ثم يقوم بتفسير معاني الأشياء، ويكسر القيد الحديدي عن عنقه ليرى الحقيقة الموجودة في قلبه" .

كما وَرِث كُولَن عنه كذلك حب العدالة والتكافل؛ ذلك لأن الحسن بما هو جِلاء للتناسق والتكامل، يعمّق فينا وازع الرقة، ويفعمنا بمزيد من شعور الإشفاق والرحمة، الأمر الذي يهيئنا للإحسان.

إن مشاهد الطبيعة ولوحات الفن ومظاهر الجمال قاطبة، تتأسس على مبدأ ترابط المكونات وتلاحم الفقرات، وتناسق المفردات. فالعناصر والصفات والأشكال والأحجام جميعًا تتبادل الاعتراف فيما بينها صنعًا للصورة البليغة، وتقر لبعضها بعض بالقيمة من حيث بناء المنظر. وإن أدق حلقة، وأرق رابط ينهض -بالقياس إلى بقية البنية- بما ينهض به أضخم عامود، وأفخم أسطوانة، وأجسم مرتفق في الهيكل. تلك هي بعض الحقائق التي نتعلمها من التواصل مع الفن، وذاك ما جرّبه كولن، وأفاده من جراء مساكنته المساجد، وتصفُّحِ طباع زينتها المعمارية، صباح مساء.


وجدانية كولن والتناظر بين تيمة الرحم وتيمة الكهف

سيرة أهل الكهف إيعاز للأتباع بما ينبغي أن يكونوا عليه من استعداد روحي وتجرد من الحياة في سبيل خدمة الإيمان، إن التكهف هو أن تعيش الآخرة في الدنيا، من أجل أن لا تكون لك من غايات إزاء الغاية الإيمانية الكبرى.

وكل الأصفياء عاشوا مرحلة التكهف قبل نيلهم البشارة، والتكهف تعيشه أيضًا الجماعات المراهنة على التجديد، وإعادة الإنسانية إلى رشدها ومسارها الصحيح في التاريخ. ويمكن لأصحاب الخير والإيمان أن تمر بهم في العصر الراهن ظروف تضطرهم إلى أن يعيشوا ما عاشه الفتية في الكهف، فرارًا بدينهم وموثقهم إلى الخالق؛ ذلك لأن حوادث التاريخ تسير في شبه دورة معادة، فإذا لم تكن تفاصيل التاريخ واحدة، فهي نفسها في المجملات والكليات (قانون الأسباب والنتائج)، من هنا قالوا: التاريخ يعيد نفسه.

لقد عاشت الجماعة الأولى من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- تجربة كهفية حرجة، فكانت دار الأرقم هي مثابتهم وكهفهم الذي يلجأون إليه؛ تسترًا من عيون المشركين. وكما وجدت الدعوة الحضن الأول في دار الأرقم، فإنها وجدت بعد ذلك في الهجرة فرصة خروجها إلى العالم، لكن متطلبات انتشارها اقتضى البذل، بذل النفس والمال.

وإذا كانت ممارسة مهمة التبليغ اليوم قد تهيأت بواسطة الأساليب السلمية الخالصة، فالمؤكد أن نشر العقيدة في العالم بات يعتمد على المال والرأسمال وقوة تموين المشاريع الدعوية، لذا غدا الاستثمار من أجل توفير أسباب الدعوة والتبليغ أمرًا حتميًّا، لكن على العاملين أن يعتبروا بتفاصيل ما حدث لأهل الكهف. فكما كشفت الدراهم موقع أهل الكهف، فإنها قد تكشف الدعاةَ في كل عصر وتعرضهم للفشل، "فرجل الفكر والدعوة إن كان لا يرغب في التعرض للقبض عليه مِن قِبل الأعداء، أو من قبل الأصدقاء، أو من قبل مجتمعه، فيجب عليه ألا يبتعد عن حب الربح والكسب فقط، بل عن أي ضعف دنيوي في هذا المجال" .

لا يمكن لمن يتصدى للدعوة أن يهمل موضوع التمويل المادي، ولكن بشرط أن تكون النصوص الإسلامية من آيات وأحاديث وتصرفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوة ونبراسًا له في الإنفاق وفي ضبط سياسة تمويلية احتسابية.

إن تسخير الجهد في توفير مصادر التمويل التي تساعد على دعم الدعوة، أمر يدخل ضمن الواجبات الشرعية؛ ذلك لأن الجهد المبذول في تحصيل المال من أجل الدعوة يُعد عبادة.

يقول كُولن: "الكعبة.. رحم للنور المحمدي" . ويقول أيضًا: "المستقبل يتطور إلى براعم في رحم اليوم" .

حيال الترديات المعنوية، تجنح أرواح الأطهار إلى التجدد واستعادة النقاوة الأولى. وكما تترجم سيرة الفرد الصالح عن هذا الوازع التطهري، تترجم عنه أيضًا خياراته الفكرية، ويشف عنه أداؤه الأدبي، لاسيما الأداء الصافي الذي تعرب عنه شعرية الخطاب، أو ينعكس من خلال استثمار دوالّ تُحيل بسفور لافت إلى معاني أنثروبولوجية بعينها مثل "الرحم والولادة والنشوء.."، وما في مؤداها من رموز التجدد والتطهر.

يقوم في خَلَد كولن تناظرٌ بين صورة التخلق الرحمي وبين وضع التكهف؛ إذ التكهف سِمَةٌ أساسية تتهيأ بها الشخصية إلى الريادية من خلال اعتماد حياة التنسك والهجرة؛ لذا قويت رابطة التماثل بين الحالين في وعيه. فكما تتخلق المضغة، وتكتسب قابلية الوجود حين يودعها الخالق نَسَمة الروح في الرحم، كذلك تتشكل الشخصية وتنشأ خلقًا جديدًا حين تنصهر في بوتقة الكهفية.

الفرد الذي يجتاز امتحان الكهفية يتأهل للريادة وشق الطريق؛ إذ الرائد صانع خطط، خلّاق فرص، مُنجِز انتصارات. بل إنه يتأهل لأن يعيش حياة البرزخ بروحه؛ لإدمانه التفكير والتلاوة، فهو يمثل الجسر بين الواقع والحلم، بين الصفوف ومعقد آمالها. والجامع بوصفه كهفًا للمعتكفين، كان رحًما، تخلََّقَتْ فيه شخصيةُ الداعية كولن بامتياز.

ولو تساءلنا ما أهمية التخلق الروحي بالنسبة إلى الإنسان؟ لأجبنا أنه تجدد في الهوية، وولادة ثانية، وانبعاث من غمار الإهمال، وتجاوز لأوضاع العقم التي تَكْبِسُ على الحياة، وتحيد بها عن سواء السبيل. ولا ريب أن أسوأ مظاهر العقم أن تسير الأمة القهقرى على صدى حُداة سوءٍ يُصوِّرون لها الليل نهارًا، والتأخر تقدمًا، والعناء راحة.

ولقد تجسدت روح التخلق الراسخة لدى كولن في مظاهر وتوريات عدة، منها ثراء المسار الحياتي، وعصامية رهان التحصيل العلمي.

ومنها أيضًا الإنجازات الثقافية والتربوية والإعلامية التي يدأب على التوسع فيها. ولعل اختياره اسم "حراء" عنوانًا لمجلة خدمية، يعكس روحية التخلق التي يحياها على الدوام. فحراء توعز بشيء من معاني التخلق والانصهار التي عاشها سيد الأنبياء في ذلك الغار المبارك.

ومنها الوضع الشخصي، ويعبر عنه خيار العزوبة، وتبني قضية الدعوة إلى الله. فنهج العزوبة ووقف النفس على نشر الهداية، هو عين التخلق؛ لأنه توجه روحي ووجودي يراهن على توطيد أسباب تخليق الإنسان المسلم الجديد، وبناء الأجيال الطليعية التي ترابط من أجل النصر وبناء النهضة العالمية الثانية أو الثالثة كما يسمّيها كولن.

في كهفية المسجد، وبعد صراع مرير ضد النفس والشيطان، اكتسب كولن الطبيعة الثانية ، وأزال عنه الطبيعة الرثة، تمامًا كما يجدد الطفل أسنانه اللبنية ليستنبت أخرى، أقوى وأصلب. كان المسجد رحمًا تخلَّقَ فيه كولن، واكتسب شخصية المهندس (الأرشتاكت) الروحي، المعبأ بحمية التعمير والعمران. فمن على أرضية المسجد وضع كولن التصاميم، وضبط البيداغوجية، ورسم خطة العمل المستقبلي، ورفع عقيرته بالأذان، يستنفر الجموع ويراودها للسير وراءه، تصنع الغد.

نجح كولن بمعونة الله وتوفيقه في أن يؤم الجيل، وشق نهجًا جامعًا، يستوعب أهم أسباب الانبعاثة المراهنة على استنقاذ الإرث، وتحقيق الإقلاع. ولا يمكن المقابلة بين الرجال وهممهم ومدى رجاحتهم في ميزان التاريخ. وشتان بين من يتجند العمر وراء أهداف شخصية، غارقة في الذاتية وفي "الأنانية"، وبين من ينهج نهج الرسل ، فيستغرق العمر في الدفع بالإرادات وراء بناء الحضارة التي أناط الله أمر تحقيقها بعباده الصالحين، شرطًا لإنجاز وعده لهم بالاستخلاف.

لقد تحولت أفكار كُولن إلى فلسفة مدنية تبني، وإلى منهج إنشائي يراهن على تشييد حضارة الغد، وإلى رحم ولود للفكر النشط، المهيأ لإنسان المستقبل. ولأن كولن يؤمن بشمولية النهج القرآني، ونفاذه من حيث اكتساب الفاعلية والنجاعة، فقد رسا بفكره على القصص القرآني -مبدءًا- واستلهم منها للعاملين خطة الطريق، كما رسمها التوجيه القرآني وبين تطبيقاتها في ما قصَّه من خبر الفتية أهل الكهف.

يأخذ القلب في وجدان كولن -هو الرجل القلبي- صورة معمار، فالقلب بالنسبة إليه سقف وعمارة وموطن إقامة حميمة لأهل النباهة، السالكين إلى الله طريق الوصال: "الذي يحيا بحياة القلب يصبح كيانًا فوق الزمن، أما الذين لم يجدوا أنفسهم في قلوبهم، فتراهم.. في شكوى دائمة" .

ولأن مشاعره اكتسبت تلك الخاصية البيولوجية التي تجعل الزهرة المنزلية، وهي في موقعها تحت السقف، تزدهر وتمد أغصانها في كل اتجاه، فقد طفقت رابطة الألفة مع المسجد تنمو وتتوطد إلى درجة أن أضحى يستشعر أنه بات جزءًا من الرحاب، بل لقد بات يرى في المسجد قلبًا خافقًا بالحرارة والحياة، فكان يتهيأ له أنه يسكن ذلك القلب (صورة التكهف)، وأنه لا يفتأ يبحر في مجرى نهره، كقارب بشراع، يشق المحيط، يستكشف أقاليم بكرًا، سترحل إليها الجموع، في وقت ليس بالبعيد.

"إن البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد، وتحول إيمانه ومعتقداته إلى جزء من طبيعته، يعين حدود هذا العقد وإطاره" .

إن صورة الإقامة في القلب، هي من الصور التي ألحت على مخيلة كولن؛ بحيث يمكن لتيمة القلب في كتابات كولن أن تشكل موضوع بحث مستقل.

ولما كان لفظ الصدر رديفًا للفظ القلب في الوظيفة، كان الاستخدام المجازي لهما واحدًا؛ إذ كلاهما مثابة للفيض والحب والإكبار، فكل شيء نفيس من مشاعرنا ومُثلنا وعلاقاتِنا، نُودعه رحابة القلب والصدر، فهما الصعيد الذي لا يطرقه إلا ما كان خالص الحميمية، مُعظَّمًا، وحائزًا منا على حق الافتدائية. وهو ما ظل يستشعره كولن حيال الرموز من آل عثمان؛ حيث يقول عنهم: "عظماء تركيا لم يغادروا الصدور" .

سنة إيوائه إلى الطابق الخامس إيعاز -شعوري أو لا شعوري- برغبته في أن يجسّد دور القبة، من حيث احتضان الجموع، ووقايتها، وإظلالها، بل هي رغبته في تجسيد دور المئذنة، والنهوض بأعباء المهمة الإيقاظية السامية على نحو ما تؤديه (المئذنة) كل ميقات.

لقد أضحى رقم (5) مع مرور الأيام مصطلحًا يعني القمة والذروة؛ إذ لا يطيب المقام للأستاذ إلا في تبوئ أعلى الأدوار وأقصاها، ثم لا ننسى البعد التكهفي الذي تتضمنه رمزية اختيار أعلى الطوابق؛ إذ إن حياة الأستاذ كولن حياة انخراط عروجي، بات من لوازمها الخلوة والاستغراق في أجواء "حرائية"؛ حيث يستشرف أفق الفجر.. ثم إن التصاق الداعية بالسُّنة يجعله يختار موقع الفوقية، ألم نر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتموقع في عريش بُنِيَ له في تلة، من حيث راح يتابع المعركة الحاسمة في بدر الكبرى؟

يرى كولن أن القرآن العظيم، وهو يقدم خبر الفتية أصحاب الكهف، ويعرض تجربتهم ورد فعلهم حيال عقيدة الجحود، إنما شاء أن يطرح مثالاً عمليًّا أمام المؤمنين، يستلهمون منه ما يبنون به المنهج القويم لدفع الظلم والبغي والإكراه وأنواع الخسف جميعًا.

الكهفيون شكّلوا طليعة تمردت على الوضع الكفري السائد، ولم يسع تلك الطليعة المؤمنة، وهي ترفض ما أحاط بها من أوضاع الضلال، إلا أن تهجر الواقع، جسدًا وروحًا.

لقد كان تمرد الفتية الكهفيين خيارًا إيجابيًّا؛ إذ كانت له غاية سامية، باعثُُها رغبةٌ جموحٌ في إصلاح الحال العامة التي كان عليها المجتمع، فتمردهم -من ثم- تمرد الرحمة، بحثًا عن اللطف لهم ولغيرهم، وكان العجز الموضوعي (لا الوهمي) وحده يقف حاجزًا بينهم وبين الإصلاح، فكان لهم في سيرة التكهف بديلاً عن الاستسلام.

ويستكشف كولن في معرض قراءته لقصة أهل الكهف، فلسفة التعالي البَنَّاء التي صدر عنها الفتية حين لاذوا برحاب الله، يتعبَّدون، ويترصدون أن تتهيأ الفرصة، فيتحركون لإصلاح ما أفسد الكفر، وترميم ما قوّض الجحود. بل إنه يرى أن خروج الفتية عن النظام الجاحد ومفاسده، كان ضربًا من المقاومة المثمنة، بل لقد كان ذلك الخروج يُمثّل وجهَ الحق، وعينَ المسؤولية التي كان على أولئك الفتية الأبرار أن يتحملوها إزاء تفاقم الأوزار من حولهم.

وانطلاقًا من هذا التقويم لتجربة الكهفيين، يقابل كولن بين خيارهم الإيماني وبين خيارات عبثية راهنة تنغمس بها أجيال أنشأتهم المدنية المعاصرة وفلسفاتها التمردية اللاّإيمانية، فعاشوا زائغين، يجاهرون باستخفافهم بكل القيم، ويتفاخرون بمنابذة المقدسات ودَوْسها، لا أفق لهم إلا الاعتداد بالذات (طغيان الأنا) وجعْلها مركزًا ومدار الاهتمام، بل لقد حولوا ذواتهم إلى "آخر" مارسوا عليه شذوذهم وأنهكوه بشتى تجارب الانغماس والانتحار الشنيع.. لقد ساقهم الكفر وانعدام المعالم وفقدان المرجعية الروحية إلى الخسران المبين.

فجنوح تيارات ثقافية متزايدة في هذه الحضارة المادية المعاصرة، وما أفرزته من فلسفات الكفر، هو -في أكثره- تمرد أناني وفعل سلبي ضد الأخلاق؛ إذ العجز عن تحقيق التكيف الناتج عن سوء التربية ، وتفكك رباط الأسرة، هو -في الغالب- الباعث للمتمردين الجاحدين على إعلان عقيدتهم العبثية. فالحياة عند أصحاب هذا الانسياق، محكومة بمنطق اللامعقول، فهي من ثمة مجرد تجربة تغوي بالتهتك. فلكأنهم آمنوا بأن خير سبيل لتحقيق الذات هو ضرب الأخلاق، وإسقاط المثل، وتجاوز القيم الروحية.. إنهم يسيرون بعكس التيار؛ إذ يرون أن الحياة مكابدة غير معقولة، لا تتمخض عن ثمرة أو مقصد.

العجز الموضوعي عن تحصيف الرؤية المدنية، وعقلنة المقاصد الاعتقادية، وتوجيهها وفق منطق الفطرة والإيمان الحق، كان هو دافع الكهفيين إلى رفض الواقع، والانسحاب خارج الحظيرة، حتى لا يفتك بهم الوباء المستشري.

أما محنة العجز عن استبانة مقاصد الحياة، وضوابط الاستقامة، والعماية عن إدراك الأبعاد الماورائية للحياة، فهي المهوى السحيق الذي يسقط فيه العبثيون؛ حيث يجعلون من الوجود تجربة تُعاش بلا موثق ولا وازع، ويتبنون عقيدة الهدم لذات الهدم ، فهم -من ثمة- والأنعام سواء، بل هم أضل.


صورة الخراب وصفات المعماري في وعي كولن

"إن التغيير الذي يطرأ على الإنسان فيفسده ويذبله، يطرأ تدريجيًّا، وبشكل صامت وبطيء، وقد تؤدي غفلة صغيرة.. إلى ضياع كامل. ولكن أمثال هؤلاء الذين يتوهمون أنهم لا يزالون على الخط نفسه، والموضع نفسه، لا ينتبهون إلى سقوطهم من مواقع مرتفعة ارتفاع المآذن إلى قعر عميق عمق البئر" . "إنْ حرمان دعوة من الأوفياء المخلصين الواعين الذين يحافظون عليها ضد هجوم اعتداءات أعدائها، فمصيرها إلى الزوال والانهدام عاجلاً أو آجلا" .

ظلت صورة الخراب حاضرة في ذهن كولن، تعكس-من جهة- وعيه العميق بمدى الرثاثة الكاسحة التي نالت أرصدة العز، وتعكس من جهة أخرى، مستوى العزم الحاسم والرهان المؤكد على إعادة تجديد ما تخرَّب. ولم تترمَّد المدنية الإسلامية ويَلحقها الكسوف، إلا بعد أن قَحَلَتْ مواجدُ الإنسان المسلم، وخملت فيه نوازع العزة، واستنامت الدافعية، ورضيت بمصير الحطة. فروح المسلم هي التي تهشمت واستكانت للترديات والدمار.

من هنا آمن كولن بأن الروح كيانٌ يستوجب التعمير، وأن من أرضية الروح تنطلق أعمال تشييد النهضة. ولا ريب أن كتابه "ونحن نقيم صرح الروح" يشكل مجموعًا فكريًّا بيداغوجيًّا وترشيديًّا، يركز على مقتضيات تصنيع الكيان الملي، انطلاقًا من خطة بناء، ينفذها مهندسو الروح.

ومن المؤكد أن الإيمان بحقائق القرآن هو أُسُّ كل نهوض يراهن على إنجازه طلائع الأمة. ولقد مثلت هذه المُسَلََّمة (محورية القرآن عقيدةً ونهجًا للنهوض)، قطب الرحى في كتابات كولن. بل لقد رأينا الوجدان يجعل من مناشدة القرآن واسترحام الخالق مُنْزِلِ القرآن، إحدى أبرز لوازم النجوى التي يداوم عليها كولن في كتاباته، كوجه من أوجه تبديد الحزن، وتسلية القلب، والتنفيس عن الخاطر: "أيها النور الذي نزل في مكة، وفاض في المدينة المنورة، ليس من شأنك الاحتجاب، فلتفصح عن وجهك النوراني" ، "انزل أيها الخطاب الأزلي الإلهي.. لكي تستفيق القلوب، وتتفتح عيونها على العالم الأحمدي مرة أخرى" ، "انهمر علينا كالمطر وكالغيث، فقد جفَّت نفوسنا وشفاهنا، وبلغت القلوب الحناجر" ، "العالم الذي لا توجد أنت فيه، عالم قُصت فيه أجنحة الإرادة، وضَربت الفوضى أطنابها في عالم الأحاسيس" .

ومن الطبيعي أن يعقد كولن بناصية أطباء الروح مهمة التصدي للعلة الكارثية التي عليها الأمة، وأن يرشدهم إلى العلاج، بأن يستخلصوا من أدوية القرآن ما يفيد الروح والقلب؛ استصلاحًا للكيان، وإعادة للحيوية إلى أوصاله.

ولأنه يدرك أن الإنجاز النهضوي الشامل، مشروط من حيث القيمة، والأصالة، بمستوى وطراز النوعية التي تتولاه وتنهض به من المهندسين، لبث يلح في سائر ما كتب، على إبراز المعالم الروحية والخصائص السيكولوجية والمواصفات الوجدانية التي ينبغي أن تتوفر في البنَّائين المهندسين، أولئك "الذين يقضون أعمارهم في إخلاص ووفاء واهتمام بالآخرين، إلى درجة إهمال أنفسهم من أجل إحياء الغير، هم الوارثون الحقيقيون للحقائق التاريخية، الذين نودع أرواحنا وديعة مأمونة عندهم، أولئك الذين لا يطلبون أن تتبعهم الجماهير، ولكن وجودهم نداء جمهوري (هذه بالتأكيد صفته هو)، وأي نداء، فأينما كانوا يهرع الجميع إلى أولئك الربانيين، وكأنهم مركز الجذب، وقد يستقبلون الموت بسعادة وراء راياتهم" .

فهو لا يفتأ يرصد النعوت والفضائل والسجايا الاستثنائية التي يرى أنها الأقوم والأجدر بالمجندين في معركة الانبعاث واسترداد العزة.وهو-أحيانًا أخرى- يستفيض في عرض شمائل الكرام البررة من الصحابة ورجال السلف ممن سجّل التاريخ لهم الصحائف الرائعة في خدمة الأمة ورفع رأسها، يفعل ذلك لأجل إشهار النموذج الأكمل في مجال الاستماتة وافتداء الأمة، وإعادة بناء كيانها.

إن وازع استدعاء أسماء المرجعيات -وأكملها وأبهرها الرسول -صلى الله عليه وسلم-- والكشف عن الأمجاد والرمزيات، قد شكل منحًى فكريًّا بارزًا في كتابات كولن. ولا بد أنه كان يجد في ما تعكسه تلك المرجعيات والرموز الطاهرة، من وهج يجلّي الهوية أكثر، ويقدمها للأجيال في صورتها الحق، فلذا طفق يستفيض في استدعاء الأسماء المعبرة، ويلون في عرض الشواهد التاريخية من مختلف العهود.

ومثلما دأب على استحضار الأسماء التاريخية، وبيان عظمتها، كان يستحضر الأماكن المطهرة، خاصة المساجد وما توحي به من فخار، ويبسط صحائفها؛ ذلك لأن كولن كان يدرك أن الحديث عن الأماكن المباركة (أو المحافل المعمارية) يستثير مكامن الشعور الجمعي، لاسيما وأن الحديث عن تلك المعالم كان يسعفه في أن يستدعي الأسماء الخالدة التي عرفتها تلك الأمكنة، واحتفظت لها بآثار خطاها فوق أديمها..

لقد مضى يتصيد السوانح، ويترصد الوجوه الندية، من صناع التاريخ، فكلما نبعت في خلده صورةٌ لقمةٍ من قمم المجد، استرسل يستعرض مآثرها، ولا يغادر السياق إلا إذا أردف عليها بتشكيل من أسماء الأماجد، ويصنع منهم باقات من الشعر، كل ذلك لأن الداعية شديد الحرص على تقديم المستويات الأولى من أهل الرفعة والشموخ؛ تهييئًا لمعايير القدوة والأسوة لصالح الجيل المهندس.

لقد رأيناه كثيرًا ما تقترن لديه في التمثل، صور الأركان المرجعيين (النبي وصحبه الكرام) بمعالم الجهاد والفخر العثمانيين، بمن فيهم الأفذاذ أرباب التراث المعماري، وأكثر ما رأيناه يوازي بين سياقات التغني بأسماء أهل الاصطفاء، وبين مظاهر الارتكاس التي تعمّ المجتمع، يتأسى ويتخفف من الوطأة.


الفحوى القدسي والمراس التعميري

وعلى صعيد الألمعية الذهنية، نسجل مدى قدرته على إقامة التوازي الوجيه بين الواقع والفكر، يتبدى ذلك مثلاً في تخريجاته التي يفسر بها الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية.

فهو بصير بتسديد معاني الحكمة، وتنزيل فحواها على الآيات، وذلك نوع من المراس الذهني التعميري؛ حيث تتمكن القدرة التأويلية من استيعاب المعنى وإنفاذه في لُحمة الدلالة القرآنية، وجعل المفردة القرآنية تتقبل المعنى التأملي الطارئ، وتترشح لتبنيه. وبنفس النباهة التوجيهية نراه يدرك الوقائع والأخبار والإشارات والمضمرات في السيرة النبوية ووقائع التاريخ، ويقرؤها بعين من يستخلص لأدواء الزمن الحاضر علاجات تم تجريبها.

ومن الواضح أن هذا المنحى التخريجي الدلالي يتساوق لديه مع ملَكة الارتجال والتوليد التي يتميز بها على صعيد الكتابة واصطناع المفاهيم والمصطلحات. ومن المؤكد أن هذه الملَكة هي امتداد لسجية التعمير المكينة في أعماقه؛ إذ لا ننس أن الارتياض الروحي الذي يدأب عليه الروحيون في وحدتهم، يرتكز بالأساس على فاعلية التخلية والتحلية؛ إذ جدلية التفكر والتدبر النشطة لديهم، تجد حيويتها في التجدد وتنويع الفرضيات، فهي سجال متواصل من أحوال التقويض والبناء الذي تعيشه الروح في خِضم تحسسها لنبض الأشياء وخفْق المعاني أثناء سباحة القلب في أمواج البحار.

فهذه السجية الإدراكية هي في الواقع أحد تجليات الحساسية التي يُكسبنا إياها الذوقُ، وتوفرها لنا العبادةُ، وينميها فينا التأمل والخلوة ومطالعة تجليات القدرة الإلهية؛ لأن التأمل يهيئ للروح ورشة عاجّة بالتعمُّل، هدمًا وبناءً، تظلها سماء السكينة والاستغراق.

يعيش الإنسان المسلم سَبْحَةَ التبتلِ في صلاته، ويعيشها في الاعتكاف، ويعيشها تارة أخرى في وتيرة ارتياد المسجد مرات في اليوم. وكل ذلك يتيح لروحه مراقي عروجية، أو على الأقل يهيؤها لأن تشارف -ولو عن بُعد- منائر النور، وتستروح نسائم الإيمان.

وإن عمق المشاعر والفيوض الذوقية في رؤية الداعية كولن هو بعض آثار ملازمته المسجد؛ إذ إن روحانية المسجد ببعدها العضوي، ممثلاً في ذلك الرصيد الحي من الزينة المعمارية المجسدة في رحابة المدى وتناسق أعمدته، وتناظر أقواسه، وفي تشكيل الزخارف، وتوالد النقوش التي تعمّ القبة والمنبر والحوائط، فضلاً عن أسْر المخاطبات التي يفضي بها صمت السكينة، كل ذلك يجعل النفس تستشعر أنها مغمورة في منابع من نور الأنس.. بل وكأنها في مقام يحمل إليها من المباهج ما يعطيها اليقين بأنها في حضرة الباري، وأن "الوجدان قد قرَّ في فلك طبيعته وفطرته، وأن الله يُسْتَشْعَرُ به في أنفاس الوجود والصورة واللون، في كل شيء يسيل إلى نفوسنا من مداخل الآذان والعيون والأحاسيس" .

هذا الاجتياح اليومي السلس الذي يمارسه علينا الجمال المسجدي، يهَبُ النفسَ مقدارًا من السماحة والرحابة المعنوية، ما يجعلها تتفتح على الحسن، فتتشرَّبه في كل مظهر من مظاهره، ولون من ألوانه، وليس هذا فحسب، بل إنه يحفّز في الروح بواعث إنتاج الفن، وإظهار ما تختزن الملكات من استعداد وجيشان.

لا بد من التأكيد مرة أخرى، أن الأصفياء، أهل الانشغال القلبي، هم أساسًا أصحاب ملكات فنية كامنة لا تفتأ تشعّ بوهجها من خلال سلوكهم وشخصياتهم. إن محمول أرواحهم من الحرارة -التي نراهم ينجذبون بها نحو تبني القيم والمثُل- يتولد مشبَّعًا بدافعية الذوق التي تستوطنهم، والتي تنعكس على هيئاتهم، وغالبًا ما تأخذ صورة وداعة مسلكية، أو لطْفٍ خُلقي، أو نبل شعوري.

هناك حس فني ملموس، ظاهر للعيان، يميز شخصية أهل التقوى الأصلاء، يكون بمثابة المطالع المعلنة عن الموهبة، والعنوان الدال على الاستعداد والتهيؤ القريحي.

إن مخزون الطاقة النورية التي تسكنهم وينجرفون بها وراء الأهداف والرهانات، يسع مُقدّرات رحيبة من الأحاسيس الفطرية الموصولة بقابلية الفن والحسن لديهم. أرأيتم كيف عبّر النبي الكريم عن هذا الوازع حين قال: «حُبّب إليَّ من أمر دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة» ؟ إن هذا الحديث الشريف يكشف من بعض جوانبه، عن وضع الانجذاب إلى ألوان الحسن. ذلك الانجذاب الناتج عن الاحتراق الفطري في الروح السوية، تشوقًا إلى الجمال، تشوقًا إلى الله.

وإن انجذاب أهل التقوى إلى الفن والجمال هو من جنس هذا التشوف الذي عبّر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق وفي أحاديث أخرى عديدة.من هنا نرى أهل الهمة يُنتجون جمالاً في ما يطرحون من تعاليم، ويصبغون بالحسن رؤاهم ووصاياهم، ويَصدُرون في كل ما يقررون عن روح متغذية بالفن؛ لأنها حبلى به، تُفرِزه كما تفرز النحلةُ شهدها؛ لأنها لا ترعى إلا شهي البراعم، ولا تُطَوِّفُ إلا على أزكى المزاهر. ولم تستحكم في نفوس أهل العشق تلك الطبيعة الملائكية، وتلك السكينةُ اللافتة، وذلك الامتلاءُ البادي في سمتهم وفي حركاتهم وفي تأملاتهم، إلا لأن في أرواحهم جوهرًا من إيمان، جذوةً من يقين، قبسة من مشكاة النبوة.

إن المُصلَّى حين يواظب على غشيانه الفردُ، يُكسبه أنَاةً كأَناة أهل الفكر، ورزانة كرزانة أرباب الفن. وحين نرى أتقياء ملتاعين بالشوق، تطاردهم حِدَّتُهم، وتقذف بهم من موقع إلى آخر تفجيراتٌ باطنية لا قِبل لهم بها.. ما أكثر ما وُصموا لأجلها بالجنون؛ فذلك لأن بركان الروح يعرف نشاطًا يقتلع الجبال.. في الحالين، حال الكمون وحال الثوران، روحُ التقي تتقد.. فهو هنا يُنضج الثمرة على نسائم فجرية وأشعة ربيعية، وهو هناك يصهر المعدن في فرن من الذوْب المشتعل.

ولا ريب أن مجانين العشق هم في مخاض متعسر دائم، وكياناتهم أبدًا ثائرة من الداخل، فهم -من ثمة- يتسربلون بأقنعة تُموِّه عن فوران أرواحهم، وما يحتدم في قلوبهم من جمر وحسرة؛ ضيقًا بالواقع ورفضًا لتشوهاته ومخازيه. إن العلة الباعثة على تلك الثورة واحدة؛ لأن المصلح كالفنان، تسكنه روح لا تهادن القبح، ولا تساكن الضعة وعوامل الانهيار.

ولا ريب أن كتابات كولن تسفر عن قريحة فنية جلية، فهو ذو أدبية عالية، واقتدار فكري وخطابي بارع. إن روحه روح الفنان، ومنهجه منهج المصلح، ووعيه وعي الخبير. لذا كانت صلته بمجال الفنون قوية وطبيعية، فالزهرة تبتسم للشمس بفطرتها، وإن حقيقة تواصله الوجداني بشتى الأجناس، لاسيما المعمار، وأصالة استمداده منه ما يغذي رؤاه ويطبع أحكامه، حقيقة تؤكدها النظرة الموضوعية؛ إذ إن الاحتكاك بالأشياء المؤثرة يهيئنا للألفة معها، وفي ضوء تلك الألفة تنطبع في دواخلنا انعكاسات من الماهية الحسية (الجاذبة)، وتحتل موقعًا نابضًا على مستوى الوجدان، وتندمج في منظومة الملكات وفي الذوق وفي الحس التقويمي عامة، فتضحى طرفًا من آلية التقدير والحكم والتمييز. وتلك كانت تجربة كولن في علاقته بالمعمار، وهو ما رأيناه يبرز في كتاباته؛ إذ شاعت الإحالة إلى المعمار، وحفل خطابه بالصور والمفاهيم الأرشتكتورية كما سنرى لاحقًا، بل لقد توسمنا في شخصيته المعنوية ذاتها صفة الاستيعاب الذي يميز العمارة المسجدية؛ إذ إن كولن ينهض اليوم بوظيفة المسجد ليس فحسب على صعيد التجنيد الجماهيري، والتهذيب السلوكي، والترقية الإيمانية، ولكن، وهذا الأهم، من حيث احتواء واكتناف واحتضان الأتباع.. إنه بمثابة الخيمة المنتصبة في قلب الصحراء، والمُشرعة في وجه الطارقين.

فما تنجزه فِرَق المتطوعة في كل آن من مشاريع الخدمة والرعاية والتنوير الروحي والتثوير المعنوي المُرَشََّد، يأخذ على صعيد الواقع شكل القباب السامقة والخيام الرحيبة التي لا تفتأ تتوالد وتتزايد في سماء الخدمة، تحتضن الفئات، وترفرف عليها بأجنحتها.

ولا بد من التأكيد أيضًا أن وازع الإبداع في روح المصلح النهضوي هو -حتمًا- من القوة والرسوخ بمكان؛ لأن المصلح يراهن على الأشمل والعيني والواقعي. فتحدياته مناطة بإبداع الواقع وتحويره في العمق، وهمَّتُه تعارك من أجل أن تَقلبه رأسًا على عقب، وتصمم له صورًا وظلالاً وتلوينات، وتضع مُثُله ورمزيته موضع التنفيذ، وتجهزه بما يعمم النفع، بحيث تحيا النفوس رخاءه، وتسعد بمكاسبه عمليًّا وليس افتراضيًّا.


كيف يتصور طراز رجال الخدمة وهمتهم؟

حس البنّاء يبطن تصورات كولن، ويلحّ على ذهنيته، ويشكّل قاعدة من قواعد استلهامه المعايير والمقاييس التي تخص النهضة وصُنّاعها، لذا نراه يُقوْلِبُ شخصيةَ رجال الخدمة المجندين في مشروع النهضة، من خلال صورة البناة المهندسين؛ إذ إن مهمتهم هي العمل على تقوية الأطر الروحية التي تحكم الفكر، وتجدد الوعي بالذات، وتكفل لهذه الذات التصميم والمعمار المناسبين لها، "إن رجل النهضة.. يقوم ويقعد.. لإقامته صرح الروح، وينشغل بحس البناء والإنشاء أبدًا..".

إن كولن يتمثل رجال الخدمة سقفًا، وملجأ للآخرين، فهم عمارة يأوي إليها المشردون وطالبو الهداية والحماية والحياة النقية المتجددة بالإيمان، وهم رافعات توصل الآخرين إلى الذرى.

الظهور المعماري الذي تحقق للأمة في ماضيها، حاضر في وعي كُولن الحضاري. فهو حين يلتفت إلى سجل المفاخر الحضارية، نراه يعتد بالنبوغ والتفوق الذي حازته الأمة في مجال التمصير وتخطيط المدن.. وإن أسماء كبار عباقرة المعمار لتتصافّ مع أسماء علماء الفلك والمنطق والطب والفكر والحرب والدين والأخلاق؛ فتنويهه بالجميع تنويه بالهوية، واحتضانها في شتى أبعاد تحققها.


الخطوط والتشكيلات وأثرها على موجدة الإنسان الصوفي

"القلب المشحون بشيء من المشاعر يحس كل لون وصورة، وصوت، ونفَس، شعرًا ونغمًا متلونًا بألوان اللانهاية".

توفر بيئة المعمار إطارًا حافلاً من ارتسامات الانشراح التي يطيب للنفس أن تتذوقها، وأن تتمرس بها ذهنيًّا، وربما حتى جسديًّا. إن مصطلح "المواقف" الذي يتردد عند المتصوفة، يعكس في جوهره تلك الجاذبية التي تحدو القلب إلى تغيير الخفقة، وتبديل الإيقاع، وتنويع الخطوات والأشواط ، تمامًا على نحو ما يجنح الجسد في الأحوال المختلفة إلى تبديل الوضعية، وتجديد المنطرح، فالجسد يتقلب بإرادة أو بغيرها (لا شعوريًّا)، بحثًا عن وضع الارتياح.

الخطوط التي تُظِلُّنا في المحيط المنزلي أو المعتكفي، تمارس علينا بأنواعها قوة جذب. وإنّ سُمك القبة فوق رؤوسنا ليس كما هو حال السطح القريب من رؤوسنا؛ إذ شعورنا بحجم الانفساح من دواعي الانشراح. ومثل ذلك نستشعره في تأدية الصلاة؛ إذ التمرس بوضعيات الركوع، والسجود، والانتصاب، وبالاستغراق في القعدة، والتربع، وفي ما سواها من الأوضاع الجسدية، هو في الواقع خطوط يصنعها الجسد، بدافع البحث عن الارتكاز الممتع، والاستناد الذي يتهيأ فيه للروح أن تتمثل الأداء على أكمل وجه.

إننا ننام لتجدد النفسُ طاقتها، ونقعد للتلاوة كي تستجِمَّ ملكاتُ الاستقبال بكيفية مفيدة، وننهض للصلاة ونؤديها واقفين على وفق حركاتها وسكناتها؛ إرواء لحاجتنا إلى العذوبة. وكل ذلك يتم موصولاً بالإطار المكاني الذي نحن فيه، فحين ندخل المسجد، ننجذب إلى بقعة ما، ونتخطى إليها السواري، بل حتى حين نخلو بأنفسنا داخل المسجد، ترانا نتخير موقعًا للتنفل، أو للتلاوة، أو للتأمل.. ولو تساءل أحدنا لماذا أحيانًا يجد نفسه وقف وغادر مكانه، وسار إلى بقعة أخرى في المسجد، واحتلها؟ لما خفي عليه الباعث النفسي، والجاذبية الحية التي تشدنا إلى تخيير الحيز.

إن الفضاء بخطوطه وحجمه ومساحته وشكله، يؤثر على الروح، وعلى الجسد الحالِّ فيه، أو المقيم به. وإن الأثر لَمتبادل بين الظرف والمظروف، فإذا كنا نميل إلى صبغ البيت بلون معين، فليس ذلك بدافع مزاجي وروحي ذاتي فحسب، ولكن أيضًا لأن من لونية الجدران، ومن سمكها أو شفوفها تنبعث ناحيتنا آثار كهرو-فيزيكية، لا مناص لنا من تلقيها والتفاعل مع أثرها على نحوٍ أو آخر، حتى وإن كنا لا نشعر بذلك إلا في ما ندر.

ولما كانت المآثر الحضارية وفي مقدمتها المعمار، مقومات روحية، وذات سلطان سيكولوجي على المجتمع، فإن المؤكد أن تأثيرها على الأفراد المؤهلين وجدانيًّا وقريحيًّا، يغدو أكبر وأرسخ؛ إذ إن نفوسهم المرهفة، كما تتفتح على الطبيعة وعلى ألوان الجمال، تتغذى بها وتستمد القوة، كذلك هي تنجذب إلى مجالي الجلال الذي يمثله قطاع المعالم التراثية، لاسيما ما جسَّدته القريحة الفنية في ماهيات معمارية خارقة، كتلك التي أنجزها الفن السناني.

إن ما كتبه كولن عن السليمانية وعن أياصوفيا وغيرهما، إنما هو تَوَلُّهٌ جارف، يعبّر عن استحكام سحر الجلال الذي انغرس في المواجد التركية، بتأثير المركبات المعمارية الباهرة العظمة.

"من الصعب التعبير عن المكاسب التي حصل عليها الإنسان جراء بحث ومناقشة حتى الأمور الدنيوية في المعابد، أي في الأماكن التي تظلها العناية الإلهية" .


فتح الله كُولن والكعبة

أبرز ما تتجلى الصلة الوثقى والألفة الرؤوم بين كولن وبين الأماكن المقدسة، في علاقته مع الكعبة، بل يمكننا القول: إن طائفة كبرى من المواجد والمكامن القلبية التي ظلت تربطه بالرحاب والعتبات المسجدية التي اختلف إليها أو سكنها في مراحل من عمره، قد تأتى له أن يستظهرها تحت تأثير الجيشان الروحي والقلبي الذي طرأ عليه حين حل بالديار المقدسة يؤدي فريضة الحج.

ولعل أهم ما نسجله في هذا الصدد أن مشاعره كانت تجد من قوة التفجُّر حيال مبنى الكعبة ما يجده الغريب حال لقائه بأحبته، بل أقوى وأحر. فحلول كولن بالبقاع المقدسة أطلق ما ظل من نفسه مكتومًا وضاغطًا ومتحفزًا للانفلات. فلكأنه طفل أمضَّه الفراق والبعاد، فإذا هو يرتد فجأة إلى أرق صدر وأحن فؤاد، فليس يسعه إلا أن يرتمي فيه، يطوقه بيديه الصغيرتين، "ويضع نفسه في شوق شديد في أحضانه" .

بل إن الكعبة جسَّدت في وعي كولن شخصية أهم روحين أحبهما: روح جدته، وروح والدته "كأن الكعبة حسب موقعها ووضعها، أم أو جدة جالسة في أفضل مكان في البيت؛ لتشارك أولادها وأحفادها مسرّاتهم وأحزانهم، وتعيش آلامهم، تجول بنظرها فيما حولها.. ويحسب الإنسان وهو يطوف حولها.. كأنه طفل تمسك أمه بيده بقوة، ليشعر بمزيد من الإيمان" .

ومن المؤكد أن ما استفاض كولن في الإعراب عنه من مشاعر وهو يحل بالكعبة، كان يتساوق مع مجرى نهري من العواطف والتباريح التي تنامت في روحه عبر السنين والعقود، في ظل صلة عضوية وملابسة واقعية للمسجد وأجوائه وروحانيته.

ولا ريب أن اندلاع ينابيعه وهو يطوف بالحرمين، كان ذروة في الهيمان القلبي، بل لا بد أنه كان من جنس ما ظلت بواطن كولن تتفجر به في تفاعلها المستمر مع المنابر والمحاريب والردهات والمعمار، لكنه كان أعمق غورًا، وأبعد مدى.

فالحال التي طرأت على كولن في أرض الحرمين، قد اكتسحت كيانه، وعصفت بسكينته، وفاقمت من لواعجه بنوعية من العواطف، وعيارًا من الشدة، لا قِبَل له بها؛ إذ فاقت بوطأتها ما اعتادت عليه خزائن قلبه من مكابدة واحتمال.

أجل إن كل من يَحُلُّ بالبقاع المباركة يتواجد ويعاني ذلك المستوى من التصدع الشاق، اللذيذ، الذي قد لا يتكرر قط. إنما شدة ذلك العناء تكون على أهل الله ساحقة، ولا تضاهَى، فالحرم القدسي يعطي من المنح البرزخية على قدر ما يعرض كل متسوّق وجالب من بضاعة.

ومن خلال تتبعنا لخواطره، ولما سجله من بوحيات وصدرت عنه وهو في طوافه بين معالم الحرمين، نستبين شلال المواجد والعواطف الذي ظل يغمره وهو يفاعل المعالم المقدسة؛ نتيجةً لما درَّت به نفسُه حيال تلك المعالم من فيوض.

لقد وجدناه -تحت تأثير التَّوَلُّه- يمضي في شخصنة مكونات المشهد المكي والمدني، ويستغرقه استبطان حنايا تلك الأماكن، وإضفاء الصفات والتشبيهات على كل مرفق.. ولا نشك أن تلك عادة اعتادها من جراء ملازمة المنبر، ومساكنة الصحن، والتواصل مع السواري والأركان، تواصلاً حيًّا له دفء وروح ولسان؛ إذ إن الأرواح التي تريضت على التواشج مع عالم الميتافيزيقا، ومع ما فوق العقل، تكتسب قابلية روْحَنَة المكان، فهي تتحاور بطبيعتها الرهيفة مع سائر معطيات الكون، ولها في المشهد الحسي من حولها كتاب مفتوح تخترقه على الدوام، وتنفذ إلى الآفاق، وترى من خلاله ما لا يراه فيه الحسيون من تشفيرات، ولا شك أن حال العروج يبلغ ذروته بها، حين تحل بأرض الحرمَين وتستقر في حمى الأقدسَين.

بل إن من شأن انغمار أهل الروح في جو الحرم الشريف، أن يجعلهم يعرجون إلى عالم الملكوت، فلا عجب أن تأخذ الأشياء والمعالم القدسية في ذلك الصعيد، أبعادًا وقيمًا أخرى، فـ"الكعبة حريم مفتوح لأسرار الصديق، وما حواليها مضيف مفتوح للغير، والصفا والمروةُ بمثابة قمرية لمشاهدة سماء الحقيقة وتأملها، وهناك المقام الإبراهيمي كسلّم نوراني يقود إلى ما وراء الأفق، ثم بئر زمزم كأنها ساقي الشراب في مجلس العشق الإلهي.." .

العشق يسمو إلى الذروة بصورة المعشوق. ومن المؤكد أن عملية الإكبار والإعلاء التي تمارسها النفس إزاء شخص المحبوب، هي التي تكون وراء ذلك السُّكْر والوله الذي يبديه العاشق؛ ذلك لأن العشق آلية تنقلب فيها المعطيات؛ إذ تضحى الصورة الحسية (شخص المحبوب) هي المثال، والمثالُ صورةٌ حسية؛ من هنا يرى المتيَّمُ عناصرَ الكمال تتناهى في منظر عشيقه.

بهذه الدينامية يتعشق أهل الروح دائمًا الماوراء. فما يشخص أمامهم من أعيان، ليس هو بذاته مادة الكمال المطلق، إنما هو ماهيات إحالية، تترقى الروح من صددها، وتنْفذ إلى الجوهر المكنون. لذا ترى خطابهم يتلبس بالاستعارة والتشبيه والمجاز؛ إعرابًا عن تلك الحال التواصلية. وهو ما جسَّده خطاب كولن في المقتطع السالف؛ إذ وصف المشهد الشريف، وتمثَّلَ لكل مكوِّنٍ فيه صورة، وطابقه في هيئة، وتماهى به في منظر. فالكعبة حريم، ومرافقها مضيفٌ، والصفا والمروة قمرية ومنظار رصد، وزمزم نديم أو نادل يتعهد المجلس بالشراب.

وإن أسمى مراتب العشق ما تعلق بالمضمر والمجرد واللامرئي، ولم يختلق الشعراء الاستعارة إلا لأنهم طمحوا إلى أن يروا في الشخوص التي أحبوها مستوى أعلى وآسر مما هي في حقيقتها. فطالما شبَّهوا الوجه بالقمر؛ لأن حيثيته "الوجه" الحسية تعاني في لاشعور المحب محدودية ما، فهو لذلك يطابقها بكينونة أبعد وأكثر امتناعًا. فلكأنه يريد أن يتجاوز بـ"المعطى" الشاخص، المتفرد، المحدود، إلى أفق آخر، يُكسب ذلك المعطى الكمال والكثرة والمطلقية.. وتلك هي بالذات منازع الروح في تواصلها مع خالقها، ينمّي فيها دوامُ الشوق أجنحةً، تتشقق عنها الشرنقة، فترفرف وتحلق نحو مراقي الكمال.

إننا ننزع إلى الإعلاء حين يتعلق الأمر بمفهوم الربوبية؛ لأن الفطرة تتأبى عن أن تجسّد فكرة المطلق وأن تُشَيِّئ معاني القدسي إلى أشياء.. والرمز حين نُلبسه هوية المقدس؛ فذلك لأن الفطرة ترفض أن ترى الكلي محصورًا في العيني، فهي تختلق -من ثمة- الشكل الأيقوني المناسب له؛ حفظًا لجلاله.. والمتحنّفون أدركوا بقوة الفطرة وسلامتها أن الرب المعبود لا يمكن أن يكون مشخصًا في هيئة وجرم وماهية كيفما كان سموّها وتَنَزُّهها وامتناعها عن الملابسة الحسية. والقرآن حلّ من الجذور مسألة الماهية الربوبية حين نفى عنها الشَّبَه والمثلية؛ إذ بتقريره مبدأ •لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ§(الشورى:11) أرسى فلسفة اليقين اللاحسي، وأخرج نهائيًّا فكرة القدسي من مدار الحس (مدار التوثن)، واستقر بها في مدار الروح (مدار اليقين الغيبي).

بهذه العلاقة يتواصل الروحانيون مع المجتمع والحياة، ويبنون علاقاتهم مع الغيب.. زخم زاخر من المطابقات يتلبس معانيهم وخطبهم، يعاينون بها الوقائع. فلكأن بواطنهم ترى بأكثر من عين، وتحس بأكثر من حس.. في كل لقطة يستوعبون المظهر، وينفذون إلى ما ورائه، فهم أبدًا في رحلة إدراك؛ إذ لكل طرفة عين ما قبل وما بعد، ولكل لمحة تجلٍّ ظاهر وباطن، ولكل خطرة خاطر شهود وغيبة. من هنا نجد روح التحاور والتمازج والتعاشق مستقرة لديهم، وتتميز بكل تلك القوة والحيوية، فهم لذلك يحيون سجالاً متواصلاً من التحسس، والسبر، والتنفذ، فلا غرابة أن يكونوا يسمعون ما لا نسمع، ويبصرون ما لا نبصر، ويدركون ما لا ندرك "فقهًا وآفاقًا".

ولقد عرف كولن -كما يظهر في ما كتب عن ذكرياته حول الحج- أحوالاً عارمة من التجنيح والإِبحار الماورائي؛ إذ تلاحم منذ أول وهلة، وبعمق، مع الأرض المقدسة "هذه البلدة التي لن أبدل حفنة واحدة من ترابها بالعالم كله" ، ولبث يتناجى مع الحجارة والجداريات والأبواب والسواري، بل طفق يستشعر أن قلبه تشرَّع فجأة، فأضحى شخصُه واجهة من منافذ تتيح لروحه أن تشرئب وتتعلق بالعالم اللامرئي.

ومن المؤكد أن مواجهته للعتبات القدسية، وملابسته للمجالي والمعمار في تلك الديار المطهرة، قد عمّق من وارد الرعدة داخل كيانه؛ إذ قوة الصعْق تتولد عن موقف الشهود والسفور.

وتلفتنا ملاحظاته إلى الكيفية التي شاهد بها تلك البقاع وعاين عمارتها؛ إذ رأى الكعبة تخليقًا صنعته يد الغيب، وليس حجارة تراصفت ومعمارًا تساوق على ذلك النحو، فلقد تهيأ له أن البيت كيان خرج في تَشَكُّله وتموقعه عن الأنساق المعهودة، فلكأنه انبثاقٌ صميم من الأرض، أو معمار نحت في طبقات السماء، ثم أُنزل ليأخذ موقعه في الوادي.. "فكأنها لم تبنَ بمواد بناء من الخارج، بل انبثقت من جوف الأرض، أو كأن الملائكة بنتها في السماء، ثم أنزلتها إلى الأرض".

وتنشأ في شعوره للكعبة أوضاع ومقامات نتيجة الخفقان الباطني الذي يلح عليه، فلا يفتأ ينوّع تصوراته وتوصيفاته لها: "منظرها الوقور وظل جبهتها النوراني المنعكس على المرمر"، "الكعبة زهرة نبتت في حضن العماء"، "دُرة تاريخية تضاعفت قيمتها"، "الكعبة بيت في الأرض يحمل أسرار وغموض روح البناء ومعناه"، "الكعبة مكان عند الحضرة".. "أستاذ ناصح للإنسان، مرشد له، يهمس في قلبه شيئًا ما على الدوام"..

بل وإنه ليتمثل لها هويات وكينونات، كقوله مثلاً: "الكعبة سلطان المحاريب".

وواضح هنا الإسقاط الشعوري الذي يعرب عنه كولن؛ إذ هو لا يخبر فحسب، عما غمره من مشاعر حال احتكاكه بالكعبة، ولكن يخبر أيضًا عما ظل يستشعره خلال تلك المرحلة التي عاشر فيها المساجد وساكن أجواءها المهيجة.. إن الخبرة هنا قد تلابس فيها البعد المستجد الناشئ عن جيشان الروح في خضم تأديته شعيرة الطواف، مع البعد الوطيد المتراكم في الوجدان، والذي خبرته الجوانح، وتوطَّنتْ عليه الروح في مجرى أيام حياتها من طول مخادنة المسجد.

تواجد كُولن بالكعبة، هو تواجد بالمعمار، وكل مسلم إنما تلقن أبجدية عشق المعمار من خلال أشواقه للكعبة، وتولّهه بها، وتوقه إلى مشاهدة الحرمين؛ حيث مقام إبراهيم أبو الأنبياء، وحيث روضة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيد النبيين.

فالشكل التكعيبي القائم في ذلك الصعيد المكي، يتقمص بأبعاده الهندسية المتوازية، حُلة روحية تعطيه جلالاً يخرج به تمامًا عن الصورة المجردة التي ينتصب فيها.

ومن المؤكد أن جَيَشَان وجدان كولن بسيل من المشاعر وهو يطأ ثرى الحرم المكي، كان جيشانًا عاتيًا، وإن بعض أصداء تلك المشاعر الطامية التي اجتاحته هناك، قد عكسته بقوة نصوصه التي سجَّل فيها ذكرياته عن رحلة الحج (في كتابه ترانيم روح وأشجان قلب)، لقد أحدثت أجواء البقاع المقدسة في نفسه الاضطرام البالغ، ولم يكن يسعه إلا أن يرسل العنان لمشاعره أن تتدفق، ولقلمه أن يسرح؛ كي يدبِّج لنا تلك النصوص المفعمة بالعشق.

لا ريب أن كولن قد استفرغ في ذلك الافتتان التلويني الذي أنجزته الأدبية، بعض ما طرأ عليه، ولازمه، بل واستقر قي قلبه وروحه، من فيضٍ، بتأثير تلك المشاهد الطاهرة.

فالتعبيرية وهي تستعيد تفاصيل تلك الرحلة المشهودة، قد انساقت وراء انهمال جارف من الانفعالات التي عمل الخطاب بقوة على استظهارها والكشف عنها، فحشد منظومة بيانية وتصويرية، واستنفر اللغة القلبية، ووفَّر لها الإسناد، مُمَثَّلاً في فاعليات التشبيه والاستعارة ومفارز التلوين المجازي الأخرى، ووظَّف كل ذلك اللوجيستيك لأجل أن يستنفد شيئًا من دفقها في الوجدان.

إن الكعبة في حرير تلك الشعرية التي نسجها قلم كولن، غدت موضوع تلوين وتشكيل متوتر.. والكلمة صارت فرشاة تسترفد الحُزَم الضوئية، وتهيلها على المشهد، وتُجلِّيه في منشور من الأطياف والخطوط القزحية، وتُفَجِّر المعاني مُوَشَّاة بما لا يحصى من الأصباغ.

وإنك لتقرأ سياقات التواجد تلك، فترى الفكرة قد انغمرت في متواليات من التشبيهات والاستعارات والكنايات، ومن المفردات التي تخصَّبت دلالتها، والتراكيب الوثابة، المتحركة في انسجام وفانتازيا كأنها أسراب سمك بحري، بحيث تستشعر أن الشعر قد حل محل الفكر، بل إن الفكر استحال غلالات وضاءة، ومشاعر طافحة بالأنغام: "الكعبة بموقعها بين الجبال والتلال المهيبة تشبه زنبقة الماء منشقة عن برعمها، فهي بمثابة فانوس سحري يحمل سر الوجود، ومسقط سدرة المنتهى، أو هي بلورة من عصارة العوالم التي وراء السماوات" .

لا ريب أن التوهج الوجداني قد ارتفع بمستوى الشعرية صعدًا، وأن الأدبية قد مازجت بين المذاقات والأنداء، فاغترفت لتشخيص المعنى القلبي من حقول الحس (الجبال، التلال..) ومن الطبيعة الفردوسية (زهرة، زنبقة، الماء، برعم)، وتفاعلت مع العرفان الصوفي والمعاني الجامحة (سر الوجود، سدرة المنتهى)، واسترفدت ثقافة المواسم (فانوس سحري)، واستمدت من عالم الفن والزينة (بلورة)، واستنزلت من المجال الذهني والتجريدي (عصارة العوالم التي وراء السماوات..) ما جعل ذلك الطراز من النصية يتناهى في الحسن والأداء، ويخرج في هيئة كورالية مهيبة.

لقد رأينا كولن يقر أنه يحرص على أن يُجوِّد في البث.. وفعلاً، فلقد لمسناه في تحبيراته التي خص بها البقاع المقدسة، وفي تناجياته مع بيوت الله، يجنِّح عاليًا في سماء الشعرية، ويشيد زخارف تَرْشح بسيول من العطر الفواح.

لقد لبث -بحكم مسار حياته- يحس بعلاقة معينة مع الأشياء المباركة، وظل يتأسى بما ينتج عن تلك العلاقة من مشاعر وأفكار وتصورات وتلقّيات مختلفة ومتغيرة على الدوام ضمن دائرة الفن- المعبد ومطاف الأرواح المقدسة. لكن أعماقه المليئة بالجراح كانت أبدًا نازفة.

فهو يقرأ في حال الكعبة حال أمته. فالتألم لحال الكعبة شكَّلَ الخلفيةَ القاتمة التي صدرت عنها أفكار كولن وهو يقوِّم وضع أمته المتردي؛ إذ لم يقتصر الدمار على إتلاف رصيد الأمة من الرأسمال الرمزي، ولم يستثن قطاعًا من قطاعات الحياة، بل لقد شمل الداءُ سائر مستويات الواقع الملي؛ إذ استشرت الترديات، وبلغت حدًّا مؤسفًًا.

يروي كولن عن الإمام الرباني قائلاً: "كنت أطوف بالكعبة، وفجأة شاهدتها وهي تتعالى نحو السماء.. كانت تتعالى من جهة، ومن جهة أخرى تشكو من عدم قيام الناس بوظيفة العبودية الحقة، أمسكت بطرف ستارها وتوسلت إليها أن ترجع".

بعد أن ينهي كولن الرواية، يقف عندها متسائلاً: "فهل رجعت بروحها وسرها، وهل بقيت في مكانها أم لا؟ ثم يستطرد قائلاً: يصعب الإجابة على هذا السؤال دون وجود من ذلك النمط والمستوى.. لعل الوضع الأليم الحالي للمؤمنين ينبع من تعرض الكعبة إلى مثل هذه الاستهانة وعدم التوقير" .!

حادثة البكائية الشهيرة التي وقعت لكُولن في جامع حِصار بإزْمير، جسَّدت في بُعدها الرمزي ارتحال المسجد، بل إنها أعادت إلى الأذهان واقعة ارتحال الكعبة كما أخبر عنها الإمام الرباني، وكان الأثر لتلك البكائية فوريًّا على المصلين؛ إذ إن تلك الجموع التي فزعت تترجى الإمام الرجوع عن قراره مغادرة المسجد وترك الدروس، عاشت شيئًا من الوجل من جنس المشاعر والمعاني التي عاشها الرباني وهو يتعلق بأردية الكعبة، إثناءً لها عن الارتحال.

لقد أورد كولن خبر ارتفاع الكعبة، في سياق تحسره عما وقع للمسلمين اليوم في علاقتهم بدينهم.

ومن المؤكد أن صورة "ارتحال الكعبة" التي يوردها كولن -رواية عن الرباني- إنما تؤكد ما صارت إليه العقيدة الإسلامية بعد أن فرط المسلمون في تعاليمها، وتهاونوا في التمسك بمبادئها والإفادة من حكمتها ومنطلقاتها التربوية والترشيدية.. وإذ يورد كولن خبر الرباني بشأن الكعبة، فلأنه هو أيضًا وجد نفسه يعيش نفس التحطم، ويرثي بنفس المشاعر لمآل المسلمين.. وإن واقعة ارتفاع الكعبة ليحمل من الإيعازات الرمزية ما يعني أن اليأس من استعادة الحياة والشرف كان طامًّا، بعد أن انحفرت الهوة السحيقة بين الأمة ودينها، فارتفاع الكعبة -الإشارة رمزية- هو إعلان عن انقطاع الحبل بين الإسلام والمسلمين، لقد انتهت الأمة إلى درك باتت فيه المقومات القدسية نفسها تتنصل من علاقة الانتساب التي ربطتها بالأمة.

في ارتحال الكعبة ارتحال لأعرق تراث روحي أرشتكتوري يوجد على ظهر الأرض، وهو التراث المعماري الإبراهيمي؛ إذ إن إبراهيم هو باني ومجدد ذلك المقام الروحي، قبلة للناس ومشعرًا حرامًا يحجون إليه، فيتذكرون موثقهم مع الخالق، ويستحضرون أطوار الرقي التي تعهدتهم بها الربوبية.

وارتحال الكعبة هو أيضًا ارتحال المساجد (التراث المحمدي) عن أوطانها، من خلال عوادي الانحسار التغريبي الذي استهدف بيوت الله في تركيا الأتاتوركية.

لقد عملوا على إعاقة المسجد، وفصله عن وظيفته الإيمانية، والتسفل به إلى دور متحفي سياحي عقيم، وإن في استدعاء كولن لصورة الكعبة وهي تهجر الأرض، إنما كان تعبيرًا عن حالة الإعدام التي تتهدد العقيدة المحمدية.

لقد كان يؤرقه التراجع الخطير للدور التنويري المسجدي في بلاده، وكان في التذكير بواقعة رحيل الكعبة -كما رواها الرباني- أظهر صورة يعرب بها كولن عن حسرته وتغصصه بذلك الواقع اللاديني الذي يسود الوطن التركي.

من خلال سرد واقعة ترحيل الكعبة الرمزي، يعرب عن خشية بالغة من مغبة أن تموت الأرض وينعدم الوجود، فموت الأرض -بالنسبة إليه- حدثٌ جلل؛ لأنه يعني الإنسانية؛ إذ إن كولن يرى للمسجد دورًا ربانيًّا لا بد وأن يشمل الإنسانية يومًا ما، وإذا كان القرآن هو عقل الأرض كما يعبر النورسي، فإن الكعبة -الأم الرمز لبيوت الله - هي -بحسب كولن- روح الأرض، وبقاؤها بقاؤها.

إنه يتفجع لمرأى المباني الدينية منكسة: الكعبة، أيا صوفيا، القدس... ومثلما تفجع لحال الكعبة، حين التمح فيها أعراض الانكسار والصدود، نجده كذلك يقرأ بتمزق قلبي مفجع حال أياصوفيا، ليس فحسب لأنه ألفاها تعيش الأسر الحقيقي، ولكن لأنه رآها تستجمع أعراض الامتحان كلها، بل إننا نستبين بين السطور، أنه يستعرض ما كان يحياه هو بالذات من مكابدات. فحديثه عن أياصوفيا هو حديثه عن نفسه، فهو هي، وهي هو، يتقمصها وتتقمصه، لا لأنهما صنوان، ولكن لأنهما شيء واحد.

"إنها بوضعها المنعزل الحزين الحالي، ووحدتها التي يتفطر لها القلب حزنًا وغمًّا، وبجو الهزيمة التي تعمقت ألوانها بمرور الزمن، لا تزال مثل طفل يحاول جلب الانتباه إليه، والحديث عنه، وتحبيب نفسه، فتسعى لملء العيون والدخول إلى القلوب، والتحول بجو من ماضيها إلى لون، وضوء، وشِعر ينساب في أرواحنا" .

هكذا نراه يغيب في ضراعات يتحسر فيها ويرسل الأنين، ويتناجى مع الغيب، ويستدعي المعالم القدسية، ويؤاسيها على ما تعيش من اعتقال دبَّره لها العاقون، وتُسام به من تعطيل وصَرْفٍ عن الدور.

ونراه يدأب على النجوى ومطارحة تلك المعالم همومَه، ففي مخاطبته لجامع أياصوفيا، نجده يشرع أبواب قلبه متخففًا من بعض ما يحمل من رهق، ومعربًا في الآن نفسه عما كان يأمله لها (أيا صوفيا) -ولسواها- من وضع بديل ودينامي ومُثَوِّر هي أكرم وأجدر به، باعتبارها من معدات تحريك روح الأمة، فلا ينبغي أن تبقى معطلة، معاقة عن أداء رسالتها.

"يا رب.. يا مُفتِّح كل الأبواب الموصدة.. افتح لنا مفاتيح أياصوفيا الصدئة، وأبوابها المغلقة مثلما فتحت آلاف الأبواب الأخرى، ونوِّر أرضها التي اسودت نتيجة حرمانها من سجادات السجود مرة أخرى" . أياصوفيا تنتظر أن تنفتح أبواب السماء فجأة على مصارعها، وتنهمر الأنوار والآمال على قلوبنا من وراء الآفاق.

ويمتد حبل الأسى لمرأى المعالم المسجدية راسفة في القيد، وينعكس ظل انكسارها على روح كولن، فيمضي في تتبع الأصداء المتفجعة تنبعث من أصوات المنائر، ومن صدور المآذن.

بين طوب قابو وأياصوفيا وجامع السلطان أحمد، يمتد نطاق من الحزن، ويكتنف روح كولن، فيرسل الزفرات، ولا يفتأ يشد على الأنفاس، ففي أحشائه مئات المثاقب تمزق كيانه قطعة قطعة، "أحيانًا تبدو أصوات الأذان المرتفعة من مآذن جامع السلطان أحمد، الواصلة إلى قصر طوب قابو، وكأنها صرخات آتية من أياصوفيا" .

إن الكمد الذي يسحق الروح يتحول إلى مشهد من ثكالى ينتحبن ويعددن فجائعهن. إن النص هنا يحصي لواعج أياصوفيا، يسرد مآتمها، يستعرض ليل هوانها، وأيام استخزائها وهي تنتظر المنقذ.. وفي كل ذلك كشف عما ينطوي عليه فؤاد كولن من تباريح.

ينهمل باطنه بالأحزان وهو يتناجى مع الكعبة، أو يذرف الدمع على الأقصى، ويتنقل في المكان فتضحى عينه، بل خياله، حاسة نظر مكبرة، يقرأ المواقع، ويُشيد فوقها حيوات الرجال الذين مضَوْا من هناك، لكنهم سكنوا القلب، واستقروا في الضمير.

يتمسح بكل ركن وقائمة، ويتوقف عند كل شبر، ويتيه في الأصداء، يخرج عن ذاته ويحل في ذات أخرى، ذهولاً وانخطافًا بالهمس المتزايد الذي يأتيه من كل وجهة، ومن حيثما التفت، "أنا" آخر ينبعث فينا حين نقتحم إقليم الإيمان، "أنا" يتماوج فيه الخفي والأخفى.

شتاء زمهريري يحاصر الروح وهي تذرع الأزمنة والأمكنة، مصعوقة بمشاعر الإفلاس التي تراها ماثلة حيالها، شاخصة للعيان. الكعبة دامعة، مُشيحة، تهمُّ بالرحيل، والأقصى منكّس ينوء بالقيود، وأياصوفيا سبية مجلوبة في سوق النخاسين، تفتر عن أسنان مُفحَّمة، تداهن المساومين.

إحساس وحيد يتملكنا في سائر هذه الأفضية التي تجرجرنا عبرها مصورة كولن، أنْ نفلت ولا ننهي الجولة؛ إذ لا قدرة لنا على الاحتمال. كل ما توعز به الجمل والعبارات والمقاطع من مشاعر الوجع والاستخذاء يطرقنا، ينفذ إلى أعماقنا، يكبلنا من كل صوب، يواجهنا عينًا لعين، فلا نملك غير أن ننكسر وننهزم في وجوم.

الحج مُهيِّجٌ فادح لحساسية المكان عند كولن، والكعبة تنتصب أمامه في لحظة ما، كأنها سورة من القرآن: المائدة أو الرحمن، أو النجم أو المؤمنون.. بل صرح باهر، معماريته زمرد وزبرجد وياقوت، بل إنه ليراها امرأة في حلقة فقه، والناس من حولها يُقيِّدون، فيجلس هو أيضًا ليتعلم من فيض ما تلقي به إلى المجتمعين "الكعبة تنظر من ناحية إلينا، ومن ناحية أخرى إلى ما وراء هذا العالم المادي" .

يلح عليه اليقين من أنه، وهو متجرد إلا من لفة الإحرام، إنما يرفل في أردية الابتهال الزاهية، بل لقد أضحت أصوات التلبية و"الأدعية ملابس حرير تحيط بأجسامنا" .

كل مِشعر في الحرم مِنَصة عروج تقلُّه إلى الأفق الأعلى: عرفات، مزدلفة، منى، الجمرات.. كلما خطا خطوة طفا صُعُدًا، وسار منطلقًا في ملكوت الحرم الفسيح، لا ساتر بينه وبين السماء.. من كل الآفاق حشود من الأيدي تمتد ناحيته، تصافح، وتشد، الكون من حواليه أضحى قبابًا تحتويه، وسواري تسير في ركابه، وهو متجه إلى الذروة، هناك يريد أن يرى العرش، حراء حيث تُوِّج محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- سلطانًا على أهل الدنيا.

لا غرو أن يجد كولن روحه تنجذب إلى كل ملمح في المشهد الطاهر. فالمؤمنون "يحسون بعلاقات معينة مع الأشياء المباركة" ، علاقات ملؤها المشاعر والأفكار والتصورات والتلقّيات التي تتولد عن تفاعل "الفن والمسجد" وانشراح الروح، لتلقي أنوار السماء.

إحساس عارم بالكثافة حينًا، وبالشفوف حينًا آخر، يعمه ويخترقه من فوق، ومن تحت، وعن ذات اليمين وذات الشمال، فأضحى جسد الأرض إِبَرًا كظهر القنفذ، لها وخز مُلِذٌّ، تتخدر به الأوصال، لم يعد يرى الكعبة ترتفع، بل كان هو الذي يرتفع نحو السحاب، تقلُّه قوى لا قِبَل له بها، يصعد مشدودًا بحبال، كأنها سُلَّم غير مرئي، تشق به عنان السماء، ما زال -وهو في ذلك الموقف بين الأرض والسماء- يجد بقية من حال طالما انبعثت فيه في ظل الرواق المسجدي بالسليمية، لكنها هنا وهو في حضرة حراء، يجدها أكثف وأثقل "فيثور قلبه.. ويسمع في أعماقه أنغامًا لمشاعر شوق وعشق.. ثم إذا بِتَداعيات ذلك الجو والإقليم الذهبي تلف كيانه بأصول وكلمات وخيالات لا تُعد ولا تُحصى" .

ما أشدَّها عجبًا ودهشًا تلك "الألطاف التي تنهمر على قلوبنا من المنافذ المنفتحة في خيالنا، ومن البوارق في صدورنا، ومن الأسرار التي تطير بأرواحنا، وتنصرف وكأن في كل خطوة نخطوها بابًا سريًّا سينفتح أمامنا مع دعوة لنا للدخول منه، ونحسب أننا نكاد نقطف لذة لم نعرفها من قبل، فنحس بقلوبنا تدق بعنف، عندها نشعر بعظمة الكعبة" .

ثم تنعطف به الرحلة إلى صوب الحرم الشريف، وتتقاطع في ذهنه صورة الروضة مع صورة الكهف، بل ومع صورة الفردوس، وذات السكر يحياه وهو يتفيأ الأنداء والظلال والنسائم، "الجدران هنا والأعمدة والقباب التي تبدو وكأن مثاقب العشق قد حفرتها، بل حتى الأرضيات ومفروشاتها وكل شيء تقريبًا لوحات جمال، تذكّرنا بألوانها الزرقاء والخضراء والصفراء، ألوان الزهور الرقيقة" .

بل إن سلطان العشق يغدو أشد وطئًا على روحه، فلكأنه خرج من حال إلى حال، أو أنه رُقي من درج إلى درج آخر، "يلفنا جو العبادة في الكعبة، وجو العشق والهيام في الروضة المطهرة"، وتتشرع الأصعدة المقدسة لقلبه على أزمنة النبوة، واسترسال مواكب السماء نحو الأرض، وملاحم الحق التي خاضها أنبياؤه المصطفون منذ فجر الخليقة، فلا يزال "يتعرف على أقدم الحقائق التي لا تبلى، أبدًا، وعلى الحقائق الأولية التي تبقى نضرة على الدوام، ويمتزج بها، ويصل منها إلى أحوال لن ينساها أبدًا" .

وهنا أيضًا، في هذا المقام الزاخر بالذهول، نرى كينونة "كولن" تتحول إلى ممرات وأبواب ومنافذ تعبرها أنوار السماء، وتغمرها تدفقات العطر المنبعث من الروضة. "هناك أبواب كثيرة تنفتح نحو صاحب الروضة الطاهرة مثل انفتاح القلوب والصدور المتمزقة بحبه، ومنافذ كثيرة كالمنافذ الكثيرة التي تفتحت من روحه للإنسانية كلها" . وواضح أن التعبيرية ما تزال تجد في مادة الأرشتكتور (الأبواب، المنافذ الممر النوراني.. إلخ)، وسيلتها في الكشف والإعراب عن المواجد.

لا ريب أن في ما كتب الأستاذ كولن توصيفًا عميقًا، لما ساكن قلبه وروحه وجوارحه من تباريح ثوَّرها فيه الحج وملاقاة الأرض الطاهرة.

إنما المؤكد أن كولن قد نسج وقائع هذه التجربة، وصاغها على هيئة بارعة الإتقان؛ ذلك لأنه ترك العنان لروحه تعرب عن صادق ما عراها بتلقائية ودون تحفظ، كانهمال المطر من السماء، فجاء النص أرشتكتورا حقيقيًّا، مفعمًا بالنضح القلبي، فهو بحق ابتهالية من طراز أصيل.


القبة في وجدان كولن

القبة هي التراث المشترك لبلاد الشرق، وتاج عمارته، ومَجْلى براعته الفنية وروحانيته القلبية. القبة صعيد الاكتمال، ومُجَسَّم الاستدارة، والعود على بدء. في تكورها وتشابك أقطارها وتساوي أوتارها يتجسد الإيمان والتوحيد ووحدة الأمة، بل وحدة الإنسانية عامة بإزاء الخالق.. توارثت مجتمعات الإسلام فن التقبيب، وبرعت فيه.

فمنذ العصر العباسي ومرفق القبة يعرف التطور والانفساح، فمن القبة المضلعة إلى القبة المبرجة، إلى القبة الصقيلة، إلى التاجية (تقف على قاعدة أسطوانية قائمة)، ومع العهد العثماني ازدهر معمار القبة المتوالدة. العثمانيون اصطنعوا المعمار للتعبير عن عبقريتهم، أو أن المعمار كان أظهر الآثار الجمالية التي أودعوها سيمياء شخصيتهم. المعمار العثماني توليد فذّ، واستلهام فريد لمعمارية الحضارات الآشورية والنبطية والفارسية، واليونانية والفرعونية والهندية.. هذه دورة الحضارات، كل حضارة تستخلص ما انتهى إليه السابقون من فنون، ثم تبصم عليه بروحها، فتكتسب على ذلك النحو حقَّ الملكية.

القبة في وجدان كولن هي العمامة، والعمامة رمز الإسلام وتاج المسلمين، وهي أيضًا خوذة مُحارب يحمل السيف، ومظلة تقيه الحر والمطر، وتكفل له العصمة والمنعة.

ولقد برز مشهد القبة في وعي كولن على أكمل صورة حين وقف على الروضة، في الحرم النبوي الشريف. فهنالك تمثلها هيئة موصولة بالجهاد والمجد، وبالتاريخ العظيم للسلالة المحمدية، وما قدمت للبشرية من أنوار الإيمان والعقل المبرأ من ميثولوجيا يونان ورومان. "تبدو القبة الخضراء.. وكأنها جواد أصيل وقف على قائمتيه الخلفيتين" .

بل يمكن أن نتبين علاقة التجانس بين صورة القبة والفرس المتوثب، وبين هذه الصورة التي يتمثلها كولن للمتنسك، حين يصفه في المشهد التالي: "إحدى ساقيه في أفق اللاهوت والأخرى في قطب الناسوت" .

فالضراعة من مضمرات عنصر القبة، وإن ذلك ليوعز بحال كولن؛ إذ حال الأمة البئيسة تستنفر قلوب أهل الكمال، فلا يزالون يستمدون اللطف والعون من الخالق.


فتح الله كُولن والأقصى الحزين

توعز لنا مشاعره الدافقة بالحزن -وهو ينعى الأقصى- أن مساكنته المسجد علمته كيف يبتعث بيسر شريط الزمن ومسلسل العهود المتصرمة، وكيف يُرَحِّل الأمكنة القصية ويطوف بردهاتها، ويلاقي بذهنه الجموع والرموز الذين عمروا تلك الردهات القدسية.. لقد رأيناه، والمواجد تأخذه، وهو يطأ رحاب الحرم الشريف، كيف فعَّل ما يختزن في ذاكرته من صفحات الماضي الذي عاشته مكة عبر تاريخها الضارب في الدهور، وكيف ارتسمت في عين الخيال وقائع ذلك التاريخ بمختلف أطوارهِ، ومن عمَّره من الأنبياء والمصطفين، وما الذي أضافته البعثة المحمدية إلى تلك البقاع المطهرة، وما الذي حملته من أنوار إلى العالمين.. ورأينا كيف راحت كل تلك السجلات تطفح على صفحة الوعي، ويدفع بها شلال المشاعر في وصلات من حزن وحنين.

ونفس التفجع يتملكه وهو يلتفت إلى الأقصى؛ إذ تجيش العواطف، ويثور ما يثوي في النفس من ذكريات نازفة، فتنحشر في الوعي بكل ضراوة، ويروح يتابع عرضها بكامل الألم. ولا يزال يغترف على ذلك النحو، من الأحزان المتجمعة في قلبه، ليبكي بها الأقصى ويستبكيه، بل إنه -على الأصح- يستنفره لكي يثور على أعدائه، فلعل أن تنبعث من ثورته شرارة تنير الطريق للأمة الواهنة.

لا شك أن القارئ يستشعر أن كولن رغم فجائعية ذلك التعداد الحزين، ورغم ما استفرغ من عبرات وحسرات تملأ الصدرَ، إلا أن الدموع لم تفلح في التخفيف من حرقته، وكل الذي حققته هو أنها رسمت صورة الواقع المهين بكل ما كان "كولن" يستشعره له من خزي.

ولا شك أن حدادية التصوير كانت في مثل هذه النصوص راجحة، ونابعة من الأعماق، ووقعها كوقع الجمر، بحيث لا يسع المتلقي إلا أن يقر للنص بحدَّته. فلكأن كولن كان وهو يسدد بمثل هذا النمط اللاّسع من الأسلوب، يهدف إلى أن يحدث الرجة في روح الجماهير، أو أنه من خلال عملية استظهار اللواعج، كان يتوخى أن يهيئ المتلقي للاستجابة الثورية الجادة، وأن يَعُدُّه لرد الفعل المناسب.

وإذا كنا قد رأيناه يعترف في بعض ما كتب، أنه يتعمَّد أن يُجَوِّد في بثَّ همومِه وأحزانه، فالمؤكد أنه في بكائياته على مساجد الإسلام، ورثائه لقبابها ومآذنها، قد نزف من العمق، وأن آثار ذلك النزف قد تجلت في كل لفظ وسياق.

فهو من هذا الجانب، يحقق بُعد الالتزامِ الذي ينسجم مع مبدأ الصدق ومطلب النجاعة، فالمصلح إذا لم يكن يتوفر على الخطاب الناري، والأسلوب النافذ، لا يفلح في تمرير رسالته.. من هنا رأينا كولن يعرب عما حاز من فضل ومنن، حين أُوتي موهبة الكتابة والخطابة؛ إذ هما سلاح كل مصلح، صانع أجيال.

في هذا السياق التثويري عينه، نرى الأستاذ كولن، يسجل -هو كذلك- مشهدًا منذرًا يدين الأمة على تفريطها في الموثق، مشهد انفصال قبة الأقصى؛ إذ تراءت له -في عين الخيال- وهي تنفَكُّ عن الحرم، وترحل نحو السماء، تمامًا كما ارتحلت الكعبة في عين الرباني ذات حين.

ولا ريب أن تكرار الحادثة لقطب العصر، أمر روحي لا مراء فيه، إذ صلة التطابق وتماهي الأزمنة والأمكنة والوقائع، هي من أحوال التخَطِّي التي تحياها أروح الأطهار، إذ في وسع الذين يبلغون مرتبة الإشراق، أن يتعالوا عن الخطية، وأن يعيشوا الوجود، ويجتازوه، مكانا وزمانا، وكأنه قصاصة مرقومة في أكفهم.

وقد يكون كولن عاش تلك الحادثة بوجدانه، (أو كما نقول اليوم: عاشها افتراضًا)، وأنه حرص على أن يوثقها؛ لأنه وجد فيها من النُّذُر ما حسب أن الأمة حَرِيَّة بمعرفته، فلعلها أن تستفيق وتتوب وتتجند.

لا ننسى أن كولن، وهو رجل المواجد والعشق، يؤمن بقدرة الروح، وأن في وسعها أن تتجاوز محدوديتها فتعانق الزمنية في مطلقيتها، بل لقد رأيناه يحرّض ذوي الاستعداد، عُشاق الحقيقة العلوية، على أن يتمرسوا برياضة العروج، وأن يتدربوا على احتواء خط الزمنية من طرفيه، بل وأن يتمرنوا على أن يعيشوا المطلق، فيتجسَّروا بين الدنيا والآخرة، (أي يعيشون الآخرة في الدنيا، والعكس).

إن حديثه عن انفصال قبة الأقصى، يندرج ضمن استراتيجية الإيعاز الترشيدي؛ إذ كل ما يكشف عنه الخطاب، هو من صميم قصدية البث التربوي التي يلتزمها المصلحون.


أياصوفيا.. ذات الأجنحة المقصوصة

لا يفتأ فتح الله كولن يتصور للقبة أجنحة، ولا يزال يرى أن في تعطيل وظيفة الجامع قصًّا لتلك الأجنحة. بذلك تَمَثَّلَ حالَ أياصوفيا التي نالها البلاء؛ إذ إن عاديات الزمن قد "قَصّت أجنحةَ هذا المعبد العظيم الذي كان قد امتزج بهوية هذه الأمة، وبحياتها الروحية عصورًا طويلة" .

من جهة أخرى نرى أن مشهد إحاطة "الضباب" بالمسجد، هو الصورة التي يتخيرها كولن للمساجد الواقعة في الأسر، تعبيرًا عن وضعية التعطيل التي تكبلها. وإذا كانت جمالية المسجد، كما يلقطها كولن، مركبة، "إبداع داخلي، ومنظر خارجي فخيم" ، مضاف إليهما "معان مادية ومعنوية كبيرة، ترتجف لها قلوب الأهالي" ، فإن أيا صوفيا -بحسبه- قد حُرمت الحسن الداخلي فلم يبق لها إلا قوامٌ مُتَهاوٍ، أشبه بعجوز تُوارِي تجاعيدَها بالمساحيق، وتضرب صفحًا عن التبسم، كي لا يسقط منها طاقم أسنانها المتآكل.

"أيا صوفيا التي نراها كسيحة اليوم، جددت عذريتها عبقريةُ خير الدين، ودشنها الفاتح، وتعاقب عليها أهل العبقرية يضيفون إليها تزيينات حسب الذوق الفني في عهد كل سلطان" .

كانت أياصوفيا بحق خامة معمارية، سجلت في تطورها، أطوار تنامي العبقرية العثمانية، وديناميتها، وأصالتها.

"أيا صوفيا امتزجت بروح أمتنا، وتشربت بها، وتغلغلت في أعماقها إلى درجة أنه على الرغم من مرور كل هذه السنوات، فإن من يقترب من جوارها، ويدخل في جوها النوراني المضيء الخاص، ومآذنها الغارقة في الصمت، يحس بتداعيات معان عديدة من عصورها المتنورة، وكأنها تهمس في أذنه كصديق قديم بعض الأحاديث، وتهمهم ببعض الكلمات، وتحاول التعبير عن بعض المعاني. وكلما اقتربنا نحن من جوارها نتأملها وننظر إليها كجوهرة خلّفها لنا أجدادُنا العظام، نتخيل أنها تبتسم لنا، وتحاول أن تخاطبنا، وتهمس في أرواحنا بعض المشاعر الخفية" .

ويلح عليه الحزن لرؤية أياصوفيا -كشأن كثير من المساجد والمقدسات- تعيش البطالة والاحتباس، فتستدعي المشاعرُ مرة أخرى مشهدَ الضباب، تُصوِّر به الحال المكفهرة "إن أياصوفيا بمنظرها الضبابي، وبلونها الضارب إلى البرتقالي.. هي أقرب ما تكون إلى زهرة برية غريبة، وليست زهرة من الأناضول" .

فالوصف بالضباب، والتلوين بالمشهد الداكن، هو الصفة التي لازمت الإعراب عن حال الانكسار التي رأى كولن المساجد التركية تعيشها. ولا شك أن نفور كولن من الضباب -هو ابن الأقاليم المثلجة على مدار أشهر من السنة- يعود إلى مزاج يكتئب بمنظر الرطوبة الدكناء. فمزاجه كما تترجم عنه أدبيته المتفتحة على الألوان- مزاج ربيعي، يعشق الضوء والانفراج والمواسم المبرعمة. لذا سنراه يواتر استخدام نعت الضبابية في مواطن الكدر والتألم، فيصف بها الزمان والمكان وأحوال الاحتواء والإطباق "الليل الضبابي الذي يلف كل شيء" ، "سيزول الضباب الجاثم على صدرها" .

وذلك لما يجده في صفة الضباب من ملاءمة مع ما يقوم في نفسه من أسى حيال الأوضاع، وما لحق الدين والمقدسات من استهتار.

صمود أيا صوفيا يرمز للقوة التي تُؤمِّن البقاء الملي في الأناضول. فأياصوفيا هنا، بهذا الدور الذي حدّده لها كولن، تمثل سائر الكيانات التعبدية التي -إذا ما فعَّلناها- ستستعيد مهمتها، بأن تكون رباطات لا تنفذ من صددها إلى الحمى أيادي الأعداء.

ولقد تعود كولن أن يقرأ سيرة كل معلم معماري، ويستعيد تاريخيته، كما فعل مع أياصوفيا والأقصى، والكعبة والسليمانية، وما سواها.

ففي ذلك نشر لصحائف مُذهَّبة خطَّتْها الأمة بيمينها، لكن التغريبيين لا يريدون للأجيال أن تعرف ذلك.. من هنا كان حرص كولن على قراءة مسار كل مسجد يستدعيه الذهن، وتسوق إليه الخواطر المحمومة؛ إذ في ذلك تذكير للأمة بهويتها.

بل نراه لا يفتأ يكشف عن نفسيته من خلال تشخيص تلك المعالم، فحين يصور لنا أياصوفيا على ذاك النحو المكسور الذي تبدو فيه، وهي "كشخص سُدَّ فوهُ بعصابة قوية، فلا يستطيع التفوه بكلمة، بل تكتفي ببلع ريقها.. تحاول أن تقول شيئًا، أو تبوح بشيء فلا تقدر، وبحزن العجز والهجر تكاد تنكفئ على وجهها كمدًا وحزنًا، وتتحول إلى مجرد كومة من اللبنات الجامدات" ، فإنما كان يصرح بما يعيشه هو، وما يكتنف عالمه الذاتي من غبن ومصادرة، بل إنه يصف واقع الأمة ويقرأ حالها وما تنوء به من أرزاء وهوان، فما كانت حال الصالحين إلا حال أممهم أبدًا.

وجلي هنا، أن كولن ظل دائمًا يرى في المنشآت المعمارية موجودات حية، معبرة، تقاسمنا المشاعر، فهي بالقياس إليه كائنات ذات فكر وروح، وأن هذه الخاصية من الحيوية والوجود الحق، لا تزايلها إلا في حالة واحدة، عندما تتوقف عن وظيفتها الروحية، أو -بالأصح- حين تُعاق عن القيام بها.

ولا يزال يرصد للمسجد المعطل عن وظيفته صورة الكائن المعتقل، أو الشخص الواقع تحت طائلة التكميم. ما أشبه المسجد "بشخص يرنو ببصره إلينا، ولا يستطيع أن ينطق بما في قلبه". فمنظر المساجد منكسة، يستثير مواجعنا؛ إذ تجمعنا وإياه لواحم موصولة بالسماء. وبطبيعة الحال فإن القهر والعجز لا يتيحان لنا أن نفعل شيئًا لتخليصها وتحرير أنفسنا مما ننغمر فيه من هوان. فلا يسعنا عندئذ إلا أن نتأسى بمزيد من أحلام اليقظة، وسط أجواء مقيتة من الحداد، "كلما شاهدنا حالها هذه -أياصوفيا- بدت في أعماق أرواحنا آمال عوالمنا الداخلية، ورغبات من خيالاتنا. هنا تنتبه جميع مشاعرنا النائمة والغافية، وتتحفز للقائها واحتضانها في صباح يوم مشرق، ومشاهدةِ أحلامنا المرتسمة عليها، وندع أنفسنا في سيل من أحلام، في ديار من الضباب والدخان" . فالمشنقة المنصوبة لأحلامنا، تعبر عنها تارة أخرى صورة الضباب الرديف بالدخان؛ دلالة على الانهيار.

إن العجز والهرم والقهر هي الخلفية التي يتكون منها ديكور لوحة أياصوفيا. ومن خلال شَخْصَنَة أياصوفيا، يصنع كولن ملامح لوضع الأمة قاطبة، ويُظهر ما يسكنها من تطلع إلى التحرر، إلى المخَاض:

"أيا صوفيا التي اصفرّ وجهها، وبهتت من البكاء الألوانُ والأنوارُ، وانهدت طاقتها بعد كل هذه السنين العجاف.. أياصوفيا هذه حملقت على الدوام بنظرات واهنة، تحمل كل معاني العتاب في وجوهنا، وطوال أعوام عدة انتظرت بكل ما حواليها من حزن منعكس على الزهور الباهتة اللون، وعلى نافورات الوضوء المترقرقة بحزن، والطيران الحزين للحمام البري.. انتظرت على الدوام البطل الذي ينقذها" . تُرى، هل حديثه هنا عن أياصوفيا أم عن الأمة بالذات؟

المهانات نفسها، والحجر عينه، والانتظار ذاته.. فالحال هي الحال، وحكم الفرع من الحكم على أصله. وواضح أن تواتر لفظ الحزن في السياق، جاء علامةً شعورية معبرة عن ما تتكبده روح كولن، بل أرواح المسلمين الواعين بهول الدراما، حين حيل بينهم وبين مقدساتهم، وأحبطوا عن ممارسة سيادتهم الروحية والمعنوية.


القرآن وجغرافية المسجد

"لا يزال عبيرك يملأ أجواء هذه المعابد، ولا تزال القلوب تستضيء بنور مشاعلك" .

ظل نظم القرآن هو الطراز المعماري العجيب الذي يبهر العقول بهندسته، وبتسَابك شعريته، وبدائع تجلياته، بل لقد ظلت خطابيته تحدث أكبر التأثيرات على أهل الفن وأرباب التجميل المسلمين، بمن فيهم صناع العمارة. من فانتازية تعبيراته، وشمم مخاطباته، ورونق آياته، يتعلم البنّاؤون والمزخرفون والملبِّسون كيف يصبون المواد، ويسطِّرون الخطوط، ويوزعون الأبعاد، ويقيمون السواري والأقواس. "كل كلمة في القرآن.. مختارة بصورة دقيقة، ومخدومة مثل تطريز الدانتيلا" .

ظل القرآن -خلال مرحلة الإقامة- أنيسه، ونديمه، ووسيطه إلى النفس، وإلى الآفاق العُلى، ففائض الوقت كان يصرفه في التنفل، وفي التأمل، وفي تلاوة القرآن.. ومن غير شك أن الوحدة في كنف ذلك الفضاء الذي ينطق فيه الصمت، تشجع على المناجاة، ومخاطبة الله.. إن للأنفاس في تلك المقصورات الفارهة أثرًا وحضورًا تتلقاه الروح أنغامًا وأنواطًا وهارمونيك يزيدها سحرًا ما كان يجده من لذة تنبع من أنامل غير مرئية تلامس جذور روحه.

لقد عوّدته الخلوة المسجدية على الدندنة بمشاعره... مشاعر خفية، كانت تتنامى في بعض أركان صدره، ثم شيئًا فشيئًا تستوي وتأخذ شكل لحن، لا يفتأ يتلوى مع الساعات في أعماقه. فهو حينًا لحن دامع، وحينًا آخر لحن منشرح، أو متوتر، وحينًا ثالثًا هو لحن بلا صبغة، كلون البرزخ.

كانت تند عنه تلك التنويعات وهو ساهٍ عن نفسه، مسترسل في الآفاق القلبية، وحين ينتبه يجد الكلمات التي لم يفكر فيها، ولم ينشئها، ولم يحضر ميلادها، تنبعث مع نفثاته لوحدها، تصنع نغمًا غالبًا ما تمضي به البواعث الخفية إلى أقاليم الحزن، فلا تزال المواجد عالقة هناك، ولا تزال الروح سابحة، متحولة من غصن إلى غصن، حتى إذا أدركها الوهن تطارحت فوق رُبى أثيرية، واستنامت لما تجد من خدر وعذوبة.

ما أكثر ما أصغى لأصوات مجوِّدين تنبعث من جوف الصحن، وأخرى تنتهي إليه من الزمن السحيق، تقترب منه حتى تلامسه الأنفاس، ثم تبتعد وتتمادى في البعد إلى أن تنطفئ كما ينطفئ قرص الشمس لحظة الغروب، ولا يبقى منها إلا الأصداء. هنالك تنتعش الروح وتشرع بدورها في نسج لحنها على إيقاع تلك الأصداء، ولا تلبث الأرجاء أن تعمها ديباجة ساحرة تتجاوب لها المقصورات والقباب.

"في هذا البلد الذي أقفرت أرضه، وأظلمت سماؤه، لا تزال هناك معابد يؤمها الفقراء والمساكين" .

المسجد يتمثله كولن شجرة تمتد جذورها في الأرض، وتضرب ذات اليمين وذات الشمال، أو نهرًا تتفرع شرايينه عبر المحارث، وتصب في الأرض القاحلة، وتثوِّر بُورَها.. المسجد شجرة متعالية، تثقلها الثمار اليانعة.. ويلذ لفتْح الله أيضًا أن يتمثل نفسه باكورة في أدواح تلك الشجرة.

بذلك الحس الذي طورته فيه الرياضة، ومساكنة المسجد، وملابسة الخلوة، كان يعيش أطوارًا من الحياة، وأحوالاً من الوجود، وألوانًا من البرزخ، شأن أهل العشق.

كان يتصور المسجد أحيانًا قلبًا، ويتصور نفسه دفقة حياة تنساب عبر الشرايين، وتُطَوِّفُ في أطراف الكون. وأحيانًا يتصور نفسه هو ذاته قلبًا يدفق بالحياة، وصدرًا ينبض بالروح.. تلك هي بعض أحوال الترقي، تتمرس عليها النفس من مداومة العكوف. الكيان يغدو نقطة في رسم، سحابة في أفق، قطرة غيث، أحشاء نازفة بالحب، صدًى لنغم ينبثق من ناي، مئذنة توصل إلى الناس صوت الله.

ولا يزال يتسلى بالقرآن، يستطلع رؤوس الصفحات، يستفتحها، يسترشد بأسرار القرآن، ثم يجد مشاعر السلطنة تنبعث في أعماقه، وتمسه لمسة من سكر الإحساس بالأهمية في ذلك الموقع، وبأنه سلطان ذلك الصعيد..المسجد إمارتُه، وكل تلك العوالم التي تنبع منه، وفيه، وسط تلك الأرجاء العاجّة بالصمت والأناشيد، هي رعيته.

ويراقب تلك الحزم من الخطوط المورقة وهي تمضي عبر المدى، ويجد لها نفس التناغم الذي يجده للآيات وهي تتأدى في صوته.. الفصوص التي تتوزعها الأركان والجدران والقبة، هي فواصل وأسجاع وقوافٍ يجدد بها النظر صفاءه في كل حين، على نحو ما يجدد الصوت في التجويد نشوته وعنفوانه.

يمضي في وصلة الطرب، ويتأمل في الآيات، ويحلق فوق سفوح خضر، فيستحيل طيفُ البسمة على شفتيه إشراقة وتبسُّطًا وسخاءً.

ثم تخرج به الآيات إلى فضاء من تضاريس مسننة، كأنها رؤوس الحراب. تلك هي معاني الزجر والوعيد، فتترقرق العين، وتتلبد الرؤية، وتتقبض الروح.. ستار قاتم أُسدِل فجأة على مشاهد البهجة.. والجدران وتجاويف القباب عَلَتْها عتمةٌ.. ذلك لأن الروح قد تلقت سهامًا نفذت إليها من عمق ما كان يستغرقها من حال.

هكذا فجأة يتراءى له أن التغصينات المرتسمة على واجهة المنبر، والمتشابكة في القبة، والمسترسلة عبر الجدران، أضحت أقواسًا مشدودة ترميه بنبالها.. في تلك الأثناء تتحول الروح إلى مقام الاستغفار.

ما زال يفتح عينيه على القبة، وينام على منظرها، وفي أنفاسه ريح القرآن؛ إذ لا يفارق المصحفُ يده كلما ثوى إلى الفراش.. وحتى حين يطفئ نور الشمعة بأنفاسه ليخلد إلى ورده من السكينة، تظل النسخة في يده.. كم من فجر استيقظ والمصحف يضغط صفحة خدِّه في عناقٍ كعناق الحبيبين تذكي الفتوة نار الهيام بينهما.. بهجة النقوش تأخذ ألوانًا أخرى حين ينعكس عليها ضوء الشمعة، والأشياء تغير مواقعها.. جوقات أخرى وكورالات تنطلق في تلك المملكة حين يوقد صاحبها شمعته.. المنبر يتقلد تواشيح تحوله عن هيئته الصماء، وتملؤه حياة وحركة ودلاً. السواري تستغرقها رقصة الصف، فتدأب على الجيئة والذهاب، مثل سِربٍ من خيّالة فرسان، تلاحموا للحرب، فهم في حركة كرّ وفرّ، كأنهم من كتائب الفاتح.

كل شيء ينطلق من عقاله، ويموج في جو من السكر الليلي، ويتلون لسان الشمعة بألوان قرمزية وبرتقالية ولازوردية، كأنه يمتص من أصباغ القبة.. كأن قوس قزح المرتسم في سماء المسجد، أسفل القبة، قد ذاب وسالت به مدامع الشمعة، وانطبعت شعلتها بلون حُلَّتِه.. كان كولن في تلك الأثناء يستمد الدفء من أنفاس الشمعة الناعسة، وكذلك كانت تفعل حجارة النافذة، بل كان يستشعر أن من جسده النحيف ينبعث دفء إلى أنحاء المسجد.. بل لقد كان واثقًا من أن جنبات ذلك الحرم، كانت تحنو عليه بأنفاس رؤوم كالأم الرحيم.

كان أحيانًا وهو يمعن في تصفح الرسومات فوقه، يرى لنفسه موقعًا بينها، لكنه مجرد نقيطة مغمورة في بحر الجسوم المرتسمة في المشهد. إنه هناك أثر مغمور في محيط طامٍّ بالأشياء والظلال، عندئذ يتملكه أسى غريب، فهو يجد في ذاته دافعية جبارة على النفاذ والاحتواء.. يودُّ لو أنه كان قبة تنشر أجنحتها فوق المكان فتشرئب الكائنات إليها، أو لو أنه كان مثل تلك الحظيرة التي تحيط به من كل صوب؛ إذن لضمَّ الأشياء إليه كما تضم الأم رضيعها.

ويمضي في الاستقراء، ويشعر أن للنُّقطة حدودًا وأوضاعًا، ويلحظ أن لها موقعًا وعلاقات، بل سرعان ما يتبين لها وزنًا، وأهمية، ورجاحة؛ إذ تلفته تلك العضوية التي تصلها بما يجاورها في الجانب الآخر من خطوط، وتتراءى له الرابطة بينها وبين الكتل من حولها، ثم يمتد به البصر يتابع علاقة تلك اللحمة والكتل مع محيطها في المشهد، فإذا هي علاقة رفد واسترفاد، ثم يدقق النظر فإذا هي ارتكاز مكين له موطئ وحيوية ومجال، وكل ذلك يعطيها مزيدًا من التمدد والتوسع، فهي في الحقيقة مساحة ومدى ومفصل موصول ببقية الآفاق.. على ذلك النحو كان كولن يستبين الموقع الذي تتطلع النفس إلى ملئه، والصدارة التي تتوق الروح إلى تبوئها على صعيد جغرافية الخدمة والحياة..

هكذا كان يضع الخطط، ويتهيأ للدور القيادي الحاسم، ولا يزال في كل ذلك يستمد من القرآن المشورة والخبرة والتسديد.


كولن.. الفتوة، الدينامية، والموهبة

يروى أن كولن كان خلال فتوته شغوفًا بالتسلق، كلفًا بالمخاطرة في اعتلاء الشواهق، ولا بد أن يكون لذلك الشغف صلة بمكامن النفس من جهة حب الجمال والانطلاق.

وسنجد هذا النزوع سرعان ما انصرف في اتجاه إعلائي آخر، ارتبط بالعبادة والتقوى؛ حيث إن كولن أبدى وهو بعدُ غضٌّ، من أحوال اليقظة الروحية ما جعل حياته تغدو استثناءً بالنسبة لمحيطه.

ولا بد أن ندرك الرابط الدقيق بين الحياتين. فالمجازفة التي كانت تتخذ صورة انتشاء وزهو واستعذاب للحياة، هي في الحقيقة ترجمة لمكامن العشق الروحي الذي كانت ينابيعه في النفس مهيأة، وكانت تلك المكامن تتدرج على ذلك الصعيد من المد والجزر نحو بلوغ مستوى التفجر والنضج.

فالنزوع إلى الجمال يكون مظهرًا من مظاهر حب الحرية، وغنى الروح وشفوفها، وروحانيتها.

وإذا كانت الفتوة تتميز بالتوثب والحرارة والعنفوان؛ نتيجة ما تحمل النفس من طاقات واعدة، فلا ريب أن تلك المحاميل العذرية التي ظلت مصدر التوهج في مرحلة الفتوة، سرعان ما تأخذ صورة أخرى من صور النضج والرجاحة والامتلاء، فيضحى التوثب اشتغالاً باطنيًّا، والحركية عروجات داخلية، والاتقاد انصهارًا قلبيًّا، الأمر الذي تغدو معه الواجهة لوحًا شفيفًا، ترتسم عليه أصناف الواردات التي تتلقاها الروح في خضم انهماكها الوجداني والفكري. إن تلك السكينة التي تلوح على جبين أهل النور، هي أفق عريض عاصف من الأعماق.

الحركية تتحول إلى ضرب من الفخامة تستوطن الروح، وإلى عنفوان من الجلال المستمد من أصداء ما يعاين القلب في تواصله مع أقاليم المابعد. وعلى ذلك النحو تمضي المسيرة؛ إذ تبدأ الموهبة هلالاً، ثم تتدرج في المنازل والبروج، إلى أن تتقرَّص، وتصبح بدر التمام.


أرشتكتورية الصلاة

"أما نحن، فعند وقوفنا لكل صلاة نحس كأننا نرتشف صفو جيل نوراني وصَمْتَه.. أما أرواحنا فتنسلخ من الجو القاسي للجسد، وتنفعل مرة أخرى بآمال الوصال" .

في الصلاة يتجاوز الإنسان مشاعر الجسد.. وبما أنه كفَّ جسده حتى عن اللذة الحلال (الزواج)، فيمكن القول أنه عاش في صلاة مسترسلة.

في تتبع كولن لسرد وقائع العبادات، نحس كأنه يصنع مدونة بمذكراته، وبالحال والسيرة التي لابسته وهو يؤدي تلك العبادات. إنه يقتطع من تجربته الروحية قطائع يعرضها في هذا القالب الموضوعي، المتجرد، الذي رغم تجرده جاء شفافًا، يعكس الطابع الشخصي والأدائي، والتفاعل الروحي مع الفرائض والمناسك، فكتاب "ترانيم روح وأشجان قلب" -من ثمة- هو مدونة شخصية تكشف عن الجانب التعبدي للأستاذ كولن، وتعطي صورة لحياته التبتلية، دون أن يكون القصد هو إظهار ذلك، بل القصد الخفي إنما كان الإيعاز للمسلم بالكيفية التطبيقية المثالية لتلك الشعائر، فالمغزى الذي يستشفه القارئ هو مغزى تبصيري.

الصلاة تمرس روحي يقوم على دعائم من الأداء والإقامة، فهي لذلك، لا تحتمل أدنى خلل. والصلاة في مستواها الخارجي هي أرشتكتور هيكلي؛ حيث يتموضع الجسد في هيئات تعكس الاتساق بين الروح والجسد، بين الحركات المرئية والنبضات الكامنة، إن صفة "القيام" التي تسند إلى الصلاة (الصلاة القائمة)، تشدد على وجوب إمضاء الحركات الجسدية والتثنيات العضوية إلى منتهاها الخشوعي، وغايتها التبتلية.

وعندما يتحدث كولن عن الصلاة، فإن حديثه لا يخلو من إيعازات أرشتكتورية يسترفدها خطابه، ويعبر من خلالها عن بعض مشاعره. يقول متحدثًا عن نفسه، كما ينبغي أن نفهم: "إذا أدى الإنسان صلاته بمعناها الكامل تتوسع عنده فترات النور، وتقل عنده فترات الظلام والعتمة، وتنمو عنده حالات البسط وتكاد تمحى عنده حالات القبض، تضيق في عالمه الداخلي المنافذ المفتوحة للنفس وللشيطان، وتنفتح الأبواب الروحانية والملائكية على مصارعها".

إن السياق قد حمل معاني موصولة بالأرشتكتور (توسع فترات النور)، (تقل فترات الظلام والعتمة)، (المنافذ)، (الأبواب).

إن هذا الاسترفاد لحقل المعمار، يترجم سيرة طويلة كانت الصلاة هي الورد الذي يطيب للروح أن تؤديه في خلواتها وجلواتها، داخل رحاب المسجد، مقر إقامته.

إن الصلاة في اعتقاد كولن، هي شعيرة الغياب الحق، والانخطاف الصدق. ولقد اعترف أنه زهد في صلاته على إثر أن صادف أحد تلاميذ النورسي يؤدي صلاته بحالة من الانخطاف أدهشته، فمنذئذ تعلَّم كيف تكون تأدية الصلاة (انظروا الصدق). ولقد رأيناه يستفيض في الحديث عن الصلاة، ويكشف عن عِظم مقامها، وأحوال النفس ساعة تأديتها. فالصلاة التامة هي التي "تحرك القلب، وتغذي المشاعر، وتهز الإحساس إلى حد الارتجاف، أي إن الصلاة الواردة في الآية"إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر"(العنكبوت:45) هي الصلاة بمعناها الكامل، أما الذين لا يبلغون في صلاتهم هذا الأفق، فلا مناص من وقوعهم في الأخطاء" .

بهذا التفاني في الأداء تنشأ في النفس رابطة الحب للشعيرة، فتصير ضربًا من السياحة التي تترَوَّح فيها النفسُ وتجدد الانتعاشة. وكانت الصلاة عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- استراحة يترقبها بشوق ولذة، فالانتصابة، والتلاوة، والإبحار وراء المعاني، وتنويع الوضعيات في الوقفة، يجعل من الصلاة وردًا، وسانحة تتعطش لورودها الروح، ومثلما يقوم أحدنا لصلاته متكاسلاً، متعجلاً الفراغ منها، ليعود إلى حال خموله، ترى أهل الله، يندمجون فيها قبل التكبيرة، ولا ينسلخ عنهم ذلك التخدر العجيب الذي يتلبسهم إلا إذا غادروا مُصلاَّهم. أرأيت الصديقين كيف يماطلون في الانفكاك عن المصلى، أرأيت كيف يطيلون المعقبات، وكيف تستغرقهم طيلة تلك الغيبة، سكينة عميقة هي في الواقع سكرة أو انفكاك عن الوجود الحسي بالروح.

لبعض هذه الأحوال، طفق كولن يصف الصلاة، ويكشف عن لواعجها "إن أرباب القلوب يستطيعون السياحة بين عالم الأزل والأبد عدة مرات في اليوم الواحد، ويمررون الماضي والمستقبل معًا من منشور الفكر بوتائر متعاقبة، ويتأملون الشرائط الذهبية للزمن الماضي مع التلال الزمردية الخضراء للمستقبل المحفوف بالأمل في آنٍ واحد". ويضيف: إن "الحركات السرية العائدة للصلاة التي تغذي أفكارنا وأخيلتنا كل يوم عدة مرات، تجد على الدوام طرقًا ومنافذ وراء أفق هذا العالم لتنقلنا إليها، وهي تهمس في قلوبنا بأبيات الشاعر نسيمي:

مكاني أصبح لا مكانًا انقلب كياني كله روحًا

وتجلى عندي نظر الحق عيانًا فغبت عن نفسي من لذة الوصال

من مقام المحاسبة والخوف من مغبة التقصير؛ حيث يلازم القول لنفسه على الدوام: "وماذا لو رُميت صلاتي بوجهي كخرق بالية" ، يتحول العبد الصالح إلى عاشق يهبّ كليته للفرض، حتى لا يستبقي منه إلا ما يقتضيه الوعي بحق الله.

بهذه العشقية تنفسح مساحة التنفل، ويتسع نطاقها ليلاً ونهارًا؛ ذلك لأن النفس تكتسب بالمداومة والتجند الطبيعة الثانية التي تحدث عنها كولن، والتي في ضوئها يغدو ما يراه الناس العاديون مشقة في الواجبات الشرعية، محض شهد مصفى، وقدح معلى، يُمنَح لظامئ أوهنه السير في الفلاة.

يقرأ كُولن شعيرة الصلاة، ويتمثل كيفية أدائها، بعين المعماري؛ إذ تكررت مرارًا في خطابه الإحالة إلى حقل البناء، ومن ثمة، تردد لفظ الباب والنافذة والضيق والسعة وما شاكلها.

الصلاة شعيرة تقوم على الأناة في الحركة، والسكون في الفعل، ولا تكتمل شروطها إلا إذا تَقمَّص المصلي وهو يؤديها، هيئات من السكينة في حال الانحناء والانتصاب، قعودًا ووقوفًا، تجسد الاتساق الخشوعي بين الروح والجسد، مع ما يمثل ذلك من وقار، هو عنوان على جلال الإسلام، وما أرساه من شعائر وفروض تعتلي بمستوى الآدمية.

فشعيرة الصلاة، بقدر ما حدَّتْ من غفلة النفس وكفَّت من استنامتها لدواعي الغرور والرعونة والاعتداد، بقدر ما هيأت للروح من أحوال التسامي المعنوي، ما من شأنه أن يكمل من نقصها، ويكثر من لطائفها. ولا يكون المسلم أدهش في عبادته، وألفت إلى الانتباه، إلا عندما ينهض لأداء الصلاة، فردًا أو جماعة؛ إذ يستجمع -أو ينبغي أن يستجمع- في موقف الأداء ذاك، إلى الخشوع والمحو، الاتزانَ وكافة مظاهر خلوص العبودية.

وسواء أأدى المسلم صلاته تحت قبة السماء، أو في صحن المسجد تظله أقواس المبنى، فإنه في الحالين يناجي الله ليس فقط بالروح والقلب، ولكن بالجسد والكيان الحسي كذلك. الأمر الذي يجعل الصلاة هي شعيرة التواصل العلوي بامتياز؛ لأنها تتجسد من خلال رباط خطابي حسي بـ"الشكل"، ورباط شعوري وجداني بـ"المضمون". فهي أكثر الشعائر تشخيصية، بل إنها الشعيرة الوحيدة التي تتأدى بواسطة الكيان الجسدي، بحيث يتشكل القوام الجسدي أثناءها تشكيلات هي تنويع في الخطوط والهيئات، من الاستدارة، إلى الاستقامة، إلى الامتداد، إلى التمركز، والتحجم، والتجمع، إلى ما إلى ذلك من كيفيات حركية تَتمُّ بها هذه الشعيرة التي اقتضى الدين الحنيف فيها على المسلم أن يلازم من خلالها عملية تطويع الجسد، وترويضه بلا انقطاع على عبادة لله، تلك العبادة التي تُكسِب الروحَ القدرةَ على التحرر من كافة أصناف الضلالة والترغيم.

ولا ريب أن في تسمية الصلاة بـ"عمود الدين"، إيعازًا بالطابع الترجيحي لها، وبالأولوية؛ وذلك لما لها من تأثير على النفس، وقوة على المواجد، متى كان حاديها الإيمان العميق؛ إذ في أثناء تأدية الصلاة تتم الرحلة المعراجية التي يباشرها المسلم في كل موقف صلاة، رحلة تقلع بالروح كما بالجسد، نحو الآفاق التي هيأها الباري لذوي التوق والشوق، الذين يحسون الصلاة كالطائف في المعراج؛ بحيث يستروحون نسائم الجلال المطلق، لدى كل ميقات صلاة.

ثم إن في استعارة صورة "العمود" وصفًا لمنزلة الصلاة بين شعائر الإسلام، إيحاءً باكتمال صبغة الجلال والجمال لهذه الفريضة؛ إذ من الثابت أن الاستطالة والبسطة في الشيء تُعدُّ من مقومات الجمال، وإن في قول النبي: «وجُعلت قرّة عيني في الصّلاة» أو ما في معناه، إعرابًا صريحًا عن العشق والتشوق. فلا غرابة أن يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شدة تولهه بالصلاة، وامتلاء الجو الذي يؤدي فيه الصلاة مفردًا أو إمامًا للصحابة، بأعباق عارمة من السكينة، وحضور القلب والانخراط.. ولقد كانت تجلية الجسد، وإظهار قوته، من أسلحة التأثير التي استخدمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدق المواقف.

ولنتذكر في هذا الصدد تعليماته -صلى الله عليه وسلم- لصحابته الكرام، يوم دخل مكة معتمرًا، عليه ثياب الإحرام، وهو يسير بالأصحاب تحت أنظار المشركين. لقد أوصاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف أن يستظهروا لأعدائهم من أحوال القوة الجسدية كل ما يستطيعون إظهاره. لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدرك يومها ما للمظهر الجسدي وللأهبة من تأثير في إشاعة الرهبة وفرض الاحترام.

ومن المؤكد أن الأشكال التعبدية التي ظلت الأمم تختلقها لمُؤَلَّهَاتها الصنمية، وتتقرب بها إلى أربابها المزعومة، قد ظلت تعيش بها في حالة من الانحباس الروحي، رغم مظاهر سطحية من التنفيس والحماية التي كانت تتوهمها وهي في حضرة معبوداتها؛ لأن من طبيعة أرباب الوهم، ومحسوسيتهم، ومشهوديتهم، وتحجمهم، وتعينهم أن يعيقوا الروح عن أن تلمس جلال المطلق، ورحابة اللانهاية.

فحتى المجتمعات التي رمزت لآلهتها بافتراضات شبه غيبية (النور الظلمة، القوى الخفية، الضارة والنافعة)، زاغت عن الطريق؛ لأن روح المتعبد ظلت رهينة الحس، ومشروطة في تعاملها مع آلهتها بمنطق التشخيص، والتعيين التمثيلي، والتصور الحسي، المغلق، الذي لا يعبّر إلا عن الماهيات المادية؛ (لأنها بطبيعتها مجسمة أي محدودة)، عكس الإسلام الذي نسف معتقد التجسيدية"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"(الشورى:11)، وعلَّم العقل البشري كيف يرى الله في المطلق، وفي الكلية، واللانهائي"رَبِّ الْعَالَمِينَ"(الفاتحة:2)،"هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ"(الحديد:3)، "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ" (البقرة:115).

من هنا كانت الصلاة (التامة) شعيرة يَعمُر فيها الجسد مساحات العمق الوجداني، فيُنشئُ -من ثمة- هيئة من الخطوط والتقاطعات، فيها انحناء السماء، وسمك الأثير، واستدارة البسيطة، وانتصاب شرفات الأفق المحيط بالكون. فالجسد من خلال شعيرة الصلاة (القائمة) يتحول إلى أرشتكتور للتواصل؛ إذ لا يفتأ يبدّل في خطوطه وأهبته، ويأخذ من الأشكال والهيئات، ما يعكس مظاهر من صميم تعابير العبودية في حضرة الخالق. في أثناء تأدية الصلاة، يتماهى الكيان الجسدي في أكثر الصور تعبيرًا عن الاستكانة والاستسلام أمام الله.

كل ميقات صلاة هو موقف للتشكل والمحايثة الحنينية التي تهفو فيها الروح إلى عالم الغيب. الصلاة موت جليل، وحشر بديع، وتصاميم تتشكل أثناءها البواطن والظواهر عبر أبجدية مد جسور التواصل والقرب مع الخالق. وكل ذلك طفق كولن يؤكده ويقرره كلما تطرق لموضوع الصلاة؛ إذ لبث يقرأ أطوار النجوى والامّحاء التي تحصل للفرد أثناء الصلاة، قراءة عشقية، حالية، تشي بما كانت روحه تَسْبَح فيه من تلاطمات المكابدة (الخشوع) وإنهاكات العروج (استشراف الأفق لسدرة المنتهى). فالصلاة شعيرة تنحسر بها دائرة التعتم، وتنبسط مساحة النور، الصلاة تُجدِّد من أرشتكتور النفس، وتُفضِي بالروح إلى أفق سامق.


مرصود كولن الأدبي وحقل المعمار

تقوم العملية الذهنية كما تجسدها الكتابة، على توظيف ما يمْثُل في الوعي وما يثوي في اللاشعور من مقدرات إعرابية وتصورية، تنبني عليها فاعلية القول والنشاط الكلامي. من هنا تتلون مخاطباتنا بألوان وأصداء من المشاعر والأحاسيس، تخلفها فينا تجارب عشناها حينًا ما، وتعْلَقُ أصداؤها تلك بالوجدان وتستقر في اللاشعور. إننا في تصريحاتنا وأقوالنا، لاسيما تلك التي تصدر عن أصالة إعرابية وتسديد فكري جاد، نمزج رصيدًا حيويًّا من لوينات نفسياتنا، ونكشف عن ظلال من متجذراتنا العاطفية، فهي تصدر عنا في صورة خلجات وتَرَشُّحات يبعث بها اللاوعي، ويتحقق بها الوعي والفكر والخطاب؛ ذلك لأن الإنسان ابن لاشعوره كما يقول كولن، تتكشف بواطنه ومواجده وما تأثرت به سيكولوجيته (من تجارب مر بها في الراهن، أو عبر مراحل العمر)، وما استوعبه من عوامل بيئية وثقافية وجمالية، ترسبت في الروح، وحبلت بها مَبِيضات الإحساس والارتشاح الانفعالي، لتُسَرِّبَها عند الاقتضاء في شكل دوال وصور ومجازات واستعارات، وما إلى ذلك من القيم البلاغية والأدبية الواصفة، واللاقطة، والمقربة للأفكار والمعاني التي يبثها الكاتب. يرى كولن أن الإنسان ابن لا شعوره، وكلّ سيتصرف حسب طبيعته.

وإذا عدنا إلى تفحص مقومات خطاب كولن، فسنجد أنه كان يستلهم من حقل العمارة مساحة ملموسة من تشبيهاته.. وبما أن إقامته في أكثر مراحل العمر طراوة وتأثرًا (زمن الفتوة والشباب) كانت في المساجد ودور العبادة، فلا بدع أن تنتمي طائفة من صوره الثابتة، وتشقيقاته اللغوية المتواترة، إلى فن العمارة.

استمع إليه مثلاً وهو يتحدث عن بعض شطحات ابن عربي، ستجده قد استخدم لغة المجاز الموصولة بالمعمار؛ ذلك لأنه وجد في معجمية المعمار مندوحته في وصف هذا الصوفي، وفي قول ما يريد قوله عنه بالكيفية الأخلاقية المناسبة: "ابن عربي ضاقت عليه أُطر الباب، ولمست رأسُه القبةَ المضروبة على رأسه ومقياسه".

فلفظ القبة الذي وظَّفه كولن هنا توظيفًا تصويريًّا موفقًا، جاءت به الصورة بارعة، واضحة الدلالة، وهي صورة انبثقت عن وجدان توطدت الصلة بينه وبين المسجد أو النافذة تحديدًا، يؤيد هذا أنها وردت متبوعة بما يجانسها في سياق واحد، نقصد لفظ الباب.

لا بد أن نؤكد هنا أن الكفاءة الأدائية، مشروطة باحتياطنا من الخبرة ومن مخزون اللاشعور؛ إذ في عملية البث، والإعراب، والأداء، لا تمتد يد الذهن والوجدان إلا إلى أقرب الدوال الأقدر على التعبير عن الموقف، والأنسب لتغطيته (أو بالأصح لتعريته)، والكشف عنه.

إن التلقائية هي تلك المرونة والآلية والتوفيقية التي نستظهر فيها مشاعرنا أو نواري عنها. من هنا كانت اللغة هي السجل الذي يُوَثِّق لنا خريطة حياة الفرد وتجاربه؛ لأن الإنسان وإن ظل يتوسع في معجميته، ويكيّفها مع المراحل، إلا أنه يظل موصولاً بمنابت لغوية وبمحاصيل صُوَرية، يتعلَّق بها وجدانه (أو تتعلق هي به)، وتختم بمبصمها على ملكات الإنشاء لديه، فهو لذلك يتداولها برجاحة، وعلى نحو سافر أو مقنَّع.

سنرى لاحقًا كيف كانت تيمة الباب والقبة والنافذة، من الدوال التي يلفتنا تواترُها في كتابات كولن، لاسيما في كتابيه "ترانيم روح وأشجان قلب، و"ونحن نقيم صرح الروح". وإذا أردنا أن نسارع إلى إعطاء تفسير تبسيطي لهذا التواتر (التداول)، فعلينا أن نتذكر حياته في النافذة، بالمسجد؛ إذ كانت النافذة تأخذ شكل باب من حيث مساحتها، وتأخذ في الآن صبغة قبة أو مكتنف.

وعلينا أن نتذكر من صعيد آخر تجربة أخرى عاشها كولن الطفل، وقد تبدو أنها غير ذات أثر لمن لا يقدّر مدى تجاوب النفوس الغضة مع الحوادث التي تعيشها تحت ضغط معين، وفي ظروف عمرية معينة. وهذه التجربة كان كولن عاشها يوم كان يدرس الدين والعربية تحت السرية، يومها قطع الثلج بينه وبين مسكن المعلم جار الأسرة الذي كان يتعلم كولن وبعض أفراد أسرته عليه، فأصر الأب على أن يفتح نفقًا ويهيئ ممرًّا تحت سمك الثلج، ينفذ منه الصبية إلى بيت المعلم، حتى لا ينقطعوا عن التحصيل، وحتى لا تظهر آثار خطاهم على الثلج فيفتضحون.

إن هذه التجربة موصولة بالباب؛ إذ لا باب للنفق الثلجي، وهي أيضًا موصولة بالكهف الذي سنرى كيف سيحفل كولن برمزيته ويستلهم معانيها لحياته؛ إذ إن ذلك النفق الثلجي أتاح للأسرة أن تخرج عن وضع الحصار، وهي كذلك موصولة بالعقيدة الإسلامية ذاتها؛ إذ هي تجربة تحقق لهم فيها على نحو ما معنى الصراط المستقيم. نؤكد ذلك لأن مشاعر الطفل تتلقى الأحداث، وتعيش الوقائع، بتصور غير تصور الراشدين.

ونسجل من جهة أخرى أن مصطلحات المساحة المكانية كانت هي كذلك أحد مصادر تشبيهه (ضيق الوجود.. رحابة الأنس). بل إننا نجد أن مقومات الأرشتكتور العصري تلابس هي كذلك حاسته التعبيرية، فلذلك جاء الخطاب مفتوحًا على تقنية المعمار الحديث وتجهيزاته؛ إذ إنه يجد في المعمار مادة أدائية ودلالية توسعية. فـمرفق "المصعد" مثلاً، الذي هو آلية العمارة الحديثة، يوظفه كولن في خطابه الصوفي؛ لأنه يتيح للتعبيرية أن تغطي بواسطته أفقًا سلوكيًّا وشعوريًّا تجديديًّا. إن تيمة العروج التي لبثت تدور حولها مخاطبات السالكين، ظلت تحيل إلى الأثير، وإلى البراق، وإلى ما شاكل ذلك.

إن هذه الموضوعة قد انفتحت على وسائل الارتفاق المعاصر، فأدمجت ضمن أدواتها مرفقَ المصعد. وهو كما نعلم من لوازم الأرشتكتور الحديث. ومعلوم أن اللغة الشعرية حين تدمج مقومًا دلاليًّا ما، فإنها تخرجه تخريجًا إحساسيًّا جديدًا؛ بحيث لا يعود الذوق الخطابي يرى فيه سِمَتَه التعيينية الأولى، بل يرى تجلية أخرى تُوسِّع من مدلوليته، وتضفي عليه قيمة غير التي كانت له.

لا يفتأ يستمد من حقل المعمار مجازاته وتوشياته وإشاراته، إرسالاً للذائقة الخطابية على سجيتها، وإفساحًا للمجال التعبيري في وجهها؛ لتسترفد من أودية الوجدان ما استقر فيه، وتوطَّنَ، من مؤثرات فن العمارة وتجلياتها، "نزيد بغزل النقوش على أردية تسربل المستقبل"..

ولما كان التصميم مكينًا لديه على ترسيخ الخطوات، وتعميق أسس المشروع النهضوي، رأيناه لا يفتأ يشدد على تأصيل أسس العمل الحركي، وجعلها وطيدة لا تهتز.. ولا يزال يحض على توخي السبل والشروط التي تضمن استمرار العمل، وتطور نتائجه، وقد وظّف لهذه الدعوة، عُدَّةً لغوية يستعيرها من حقل العمارة: "نجدد إعمارها، فمن الأسس المهمة لنهضتنا.. العشق.. والمتانة" .


تيمة الباب

"فمتى ما قبل الإنسان بروح متواضعة، أن يكون نفسه عتبة الباب، موطئ البيت، حجر الرصيف، حصاة الجدول، تبن السنابل، تمكن من أن يعبر كما عبر الإمام آلوارلي" .

تيمة الباب بارزة في كتابات كولن، يُحمِّلها قسطًا من معانيه الخاصة. ولا بد أن علاقتنا بالباب كمكون معماري، حيوي، علاقة ألفة، لكن هذه العلاقة حين تغدو جزءًا صميمًا من تجربة المراقبة والسلوك تجعل من "الباب" قيمة دالة على المحظوظية. فالباب في المعجمية الصوفية يحيل على معنى تحصيل القبسة العروجية، وهو أفق شعوري، روحي، لا سبيل إلى طرْقِه إلا بالميقات وأزوف السانحة.

رأينا من قبل كيف لازمت صورة الباب مشاعرَ كولن، وهو يقف في أقدس صعيد تتطلع النفس إلى التمسح به: الروضة النبوية الشريفة: "نحسب أننا أمام باب سري، يؤدي إلى عالم خاص، مملوء بأنواع من الجمال الساحر" . وانظر كذلك إلى قوله: "لقد سمح هذا النظام المبارك (الإسلام) منذ أن شعرنا بظله فوق رؤوسنا -أدام الله حفظه علينا إلى الأبد- بفسحة للولوج من بابه مرارًا إلى التجديد والإصلاح، فشهدنا الانبعاث مرارًا"

إن صورة الباب ماثلة في ذهنه، يعبّر من خلالها عن مشاعره، ولاسيما في مواقف الجذل الروحي، حين تعاين النفس مواطن القداسة عن كثب، وتلابسها أنداء العطر المبارك الذي تنفث به جنبات بيت الله.ففي موقف التمسح بستائر الكعبة أثناء السلام عليها، يجد كولن نفسه أقرب ما يكون إلى النغم؛ حيث نراه يعبّر عن الجذل من خلال تدبيج معاني يستند الخطاب فيها إلى مقومات المشهد المعماري ذاتها، وتحديدًا إلى مرفق الباب، فيعبّر عما يجد في أعماقه من تطلع وأشواق، فكولن في تلك الرحاب القدسية، يستشعر كأن "الأبواب السرية تنفتح أمام الأرواح السامقة التي تَدَعُ أنفاسها تنجرف في سحر جو الطواف".

بل إن الخطاب ليصوّر لنا كيان كولن قد استحال بكامله إلى منافذ تتفتح لتنعم بلمحة من نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، "نتعجب من الألطاف التي تنهمر على قلوبنا من المنافذ المنفتحة في خيالنا، ومن البوارق التي تبرق في صدورنا" .

لكن مرفق الباب يظل رمزًا للمرابطة: "الذي يذوق فضل ونعمة هذا التوجه، لا يستطيع ترك ملازمة عتبة بابه تعالى" . بل إنه يغدو محطة الاستئذان وطرح النفس في سوق الدلالة: "ألمس مطرقة بابه، متوسلاً، ومتضرعًا: اقبلني يا الله ". بل إن مقامات العباد، وحظوظهم من الألطاف النفسية والمعنوية، مشروطة بما تنفتح عليه أرواحهم من أبواب المراقبة والاحتساب: إن ما يشعر به شخص عامي من ضيق صدره، أو انشراح قلبه، ليس كما يشعر به ذو القلب اليقظ، المتفتح على الماوراء، المترع بالانفعال والخشية، المشحون بشعور أنه يراقب من فرجة باب، فيعتريه الانبساط والنشوة في مواضع، والقلق والاضطراب في أخرى.


المساجد والمقابر والمستوى الحضاري

إنه يعي أن المساجد مثل المدن، تترجم بهيئاتها وبسمْتها مستوى الرقي الذي انتهت إليه مجتمعاتها:

"ممالك الأمم المتقدمة جنات، وجبالها غابات خضراء، ومعابدها كالقصور، بينما مدن الأمم المتأخرة خرائب، وشوارعها مزابل ونفايات، ومعابدها تفوح منها روائح العفونة والوساخة" .

ومن المؤكد أن مساجدنا ومآذننا عكست خصوصياتنا النفسية والمدنية وأطوارنا الحضارية. ذروة الشموخ تجسدت في مآذن الموحدين بالمغرب الإسلامي، وتجسدت أيضًا في مساجد آل عثمان (ولفارس والهند عصرهما الإسلامي الذهبي الذي يرمز له تاج محل).

وعلى صعيد آخر شَكَّلَ القبرُ وهيئة المقابر وجهًا آخر من أوجه السيكولوجية الوجودية لمجتمعاتنا الإسلامية؛ إذ في شكل القبر وسُمكه (أو انطماسه) وفصيلة شواهده، وحظه من الزخرفة أو عدمها، ينعكس جانب من روحية المجتمع، ومزاجه، ومدنيته. تراوح أنماط المقابر عند المسلمين على سُلَّم من التنوع يجعلها على غير طراز واحد، ودون سمت متشاكل؛ وحظوظ المجتمعات ونسب مراتبها في التمدن والتدين تظهر في هيئة قبورها، وتأثيث أضرحتها، وتُرَب ومشاهد رجالاتها، والأمر نفسه يجري على المساجد؛ إذ هي -ومن خلال مبانيها، رحابة أو ضيقًا، بساطة أو فخامة، تجردًا أو تَزيُّنًا- تعكس نفسية جمعية، وطورًا تاريخيًّا يحمل في تفاصيله وخطوطه أصداء من مدنية وعمران الأمة.

وإن شيئًا من هذه الروحية التي أحالت صورة القبر إلى مرفق تأنس له النفس، تعبر عنها بعض كتابات كولن: "القبر ليس إلا صالون انتظار لعالم السعادة" .

الأرشتكتور أضحى عدة لتزيين مراقد وأضرحة السلاطين العثمانيين المجاهدين. تلك الأضرحة التي حرص أصحابها على أن تستظل ببيوت الله. الأمر الذي جعلها تكتسب سمة المشهدية والمزار الذي تستجلي فيه الأجيال التركية دلائل العبرة والفخر، بل لقد اكتست تلك القبور التي جاورت المسجد، طابعًا ثقافيًّا تستشرف منه النفوس معاني أخرى للموت؛ إذ تستشعر للراقدين هناك حضورًا، بل حياة وخلودًا، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على تصور الناس لفكرة الموت، لذا فلا غرابة أن نجد تيمة الموت بمعنى الظفر والمجد والحياة والانبعاث، حاضرة بقوة وكثافة في فكر كولن.

أدرك السلاطين أن المساجد وديعة إلهية، وتركة قدسية لا تُورث، فخلّدوا أسماءهم بما بنوا وشادوا من بيوت الله الفخيمة، وآووا إليها بقبورهم، تشفعًا بصوت المئذنة والتكبير، لنيل سعادة الآخرة.

حتى فكرة الموت يعيها كولن في صورة موصولة بالمعمار؛ إذ يراها بابًا ننفذ منه إلى عالم الأبدية والنعيم: "الموت ممر يوصل إلى سعادة الخلد". بل لا يزال يتمثل الموت من خلال حسّ العمارة والتعمير: "الموت بمثابة لقاء من أمكنة وأزمنة تسيح فيها الروح" .

ذلك لأن الإنسان من خلال سانحة الوجود والحياة التي يحياها على هذه البسيطة، إنما يترشح لبلوغ الكمال والاستحقاق الذي يعني الفوز الأبدي: "الموت بالنسبة إلى المؤمن، طريق للتحول إلى الإنسان الكامل" .

كان كولن منذ الصغر يرى أن الموت باب للجواز إلى عالم الحياة والبقاء، وتلك عقيدة إيمانية يتلقنها الناشئ حين يشبّ في بيئة تحيا مُثُل الدين، ولا تنأى عنها في التفاصيل.. وطالما ودَّع باكيًا أحبة فقدهم، ووقف يشيّعهم بالدمع، ولسانه يضرع إلى الله أن يقبض روحه في الحال؛ ليلحق بهم.

لقد انتحب طويلا يوم أن عاد إلى بلدته ليجد الأسرة قد شيعت وفي يوم واحد، كلاً من جده وجدته.. يومها انتحب عاليًا، ودعا الله أن يقبض روحه ليتسنى له أن يلقى أعز مخلوقيْن لديه. لا ريب أن من شأن حادثة وفاتهما معًا في يوم واحد، أن يعزز هذا التمثل الذي كان يحمله في نفسه للموت؛ حيث كان يتصوره سفرًا يمكن للمرء أن يختار من يرافقه فيه. ولقد عاش نفس التجربة يوم وفاة أخيه المسيح؛ إذ بكى وأمّل في سره من الله أن يميته ليلقى أخاه.

لقد ترسخت في نفسه للموت صورة الباب، وعززت ثقافتُه الدينيةُ القرآنية هذا التمثل لديه.. ولا غرو أن نجد هذا المعنى الذي قرَّ في ذهنه عن الموت، يتكرس فلسفة إحيائية سينهجها في حياته الشخصية؛ إذ ما زال يرى أن الجسد هو العائق الذي يحول دون النفاذ إلى رحاب الحرية والكمال الروحيين. فحين يتخلص المرء من تكاليف الجسد ومطالبه التي لا تنتهي، يحطّم عنه قيد البهيمية، ويتمكن من الاجتياز إلى شواطئ الكمال.

ونجد هذا التصور يتكرس لديه أيضًا في عقيدة نهضوية استطاع أن يقيم ركائزها -ولا يزال يرعاها- من خلال حراك الخدمة الذي تنتشر أفواجه اليوم في الآفاق، تصنع الغد. فبالخدمة يتم النفاذ من باب التخلف والانحطاط، إلى أفياء الازدهار والتطور.

ولأجل أن تحيا الروح، لا بد من قتل الجسد (أي قمع شهواته وملذاته المسفة)، ولكي يحيا الإنسان لا بد أن يتكهف ويموت شهواتٍ وأهواءً، أشبه بالبذرة تُلقى في التراب، فتتحلل، قبل أن تأخذ طريقها لتصير شجرة مثقلة بالثمار.

"القبر ليس بئرًا مظلمة، ولا حفرة محاطة بالعدم، ولا غرفة سجن وعزل، بل هو باب مفتوح لعالم مضيء" . "القبر صالون انتظار لعالم السعادة" .

إن تواتر موضوع الموت في كتابات كولن يعبّر -في بعض وجوهه- عن واقع ثقافي قائم في البيئة التركية، يتجاور فيه المسجد والمقبرة الخاصة؛ إذ في جوار كثير من المساجد تقوم تجمعات لقبور تستقر فيها رمم بُناة تلك المساجد (وأحيانًا مع أسرهم..).

إن قبر أبي أيوب الأنصاري -مثلاً- هو مشهد ومزار موصول برحاب مسجد عامر، وتلك حال كثير من الجوامع التاريخية؛ إذ أخذت صيغة مركبات تستجمع -إلى جانب الرحاب- ضريحًا أو أضرحة لها حظّ معنوي أهَّلَها للوجاهة الرمزية لدى الأجيال. ولا ريب أن أثر هذا الائتلاف بين الجامع والقبرية ينطبع في أذهان الزائرين ومرتادي المكان، وينتقش في ضمائرهم. فمن شأن قوة المشاعر التي يعكسها هذا التركيب الذي يجمع بين المقبرة والمسجد، أن يتحول بالروح إلى نقطة ترى في الموت طريقًا إلى الله، ومعنى يكبح النفس ويحملها على أن تتذكر باستمرار مآلها. إن ارتفاق المسجد بالمقبرة يكفل للنفس مساحة من الاعتبار الحي، بل إنه يتيح للقلب أن يقف على حقيقة الوجود الفاني، أجل.. إن البعد الاتعاظي لَجَلِيّ في المشهد.

ولا ريب أن من اختاروا لقبورهم وأضرحتهم أن تجاور المساجدَ، قد توخّوا تحصيل الشفاعة والاحتماء بتلك الجنبات المباركة، ولا بد أنه بسبب ترسُّخ هذا الاعتقاد، أضحت المزاوجة بين المسجد وضريح ظاهرة عمرانية وأرشتكتورالية لا يخطئ المرء مشاهدتها في حواضر تركيا، بل وحواضر المسلمين عامة.

إن مرفق القبريات الملاصقة للمساجد يأخذ بعدًا تصميميًّا في المخطط الأرشتكتوري العام للمسجد، فهو جزء من الصحن، أو امتداد من امتدادات المسجد، فلذلك باتت المثوى مَعْلمًا تشكيليًّا متناغمًا مع المشهد العام.

إن مظهر الأضرحة في جنبات المساجد، قد هيأ لشيوع ثقافة توطين فكرة الموت، وإعطائها صبغة سيكولوجية مُلطِّفة للحدادية التي تميزها في ثقافات الأمم والشعوب. وإن بعض هذا الاستئناس مع الموت الذي تغرسه البيئة الدينية في أرواحنا، تنعكس بعض أصدائه في كتابات الأستاذ كولن.


كولن.. الإعجاب بالفن والعشق والخدمة

كلما استطرد كولن بالحديث عن الكفر (الكفر نظام مغلق، وخانق..)، نشعر أن طعم الانقباض والانحصار والانحباس ينبعث في النفس، ويعرب عنه الخطاب بصورة متقززة متقرفة؛ إذ الانفعالية تسفر عن وجهها. وذلك أثر عكسي من آثار ما كابدت النفس وتجرعت نتيجة طغيان المفسدين.

وتسعفه لغة العمران والتعمير في الحديث عن الوضع الإسلامي القائم؛ إذ تقترن في حسه أحوال الانسحاق المزمن التي وطّنتها في ضمير الأمة السياسات (المتهالكة)، وتتقاطع مع أحوال التهدم والتبدد (والخراب) التي تتراءى له في واقع المجتمعات الإسلامية وفي مستواها المادي المتدني، فيأتي الخطاب محملاً بمشاعر وصور الانهيار، ولذا نرى كولن يدعو إلى وجوب إثبات وجودنا، وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى، بتعمير خراب حسّ الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن.

وحين يحمل المرء روحًا ثورية، مجنونة بعشق المُثُل والكمال، فلا ريب يكون أكثر جنوحًا بمشاعره إلى الفن، والتفتح عليه، تذوقًا وإنجازًا. وكل انجذاب إلى لون فني ما، إنما يدل على قابلية تتشرب أجناس الجمال جملة؛ إذ لا يتعاطى المسكون بعشق الفن إبداعية حصرية ما، إلا ومنافذ قلبه مشرعة في وجه بقية الأجناس. فالرسام شاعر، والشاعر نحّات، والعازف سارد ملحمي، والمسرحي مُنشِد.. إنما المصلح يستجمع في شخصيته كل هؤلاء، ويحتوي سجاياهم؛ لأن فطرته هيّأته لأن يكون على مستوى من الإبداعية شمولي؛ إذ رهانه على بناء الإنسان كلي، وتعقيدات تلك المهمة تقتضي الخبير المستوعب لكافة الأسس التي تقوم عليه إنسانية الفرد، حتى لا يكون الجهد محدودًا، وعرضيًّا، وسطحيًّا.

ولم تفتأ الأيديولوجيات والطوباويات تفشل في تخريج الإنسان الكامل، وبناء المدينة الفاضلة إلا لأنها طفقت تتعاطى مع الإنسان بعُدة معرفية قاصرة، لم تكد تجتاز بالحلم مسافة، حتى ينهار.

ولا يزال جهابذة الإصلاح، يتميزون بالقدرة الخارقة التي تراهن على جعل الواقع الغليظ مشاهد من الحسن يغدو بها الخط البياني للمدنية في ارتفاع؛ إذ بذات التركيز والحرقة والإنهاك الذي ينجز به الرسام لوحته، والكاتب رائعته، والنحاة مجَسَّده، كذلك الإصلاحي، ينبري لتشكيل روح عصره، فينشئ الصرح المدني الجديد، وبذاك يتيح لمجرى التاريخ أن ينعطف نحو الحياة الأفضل.

يؤمن كولن أن القدرة على توظيف اللغة دليل العبقرية، "الكلمة طريق إلى القيادة وإلى الخلود" ، بل إنه ليعتبرها من عوامل التأهيل والقدرة على القيام بدور يسهم في توجيه مسار الأمة، ويحقق المرضاة الإلهية.

وإبداعية كولن التي اتخذت من الخطاب المنبري، والدرس المسجدي، والكتابة التنويرية، مجالها الأرحب، هي من الغزارة والأصالة ما جعلها تستفيض، فتشمل مجالات التفكير والتنظير الموصولة بالإنسان وبحضارته.

وإذ يمارس كولن الكتابة، فلأن وازع التعبير يلحّ عليه؛ إذ الحرف أوكسيجينه، والكلمة رئته، ودافعية التفريغ الشعوري هي حاجة من حاجات النفس التي تضغط على ذوي القرائح بلا هوادة. إن الكتابة عند الألمعيين رسالة وفن؛ لأنها تقترن عندهم بروح الإصلاح، فالكلمة الإصلاحية تنفذ إلى الساحة وهي معبأة بطاقة التغيير والبناء والترميم والتسوية، إنها تتصدى إلى المفاسد، مشحونة بطاقة احتراق، وقودها فؤاد المصلح ووجدانه وكيانه.

إن أهل الفن يصوغون بالفن أرشتكتور نفوسهم، ويجسّدون ما يحملونه من فكر وجمال وأسرار في ما يشيدون من صروح الإبداع. ولا تهيم الجماعات والشعوب بأشعارها الوطنية ودواوينها القومية، إلا لأنها تجد فيها ما يحيي ضميرها الجمعي، ويُندِّي مشاعرها المشتركة، ويغذي روحيتها، ويوقظ وعيها، ويخصب أحلامها في التقدم والتعمير.. الفنون السامية قطاع من الإرث الرمزي للأمم، وقد تنبغ أمة ما في لون أو أكثر من ألوان الجمال والتعبير، ومن المؤكد أن الشعر الروحي التركي رصيد عالٍ من التعبيرية بلغت منجزاتُه مستوى ألحقه بالعالمية، ونفس الحظ بلغته المعمارية العثمانية.. وحين ينوّه كولن بتراث أمته الأرشتكتوري، فلأنه يجده يلبي لديه الحاجة الوجدانية للتغني بالهوية ومظاهر فلاحها.. ثم إن كولن بطبعه التمثلي، وروحه المتولهة بالعشق، ينخطف بكل مظهر جمالي ذي صبغة روحانية، من هنا كان شغفه بالمعمار المسجدي قويًّا، لما يمثله ذلك الرصيد التراثي الباهر من مقومات رمزية ومعنوية موصولة بالهوية والتاريخ والعاطفة الدينية.

بهذه الروح المسكونة باللطائف أحب كولن الفن عامة، وأحب الأدب خاصة، وعشق الكلمة، ورأى فيها نعمة يسبغها الله على العبد حين يجعل له حظًّا من موهبة الإبداع: "اللغة نعمة كبيرة من النعم التي أسبغها الرحمن الرحيم على الإنسان، فبها يتغنى الإنسان بإنسانيته، وبها يتوجه نحو العلم، وبها يعيش في الأجيال القادمة" .

ولقد وعى أهمية ودور الكلمة في التجنيد وتحشيد الأخيار وراء المشاريع والنهضات: "الكلمة أهم واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى قلب آخر، والذين يحسنون هذه الواسطة من أرباب الفكر، يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إبداعها في القلوب وفي الأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود، أما الذين لا يحسنون هذا، ولا يستطيعون، فإنهم يقضون أعمارهم في معاناة فكرية، ثم يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن يتركوا أثرًا فيها" .

بل إنه لواضح هنا أن كولن يرى في الفن وفي الكلمة الهادفة وسيلة البقاء، ثم إنه يؤمن أن الفن عامة، والأدب خاصة هما اللسان المعبّر عن هوية المبدع، والمُجَلِّي لخصائص شخصيته. فالتعبيرية الأدبية تستوعب من مقومات شخصية الكاتب والأديب والمصلح ما قد لا يعي به هو نفسه؛ إذ الانبثاق الوجداني الذي تتم به عملية الإعراب، يحمل معه من لوينات النفس، ومن سمات تفكيرها، ومعالم هويتها، ما يتيسر معه على القارئ المتمحص، أن يستكشف صفات ومكنونات تلك الشخصية، أو بالأحرى شيئًا مما يميز أعماقها. فالتعبيرية في الفن كالتعبيرية في الدين، لا تُوارَى، ولا تُمارى، ولا يوضَع فوقها حجاب؛ لأنها في الحالين تنبثق من الوجدان: "من أراد أن يبحث عن العظماء في الفن وفي الفكر، فليبحث عنهم بين المفكرين المؤمنين بالحق تعالى، والذين لا يستبدلون بعبوديتهم شيئًا" .

وإن أبرز سجية يقف عليها الدارس لخطاب كولن، هي الوازع الأخروي الجلي في نفسيته، فقد لبث هذا الوازع حاضرًا في ثنايا مكتوباته، الأمر الذي يجعلنا نقول: إن كولن يرى الحياة من خلال الآخرة، فقد نمت لديه رؤية روحانية جعلت البعد الأخروي يغدو جزءًا مركزيًّا من وعيه (في حين البعد الأخروي عند الإنسان العادي، مقموع بإرادة الفرد نفسه؛ لأن حب الحياة لا يترسخ إلا بنسيان الآخرة، أو جعلها احتمالاً بعيد الوقوع).

إننا نجد هذا الحس الأخروي لديه يأخذ صيغًا عدة، فهو حينًا تعَلُّقٌ بالميتافيزيقا، وهو حينًا آخر، اعتمال رومانسي جذاب، وهو حينًا ثالثًا مشاعر استثنائية خرجت عن المعتاد، وتكيفت على الماوراء، كالتطبيع مع الموت، والحديث عنه حديث الشوق، بل والنظر إلى واقعة الموت على أنها ليلة العرس.

لقد رأينا كولن يستدعي ذكر الآخرة في مواطن إعرابية لا تحتمل هذا الاستدعاء، بالقياس إلينا نحن الذي يضعون الدنيا في مركز الاهتمام: "لم أر مثل جمال بلدي موضعًا آخر فيه كل هذا الجمال والسحر الذي يبعث حزنًا أخرويًّا رقيقًا في قلوبنا" .

فالرؤية هنا على الرغم من شحنة الابتهاج التي صدرت عنها، إلا أنها سرعان ما وجدت في استدعاء الآخرة سقفًا تنويهيًّا تنتهي إليه، الأمر الذي يبين أن كولن تخطى روحيًّا الاعتبارات التي يتداول بها المجتمع قيم الموت والحياة والغنى والوجاهة، وغير ذلك من الأفكار والأحكام والمسلَّمات التي يتبعها الناس. والسر في هذا هو أن كولن أفلح في تعديل علاقته بالدنيا، ونجح في تغيير ما بنفسه، فتوثقت من ثمة صلته بالمُثُل التي مجَّدها الدين، وقرَّرها أسسًا لبناء الحياة.

ولا ريب أن الروح التي صدر عنها هذا التعبير السالف، تحمل شيئًا من آثار صلته بالأرشتكتور؛ إذ جمال المعمار وخلابة الزخرفة التي ساكنها في المسجد، كانت موصولة على نحو وثيق بعالم الآخرة، فوطدت أكثر من هذا المنحى التذوقي الذي جعل الحواجز بين الدنيا والآخرة تنهار في حسّه.

كانت إرهاصات الإبداع الفني تلوح على كُولن منذ الفتوة، ولا تفتأ تظهر في سلوكه وميوله.. لقد أبدى مبكرًا نزوعًا ذوقيًّا وجماليًّا تجسد في ما كان يحرص على إضفائه على نفسه وهيئته من سمت الأناقة والتهندم والزينة. إن حرصه على مظهره كان يعكس طبيعة سيكولوجية تجد في مكامنها الفطرية الدوافع الجارفة نحو الجمال والحسن. فجذوة الفن هكذا تبدأ، شَغَفٌ بالحسن يتركز على الذات، ثم يستحكم الميل والنزوع ويضحى عشقًا وانحيازات إبداعية قد تتألق في اللوحة، أو النص، أو المخطط المعماري، وقد تتكشف في صورة فلسفة نهضوية، وعقيدة عمل خلاق، يتخذ من صنع الإنسان الصالح هدفه ووسيلته لتحقيق الغاية الجمعية السامية.

أهل الله يسلكون إلى تنفيذ الإبداع خطة احتسابية متجردة؛ إذ يرون أن علة ومصدر كل ما ينفذونه من أعمال ومشاريع إنما هو الله، منه استمدوا الكمال والفلاح، وإليه يرفعون الجهد ويحتسبون العطاء، فيما يرى غيرُهم أن الموهبة والعبقرية هما مصدر ما أنجزوا ونفّذوا.

لقد كان كولن عقلية تأملية، ولا ريب أن العقل التأملي يتغذي -لبناء تصوراته وتمثلاته- من كل شيء تقع عليه العين، لاسيما إذا كان هذا الشيء من طبيعة فنية تخاطب المشاعر بواسطة لغة الصنعة والتساوق والتنفيذ المبهر كما هو شأن المعمار.

ولا بد أنه كانت تمر عليه الأوقات الطويلة وهو -في إقامته داخل المسجد- مركوز النظر، يتتبع هندسة القبة، ويلاحظ رهافة الفوهات الفضائية المرتسمة على دوحة الأقواس، ويرصد التجويفات المعلقة في الهواء، والمتلاحمة من غير ارتكاز ظاهر. لقد لبثت تلك المشاهد، وما تبعثه في النفس من خواطر وأفكار، ترسو على مهل في قاع الوعي، ولا ريب أن كولن كان يُمعِن بخياله في الاسترسال وراءها، ويمزج في خواطره خواطر أخرى كانت تسكنه، تتعلق بتعمير من نوع آخر كان يحلم بإنجازه. لقد كان يستلهم من تفاصيل الشبكة المعمارية التي تظله، أسرار التكوين والإنشاء؛ إذ كانت نفسه تنوء بآمال كبرى وبرامج بناء ومشاريع جنينية تملأ روحه، كان يستلهم من نسيج القبة كُنْهَ وسر التموقع الدقيق الذي أخذته الأحجار دون أن ينبو بها امتداد أو محيط. كان يستحصل علم الخدمة والتجنيد، يستقرئ مبادءه في تشكيلات السقف، وتحديبات الأعطاف، وفي تساوق الفصوص وتصافف الدعائم المنحوتة، وفي توازي الأعمدة الأسطوانية المترامية، وتوازن الأطواق المجنحة في الهواء بلا سند جلي إلا تساند كلي -غير ظاهر- ناجم عن تلاحم أفراد وفقرات المشهد.. على ذلك النحو كانت أبواب فقه الخدمة وأسسه، تنبثق في ذهن كولن وهو يتقرَّى فضاء الجامع وهندسته ومعماره، ويدقق في تفاصيل ردهاته، وتراوح عرصاته.

"أحيانًا يرتفع صوت جديد من المنبر أو من المحراب أو من إحدى المقصورات الخلفية، يتناغم مع ذلك الترتيل المتكرر المنساب بهدوء ونعومة من المعبد، فتحس بأن فيضًا من الضياء والنور قد نثر فوق طرقنا وأنفاقنا وممراتنا، ونتوجه إلى بُعد آخر باِيقاع آخر، وكأننا تلقينا أمرًا جديدًا بالتحرك والمشي".

إن كولن هنا يكشف لنا عن شاهد من شواهد تجربة التنسك التي عاشها في النافذة بين جدران جامع "أُوجْ شَرَفَلِي"، وإنه لفي وسع المرء أن يستقرئ من هده الشواهد شريطًا عن سيكولوجية الأستاذ في تلك المرحلة والظروف. على أن ما يهمنا الآن في هذه التصريحات، هو المرفد المعماري الذي ما فتئت تسترفده، فاللغة الفضائية والتعبيرية الضوئية، ومخاطبات الحركة، جلية في السياق، كأثر من آثار الوجدان المسجدي.

سلوك الاعتصام الذي عبر عنه إيواؤه إلى النافذة، يعكس سيكولوجية مركبة تُعَبِّر عن نزوع التصون والتفرد من جهة، وتعبّر عن جنوح فطري إلى مساكنة المجتمع والجماعات من جهة ثانية.

ثم إن الدلالة الروحية، الامّحائية، جلية في ذلك السلوك، لقد كان كولن يتأبَّى عن أن يقتطع بقعة لنفسه في الرحاب الطاهرة، فكان أن تنكب وعاش على الهامش، في وضعية برزخية؛ إذ هو موصول بالرحاب، معزول عنها في ذات الآن، وذلك تدبير اقتضاه حسّ الأدب والحرمة التي تملأ أعماقه حيال المسجد، فكم هي بالغةٌ، دلالةُ تلك القصص والأخبار التي تواترت عن رموز من آل عثمان كانت تحملهم روح تعظيم الدين على أن يتجشموا شاقّ الأوضاع؛ توقيرًا للمقدسات، كان أحدهم يقضي ليلته قاعدًا؛ تأدبًا أن يتمدد في اتجاه يوجد به المصحف مثلاً.

كان الفضاء المغلق للمسجد حيث يقيم، يشكّل لروحه سماء تظله، فكان يعيش هناك أشبه بأهل التحنف حين استغرقتهم الحاجات القلبية، فلبثوا يَسْتهدون الآفاق، ويبحثون عما يرشدهم إلى اليقين.

لقد كان يعاني من حرقة متفاقمة وهو يبحث عن الوجهة التي تمكّنه من أن يجد النهج السديد للعمل.

كان يؤمن بأن العلماء هم -حقًّا- ورثة الأنبياء، وكان على وعي بأن هؤلاء الورثة حين ينخرطون في العمل، ستلازمهم المخاضات الشاقة، وتستغرقهم أحوال من التكهرب هي بحجم الرهانات التي يتصدون لتحقيقها.

لقد لبث يسقط على قطاع الأرشتكتور الديني لبلاده، عواطف لا تغور؛ إذ ظلت تلك المعالم تمثل له مِلكية من الكنوز القدسية، بحيث كان يترآى له في كل نقطة وامتداد، وكل خط وانحناءة، ملمحٌ يوعز بالماضي المجيد، هذا الماضي الذي بات في عهد الردة فريسة للتكسير والتكسيح.

الأرشتكتور فن الموازين التي لا تحتمل أدنى خلل في المقايسة، ولا تتقبل أي انزياح ولو بشعرة، عن نصابها، في حضرته تتلقن النفس والمشاعر أبجدية التسديد، وقواعد الموازنة والتنسيق. المسطرة الأخلاقية تستمد أيضًا معاييرها من حقل المعمار.

ولقد تحدث هيجل في معرض تحليله لفن الأرشتكتور قائلاً: لا يحتاج الإنسان إلى ما قد منحته الطبيعة الخارجية (من إمكانات)، ولكنه يحتاج إلى عالم منجز بيده هو، ولأجله هو وحده، عالم مهيأ لتأملاته الداخلية، ولتتحاور الروح مع الله ومع ذاتها. فالمعمار منجز إنساني يتزاوج فيه الجانب الجمالي مع الجانب النفعي.

والنفس بمساكنتها معمارية المسجد، تستمد الإلهام من مصدرين: من الفن، ومن الدين، وتتطبع بالرقة والغنى والجوهرية التي تنهلها من جو المساكنة تلك، وكل ذلك عاشه الأستاذ كولن، وحمل في أعماقه آثاره.

كولن تحول إلى جزء في الكيان الأرشتكتوري حين أقام في النافذة. تحول كولن بدوره إلى أرشتكتور رمزي حين سكن النافذة، وصار جدارًا يحمي الوديعة، أشبه بحال الخضر مع كنز الأخوين اليتيمين كما تقص مواعظ القرآن. المسجد صار جسده؛ إذ حل فيه، يحتمي به، ويعتصم ضد نوازع الفتوة والغربة وهروبًا من حرب تراهن على دكِّ أسوار تلك الروح العذراء التي حملها الفتى بين جوانحه. قصد إلى المسجد فرارًا من ملاحقات بائعات الهوى اللائي أطمعهن فيه شبابه وملامح النبل والجاذبية البادية عليه.

سكن المسجد ليُتاح له أن يقتل شيطان الجسد المتأهب في داخله، واستقر تحت سواري الجامع لواذًا من شرور الغواية والانغماس التي كانت سياسة العهد الطوراني تبيد بها أخلاق العفة والطهر والإيمان، فكانت تلك النقلة إلى المسجد أول خطواته على طريق التخلص من درن الجسدية، ليستبدله بطهر القبة وحرمة أجوائها الروحانية، فلم يبقَ له منذئذ إلا أن يندمج قي الحجارة، وأن يتحول إلى حبة طابوق في كيان من الغرانيت، ليصير بمر الأيام، كينونة روحية كريستالية تشعّ بوهج القرآن. منذئذ تحول كولن إلى روحاني، تتعشق أعماقه معارج الماوراء.

هي برزخ، ومحطة انتظار على الطريق إلى المبتغى، وهي كوة من حيث تهفو الروح إلى أن تقبس أنوار الله، ونسائم فتوحه. النافذة هي ثغر المرابطة، من حيث يُرصد العدو، وتنطلق الحملات ضد العدوان. بل النافذة اختيار نهائي للمقام الذي بلغته العشيرة -آل عثمان- حين احتضنت راية الله، وأضحت ملة، مُحَضِّرة للعالمين.

النافذة هي الإسلام ذاته الذي اختار كولن أن يثبت عليه، بعد أن عمل المبطلون على ترحيل القبيل، إلى خارج حظيرته، إلى مواطن تخييم، بوادي الضلال. يتماهى كولن في النافذة، ففيها معنى الشفوف، والشفوف مطمح ذوي النفوس المزكاة. ويتعشق العمارة لأن من خصائصها صفة الصلابة، والصلابة الإيمانية خصيصة أصلية يروض عليها الدين الإسلامي، ويوطنها في النفوس السوية.


كُولن.. نهضة وتعمير وتجهيز

مقوم الدعوة عند النورسي ارتكز على نشر الدرس الروحي التعبدي (التوحيد)، لقد أناط هذا العملاق الصائل، بحركته الخدمية مهمة إذاعة النص القرآني وتعاليم السنة الشريفة بين الناس. وكان يباشر المواجهة ومصاولة الشيطان بسلاح الروح وحده، وهكذا ظل النورسي -رحمه الله- يتعاطى تلك الخدمة الميمونة بصبر ومرابطة، يستغرقه الاستلهامُ القلبي، والشرح المتعمق، والتدبر التذوقي، وإقامة ورش الإسناد والاستمداد، وذلك جهد كان سقفيًّا في مرحلة التفرعن الطوراني. إن الهدف الاستنقاذي والتحصيني كان يومئذ الأرجح. كان النورسي يتصدى لفلسفات الكفر، تنشرها جحافل، تسندها دول وإمبراطوريات.

ولقد رست تلك الحركة المباركة بتوجهاتها وإنجازاتها على فكر يُثمِّن المستقبل، ويهيئ للاجتهاد البنَّاء، وللاستفاقة الحق التي تسير بالأمة على طريق استعادة المجد الغابر، وهو ما تنهض به اليوم، وبجدارة لا هوادة فيها، مشروعات كُولن؛ إذ سار كولن بالدعوة على ذات السبيل النوراني، وسدد نحو البناء وتجسيد الأهداف من خلال إرساء ثقافة النهضة وتوطيد أرضيتها على دعائم التنوير والتجهيز واعتماد المستنهضات الخدمية بأنواعها، والانتشار بفرق الإحسان وفكر المشاريع في أقطار الأرض، ومباشرة التبليغ والتحسيس بمُثل الإسلام بكل السبل، وفي كل مكان.

لقد أدمج كولن في المقوِّم الإيماني، البعد التجهيزي والإنشائي من خلال استنفار الرجال والثروة "المالية"، وفكر تحقيق البرامج النهضوية، بتأثيث الفضاء الإسلامي بالمرافق، والعمل على مد شبكات الخدمة عبر القارات، وتوصيل رسالة القرآن إلى العالمين في الصورة العملية الاستنقاذية.

فالتوسيع المستمر للقطاعات الخدمية، بتوسيع المرافق وورش العمل الفاعلة، والملبية لشيء من حاجات الناس الروحية والإسعافية في سائر البلاد التي تنتهي إليها وفود الخدمة، هو نهج حركة كولن ومحور أهدافها في تحقيق الوعي الروحي، والتأسيس للنهضة الإسلامية المعاصرة التي تضع في حسابها البعد الكوني، أي أن تكون -بحق- النهضة العالمية الثالثة.

كلاهما (الشيخ النُّورس والأستاذ كُولن) عاش يتحسر على ضياع دور الريادة العثمانية والائتمان على الموثق.. بل إن الداعيتين ظلا يستمدان من تاريخ تلك الريادة المديد (عشرة قرون) روح استماتتهما وتصميمهما ويقينهما بصواب ومشروعية توجههما الدعوي.. كلاهما يمضي في طريق السلف، يحدوه الإصرار على العمل على انتزاع الحق والشرف في الحياة، واستعادة مكانة كونية مؤثرة، وأن لا مندوحة للاحق من الأجيال والأقطاب من أن يكمل ما بدأه السابق، ويوسع من دائرة حسناته واجتهاداته؛ إذ طريق صناعة التاريخ طريق طويل وشاق، وجهد كل رائد ومساره في الدرب، هو شوط يمهّد ويتكامل مع تالي الأشواط التي يقطعها الحداة، ومعهم الجموع المؤمنة بالرهانات والمصير السعيد.


ماهية المعمار وعلاقته بالهوية

المعمار العثماني أبرزُ حافظ للهوية التركية، ومعرِّف بها، ومُوصل لها: "في هذا البلد الذي أقفرت أرضُه، وأظلمت سماؤه، لا تزال هناك معابد يؤمها الفقراء والمساكين" .

ظل المعمار العثماني يمثل الشاهد الأثري الأبرز، والأقدر على تعريف الآخر بالهوية التركية، وتذكيرهم بالأصل؛ إذ الثابت أن أهم واجهة إشهار ثقافي وسياحي تميز تركيا المعاصرة هو تراثها المعماري، وتفرد أرشتكتور جوامعها ومبانيها الإسلامية، فهذا الوجه الجمالي العريق، هو مبعث الرحلة السياحية والاستطلاعية التي تشد ملايين السياح إلى تركيا موسميًّا؛ إذ من خلال معالم هذا التراث، تترسخ صورة الشخصية التركية، ويتجلى ماضيها الفخيم، ويلوح فجر غدها العظيم.

التجاذب بين كولن وبين فن المعمار أتى من طبيعة تشاكلية تجمعهما؛ إذ كلاهما جسَّد روحية صمودية تقاوم الردة وتدفع التخنيع. كما أن الزيغ التغريبي لم يفلح في القضاء على معالم الحضارة الإسلامية التي مثّلتها تلك الأرضية العريضة من القلاع الروحية: بيوت الله المعظمة.

والعجز نفسه سجلته آلات الحصد المستبد التي استهدفت الأولياء ورجال الله، ومنهم كولن.

في وعي كولن تتجذر أصول الإيمان ومصادره (قرآن، سنة، سيرة السلف الصالح). ومن رحاب قلبه تشعّ مشاعر الاعتزاز والامتنان المتوهجة بمساحات النور التي حققها التاريخ المجيد للإسلام وضِمْنها مآثر آل عثمان الجهادية والحضارية، وإلى ذلك يقبع في ركن من بؤرة الوعي ركام من الجروح والحسرات النارية، مبعثُهُ ما لحق الأمة ودينها من دمار.

حيال استمرار هذه الجروح في النزف، لا يملك كولن إلا أن يستمر متشبثًا برمزية ذلك المجد الذي كانت المؤامرات الانحلالية تعمل على اجتثاثه. فالتعلق والاعتزاز بجمال المسجد العثماني الذي لا يفتأ كولن يعرب عنه، كان يمثل وجهًا من وجوه المقاومة، ورد الفعل التي يتصدى بها لأعمال التخريب.

لم يكن المسجد يمثل بالنسبة لكولن حالة من أرشتكتور يسحر بأناقته، ويجلب السواح، وإنما كان يمثل الواجهة الحافلة بالمعاني والدلالات التي من شأنها أن تضمن بقاء الجماهير مرتبطة بماضيها، من هنا كان كل ذلك الاحتضان للمسجد، وكل ذلك الانحياز إليه.

لقد احتمى المسجد في تركيا بأجنحة من جماليته الخارقة، فجماليته الجليلة هي التي سوّغت للمتغرّبين الإبقاء عليه، لقد قرأوا في الفخامة المعمارية البعد الترويجي، الدنيوي، الذي يخدم سياسة التفسخ التي ساروا عليها، فعملوا من ثمة على تدجين المنابر، وإحناء الصوامع، فيما ظلت غزليات كولن وشغفه بمفاتن السليمية، وطُوبْ قَابُو، وأياصوفيا، وغيرها، أورادًا بيداغوجية، إيقاظية، تحرّض الأتراك على التعلق بهويتهم؛ إذ كان يرى في تلك المفاتن اللسان القوي المعبر عن رسوخ الإسلام في تلك الديار، على الرغم مما كانت يد الشر تفعله بميراث آل عثمان، فمضى يتغنى بها، كما يتغنى فارس الطروبادور بعشيقاته، ويرابط على عتبة أبوابهن.

بل إن توظيف الخطاب التنويهي بجلال التراث الأرشتكتوري، ورفع العقيرة لِلَفْتِ الرأي العام التركي إليه، يندرج في صميم الروحية العقدية، إنه ضرب من الذكر؛ لأن الغاية هي لحم الضمائر بالإسلام وبتاريخ الأسلاف المجاهدين، وهي غاية تتصدى لمقاصد المتغربين وتعاكسها.

لقد بقيت المساجد (بأرشتكتورها البهي) تمثل المظهر العلني الوحيد تقريبًا، الذي ثَبَتَ يقارع برامج الاستئصال، لم يكن للمعبد من يحرسه إلا جدارته المعمارية الباهرة. في صمود المسجد العثماني، ودفاعه عن حرمته بسلاحه الذاتي، تكرار لمعجزة الطير الأبابيل، لقد تأكد الأخيار مرة ثانية، أن للبيت ربًّا يحميه.

رأى كولن أن القيمة المادية (الأرشتكتورية) حين عَمَّرت الحيز والمكان، كانت الأنجع في المقاومة، والأقدر على الثبات، لذا آمن بأن الشرط المادي في مجالات الحضارة، قد يغدو هو البعد الضامن لديمومة القيم الروحية، وصونها من العدوان.

والعكس صحيح؛ إذ حين يأتي الفناء على المآثر المادية، ويحال بينها وبين وظيفتها ورسالتها، تنبعث الجذوة من الرماد؛ لأن الروح أبدًا حية، ومع جهد المجاهدين، لا تلبث الحياة أن تسري في كامل الجسد.


الماضي المجيد، والراهن المريض

يستدعي كُولن الماضي ومفاخره، ويستعرض أسماء ذوي النبوغ في شتى مجالات الإبداع، لاسيما في المضمار المعماري: "كان عالمنا زمنًا يسابق العصر في العلوم الطبيعية والدينية، في التصوف والمنطق، وفي تخطيط المدن والجمال، وفي كل مجال ومضمار، بدهاة نقشوا الوجود كالخوارزمي والبيروني.. وأساتذة الحقوق كأبي حنيفة والسرخسي.. واستعدادات اجتازت المقاييس الإنسانية، وعاشت الحياة في خط الوجدان بتقليب القلب والمنطق، كالإمام الغزالي والرازي.. وأبطال الحكمة والفطنة كالإمام الماتريدي والتفتازاني.. وعمالقة الفن كالمعماري خير الدين وعطري ودهده أفندي.. ويمكنه بعد زمن العطل العابر، أن يحرك مجددًا كل الأرواح والأدمغة المنورة، فيحقق النهضة العالمية الثانية والثالثة" .

ولا يزال الإعجاب والتنويه بالرصيد الباهر من المعمار والتفنن يسكنه: "سنأخذ من إبداعات عصورنا البيضاء التي نراها شريحتنا الزمنية الذهبية، ومصدر فخرنا الأبدي.. ونزيد بغزل النقوش على أردية مرفلة تسربل المستقبل ".

وبالمقابل ينعي على المسلمين خرابهم الروحي، مبينًا أهمية ما أرسى الإسلام من تأصيلات في مجال تأهيل الإنسان: "تآكلٌ أصاب المسلمين في بنائهم الداخلي، من حيث الحياة القلبية والروحية" ، ولا أمل في تجاوزهم لهذا التردي إلا بالعودة إلى تعاليم الدين الحنيف. وإن امتياز الإسلام على ما عداه من الأديان، أنه أقام التوازن بين مقومات الوجود كلها، فجهّز المخلوق البشري بأسباب الترقي، وأرشد إلى وجوب تعهد سائر جوانب الماهية الآدمية للفرد؛ بحيث لا يرجّح بعض عن بعض: "الإسلام طرح منسوجاته على العقل والوجدان والروح والجسد.. ولئن تقدم واحد منهم على غيره، في مستوى معين أحيانًا، فليس في قدرة أي منها أن يصوّر الإسلام وحده، أو يمثله، أو يعبّر عنه" .

فالعقل دعامة لا تكتمل إلا بدعامة الوجدان، والروح ركيزة لا تستند إلا بركيزة الجسد الطاهر. وكل اختلال في الحمْية، قد يكون له أثر سلبي على استواء الشخصية.

ولا يزال المعمار في هذا وذاك، يلهمه الأوصاف والنعوت التي يوظفها خطابه في الأداء:

"أرى أن نعيد النظر في طرقنا التي نسلكها قبل كل شيء، وأن نجدد إعمارها، فمن الأسس المهمة لنهضتنا إلهام العشق والشوق وبركتهما، والمتانة والرصانة التي توحي بأمان العقل والمنطق، واستقرار وإنسانية الحرية، والعودة إلى الذات، وبُعد التعمق والدقة والتجريد، ومحور المنطق، وروح الوحي في فننا وفلسفتنا، ومن ضمانات الثبات على النهج الصحيح في التجدد أن نجعل رضا الله غاية الآمال، والروح أساسًا للحركية في جهود الشعور بالواجب، وحب الإنسان وهذا الوطن حرصًا لا يُستغنى عنه، والأخلاقية زادًا حيويًّا في المسير لا يُترك أبدًا، والكائنات والإنسان والحياة كتابًا محفوفًا بالأسرار لا يكفّ عن نبشه، فصلاً بعد فصل، تحت منشور القرآن البلوري، ومصدرًا للقوة مهمًّا لشخصية الإنسان وقيمه البشرية الحقيقية، والقرآن والسنة محورًا للطريق الموصل إلى الهدف والغاية، متناسبًا مع حقانية الهدف والغاية ومقدسيته" .


رجل الفكر وأجيال المستقبل

يحدد كولن وظيفة رجل الفكر ونضاله من أجل ظهور النظام الجديد بالمقاييس التالية: "إنسان الفكر والحركية هو رجل الانطلاقة والحملة، الحركي المخطط الذي يقوم ويقعد على خفقان شد العالم بالنظام الجديد، ويمثل حركة إقامة صرح الروح والمعنى من جديد، بعد ما آل إلى السقوط ومنذ عصور، ويفسر قيمنا التاريخية كَرَّةً أخرى.. فهو في خط الحياة الممتد على مدى فصولها من الحس إلى الفكر، ثم إلى الحياة العملية.. وينشغل بحس البناء والإنشاء أبدًا، إنه ولي الحق اللدني الذي يُعِدُّ قادة أركان الروح ومهندسي العقل وعمال الفكر، بدلاً من استخدام القوة المادية لفتح البلاد ودحر الجيوش، وينفخ بلا كلل نفس البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشد أعوانه إلى سبيل عمران الخرائب.. وحتى حين الظن بأنه قد هُزم فستجده على رأس فوج آخر للنصر والظفر" .

ولا يخفى ما حوى هذا التوصيف في معجميته من دوال تحيل إلى حقل المعمار، استجلبها الخطاب، إعرابًا عن القصد. وإذا ما أردنا أن نحصي بعض هذه الدوال، فسنجد من بينها: المخطط، إقامة صرح، السقوط، خط الحياة الممتد، ينشغل بحس البناء والإنشاء، أركان، مهندسي، عمال، البناء والإعمار، عمران الخرائب.

إنها جميعًا موصولة بالأرشتكتور، بل وإن بعض التراكيب قد وردت مستلة في بنيتها الكلية من صميم حقل المعمار، من ذلك مثلاً قوله: "ينشغل بحس البناء والإنشاء"، أو قوله: "عمران الخرائب، إقامة صرح.." إلخ.

إن هذا التداعي المتواتر الذي ظهرت به منظومة الدوال المستخدَمة في هذا السياق، هو تداعٍ لافت؛ إذ كشف على أن الذهن وهو يبسط موضوع صناعة النهضة وصناعها، كانت خلفية المعمار هي المجال الحيوي الذي استرفد منه حاجته الخطابية، الأمر الذي يؤكد الرابطة الوجدانية القوية بين كولن وبين الأرشتكتور. ولقد اقترن معنى الانبعاث بصورة البناء في ذهنه، "الانبعاث والبناء لا يكون إلا على يد بانين متجردين" .

ونفس الخلفية المشاعرية والأدائية نراه يصدر عنها في تصويره لرجال الفكر والخدمة؛ إذ إن رجل الفكر العامل، لا يتمثله كولن إلا مهندسًا، يتحرك على الأرض، ويحتل الميدان، وفي قدميه "بوط"، وعلى رأسه خوذة، ويداه مشققتان، وثوبه ملطخ برشاش الإسمنت.

إن اعتداد كولن بهذه الصورة لرجل الخدمة، يعود إلى ما عاشه هو من تجربة تأطير ميداني، استمرت معه إلى اليوم؛ إذ عاش في المخيمات، وفي المدارس، وفي توجيه الجماعات، على أعصابه، آخر من ينام، وأول من يستيقظ. ثم إن إلحاح الصورة التنفيذية التي يحب أن يتمثل بها صناع المستقبل، هي أنسب صورة يراها تلائم وضع الأمة المتردي، الخرب، الرث.

"إن الشخصية التي يحتاج إليها شعبنا أمسّ الحاجة، هي شخصية الإنسان المخلص المتحمس والمتوازن، شخصية مهندس الفكر والروح.. المتتبع للنظام في كل وقت، والمصلح لتخريب آخر في كل لحظة.. شخصية تهرول من نصر إلى نصر، ولكن ليس لتخريب البلاد وإقامة العروش فوق خرائبها.. بل لتحريك المشاعر والملكات الإنسانية.. وإعمار الأرجاء المتهدمة.. وإشعارنا جميعًا بالأذواق الرحيبة لغاية الوجود" .

وواضح أن لفظ "الخراب" "التهدم" جاء من ركائز السياق، تعبيرًا عن مشاعر مهندس يحرّض على خوض معركة البناء. ولا يكتفي كولن بوضع مقاييس الفرد العامل الذي يتأهل للخدمة، بل إنه يعطي مواصفات تخص الجيل أو الأجيال التي تنتظرهم رهانات تحقيق النهضة.

لا يحلم كولن بإيجاد فيالق من أبناء الخدمة فحسب، وإنما حلمه الأسمى أن ينشئ الجموع والجموع من أبطال الفعل، الميامين؛ ذلك لأن الرهان اليوم هو رهان على الانبعاث النوعي الجدير بالتأهل وبقيادة البشر. لقد بات حلم ريادة العالم يقترب منا شيئًا فشيئًا، بعد كل الذي صرنا نراه من تخبط وفوضوية وسفاهة تعم أرباب مدنية العصر الراهن. لقد بتنا -كجماهير- نشعر أن الشوط أوشك أن يتهيأ أمامنا لنقفز، فندركهم، ونضعهم في الصف وراءنا، وقد كان هذا الحلم يسكن أرواح العناصر المتنورة وحدهم، "إذا قَيّمنا الدنيا التي نعيش فيها تقييمًا صحيحًا، وشخَّصنا المتطلبات الأساسية لبناء إنساننا الداخلي.. ما الذي يعيق الأجيال البصيرة عن تقدم الصفوف.. ما دامت ماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات؟" .

وإن دور رجال الفكر في التحضير لهذه الخطوة التي لا بد منها، هو "ضخ النور في الإرادات الأخرى" .

ولا يكون الرجل النهضوي تام الجهوزية النفسية والعقلية، إلا إذا كان استشرافيًّا، يستبق الأحداث، ويتحوط لها، فـ"المسدد هو من يسبق الحوادث ويستشرفها" ، وإن "دور الأجيال المتنورة هو تعديل الأفكار والمعادلات والأنظمة المستوردة"، و"على جيل الضياء.. أن يتقدم إلى المستقبل على خطه الذاتي" ، و"أن يحيط علمًا بشؤون اليوم والغد، وأن يتجاوز بمعرفته معرفتنا، بما يكتشف بواسطة التنقيب والمخبر" ، وأن يتحصن "من نزعات التخريب وميول العبث ودوامات الفوضى" .


مثال الصحابة مرجعية ومعيارًا

قرأ كولن السيرة النبوية برؤية استبطانية، شمولية، ورأى فيها واستخلص أرشتكتور من التساوق القيمي، والتعبدي، الجاهز على الدوام، لصناعة مجتمع المدينة الفاضلة، والإنسان المستخلف.

النهضة بناءٌ وتشييدٌ وإقامة كيان على أسس تنبع من داخل روح الإنسان المسلحة والمجهزة بإسمنت الإيمان. ولا بد أن كولن الذي يجعل من القرآن مرجعيته الحاضرة في وجدانه على الدوام، كان يجد في صورة البنيان المرصوص التي عبَّر بها القرآن عن تماسك صفوف المسلمين، ما يقوّي ويعزز لديه الشعور الذي استقر في نفسه عن فكرة التماسك التي كان المشهد المسجدي؛ حيث يقيم، يرسّخها في عقله ووجدانه.

فليس الكمال إلا تناغمًا يلحم بين عناصر استوفت شرط النبل في ذواتها، فزادها التداعي في ما بينها رونقًا، وجعلها تظهر في كليتها على أجلى وجوه الروعة، شأن ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ ظهرت جماعتهم وجيلهم على باقي الجماعات والأجيال التالية، بأصالة ما قبسوا، مباشرة وعن كثب، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وهج، صهرهم وأحالهم قطعًا ألماسية.

لقد صاغتهم أعمالهم التي شادوا بها صرح الإسلام ومدنيته الفذة، نفائس يزدان بها وجه التاريخ الإنساني. فما أشبههم بالشجرة حين تبرعم بالربيع!

بالانصهار في روح القرآن التي أحالتهم إلى ذهيبات بهية في جدارية التاريخ، اكتسب جيل الأطهار من الصحابة منزلة القدوة والأنموذجية:

"فهؤلاء الصحابة الذين عُجنوا بروح القرآن.. أي أصبحوا من ناحية الروح والمعنى ترجمانًا للقرآن، استطاعوا تحقيق المستحيلات وفتحوا به طرق الخلود أمام الأرواح الميتة.. كسروا الأقفال الموجودة على الأفكار.. وركزوا الأنظار على السر العميق الموجود بين الأوامر التكوينية وبين القواعد الشرعية.. ومحركين وباعثين أصول وأسس القيم الكامنة والنسبية الموجودة في روح الإنسان، لكي يوجهوا الإنسان العادي إلى طريق الإنسان الكامل" .


تماهي الشخصية في المسجد

يتماهى شخص كولن في المسجد فيصير "هو" طفلاً، ويتماهى المسجد فيه فيصير "المسجد" بدوره طفلاً، والقاسم بينهما اليتم.

يُتمُهُ مزدوجٌ بفقدان جدَّيْه من جهة، ثم بإحساسه باليتم من حيث الهوية من جهة ثانية، وفي هذه النقطة كذلك يتواشج مع المسجد، فلقد رأيناه يُنْعِتُ المسجدَ بـ"يتيم العثمانية".

المسجد في مشاعر كولن سلطان نافذ الحكم، حارس للتراث، وضامن للاستمرار، والعلاقة التي تربطه مع المسجد علاقة مشهودة، فهو صاحبه ورفيقه الملازم له على مدى ساعات النهار، يجوبان الساحات، ويذرعان الحارات، وينزلان الأحياء وهما يسيران جنبًا لجنب، أشبه بتِرْبين شبَّا يسلخان المراحل معًا، فهما من ثمة مشاعر واحدة، وروحًا مشتركة، يتقاسمان الخواطر والخلجات؛ إذ بلغا من عمق التمازج ما باتت به أحاسيس الواحد هي أحاسيس الآخر، فهما لذلك يتحاوران بالصمت، ويتناجيان بالنظرة: "المعابد تهمس بوقار ورزانة" . بل إن مقاليد تحرير نفسه هي بيد المسجد: "نرى المعبد كأنه مؤذن يقوم بتحرير مشاعرنا المدفونة في أعماقنا" .

وأعمق ما تكون هذه العلاقة غورًا، حين يختليان إلى بعضهما بعض، هنالك تتشرَّع منافذ القلب بلا تحفظ، وتندلع مكامن الوجدان بكل ما وسعت من فيوض، وينطلق اللسان يعرب عن نشوة التوحد، فما من سر دفين إلا همس المسجد له به في تلك الخلوة التي تجمعهما، "تهمس المعابد أحيانًا في أعماقنا معاني عميقة، وخفية، تشرح بها صدورنا، وتشبع حاجات أرواحنا وخيالاتنا" . يقص عليه المسجد أخباره، ويفضي إليه بمكامن تشيع فيه الأمل وحب التطواف في المجهول "أحيانًا نستمع إلى المعابد بلذة ووجد عميقين، كأنها في جوها النوراني تحثنا على رحلة أبدية، فيلفنا قلق من يهم برحلة غامضة في طريق سري، لا نعرف عنه شيئًا" .. بل إن مواقف النجوى داخل المسجد لتبعث في أعماقه القوة والصلابة والتوثب، بل إن أطوارًا من التجنيح تنفتح في وجهه، فيحيى من ثمة أحوالاً من العشق والإبحار "أحيانًا نحس وكأننا نطوي المسافات في الأرض، وكأننا في سجال معها، وأحيانًا كأننا نذرع السماء، ونصل إلى أحوال خارج الزمان، وخارج المسافات" .

إن مفاعيل روحه الموصولة بالمسجد، هي مصدر هذا النبض العروجي الذي يتاح فيه للقلب أن يُحَلِِّّق في أقاليم الغيب المشرقة؛ حيث تخرج الحياة عن منطق الماقبل والمابعد، وتسري في روح الوجود سكينة تتسرمد الزمنية بها، وتغدو حالاً، هي ذروة الانتشاء التي ينفحنا بها المسجد في سوانح العشق.

فمما رصده كولن من تجربته في هذا الصدد بالذات، قوله: "يشعر الإنسان في المسجد باليوم والأمس، بالأمس وبالأبد معًا وبشكل متداخل، فكأنه يسبح في بحر واسع من فكر العبادة ومنبعها ومعناها" .

ما أكثر ما هيجته موسيقى السماء، وهي ترتفع من المآذن وتؤجج اللواعج في القلوب المتيمة بحب الله. إن وصْلة الأذان هي قمة أخرى نَبلغها في رحلتنا اليومية، ونحن نتعقب خطى الحبيب، ونستروح نسائم نشره. عشق الأذان يلح عليه؛ لأن كُولن رجل سمّاع، وكل قرآني لا بد أن يكون "سَمِّيعًا": "إن نغمة وصوت الأذان عندنا النابع من عواطف وأفكار الموسيقيين السابقين، هو اللسان الخاص لهذه الأمة" .

وإن أول ما طَبعتْنا به بيوتُ العبادة التي تُهيِّئُنا في جوها للآخرة أن جعلتنا نحذق الإصغاء، نتسمَّع تناغيم تكبيرة الإحرام لدى قيام كل صلاة، ونرهف الأذن إلى التلاوة. وما أعجب تلاوة الفجر وقنوته، ونسترق أصداء بعيدة لتراجيع السماء، تلك هي أصداء موسيقى الملكوت، فلأوامر ذي الجلال ونواهيه مواكب من الملائكة، تتنزل بها وتتصعد، والكون كله أهازيج تعظّم السلطان وتسبح بحمده، "كل صوت يرن في آذاننا.. ينشئ قببًا فخمة وعظيمة فوق رؤوسنا" .


البعد المعماري للزمن

"هناك إنسان ينحت الزمن لحسابه، وهناك إنسان ينحته الزمن طوال عمره" .

المواسم بالنسبة لكولن، هي تشكيل فاخر من الفرحة والتقوى، والعزم على التجدد، وترميم معمارية الروح. يُعَدُّ كتابُه "ترانيم روح وأشجان قلب"، سجِلاً للعواطف والتدفقات الشعورية التي تطرأ عليه حين تحل المواسم القدسية، لاسيما شهر رمضان والعيدان.

ومما يتراءى لنا ونحن نقلب صفحات هذا الكتاب، أن روح الداعية تفتأ أجواؤها تتغير كلما هلَّ عليه موسم مقدس، أو وطئ مكانًا مباركًا. فللزمان والمكان سلطان على النفس، لا مهرب منه، ولا مفر.

بهذا السجل الذي جاشت فيه أعماق الداعية روحيًّا وقلبيًّا، وانفتحت على المواسم والفضاءات القدسية، نجد عالمه الداخلي مرصودًا. فمن أول ما نلاحظه أنه لا يعيش هذه المواقيت والأصعدة إلا في جو الحفاوة الصامتة ، أو أنه لا يحييها إلا وهو سابح في بحر التأمل والتدبر واستشعار الأحوال التي تغمره.

المواسم الفضيلة -بالنسبة إليه- زوّار يحلون بساحنا من أقاليم خارج الزمنية، وكل مناسبة قدسية إنما هي يد تمتد إلينا من وراء الزمن، وتخرجنا خارج الزمن. هذا بالضبط هو معنى العيد، أن لا نجدد الزمن، إنما نرحل من مملكته سويعات، إلى خارج حدوده، هناك حيث نعيش "بشرى البداية في ضمن النهاية" .

لرمضان زمنية مقيسة على قامة كل صائم، وللعيدين لون قزحي يرى فيه كل مبصر عشقه من الألوان، وتلك هي معجزة الزمن؛ إذ هو خيمة واحدة تظلنا، وكل منا يعيش أُفقه الخاص به؛ إذ تحتَ سقف تلك الخيمة هناك من يستدفئ بشمس وهاجة، وهناك من يستنير بقمر منير، وهناك من يحيا الليل الداجي، وهناك من يستشرف إشراقة الفجر، وآخر يُشَيِّع بحزن اصفرار الغروب، ولكلٍّ ساعةٌ وميقاتٌ، والنهر واحد، والزمنية قاطرة تقلّنا جميعًا.. هناك الصاعد المتعجل، وهناك النازل المتردد، وهناك المتأهب، وهناك الغافل.

ونجد الحس الأرشتكتوري يرسم الزمنية في مظهرها القدسي (موسم رمضان) ومبناها التشكيلي النمائي (الحركي)، فكولن حين يعرب عن عشقه لرمضان الفضيل، إنما يصور هذا العشق من خلال ابتداع هندسي فضائي: "إن أيام رمضان (...) تكون مركزًا لكل الاهتمامات (...) وعمودًا حلزونيًّا من النور للتسامي.." .

إن الشعرية هنا تمزج بين ذائقة الفضاء (عمودًا)، وبين إحساسية الحركة (حلزونية)، زيادة عن حسية اللّون (النور)؛ لأن المقام حبوري، احتفالي، تجددي.

يعيش كولن العيد بزمنية الماوراء؛ إذ يدرك لذلك الموعد السحري "دقائقه وثوانيه النورانية التي تعدل السنوات" . بل إنه -شأن أهل السر- يرتد بروحه إلى النبع ذاته الذي نفحته منه تلك النسائم والهبَّات، فينشر جناحيه على المشهد كله، ويقبض على شغاف قلبه، يكفكف مدامع من لم تَلُحْ ناحيتَهم لفتةٌ من العيد.

يخرجه الموسم الحافل عن نطاقه؛ إذ يتحول إلى خلق جديد، "ويصبح كأصحاب الأرواح الهائمة فوق المكان وخارجه" .

قد تسنح له المناسبة السعيدة أن يشارك الآخرين فرحتهم، هنالك يستشعر أنه أدى إحسانًا، لكن تفوقه على نسبية الزمن بأبعادها الثلاثة، لا يتم إلا إذا شاد مرصده القلبي، وعاش عالمه الساحر خارج هذا العالم المحدود. بل إنه يتحول إلى معنى العيد نفسه بكل أحاسيسه ووجده ولهفته ومشاعره.

إن العيد بالنسبة إلى كولن هو قبة (أرشتكتور) وارفة، تزرع الحقول بالياسمين؛ إذ "في كل عيد تقريبًا نتخيل وكأن العيد قبة محاكة من النور والألوان والمعاني والروح فوق رؤوسنا، وكأننا نستطيع مشاهدة اللانهاية من النافذة الصغيرة أو الكبيرة (انظروا إلى التداعيات) الموجودة في هذه القبة" .

تسكن كُولن في المسجد مشاعر عروجية، لا تقرُّ في المكان إلا على مقدار تحصيل الامتلاء القلبي، ثم تعاود الارتحال، بل إن كل مشهد في أرشتكتور المسجد، هو جناح يُقِلُّه إلى الفردوس، وكل بقعة هي مهبط للروح، تسكن إليه منهكة، بعد تجنيحها في آفاق التأمل.

للروح في كل يوم رحلة أو أكثر، تحملها من الأين إلى الأين. اليوم موسم، وللروح رحلتها الموسمية، أشبه بالطير، تقطع اليابسة من أقصاها إلى أقصاها، وتجتاز المحيطات من الحافة إلى الحافة، لا تتزود إلا في مضائف يعدها لها الله، ولا تحط إلا في منازل تستهدي إليها بالغريزة، وتنفذ إليه بنور التوكل الذي يعمر صدرها.

المسجد في تلك المواسم النهارية يضحى مصيفًا لمهرجانات وكرنفالات قزحية، وصعيدًا زمرديًّا، تلونه الشميسة ساعة الإشراق، كل شيء من حوله ينضح بالانتعاش.

"في المسجد نشعر كأن أعماقنا امتدت إلى السماء، ونحس بأن فيضًا من الضياء والنور قد نُثر فوق طرقنا وأنفاقنا وممراتنا، ونتوجه إلى بُعد آخر بإيقاع آخر، وكأننا تلقينا أمرًا جديدًا بالتحرك والمشي، في المسجد تدأب الروح على الهجرة من الذات إلى الذات، ومن إقليم إلى إقليم، وعند كل سجدة تترجى الجوارح نيل الرضا والتوبة.. وليست التوبة إلا نوعًا من التعمير والإصلاح في الداخل، نستطيع بدموعنا المسكوبة تعمير وسد كل ثغرة.. في قلوبنا، أحاسيس المسجد تلمسنا فتوقظ الذعر فينا، وكأن العشق والشوق اللذين كانا في غفوة في ركن من أركان القلب.. يستيقظان فجأة عند ذلك تنهمر.. المعاني والأسرار القرآنية وألطافها، وتسقي كل وديان النفس والروح" .

كأن بلدنا على الدوام مثل مراصد على سطح الأرض موجهة إلى الأبدية، وهو بهذه البيوت المباركة يكتسب هيبة كهيبة البحر المتلاطم تلاطم الأمواج، في المسجد أصوات لاهوتية.. تدق أبواب الصدور ومنافذها، في المسجد يصل العاشق إلى عتبة أذواق لدنية أخرى، عند ذلك.. يتنزه في ردهات سحرية لعالم كعالم الأحلام، في المسجد يتم وصول القلب إلى ساحل الإيمان، المعبد بات المثير الذي يوقظ فينا كل حس وذوق.

لا تتجلى الهندسة ولا ينعكس الارشتيكتور في حسه وروحه خطوطًا ودوائر ومنكسرات ومنحنيات ومضلعات، إنما تجسدها أعماقه وبواطنه مشاعر وأذواقًا وصورًا قلبية وفسيفساء إيمانية متلألئة.

إن تجربة مُقام كُولن وإيوائه إلى نافذة المسجد يترجم مطمح المرابطة في الثغر، وحلم الانسياق في رابطة وديوان أهل الذكر؛ بحيث يغدو حجرة في الجدار المحصن للأمة، كما يعني التطلع إلى تحقيق الجبهة القوية التي تستطيع سد الفرج وإقامة الصف المتراص الذي يسد منافذ الريح، ويوصد الأبواب في وجه الهجمات، وملء الثغرات.


كولن وقراءته للمعمار

أربع فعاليات -على الأقل- يترسمها كولن في المعمار، ويتبناها في الارشتيكتور، فالمعمار مجال تنفيذ بامتياز، وصعيد التخليدات الكبرى، ومَجْلى الجمال الفني، ورحاب الإلهامات الروحية والتعبدية.

هناك تواصل وتناغم بين سيكولوجية كولن وبين المعمار، فهي سيكولوجية ذات استبصار أركيولوجي تستوعب الطبقات وخُطا الإمبراطوريات التي عرفتها بلاده، بل إنها سيكولوجية تسبر الزمن، فتتبيَّن في لحن المرتل، وتنغيم المنشد، وتحنان المؤذن، أصداء الماضي ونبرات أهل الفن من آل عثمان، إنها تثمل بهذا الكورال الرباني الذي تصنعه أصوات المؤذنين، والقراء، والذاكرين، والمخطوفين.. إن تأوهات الوجد في حلقات أهل الوجد، تنفذ إلى كيانه في شكل حزم ذهبية؛ لأن المَشْغَل التعبدي يجنح على الدوام بالنفس إلى أن تتحول هي بالذات إلى مُصَلَّى وباحة وصَحْنًا تتأدى فيه مهرجانات الحب.

سنرى شغف كُولن بالعمارة يتوسع ليشمل مساحة أخرى من التذوقات الفنية تعكس هي أيضًا حس التأنق والتزين قد عبر عنها استعاريًّا وتمثليًّا، واستلهمها من حقل المدنية، وتحديدًا من مجال المصنوعات، فقد رأيناه مثلاً يشبّه جمال الآيات القرآنية وتناسق بيانها بالدانتيلا "كل كلمة في القرآن.. مختارة بصورة دقيقة، وكاملة، ومشغولة مثل تطريز الدانتيلا" ، ورأيناه يتحدث عن الخطوط الملونة والحرير والنفائس.. وواضح أن الإحالة في أكثر الأحوال، هي إلى عالم المدينة، فالدانتيلا هي تخريج متفنن في توشية المنسوجات والملبوسات، وكذلك تلوين الخطوط هو من لوازم الثقافة، والثقافة المدنية بالأخص؛ إذ الصباغة ودهن المنازل والقصور نشاط المتمدنين، والأمر نفسه يقال عن المصوغات والأحجار الكريمة.

لا ريب أن للعمارة بُعدًا عشقيًّا في حس كولن وذائقته، من حيث إن العمارة هي صعيد التجليات السامية لقيمة الثبات. بل إنه بما لها من ميزة الديمومة والحضور، أضحت بالنسبة إليه موضوع تَمَاهٍ فيزيكي، فبحكم المعاشرة لا بد أن تنمو في لا شعوره روحية التحدّي كالتي يلهمه إياها صمود العمارة، روحية تجعله يمعن في المقاومة والمرابطة، لاسيما وأنه يسير على طريق الكفاح، وإن من شأن وجدان المكافح أن يستلهم معاني الثبات في كل ما يعرض له، فلا غرو أن يتلقى كولن من المعمار مستلهمات القوة والدوام.

فحياته -بالنظر إلى ما انخرط فيه من عراك- كانت موقوفة على إنجاز مهام التعبئة، من هنا يأتي ذلك الحرص الذي يشدد عليه الأستاذ كولن، حول لزوم صيانة الحياة، مخافة أن يكون رجل الإصلاح صيدًا سهلاً، ومنازلاً بلا جدارة أمام الأعداء. بل لقد رأيناه يؤكد على وجوب أن يتوخَّى المصلح اليقظة في نشاطه، حتى لا يسقط سقوطًا مجانيًّا في الساحة، وأن عليه أن يتسلح بالحذر والوعي، لا حبًّا في الحياة كذلك الحب الدنيوي الجبان الذي يبديه الماديون؛ لأنهم يعيشون بلا أفق ولا احتساب، ولكن بقصد المرابطة لأجل تحقيق الأهداف وانتزاع النصر للقضية.

على ذلك النحو يقوم التفاعل بين العمارة المسجدية وبين من يرابط فيها ويقف العمر على الجهاد. بل إن الشريعة ذاتها، بالنسبة للصالحين هي العمارة الروحية التي يقيم العبد أدوارها، طبقة فطبقة، داخل أعماقه، حتى تكتمل، فيغدو بها -من ثمة- صرحًا شامخًا، وذروة تستشرف منها الأجيال والإنسانية مطالع الفجر، لما تجده في سيرتها من خوارق البطولة، وبواهر البذل.

وإن صورة "البناء - المعمار" التي رأينا خطاب كولن يستدعيها في مساحة من كتاباته، هو إعراب شعوري يصدر عنه الداعية؛ لما يراه في فن العمارة من قدرة على الترميز للهوية الدينية التي هي مركز وجدانه؛ إذ العمارة كينونة ارتفاقية ماثلة في الفضاء، تستجمع خاصيتي الحسن والنفع، وهما خاصيتان تجسدهما العقيدة بامتياز، من هنا كانت الصلة الشعورية قوية بين كولن وبين الأرشتكتور. بل إن صفة الدوام التي ميزت التراث الأرشتكتوري العثماني، وقوة ثباته في وجه حملات الردة، لتستند على مبدأ دوام الحقائق القدسية ذاتها، بما فيها الكعبة أول بيت أُسّس للناس ليعبدوا ربهم بعيدًا عن الشرك والوثنية. ألم ينعت كولن الكعبة بأنها الأصل والمرجع لكل ما ابتكر الإنسان من أنساق المعمار.

على أن العمارة التي يتعشَّقها كولن على نحو راسخ، هي دور العبادة، فهي التي تجسّد مقوم الثبات والمضي على طريق صون الهوية، فلكأن تلك الدور- بمظهرها الشامخ- تعلن تحديها للأعداء، بل وكأنها تنوب عن الأمة المغلوبة على أمرها، فتتولى المساجلة بَدَلَها، والمناضلة على حقها في البقاء والاستمرار والعزة.

إن جامع أياصوفيا الذي رثاه بوقفة دامعة ومتأججة بالحسرات، قد مثل في نظره واقع الأمة حين هيض جناحها، وجردت من روحيتها، وصارت أشبه بالجثمان بلا حراك.

تَنَاجي كولن مع هيكل أياصوفيا، استثار في مشاعره مسلسل العهود والانتماءات التي عرفها ذلك الإنجاز الأرشتكتوري البديع.. الأمم التي تفاعلت معه تأسيسًا وتطويرًا، إهمالاً وصيانة، المسيرة التي قطعها قبل أن ينتهي إلى معسكر الإسلام، يستظل براية محمد -صلى الله عليه وسلم-.. الهيكل الارشيتكتوري الذي راح كولن يجيل النظر فيه، بدا له كتلة صورية بلا حياة؛ إذ الروح هي التي تعطي البدن حيويته، وتعيد النبض إلى أوصاله. طفق كولن يرى في أياصوفيا رمة بالية، (مانكان) يُقْرِفُها دَوْرُ الانحطاط الذي تحترفه، فهي من ثمة مغصوبة، لا خيار لها إلا أن تمضي في عرض لحمها بِذِلّة.

عشق كولن للعمارة، وجذله بها، يستجيب لنداءات قلبية كثيرة، تستوطن روحه، وتستقر في وجدانه، لعل من تلك النداءات أن كولن يقرأ في المعمار معنى الخلود. فالعمائر وإن كانت هياكل عُرضة للهرم، إلا أنها لا تفنى، والقرآن ظل يحيل إلى الآثار العمرانية السحيقة. فهذا التأبي عن الزوال، يكتسب في روح كولن قيمة علوية تتناغم مع روحانيته وإيمانه بدوام وأزلية الروح. فكل مظهر تتحقق فيه معاني الديمومة، هو صعيد تنجذب إليه المشاعر؛ لأنها بفطرتها التوحيدية تنجذب إلى المعاني والدلائل الإيمانية السامية، وتؤثرها، وتسكن إليها، من هنا قامت محبة الأقطاب للطبيعة، لا على أساس أن الطبيعة مسرح خلاب، تهيم النفس في مباهجه ومفاتنه، وتتمرس بالخواطر التخففية فيه وحسب، ولكن أيضًا لأن الطبيعة تشكل لهؤلاء الروحانيين كتابًا، تحمل سطوره إلى قلوبهم نشوة اليقين وعذوبة الصدق.

وكولن يرى في المعمار أيضًا الحقل الذي يكفل تحقيق البعد التطبيقي (والأمة هانت حين فقدت سجية العمل التطبيقي). فالمعمار -من ثمة- مجال تتمازج فيه فلسفة النظر والتخطيط مع مقتضيات الإجراء والتنفيذ ولا تنفكان، وذلك ما يستهويه فيه؛ لأن كولن شخصية عملية نافذة في الواقع الحيوي، فهو لذلك ينجذب إلى الارشيتكتور؛ لأن الأرشتكتور هو فن المشاريع الملموسة والإنجازات المنتهية. ثم إن كولن رجل البرامج المتكاملة، وحقيقة الارشيتكتور أنه العمل الشمولي الذي يستجمع شرط الجمال وشرط المنفعة، فحتى المنشآت الرمزية التخليدية (نصب الحرية، أو تذكار الشهداء..) يتجسد فيها البعد الجمالي والبعد الاستنفاعي؛ لأن المعنى الجمالي في المجال الرمزي هو بُعد استنفاعي بالقوة.

ومشغوفية كولن بالارشيتكتور تتبرر بكون الارشيتكتور يقوم على الصنعة؛ إذ تقتضي التنفيذات المعمارية وجود الموهبة الجمالية، وتقتضي أيضًا توفر قابلية الضبط الرياضي والتدقيق الهندسي التي تجعل العمل وطيدًا، يقاوم التقادم والهزات، أرأيت كولن كيف ينوه بالمتانة؟!

بل إن العمارة فن يستوجب الخبرة الكيماوية والفيزيائية؛ إذ لا مناص من مراعاة شروط دوام المنشأة وصيانتها من عوادي التآكل والتأكسد المفضية إلى الانهيارات. لقد تلازم الدين مع الفن في وجدان كولن، وبات أحدهما يدل على الآخر، بل إن الفن في الإسلام -بحسب كولن- وجد في مجال التنفيذات المسجدية ضالته؛ إذ أضحت العمارة أبرز مضمار تجلياته، "ألم يجعل الفن -وهو يرافق الإيمان- هذه الدنيا معرضًا للجمال بالمعابد الفخمة، وبالمنابر التي تشبه أصابع الشهادة المتوجهة على السماء، وبفن الحفر على أحجار المرمر وبالألوان والتصاميم الجميلة وفنون الخط والتهيب والنقوش الجميلة جمال أجنحة الفراش؟" ، بل لقد رأى كولن أن المنْشَطَ التعبدي ذاته عامل إلهام، وترقيق، وشحذ للذائقة، فالمداومة التعبدية من أهم الكيفيات المساعدة على تربية القابليات النبيلة في النفس، وترقيتها.

يقول كولن: "العبادة نبع فياض مبارك لتقوية نواحي الخير والجمال والصدق في فكر الإنسان، وإكسير سحري يصلح أهواء النفس ونزعاتها الشريرة، فيجعلها شبيهة بالملائكة، والشخص الذي يتوجه إلى هذا النبع، كل يوم عدة مرات، بالفكر والذكر، هو شخص عازم على السير في درب الإنسان الكامل، ويكون قد عثر على الملجأ الذي يحفظه من دسائس الشيطان" .


المسجد وتأثيره على خطاب كولن

لا بد من التأكيد أن في العملية التشبيهية يتلاقى الحس الذاتي بالمعطى الموضوعي؛ إذ التشبيه وكذا الاستعارة وأنواع المجاز الأخرى (أو فن المماثلة) عامة، إنما هو إلباس الطرف الموضوعي في المعادلة الخطابية، لباسًا من نسيج الملَكة التخييلية للذات، فالمشبه (المعطى الموضوعي) نُقَمِّصه ثوبًا تراه الملَكة التعبيرية يناسبه هو المشبه به (المعطى الذاتي).

يمكن القول: إن عملية التشبيه هي توسيم الشرط الموضوعي بسمة الشرط الذاتي، فيغدو المشبه به -من ثمة- هو حالة النفس، وهو القيمة التعبيرية المشتقة من صميم الأنا، أي من الوجدان.

إن وجدان المخاطِب يتجسد حتمًا في عُدته الخطابية التمثيلية، بل يتجسد في مساحة تعبيرية أرحب، منها اللغة عامة، واللغة الأنثروبولوجية خاصة، ودوال التوصيف، والتعيين الحالي، والإخبار، وما إلى ذلك، مما نسميه الاتْباع الجُملي.

ومثلما ترسم اليد لوحةً تكون خطوطها خلجاتٍ تعكس ما يعتمل في النفس من مشاعر، كذلك يعكس المشبه به البعد النفسي والروحي للذات ويعرب عنها، أحيانًا يكون الإعراب سافرًا، وأحيانًا بين بين، وأحيانًا أخرى مموهًا، لكن التنقيب التحليلي الماهر، يستطيع دائمًا أن يستبين حقيقة النفس في الخطاب التشبيهي والمجازي عامة.

وحين شبّه كولن القبة الخضراء (في الحرم المدني) بالحصان المتوثب، "القبة الخضراء وكأنها جواد أصيل وقف على قائمتيه الخلفيتين" ، فإنه من خلال ذلك التشبيه قد عبّر عن شيء واقعي مشهود (القبة) بشيء ذاتي ذهني (الحصان المتوثب)، وإن سبر المادة التشبيهية يبين-كما أسلفنا- زوايا من صميم شخصية القائل.

القبة في وجدان كولن هي العمامة، والعمامة رمز الإسلام وتاجه، وهي أيضًا حوذة محارب يحمل السيف، وهي مظلة تقيه الحر والمطر، وتكفل له العصمة والمنعة..

يمكن أن نتبين علاقة التجانس بين صورة القبة والفرس المتوثب، وبين هذه الصورة التي يتمثلها كولن للمتنسك، حين يصفه في المشهد التالي: "إحدى ساقيه في أفق اللاهوت والأخرى في قطب الناسوت" .ولا ريب أن كولن يتحدث هنا عن نفسه، لكن بصيغة الغائب كما هو دأْبه.

من جهة أخرى نرى التشبيه يأتي أحيانًا على صورة مموهة، فحين يستدعي كولن في خطابه أزمنة وأمكنة قدسية، فهو يوازن بينها وبين حاضره، ويعقد المقابلة، وفي ذلك تعبير تشبيهي مضمر؛ حيث إنه يرى طهره ونصاعته المتحققة أو المنشودة، إنما تجسدها تلك الأزمنة والأمكنة المطوية، وهو من ثمة يجاهد من أجل أن يستصلح من أوضاع راهنه، ليستلحقها بأزمنة وأمكنة الطهر.

وكذلك حين تدُرُّ روحُه باستطرادات التنويه والتمجيد لرجال من السلف؛ فذلك لأنه يرى ذاته فيهم، فهم قدوته، وهم الطراز الذي يبهره بفذاذته، فأولئك البررة حياله هم المشبّه، وهو المشبه به، والعكس أيضًا، إنهم المشبه وهو المشبه به، فالعلاقة دائرية، وكما أن القبة حصان متوثب، كذلك الحصان المتوثب قبة شامخة الإهاب، وحاصل القيمة بينهما هو صاحب الخطاب الذي يستجمع أو يريد أن يستجمع في شخصه صفة الثبات وصفة الدينامية (الدفاع والهجوم).

والأمر نفسه تعكسه مواقف التنويه بالأبطال والبطولة التي تتكرر في خطاب كولن. فالحديث عن البطولة والفروسية يقتضيه جو الرهان الذي يخوضه؛ إذ إن المشروع الذي تصدى له كولن بذاته مشروع استبسال وبطولة، ثم إن في معاودة الإعراب عن الشغف بالبطولة يحقق الحاجة إلى تعزية النفس عما تجده من انهضام؛ نتيجة افتقادها للاحتياط من الكفاءات الباسلة الجديرة بتحمل مسؤولية التغيير ورفع الضيم.

كما أن الحديث عن البطولة هو -من بعض الوجوه- تلقين النفس والجيل قيم الصبر والتماسك؛ ولأن كولن يدرك أن البطولة الفردية غير ذات جدوى إزاء جسامة المشروع الدعوي، فهو لذلك يتغنى بالبطولة الجماعية، ويتوق إليها، ويتلمس مظاهرها في المظان. إن كلامه عن بطولة الصحابة، بل وعن بطولة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، هو توجيهات ذهبية وإيعازات نورانية يبني بها الشخصية الجمعية التي يريدها أن تكون على مستوى همة السلف ورموزه الأبرار.

حين يتردد في الخطاب لفظ "السفوح" "يتنزهون في سفوح الجنة" ، أو حين يتواتر نعت "الأخضر" و"الأزرق" و"اللازرودي" مثلاً، فذلك إنما يجَلِّي شعورًا ذوقيًّا متجذرًا في أغوار النفس، والقراءة المتفحصة وحدها تعطي التفسير المقرِّب لذلك المعطى التعبيري.

لا ريب أن لفظ "السفوح" يعني منحدر الجبل، ومقابله القمة، والسفح موطئ السياحة والتنقل بلا كبير جهد، عكس القمة التي تقتضي المجاهدة والإمعان.. والدلالة النفسية لمرموزية السفح هي الطلاقة والسخاوة، بل السماحة والتمنع، وليس السهولة والتبذل، فكولن ذو عريكة مرمرية كما سنرى، نعومتها لا تعني ليونتها متى تعلق الأمر بالهوية والكرامة الإيمانية.. والقول نفسه توعز به لفظتا اللازورد والأزرق، فهما لونان يتشاكلان صِبْغةً في بعض مستوياتهما، ويحيلان إلى الخلوص والشفافية وقابلية التماهي في أكثر من صورة "الزرقة خضرة في التراث الإسلامي. واللازوردية لون شمولي يمكن أن تتحول إلى سواد، والسواد يطلق على الخضرة، والخضرة من إيعازاتها في خطاب كولن مشهد السفوح"، وواضح أن اصطناع الخطاب لهذين اللونين اصطناعًا انتقائيًّا، يفيد ما للنفس من حاجة إعرابية اقتضت استخدامهما على ذلك النحو الانتقائي المحسوس.

ويمكن القول-من جهة ثانية-: إن الإيعاز الكامن وراء لون الزرقة واللازوردية هو ترجمة "حالية" اعتبارًا لما يميز صميم مسْحة هذا اللون من نبل وأصالة، إنها صفة السماء، والسماء هو مرفق وجودي أولي؛ إذ الكائنات كلها تفتح عينيها على القبة الزرقاء، فلذا كانت الزرقة تجسد في الوجدان الجمعي-أي في اللاشعور الإنساني- المعنى الأولي، البدئي، الرَّحِمي (العتمة والدفء والحياة)، ولا يستشعر الإنسان -منذ النعومة- معنى الجلال والنبل إلا في مشهد السماء وهي تحيط بالكون، وتحضن النظر أنى لاح.

لا ريب أن السماء مثل الماء تقريبًا، وكلاهما ذو غلالة لونية لازوردية، قد جُعِلا مُكْتَنَفًا للكون والبسيطة، فهما منتهى الأفق، وغاية مبلغ المدى التخيلي المجهول، لذلك يخشاهما الإنسان ويجلّهما، ويُصدم بوَطادتهما، ويتعشق سحنتهما المتلونة، الصارخة، التي لا تستمر على حال.

الماء والسماء كلاهما رمز للمطلق، والمطلق مناط همة الصالحين.

من جهة ثالثة نجد كولن يستظهر قانون التناسب الذي يميز مقومات نفس الإنسان ومنازعها. فعوالم النفس بدورها تغدو مجال استقراء كولن، يتبين فيها الطبيعة التساوقية التي تضبط الفكر وتربطه بالسلوك؛ ذلك لأن إدراك كولن للمواقف البشرية يتم أيضًا من زاوية نظر الضبط التناظري والقياس البُعدي (المسافة) والعلاقة السببية بين الأثر وعلته التي اعتاد أن يراها تشرط الوقائع.

يقول كولن: "هناك علاقة تساند وتساوق بين عمل الفرد وسلوكه وبين حياته الجوانية. إن هذا الأسلوب من النظر إلى الأشياء إنما يترجم النزوع الترتيبي والحدس التنظيمي والرؤية التعليلية التي تميز أهل القريحة، فهم يستوعبون المشهد -أي مشهد- من خلال نقاط الترابط التي تلحم بين إحداثياته، فهذا التساوق الذي يحدسونه بين الظاهر والباطن، السبب والنتيجة، الخط وامتداده، هو قانون مطرد اعتادت ملكات التجلية والتمييز أن تستبينه في الظواهر والأشياء والحِراكات، فرؤيتهم فُطرت على أن تستشف في الظاهرة روحها، وفي البنية تصميميها، وفي المجسم شكله ومعماره، وفي السطح زوايا ارتكازه وأرشتيكتوريته".

إن هذا الوازع الأرشتكتوري يكاد أن يشكل مظهر ثبات في الرؤية الوجدانية لكولن، فمُوَلِّدُات التعبير والبلاغة والتمثل والإدراك والاستقراء نزعت بنسبة استخدامية ملموسة نحو حقل العمارة، تستلهمه، وتصطنعه مادة إعرابية وبثية، لذا رأينا قاموسًا مهمًّا يخص قطاع المعمار والتخطيط يروج في كتابات كولن بكيفية متواترة ومفتاحية لا غبار عليها. ويمكن أن نسوق في هذا الصدد التراكيب التالية شاهدًا على هذا الحضور الأرشتكتوري الذي يتميز به خطاب كولن، استخرجناها، عرضًا من بعض سياقات كتاب "ترانيم روح وأشجان قلب":

البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد -القلب عش وخيمة- الصبر ممر ضيق، أنت يا من يبني قصورًا من زجاج وتغرق فيها، تراعي حق الترتيب والتسلسل الموجود بين الحوادث والأشياء، تقوم هذه النسائم، لتوصلنا من خلال المنافذ والممرات الخاصة، في قلوبنا، مناسبة العيد سانحة فذة تجمعنا روحيًّا ومعنويًّا مع طوابير الأجداد، فكأننا نجلس إليهم ونقبل أيديهم (واضح أن الصورة هنا تترسم الامتداد الخطي الزمني)، وهو ما يعبر عنه أيضًا بقوله: "طاوين الزمان الذي نعيشه بأزمنة بعضها في بعض" ؛ حيث جاء التكثيف الزمني يقوي البعد الثالث الذي هو المساحة الفضائية، التجويفية في المعمار. ونجده يعطي الصوت صبغة تفويفية (باروكية) إذ يُلبِس الصوت هوية: نغمة الأذان وصوته.. هو لسان هذه الأمة، فكل من يعش في خيال البرج العاجي لقلبه، سواحل الإيمان في قلوبنا، هذا المكان في الدنيا (الكعبة) امتداد لمكان من وراء الفضاء صُمم بيد القدرة منذ الأزل.

تخطى كولن إلى المسجد بنزوع قد لا يكون واضحًا بالنسبة إليه في تلك المرحلة من فتوَّته، إنما الثابت أن ذلك الترابط مع فضاء الحرم، حقّق له التواصل مع وازع الاشتهاء الجنيني الذي فُطرت عليه النفس، فكل مخلوق -لاسيما الإنسان- يحمل في كيانه جاذبية وحنينًا نحو الجنينية (المرحلة الرحمية)، ولا يزال الآدمي مشدودًا إليها، يعيشها دون شعور في مساحة معتبرة من حياته الغريزية، يعيشها في استعذاب الغفوة، واشتهاء الاسترخاء، وفي وضع التكمّش، وأحوال أخرى في حميمياته؛ إذ يستلذها الإنسان على نحو غامض بداعي الحنين إلى لذة الدفء والاحتماء والاستكفاء، فلا غرابة أن يكون المسجد رحمًا روحيًّا لكولن، يكاد يجد في رحابه وتحت سقفه، كل الرعاية الجنينية الأولى.

لقد عمل النظام الحياتي (الحرمي) على أن يقوي فيه روح التفلت من ذاته الخام. لقد كانت المرحلة المسجدية بالنسبة إليه، معْبرًا بين طوري التلقي والعطاء. بل لقد كانت المرحلة المسجدية جسرًا تمكن كولن من خلاله أن يضع قدمه وبصورة لا رجعة فيها، على سكة التبتل والانخراط السلوكي، أو لنقل وضعها على درب الإصلاح الفاعل، والنهج المغيّر لوجه الحياة التركية جذريًّا.

خلال تلك المرحلة قرر كولن أن يصرف النظر وبصورة قطعية، عن فكرة التأهل والابتناء بالزوج، بعد أن اختار الرهان على البناء الملي. لقد صمّم على التوجه بكامل قواه وقدراته إلى الله. ومنذئذ اصطبغت حياته في سائر منعطفاتها بصبغة الاستغراق الذي تولده في النفس وطأة التقوى والتقشف التنسكي؛ فالشجرة المجاورة للنهر تزدهي في البذخ، وترفُلُ في الميوعة، عكس الشجرة المتفردة في الفيافي، فإنها تعيش التصلب والمجالدة والإمعان في قهر أسباب الفناء.

شحنت فيه الحياة المسجدية روح التركيز، ومعاينة الأشياء من خلال حسّ بنائي، تعبيري؛ إذ لبثت حواسه تقرأ الألوان والتغصينات والزخارف والحفريات وغيرها من أشكال زينة المعمار المسجدي في ترابطها وتناسقها، وكل ذلك كان يروّض النفس والروح على أن تلقط سير الخيوط الواصلة بخفاء بين الإحداثيات.

لقد أضحى كولن ينظر إلى الأشياء والمعاني من خلال مجازية خطاب يشخصن الأفكار، ويجليها في قوالب عينية. "التلال الزمردية" هو عنوان كتاب، فحواه اقتراب روحي وروحاني، أي خوض في تحليل عالم الروح، وإن الدلالة التعيينية التي تكشف عنها صيغته، هي دلالة تصويرية مستوحاة من الطبيعة، فـ"التلال" عنصر من الطبيعة، و"الزمرد" حجر كريم فذ، لا يكاد يُعرَف إلا بالاسم.

وكذلك ينبغي أن تكون الدلالة المتعلقة بالبرزخ وعالم الماوراء؛ إذ إن تجارب الروح تتأبى عن التعيين، ولا يمكن إماطة اللثام عليها إلا مجازًا، من هنا يأتي المجاز الصوفي نفسه بعيد المعقولية، فهو من قبيل بعض تعيينات القرآن الماورائية، وإن الصورة القرآنية •طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ§(الصافات:65) ذاتها، هي صفة غير معقولة لمضمون غير مدرك حسيًّا. ذلك لأن نعت اللامدرك باللامدرك ينتج عنه تعيين لا مدرك، ومع ذلك يغدو الأمر سائغًا، بأن يفترض الذهن الفردي مدلولية تناسب مداركه؛ لأن القضية ما ورائية.

لقد تحدث العرفاني ابن عربي عن الخيال المتصل والخيال المنفصل، وأوضح مستوياتهما في التجلية. وإذا كان عالم الشعر والفن هو مجال التخيل الحسي بامتياز، فالمؤكد أن المقاربات الفكرية حين تتطارح المجردات، وتطرق مجال التأسيس النظري المحض، فلا مناص من أن تتمرس بمطارحاتها ضمن مجال الذهني واللامحسوس، وعندئذ تتوقف الإفصاحية على مدى ما لها من نفاذ روحي، ومن مهارة على استغلال فن المجاز، ومن قدرة على التوصيل.

وإلى جانب نزوع التعيين بالحسي، نرى لدى كولن بُعدًا إعرابيًّا رياضيًّا أيضًا؛ ذلك لأن المعاني التي يطرقها ويتداولها نابعة من حياة التأسي والدقة والإنهاك التي يخوضها، لذا نراه يلتقط المعاني ضمن فكر المساحة والكيل التجسيمي، تحيل عليه معجمية جلية تدور على لسانه وتجري في خطابه وتلون مواجده، من ذلك مثلاً دالّ الدائرة، الأفق، الانحناء، النقطة، التوازن.

وإلى ذلك نرى الواجهة الفيزيكية والأيكولوجية (البيئية ولوحاتها العذبة)، تحضر في خطاب كولن بصورة إعرابية قوية.

ولا يمكن أن نتغاضى عن مدى تأثير جو المحراب في وجدان كولن. وإن من شأن الإثابة إلى الحرم -حين تأخذ صورة إقامة شبه دائمة- أن تمنح النفسَ قدرةً تأملية استغراقية تفرغية (وتفريغية) يستشعرها -في العادة، وعلى نحو أو آخر- العامة من رواد بيوت الله، فكيف لا يجدها في نفسه شاب انشدَّ إلى الإيمان والروحانية منذ النعومة، (بدأ الصلاة دون انقطاع في الخامسة). إن سلخه للأيام والشهور، بل والسنين، وهو مختلٍ، وحيد، تظلله قبة المسجد، وتكنفه سواريه، وتناجيه جدارياته وما عليها من خطوط ورسوم وتشكيلات وتزيينات.. لا بد وأن يترك ذلك كله في الوجدان بصمات ينطبع بها العقل، وتتشكل الملكات، وتبرعم القابليات، فينشأ من ثمة هذا الوازع التعبيري الأرشتكتوري الذي نلمسه يبطن كتابات كولن.

الاستغراق كما هو معروف قد يلابس الروح حتى وهي في غمرة من أجواء الإثارة والتشارك؛ ذلك لأن للروح عالمها الخاص، فهي تخلق من انكفائها على الذات رباطًا تنزله، أو تهيئ معارج تنفذ بها إلى السماء. ليست الخلوة انقطاعًا وتفرغًا وتحررًا من وطأة العلاقات والتواصل فحسب، بل هي كيان قائم، وبيت معمور، وقلعة حامية، لذا كانت لذة الإنسان الناتجة عن جو التبتل والتأمل والذكر، لذة وافرة، فجو الوحدة يمثل بالنسبة إليه صرحًا مشيدًا، وخيمة وطيدة تكنفه، وتضمه إليها في حب. وإن وحدة العاكف، هي حضن الأمومة الذي لا تشبع منه نفس.

كُولن يشقق من حس المعمار مواصفات مرتبطة بالمساحة، والحجم: "لنا مفهوم إحقاق الحق، يتفق مع فكرنا الذاتي الرحبّ"، وأخرى موصولة بالبعد المكاني الثالث الذي يتجلى في جمهرة من الدوال، منها لفظ "السامق" الذي من مرادفاته السمك، والعلو، والارتفاع، والشهوق.. وجميعها تجد مواقعها في خطاب كُولن، من ذلك مثلاً قوله: "رجل الفكر نموذج للشعور بالمسؤولية المجتمعية وهدفه رضا الله، يضحي في سبيل فكره بالنفس والحبيب، وهو في سلوكه طريق السامقين مشدود شدًّا وثيقًا بحسابات الحق" .

الإسلام يضع سِمَتَهُ على الأفذاذ، فينقلبون شخصية واحدة، أشبه بتشاكل الأقواس والسواري، وكل نقوش الزينة المسجدية؛ ذلك لأنهم يتغذون من نفس المصدر، ويردون ذات المورد. ولقد عبّر كولن عن ذلك التواصل العضوي بين الأجيال بما أسماه (قانون التوارث) "الذي غدا بموجبه أبو بكر هو عمر بن عبد العزيز، وصار عليّ روح الغازي، وأبطال بدر، هم أبطال ملازكرد" ، ولا ريب أن في صورة التشاكل التي قرأ بها كولن الأجيال والسلالة المحمدية، من حيث تقاسم أفرادها ورموزها لذات الصبغة القرآنية التي طبعتهم، وجعلتهم يصيرون طرازًا واحدًا من حيث العظمة والطهر، إن هذه الصورة لتوعز بتلك الطبيعة التساوقية التي طالما عهدتها حواسه في حِلية المسجد وأرشتكتوره، والتي تضفي على مجاميع وسلاسل الزينة النقشية والزخرفية سَمْتَها المشترك، وختمها الموحَّد.

من جهة أخرى نرا كُولن وهو يعبر عن مظاهر الاستيلاب الثقافي التي تعم مجتمعاتنا، يسترفد معجم المعمار أيضًا فيستخدم لفظ "السواتر": "والواقع أن مجتمعنا يتحمل في مبناه أكثر من فكر وفهم وفلسفة معًا، لذلك نرى في طريق مغامرتنا الوطنية الخاصة، آثارًا موضعية لفرنسا، وتوقفًا عند الفهوم الألمانية، ومجاراة لنمط الفكر الإنكليزي أحيانًا، واليوم نجد نشوة مع الحرية الأمريكية، وفي كل الأحوال نضغط على السواتر الجانبية لطريقنا الرئيس" .

إنها دعوة إلى إزالة الأحجبة عن عيوننا، لكي نتمكن من الرؤية الفسيحة، فلا نسير راسفين في عُقَدٍ تشرطنا بها ثقافات الآخر ومدنيته المتأزمة، وروح الاستعلاء والاستعباد التي تحكمها.

كُولن يحلل نفسية المؤمنين العاديين، ويعزو متانة سلوكهم إلى ارتباطهم بالجذور العميقة من المعاني. فهم يجسدون التواضع والعزة والإخلاص، وأرواحهم ممتزجة بالحزن والبهجة يمثلون نموذجًا غير موجود في الأمم الأخرى: "في مظهرهم العام ترى.. صفات الأرواح التي نضجت بالقرآن والمتميزة بالحزن والوقار" .

إنه ينوّه باستقامة أهل الإيمان، لاسيما تلك الأوساط العريضة من الشعب التي نشأت ولا حظَّ لها من العلم يرقيها، لكنها ارتقت بما لها من شمائل الأصالة والفطرة، وما انعكس عليها من آداب العبادة، ومن الاحتكاك بمؤسسات الدين. وإن أظهر ما تظهر عليهم تلك الأخلاق الجادة، النبيلة، في المواسم، لاسيما أيام الأعياد، وهو ما يسجله لهم كولن بقوله: "الجدية الساحرة تميز المؤمنين.. في أعيادهم، هؤلاء الناس هم الذين لم يتيسر لهم التعلم والقراءة، ولم يتلقوا تثقيفًا، ولكن ترى عليهم آثارًا غنية من مكتسبات التكايا والزوايا والمدارس الدينية الأهلية والمدارس الرسمية، ويملكون غنًى روحيًّا على الدوام ويصرفون على ضوئه.. حتى كأنهم ليسوا أناسًا عاديين، بل موازين دقيقة تزن كل قيم تاريخنا المجيد" . "نظرتهم جدية في كل شيء، وبنية تفكيرهم متينة في كل مسألة" .


المعمار في الهوية التركية

إن الرقة المجسدة في المآذن العثمانية امتصت جسامة الهيكل الحرمي، ولطّفت كيانه المتكتل، وأشاعت في البنية فخامة من الهارمونيك.

المئذنة تؤدي -في الأصل- وظيفة التسميع والإعلان عن مواعيد العبادة الشرعية، فعلوُّها وظيفي، لكن المئذنة اليوم شخصت في عين الآخر رمز الاعتداء والخرق والمطاولة، من هنا تقوم الدعوة إلى تعديل الأرشتكتور المسجدي في بلاد الغرب، على أمل أن يُستحدَث للمئذنة هوية بتراء، لا ينكسر بعلوها حس الغرور والغطرسة في النفس الأوروبية المتوجسة من الإسلام، لما تضمره هي له من عداء.

مئذنة اليوم في عصر العولمة -الزائفة- شخّصت في عين الآخر الشاهد والدليل على المداهمة. يدخل اليوم الإسلام إلى بلاد الغرب بواسطة الرموز القدسية التي ظلت عقيدة التعصب الديني تناهضها. من ظلال المئذنة تقوم الإشهارية المعاصرة تدعو إلى الإسلام، لذلك تشدّد الصيحات المعادية للإسلام، على ضرورة إدخال تعديل بنيوي في الأرشتكتور المسجدي، وفي صورة المئذنة تحديدًا.

المسجد بأرشتكتوره العثماني (السناني)، ظل يمثل في تركيا الحديثة آخر مظاهر التواصل مع الماضي ومع الأصالة والهوية، وإن تحويل المساجد في تركيا في فترة معينة، ومسجد أياصوفيا الرمز، عن دوره، ليكشف عن مدى التغصص الذي ظل يسببه الأرشتكتور الإسلامي لبعض الأسواط.

كانت المئذنة بامتدادها الشاهق تمثل واجهة للصمود والتحدي، يقرأ فيها الأتراك المسلمون هويتهم المصادَرة، ويستمدون من وقفتها العزاء، ويأملون الثبات من خلال ثباتها وشموخها في المشهد المتداعي الذي تسببت فيه أيديولوجية الردة، وطمّت فيه الكبائر.

سلوك التقوى والتواضع الذي يميز الأتراك يعرب عن معاني الاعتذار، بل يكشف عن مشاعر الاستغفار الجماعي التي تسكن القلوب بنتيجة ما ضاع منهم، من شرف حيازة الراية. الروحية التركية عُرفت بالبسالة. فميزتها بين الأمم هي الحربية والفتوح، وإن الروح التركية لتجد شيئًا من كبريائها متحققًا في أرشتكتور مساجدهم الشماء. إن الانحناءة التي يلقاك بها المسلم التركي هي حفاوة عز، وهي أيضًا سلوك من التواضع المؤصل الذي ترسخ فيهم نتيجة القرون المتوالية التي عاشوها في كنف السيادة وتقلد الصولجان. إنها انحناءة حمد وشكر، بل هي إعلان عن مشاعر القرب والمشاركة الإنسانية الكريمة.. بل إنها انحناءة من صميم العبادة ومن جوهر روح الإسلام التي تصقل في العبد وازع الإذعان للخالق، والإعراب عن ذلك الإذعان الروحي حتى في روابط الفرد مع المخلوقات.

من المآذن ما يُرى وهو في حالة استغراق، سارح في القنوت، ومنها ما يُرى محاورًا للأفق خطيبًا كأنما يستجيش الجيوش، ومنها ما يطرق برأسه، تُطْبِقُ عليه حالةُ خشوع واعتبار، ومنها الجذلى الراقصة، يتملكها الانتشاء، فتتخاصر في حلقة زهو، وتتواثب دوّارة، وتتهادى في حبور.

الرقصة الوجدية التي يديرها أهل الجذب، هي من صميم إلهامات الأرشتكتور الروحي العثماني، (أو العكس؛ إذ الرابطة الهارمونيكية بين المشهدين، رابطة عضوية تجسد وثيق التواصل والتناسب بين المقامين)، وإن الهيئة التي تميز انتصاب الفرقة الدوارة، لتتقمص سمت المآذن، والمآذن نفسها مشهد، هيئة من الرماح المغروزة فوق كثيب الرمل.

في انتصابة المآذن العثمانية إعراب عن الشموخ والسمو والاشْرِئْبَاب الذي للصلاة؛ حيث تعنو الوجوه للحي القيوم.. التراث العشقي صاغته العبقرية التركية في قالب حركي دوار، يحاكي حركة الكون.. إنه تشكيلات أرشتكتورية مفعمة بالدلالات الغيبية، والولاءات القدسية، والمعاني البرزخية، والإيعازات الشعرية.

إن الاصطفاف والاستدارة والتشكل في خطوط نجمية، وفي مضلعات، ومنحنيات، وتموجات، هو جهد تجهيزي، يعمر المكان بالحركة والتناغم. إنه معمار يفصل انسيابية الزمان، وينوّع على صفحتها الخرائط، والتصاميم، والتشكيلات البديعة.

اصطبغ المزاج التركي -وبلا منازع- في مساحة كبرى من خصوصياته، بصبغة الفخامة التي ورثها عن مسيرته الحضارية، ولا بد أن يلمس المتبصر تلك العلاقة التي تجمع بين الحصان والمعمار في الصورة التشبيهية التي ركبتها أدبية كولن.

لقد انخرطت القومية التركية في الإسلام مجاهِدة، فأسهمت فيه بما توطد لها في ماضيها التاريخي من عُدة الفرس، فجاهدت، وضربت في الأرض تعمرها بالإسلام والمدنية، فشادت المسجد وجعلته فخيمًا كفخامة منظومة المعاني التي تمجدها. إذ أورثت معماريةَ المسجد صفاتِها وكبرياءها، فكان هذا البناء الفخيم، الركين، الباسل، الذي لا يلوى له زند.

ورث الأتراك عن العهد الرسالي الأول الجهادية، والجهادية أورثتهم المعمارية وأورثتهم صبغيات المزاج والشمائل والصفات، فمشهد أبي أيوب الأنصاري هو مسجد قبل أن يكون ضريحًا لصحابي استضاء بالنبوءة المحمدية، وبشَّرته بأن يكون فاتحًا لتلك الآفاق، منتميًا لأولئك القبيل، شاهدًا عليهم ومشهودًا من جموعهم.

سيرة التواري التي يعيشها كولن، مسلك ينسجم مع الحبكة الفنية في العمل الزخرفي الأرشتكتوري، فخطوط الرسمة تتولى في مسارها وتغيب وترق قبل أن تستوفي مدارها فتبرز في هيئتها المكتملة.

الهجرة واقعة انسحاب وكمون، تراهن على كسب الظفر، اعتمادًا على ما توفره من طاقة لتحقيق الكَرَّة. إنها غياب يُبيِّت على الرجعة الميمونة، أشبه بأرجوحة، ترتد إليك بمقدار قوة القذف..

إنها محطة بثٍّ، ونقطة ابتداء لمنتهى تنغلق به الدائرة وينفسح الأفق.

تكون الهجرة بالروح وبالتوق وبالحال، إنها الأفق الذي نسعى إلى بلوغه بتجندنا وجدارتنا.

وإذا تأملنا في تسمية كولن لكتابه "التلال الزمردية" نرى أن الصورة تحيل إلى التشكيل الأرشتكتوري الذي ميز أشهر مساجد تركيا، إن هيئة التل تطبعها الاستدارة والتقوس، وإن تكتل القباب وتفاوت أجرامها، وتناسل بعضها من بعض هو ألواح ومشاهد لتلال ورُبى وذرى تشابكت بالأيدي، وتلاحمت بالنحور، وأسفرت عن تركيب من الالتفافات المتشاكلة في خطوطها، المتساندة في انتصابها، كأنها البنيان المرصوص. بين تسمية "الجامع الأزرق" والعنوان "التلال الزمردية"، قرابة ونسب في الدلالة؛ إذ إن الجامع جمع في سَمْتِه ولونه ونُصْبته بعض ما تحيل إليه إيحاءات العنوان. فللجامع قباب امتدت على كاهله في تدرج، وتلونت -في حسّ من ينظر إليها- بلون السماء اللازورد.. ولا ريب أن كولن، وهو يرتجل العنوان، قد استلهم -من جملة ما استلهم- البيئة الروحية، ومرصودها الأرشتكتوري الزاخر، فكانت هذه التسمية التي أوحت بالعذرية والنفاسة والصيانة، إذ موطن التلال الأصل، هو الريف الأخضر، أما موضع الزمرد فالصونُ والمكْنونية.

ولحمة كولن بالجامع لحمة عضوية راسخة، وإنك لَتَتَمَحَّصُ سيرتَه، فإذا المسجد يحتل الموقع الأول في ترتيب معالمها، حتى ليمكنك أن تفترض أن المسجد كان هو البطل الرئيس والشخصية المركزية ضمن شبكة الطواقم والفواعل والعناصر التي شكَّلت ملحمة حياة الداعية، وإن أبرز المنعطفات التي حددت خط سير حياة كولن، كانت دائمًا تحدث وهي موصولة بالمسجد، وإن أقرب ما يمكن استدعاؤه إلى الذهن، واقعةُ تلك البكائية التي اشتهر بها، والتي سجلت تحولاً جذريًّا في حياته.. لقد حصلت تلك الواقعة الانتحابية على المنبر، وتحت سقف المسجد، وشاء لها القدر أن تَذيع وتَشيع؛ إذ هيَّأ لها من سجَّلها، ونقلها بالصورة، فأمكنها بذلك التوفيق الإعلامي أن تطوف في الآفاق، فيشهدها المسلمون من مختلف الديار، وتكون -وستظل- لكثير منهم مادة توجيه وتأثير وحسم في الخيار.

ليس مسلك البكاء بالأمر الغريب على المسلم، وكل متخشع مهيّأٌ -لا محالة- لأن يطفر من عينيه الدمع ما أن يَلمس قلبَه وخزُ موعظةٍ قرآنية أو ترشه منبهة سنية أو مرققة سلفية، بل إن روحية الإسلام لتتميز بهذه السجية النفاذة التي يورثها الدين للمسلم فيغدو بها رهيف المشاعر، مستصفى القلب من الغلظة والجفاء.. وطالما نُعِتَ غيرُ المسلم بالجفاء لعدم تَهيؤ سيكولوجيته للتخشع، ولا ريب أن البعد عن الدين يورث الغلظة المعنوية، يستوي في ذلك المسلم وغيره..

ولا شك أن ارتياد الجموع من المسلمين المساجد يوميًّا يترك أثره عليهم، من حيث طبع الروحية المسلمة بوازع الخشية والاعتبار، ويهيئها للرقة، بحيث يغدو بكاء المسلم عنوانًا على تلك الرقة التي يفترض أن تكون عامة في أهل الخشوع؛ ذلك لأن بيداغوجية المسجد تنشئ -حتمًا- في السيكولوجية وازع الاتعاظ، وإن تفاوتت القابليات. من هنا لا غرابة أن نشاهد في أهل التدين استعدادًا عامًّا للرقة، ولا غرابة والحال هذه، أن نرى أهل النسك يدمعون لأبسط المثيرات وأخف المُحسِّسات، ويكون الدمع بالقلب في أكثر الأحوال.

وإذا كانت نفسية كولن - كما تؤكد سيرته- قد هيّئت للبكاء، بحيث يتملكه النشيج في موقف الوعظ، وتنتابه الشهقة في مقام الصلاة، وتلح عليه العبرات في مواطن أخرى شتى، فلقد شاء له قدره أن يشتهر بواقعة بكائية تخترق الآفاق، تفجرت بها أعماقه وهو على المحراب. لقد كانت حادثة انفعالية عادية، لبثت يعيشها ويعرفه بها أفراد محيطه، لكنها وهي تحصل في ذلك الموقع، في تلك الملابسة، وبذلك التفجر والعلانية، فقد ارتقت إلى مستوى تحولي في مساره، وإلى معْلَمٍ مركزي في حياته، بالنظر إلى ما استتبعها من تجدد في العمل الدعوي، وسداد في الجهد الإحيائي.

لا ريب أن ظلال المكان القدسية قد أسهمت في طبع تلك العبرات الذبيحة بطابع استثنائي نادرًا ما وقف عليه الناس في مسلك الرجال. ومن المؤكد أن الشرط الإعلامي الذي تأتّى للواقعة قد رسخ الصبغة الدرامية، وأعطاها البعد التأثيري الجماهيري، الباهر. فالمسجد قد عبأ ذلك الحدث -العادي- بمشحونات روحية وسيكولوجية أخرجته من طبيعته الاعتيادية، وجعلته يغدو حدثًا فارقًا على صعيد حياة الداعية والدعوة، لقد صنعت تلك الدموع المذروفة تحت أعين المصلين، فتحًا مبينًا، انعطف بالمهمة الإصلاحية إلى مضمار الفاعلية والنجاعة، بعد أن ظلت -في مساحة كبرى منها- حبيسة المشاعر والعواطف والتمنيات. لقد هيّأت الكاميرا للمتلقي مادة احتوائية على صعيد التبليغ والتأثير التوصيلي.. هناك حدث درامي عاشه المصلون؛ إذ واجه الإمام مأموميه فجأة، ومن غير ما توقع، بما هز كيانهم من الأسس.

المسجد في ذلك القاطع التاريخي كان محطة انطلاق نوعي جديد. وكولن قبل البكائية ليس هو كولن بعد البكائية. المسجد ذاته هو الذي بكى. كان كولن مئذنة خامسة يتلوى نحيبها في الآفاق، بل كانت نداءاته وتفجعاته طائفة أخرى من الأقواس المحدبة، والخطوط المنكسرة، والزوايا الساهمة التي انضافت إلى فضاء المسجد، وعمَّقت من فجائعيته.

حين يكون المعمار ركنًا من رؤية روحية، تغدو مفاعيل الفن والابتكار أرجح في ميزان الهوية وتأكيد المماهاة.

وحشة الفضاء وإطباق السكون داخل المسجد، يعكس الوحشة الحضارية التي أطبقت على الأمة، ولم يهيأ المسجد إلا ليكون رحابًا عاجًّا بحركة الدرس والخلق والتجدد..إنه "نادٍ" مفتوح على مختلف الأعمار من الجنسين.

حس الرهان على تعمير المسجد، وتنشيط المنبر، وملء الفراغ الذي عليه الأرجاء، حالة عاشها كولن بصورة متواصلة، لاسيما بعدما آوى إلى الكهف. إن الرحابة والفخامة التي يترامى بها المبنى، جعلها الهجران والعطلة والانحباس الروحي تتكمش وتتقبض وتتشح بالحداد.

منظر التشابك والتآزر والامّحاء الذي عليه السواري والتقويسات، يوجّه الحس إلى قراءة أفكار أبعد من الوضع المخروطي الذي تنتصب عليه، إن الحس الذي يمضي متتبعًا التظفيرات والتعريشات والتضليعات، سرعان ما يرى في علاقة التماسك والتشابك معاني وأحوالاً أبعد وأنفس، وفي الوسع التطلع إليها.

من مطالعة جغرافية القباب والزوايا والقوائم والتجديلات لبث كولن يستقرئ قانون عمران النفوس، ويستكشف نظريات التجييش والخدمة.

من تعاقد الأواصر بين الفقرات والمساحات والأحجام المعمارية يستجلي كولن قاعدة إرساء دعائم التآزر والامّحاء بين الناس.

على منوال ترابط منظومة السواري والأقواس، وتشكل المعمار المنتصب حياله، كان كولن يستشرف الكيفيات التوجيهية السديدة التي تحقّق صرح الخدمة.

للخدمة أرشتكتور، تترجمه الأفعال والمنجزات والتضحية على أرضية الواقع، وتترجمه كذلك هذه الهارمونيك الجذلى التي يجدها الطلائع من أهل البذل، وهم يقودون صفوف المنخرطين، وألوية المستكتبين، وفيالق المساندين.

السليمانية هي عاكف، ويحيى، وسنان، بل هي كولن، بل هي إلياذة آل عثمان والشرق المسلم، كتبت بشعر أرشتكتوري فاق شعر هومير. الأرشتكتور فن مركب يحوز كل ما للشعر من إفصاحات، لكن فنيته تتفوق بإفصاحيتها على الشعر.

الصومعة شموخ يعكس الواحدية، والقبة انحناء في كل اتجاه، يستجمع معاني الحضور، •فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ§(البقرة:115).

في الأرشتكتور أدرك كولن كيف أن الخط قادر على أن يكون بُعدًا في صورة، ولونًا في منشور، وهيئة في اشتباك زخرفي، وكتابة تفصح، وخطابًا يجلّي المطلق. الأرشتكتور جمال يقاوم في صمت، فهو المنجز الذي لا يفنى، والتحدي الذي لا يطاوله مطاول. الأرشتكتور فن يثأر لنفسه عبر تلاحق الجولات، وينتزع النصر، ولا تخزيه العثرات.

المكون الثقافي مثل المكون الطبيعي والتضاريسي والجغرافي يشكّل مزاج الأفراد المنتمين إلى وطن واحد، يظهر ذلك على صورة قواسم نزوعية وذوقية تتجسد في هيئاتهم واستجابتهم وطرق تفكيرهم.. ومن المؤكد أن الأزياء التقليدية عاكس عضوي لكثير من الخصوصيات المزاجية والقيمية للأقوام والمجتمعات.

لا ريب أن بلاد الأناضول التي تترامى على قارتين هي من أجمل بلاد العالم، ومن المؤكد أن التأهيل السياحي الذي تعرفه اليوم حواضر تركيا، يعود إلى هذا الثراء في الحسن والسحر الذي يميزها.

وإذا أردنا أن نتبين هذا التميز الذي يطبعها، فإننا نجده يتجسد في البعد المعماري الأرشتكتوري الذي تحفل به المدن والقصبات التركية، فالثابت أن منظومة النفائس التركية تتشكل من قطاع المساجد العثمانية التي ورثتها تركيا المعاصرة عن عهود الخلافة وعزة سلاطين الإسلام.. وقد شكّل هذا الرصيد الفني التراثي واجهة الإبداع الأبرز في رسم الهوية التركية المعاصرة، وتسويقها إلى العالم.

يشكّل معيار الخراب حكمًا قيمة في ذهن الأستاذ كولن، والخراب ليس مظهرًا انحطاطيًّا يدل على توقف عجلة العمران، وتردي العبقريات فحسب، إنما للخراب في ذهن كولن بُعد استبدادي؛ لأن الشعب الذي يرتهنه الاحتباس الحضاري، ويوطن مواجده على الرثاثة والدمار، هو شعب له قابلية الخنوع والانسياق للاستبداد العسكري، والانقلابات المدمرة للشرف: "البلدان التي تسود فيها الحيلة والسرقة والكذب والافتراء، ينتشر فيها الخراب، وأهالي هذه البلدان فقراء، وجنودها ميالون للانقلابات العسكرية" . ولا شك أن هذه الرؤية يستخلصها كولن من صميم ما عاشته تركيا المعاصرة في كنف الهيمنة اللائكية والتطرف اليميني الملحد. بل إنها حال الأمة قاطبة، وذاك هو ما يعيقها عن الإقلاع.


القرآن والتفاعل المعماري

ولا بد أن الخلفية الروحية المتأثرة بالقرآن وعوالمه وأخباره، قد هيَّأت كولن لأن يتفتح وجدانيًّا على عالم المعمار؛ إذ لبثت الآيات القرآنية تحيل إلى التاريخ القديم وإلى أخبار الأمم الهالكة، وتلفت الأنظار إلى بقاياها الأركيولوجية والأثرية كما احتفظت بها الأرض، إن خبر الخضر مع الجدار الذي قام بهدمه صونًا لكنز اليتيمين، من أعجب القصص التي يتأثر الناشئ القرآني بها؛ لإعجازية مدلولها، وكذا خبر بلقيس في تلك الواقعة السردية القرآنية العجائبية، ونقلها ونقل صرحها من بلاد اليمن إلى فلسطين، إلى ما هنالك من المسارد والشواهد التي جعل القرآن فيها موضوع البناء والمعمار إطارًا لبثّ الموعظة ودروس اعتبار.

ولا ريب أن من شأن ذلك التسديد نحو تاريخ الأمم والحضارات، والتبصير بمصائرهم، والتحريض على الوقوف على مواطنهم وبقايا ما خلَّفوا وراءهم من آثار، أن ينشئ في نفسية المسلم استعدادًا يجعله يحيى على تواصل (شعوري ولا شعوري) مع التاريخ والأركيولوجيا والمعمار، ومع كل ما يمت إلى الذاكرة الأرشتكتورية بصلة.

بل إن القرآن، خطابية وتقاسيمات سورا وآيات، وتساويق بيانية رشيقة ومزخرفة، وهو يمثل بهذه الصفات نموذجًا بالغ الحسن من المعمار.

نحتم هذا الفصل بكلمات مشحونة للأستاذ كُولن: "كان الإسلام وما يزال يحتضن حياتنا وحاجاتنا وهياج مشاعرنا، بحيث إننا وجدناه قريبًا منا في وطننا وجغرافيتنا ومدننا وبيوتنا إلى درجة أن كثيرًا من حركاتنا وتصرفاتنا وفعالياتنا تكاد تصطبغ بشيء كثير من ألوانه، فصبغته في سلوكياتنا وأعضائنا ومدّه وجزره في أذهاننا، وصوته ونفسه في قلوبنا، وآثاره على وجوهنا، وثفناته في رُكَبنا، وفواصله المريحة لنا إبان تعبنا، وإلهاماته الداعية إلى التفكر إبان راحتنا.. كل هذا ربطنا به من أعماقنا.. حتى لو أنه تخلى عنا يومًا.. فأظن أننا سنهلك همًّا وغمًّا وكمدًا" .