تمهيد

"أفضل الرجال مَن لا تَضيق به الأمور، ولا تمحِّكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلَّة، ولا يحصر مِن الفيء إلى الحقِّ إذا عرفه، ولا تُشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهمٍ دون أقصاه،... أوقفُهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلُّهم تبرُّما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشُّف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم... ممَّن لا يزدهيه إثراء، ولا يستمليه إغراء... وأولئك قليل" (الإمام علي كرَّم الله وجهه، بتصرُّف)

تمهيد

"البراديم كولن" هو مصطلح جديد، له قدرة تفسيرية عالية، ذلك أنَّه يساعدنا في الخروج من الثنائيات الاختزالية: الأستاذُ والأتباع، القمَّة والقاعدة، التخطيط والتنفيذ... ويحلُّ بديلا عن هذه الثنائيات صورا شاملة كونيَّة مركَّبة، تلج إلى النصوص بعمق، وتستنطق المؤسَّسات بروية، وتتخطَّى السرد الزمني النمطي؛ فمشروع "كولن" -في تقدير هـذا البحث- ليس مشروعا كلاسيكيا تقليديا معتادًا، ولذا يكون من الظلم حشره في هذه الخانة وضمن هذا الإطار، ويستحيل فهمُه من هذا المنطلق وبهذه المقدِّمة.

"البراديم كولن" ليس مفهوما مرادفا "للأستاذ كولن" بشخصه وفكره، وبخصوصياته وميزاته؛ لكنَّه يرمز إلى الصيغة المركَّبة بين "فكر الأستاذ" و"مشاريع الأستاذ"، بين "النموذج النظري" و"تطبيق النموذج فعليًّا" فالأستاذ كولن في هذا البراديم هو المحور طبعا، وهو القلب، وهو المحرِّك؛ غير أنه ليس الدائرةَ كلَّها، ولا الجسدَ جميعَه، ولا الآلةَ برمَّتها... هكذا كان، وهكذا ينبغي أن يُعرف ويعرَّف.

"البراديم كولن" ينبِّه إلى حقيقة عميقة، وهي أنَّ الأستاذ في مسيرته وكتاباته وتوجيهاته، لم يكن يرسم التفاصيل ويصوِّر الجزئيات واحدةً واحدةً، ولم يكن يُدافع عن تراتبيـَّة قاتلةٍ لمعنى الحياة ولمدلول الإنسان، شأنَ بعض التجارب الحركية التي تصنع قوالب بشرية متشابهة، متنكِّرة لذاتية الإنسان ولخصوصياته، وضاربة عرض الحائط اختلاف البيئات والأنساق الاجتماعية والفكرية والحضارية؛ فالأستاذ كان بمثابة "المرشد"، و"الموجِّه"، و"المنبه"، و"الراسم للخطوط العريضة"، تاركا كلَّ إنسان يُعمل عقله التوليديَّ، ويبدع في فهم النصوص بمراميها ومقاصدها، ويتفنَّن في تطبيق ذلك على واقع الحياة، حسب تخصُّصه، ومداركه، وطاقته... ولهذا، وبسببه، تحوَّلت كلمات قليلة -نسبيا- إلى مؤسَّسات لا تُعدُّ ولا تحصى، ولا تزال تولد كلَّ يوم، في كلِّ مكان، وبكلِّ شكل، في سلسلة رياضية متسارعة.

ولقد ساعد العمق الفكري، وشمولية النظرة، والقدرة البلاغية... الأستاذَ على تخطي عقبة الاختزال والنمطيَّة والتجزيئيَّة؛ فكلُّ نصوصه التي قرأتُها بالعربية، وبخاصَّة مقالات "ترانيم روح"، و"نحن نقيم صرح الروح"، و"مقدمات حراء"، وكتاب "النور الخالد"... لا تُقرأ قراءة واحدة، ولا تموت عند دلالة فريدة ومعنى يتيم، بل هي حاملة لشحنة من "النماذج"، و"الرؤى الكونية"، التي هي بمثابة الخميرة، والرمز، واللبِّ...

فعوض أن يعتني الباحث بسرد النصوص، وبتتبع الجزئيات، وبالوصف العشوائي، كان لزاما عليه أن يسبِر أغوار "الفكر"، ويقرأ بين ثنايا السطور، ويحلِّل المشاريع والمؤسَّسات، ويستمع إلى الأفراد والجماعات... المصنَّفة ضمن "البراديم كولن" ليستخرج جملة من الإجابات على سؤال واحد هو: كيف استطاع الأستاذ كولن أن يحوِّل فكره إلى فعل؟

والغرض من "البراديم كولن"، هو توجيه الفكر الإسلاميِّ في العالم العربي بالخصوص، وتنبيهُه إلى أبرز مميزات تجربة "كولن"، والدفاع عن كونها تجربة بنائية شمولية حضارية متكاملة، قادرة على تجاوز المطبَّات التي وقع ويقع فيها الفكر الإسلاميُّ المعاصر، من مثل: الحَرْفية، والإقصائية، والتجزيئية، واللافاعلية، والادعائية... الخ. والهدف هو التحرُّر من "المستحيل" إلى "الممكن"، من "المثال التاريخي التعجيزي" إلى "النموذج الواقعي البشري"...

ويمكن تلخيص أهداف هذه الدراسة في النقاط الآتية:

1- مواصلة البحث في فكر الأستاذ، من مدخل المنظومة المعرفية الرشيدة، التي تركِّز على مرحلة ما بعد المعرفة.

2- إعطاء هذه التجربة حقَّها ومستحقَّها، عوض الاكتفاء بالوصف والإشادة، ذلك أنها -في تقديري- تجربةٌ قابلة للتعميم والانتشار في البلاد الإسلامية قاطبة، بل وفي سائر بلاد العالم المعاصر؛ فمِن الخطأ أن نحشرها في إطار محليٍّ وطنيٍّ واحد: تركيا، رغم أهمية هذا الإطار.

3- فتح الباب أمامَ باحثين آخرين، بطرح إشكالات جديدة، واقتراح مواضيع جديرة، من مداخل مختلفة، مثل: التاريخ، والفكر، ونظرية المعرفة، وعلوم التربية، والدعوة... الخ.

4- اكتشاف المفاهيم والنظريات، والمناهج والآليات، والمراحل والخطوات، والوسائل والتقنيات، والعراقيل والمعيقات... التي رسمت خطَّ المسير والمصير في فكر الأستاذ كولن، سواء من خلال ما كَتب، أو ما كتِب عنه، أو من خلال شهادات الأقران والأبناء والصحبة، أو من خلال المشاريع والمؤسسات والمنجزات.

5- الاستفادة من التجربة في الحقل المعرفي والحضاري الذي أمارس فيه العمل (ابتداء من المدارس العلمية، ومعهد المناهج، والدوائر الأخرى التي أعمل ضمنها في العالمين العربي والإسلامي)، مع مراعاة الحال والمآل، واعتبار الفروق والبيئة والمرحلة.

*  *  *

ولقد نحوتُ في بداية هذا البحث إلى الشكل المنهجيِّ الأكاديميِّ العميق، فخطَّطتُ لمشروع موسوعيٍّ تحليليٍّ قد يستغرق عدَّة أجزاء، لكنَّه مع ذلك سيستهلك سنواتٍ من العمل الجادِّ المتفرِّغ؛ وهو أمر لا يتسنى لي في هذه المرحلة الراهنة، من جهة. ومن جهة ثانية، لا يحقِّق الغرض الذي أصبو إليه من هذه الدراسة؛ ولذا فضَّلتُ -في الأخير- شكلَ المقالات الحدسية الوجدانية التحليلية العفوية، ذلك أنَّها تولَد من ثنايا التأمُّل، وتستجمع الأطراف المتباعدة بين الفكرة والكلمة والمؤسَّسة... أي بين ما ولد في فكر الأستاذ -ابتداء- وما تحوَّل إلى إنجاز حضاريٍّ لدى جماعة الخدمة -انتهاء-.

وإني لأدافع عن فكرة تفريغ ثلَّة من الباحثين الجادِّين، من تركيا ومن مختلف البلاد الإسلامية والعربية، للتفكير في مشروع موسوعيٍّ تكامليٍّ، يحوي مختلف الطاقات، ويلج إلى التجربة من باب التخصُّصات المتعددة، أي ما أسمِّية بـ"المطيافية"، معتبرا في ذلك توزُّع المواهب والهبات بين الكتَّاب، وبين الفنون، وبين اللغات... فالمطلق ليس من سمات العمل البشريٍّ، والكمال ليس من خصائص الفعل الإنسانيٍّ.

ولقد ساعدني، في تحقيق الغرض من هذه الدراسة، التفرُّغ في إستانبول لصائفة كاملة، بعناية خاصَّة من مؤسَّستي "برج"، و"الأكاديميا"؛ وإني لأسجِّل فضل الإخوة والأساتذة: مصطفى أوزجان، وحميد أولكون، وجمال ترك، ونوزد صواش، وأنس أَرْكَنه، وأجير إيشيوك... وآخرين، ممَّن لم يأل جهدا في إفادتي بكلِّ ما يخدم الهدف، وبجميع ما ييسِّر بحثي. فجزاهم الله تعالى خير الجزاء، ولا أجد أكثر من الدعاء لهم بالقبول والتوفيق والرضا، من الله العليِّ الكريم، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. سبحانه وهو القائل: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(الأعراف:56).

ولا يعني التركيز على التحليليِّ الموجز أن نؤول إلى التبسيط المخلِّ، ولا إلى الاختزال الظالم، ومن ثمَّ كان لزاما علينا شرح خطر القراءة الاختزالية "للبراديم كولن"، شرحا موجزا.

القراءة الوصفية، وخطر الاختزال:

عندما يتعرَّض قارئ لنص أدبي يجد نفسه أمام سيل من القراءات، التي لا آخر لها، لكنَّ الأمر يتعقَّد عند قراءة فكر شمولي أو مشروع حضاريٍّ من مثل تجربة كولن؛ ومن ثمَّ فإنَّ الكثير من هذه القراءات لا تتجاوز مرحلة الوصف،  ثم تقفز مباشرة إلى الأحكام العامَّة، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، وتختزل المقدِّمات لتستعجل النتائج، فتنتهي بنظرة تبسيطية تسطيحية عقيمة.

والقراءة الاختزالية تسطِّح النصوص والوقائع، وتنفي عنها صفة التركيب، كما تنفي عن صاحبها مَلكة الإبداع والتوليد، وتجرِّده عن محيطه وبيئته ومجتمعه، كأنَّه ببغاء في سرب الببغاوات، لا شخصية له، ولا خصوصية، ولا ذاتية، ولا تاريخا، ولا معتقدا، ولا ذوقا، ولا قبولا ولا رفضا...

يعرِّف عبد الوهاب المسيري النموذج الاختزالي بأنـه "النموذج الذي يختزل الواقع إلى عدَّة عناصر بسيطة، مستبعداً كثيراً من العناصر والأبعاد مصدر تركيبية الظاهرة (وخصوصاً العناصر الإنسانية المركَّبة). ويتجه هذا النموذج نحو تفسير كلِّ الظواهر (الطبيعية المادية والإنسانية) في يقين كامل وبطريقة شاملـة تبسـيطية بالغة من خلال سبب واحد أو عدة أسباب" (موسوعة اليهود، نسخة رقمية، مادة نموذج اختزالي).

ومن عيوب هذا النموذج أنـَّه دوغماتي، ينتهي إلى اعتقادات راسخة ثابتة لا تتغير، ولا تناقَش، كأنـَّه عقيدة قطعيَّة مطلقة، وبالتالي فهي لا تدَع مجالا للإمكان، ولا للصِّفة البشرية، ولا للنسبية، وإنما هي أقرب إلى الاستحالة، والتأليه، والتعميم.

والنموذج الاختزالي نموذج غبيٌّ وكسول، لا يبذل جهدا في التنقيب عن العلاقات، ولا في سبر أغوار الحقيقة، ولا يستنطق جميع العناصر بتوأدة وذكاء، لكنـَّه ينثر المعلومات والتفسيرات كما تنثر حبات القمح على الأرض فرُطا، لا يجمع بينها جامع، ولا يوحِّد بينها موحِّد؛ والنتيجة هي تشتيت الذهن، ودفعه إلى الاسترخاء، وبعثه على الانبهار أو التنكر، وإلى القبول المطلق أو الرفض المطلق، بلا تمييز ولا تدقيق.

وكلُّ هذه النهايات لا تعنينا في بحثنا هذا...