نفحات روحية تهبّ من تلال تركية: في مقامات الإخلاص والصبر والرضا والمحبة
مؤلف كتاب "التلال الزمردية" الأستاذ محمد فتح الله كولن، الذي نواصل رحلتنا الروحية معه، "قرأ لعمالقة التصوف الكبار، من عرب وفرس وترك، وكان له من وجدانه الشاعري، وحسه المرهف، خير مِعْوَان على ذلك، فشرب من الكأس نفسها التي شربوا منها، وخاض البحار نفسها التي خاضوها، وعانى ما عانوا، وَوجَدَ مثل وجدهم، واتقدتْ شمعةُ المحبة في قلبه كما اتقدت في قلوبهم، وسكب الغزير من الدموع كما سكبوا، وأنَّ، وحنَّ، وفاض وَجْدهُ، والْتهب شوقه، وعلا نشيجُه، واحترق قلبه، إلاَّ أنه ظل ممسكًا بميزان الشريعة ليفرق بين مقبولها ومرفوضها".
هكذا يقدم الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ، مؤلفَ هذا الكتاب القيّم إلى القارئ العربي، بهذه العبارات المؤثرة المبللة بندى الحب والمضمخة بعطر الشوق وبطيب الوجد الصوفي، ناقلاً عن المؤلف قوله الفصل الذي يحدد معالم الطريق إلى الله على هدي القرآن والسنة: "ففي أمثال هذه المواقف، فالحذر واليقظة وموازين السنة النبوية هي الأساس. أما رجال الحق الذين غلب عليهم الحالُ وهم مخمورون بحظوظ المشاهدة، فقد يتلفظون بأمور مخالفة لهذه الحقيقة. ففي أمثال هذه المواقف، ينبغي البحث بإنصاف عن نياتهم وعدم الاستعجال في إصدار الحكم عليهم".
ويتبدَّى لنا هذا المسلك في شرح المؤلف لمقام الإخلاص، فيقول: "الإخلاص وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوبَ الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيرًا، والضحل عميقًا، والعبادات والطاعات المحدودة غيرَ محدودة، حتى يستطيع الإنسان بوساطتها أن يطلب أغلى ما في سوق الدنيا والآخرة، ويتمكن بفضلها أن يقابل بالاحترام والتوقير رغم كثرة الطالبين". وينقل محمد فتح الله كولن كلامًا جميلاً لأبي يزيد البسطامي يعمق الشرح الذي أتى به: "لقد بذلتُ ما بوسعي، فعبدت الله ثلاثين سنة، ثم سمعت هاتفاً يقول: «يا أبا يزيد إن خزائن الله ملأى بالعبادات، إن كنتَ تبغى الوصول إليه تعالى، استصغرْ نفسك في باب الحق وكن مخلصًا في عملك»، فانتبهت".
ويتعمق المؤلف في شرح مقام الصدق، فيقول: "الصدق هو أن يصون الفردُ تكاملَ عمله وسلوكه، وأن يقول الحق حتى في مواطن الهلكة، التي لا ينجيه إلاّ الكذب، لئلا يقع في مباينة السر والعلانية والظاهر والباطن. إن أدنى مراتب الصدق هو استواء السر والعلانية، والباطن والظاهر في الأحوال كلها، تليها مرتبة الصدق في الشعور والتفكر والتصور والنيات". ويستطرد قائلاً: "الدعوات والتوسلات إنما تقبل وتستجاب بقدر أدائها بالصدق. حيث تبلغ عرش الرحمة كأنها مقترنة بالاسم الأعظم. نعم، الصدق يؤثر كتأثير إكسير الاسم الأعظم". ويختم هذا المقام بقوله: "إن أعطم الصدق هو الرضى بربوبية الله سبحانه وبدين الإسلام نظامًا إلهيًّا، وبسيّد الأنام صلى الله عليه وسلم مرشدًا ورائدًا. فالطريق إلى الإنسان الحق يمرّ من تحمّل هذه المسؤولية الثقيلة والعسيرة جدً".
وينبغي أن نستحضر دائمًا، ونحن نواصل الرحلة الروحية مع محمد فتح الله كولن، أن الرجل لا يكتب من برج عاجٍ، وليس هو بدرويش منقطع عن الدنيا، وإنما هو صاحب دعوة وحركة ومشروع إصلاحي تجديدي له تأثيره الملموس داخل بلده تركيا وخارجه في أقطار شتى من العالم.
لقد تعودنا أن نقرأ مثل هذا الكلام لرجال زهدوا في الدنيا، وانعزلوا في أماكن تنأى بهم عن المجتمع الذي ينتمون إليه. ولذلك فإننا مع المؤلف نعيش حالة مغايرة تمامًا، فهذا الصوفي الشاعر المفكر، هو رجل إصلاح وتجديد في الفكر، وفي السلوك، في الشعور والتصور، وفي المعاملة والممارسة. وهنا السرُّ الذي يجعل من الأستاذ محمد فتح الله كولن نسيج وحده، كما سبق أن قلت في مناسبات كثيرة، ويجعل حركته المجتمعية التجديدية، حركة فريدة من نوعها على صعيد العالم الإسلامي قاطبة، ويجعل من تلامذته ومريديه وأنصاره وأتباعه ومحبّيه، نماذج مشرقة فاعلة ومؤثرة في محيطها.
في مقام الصبر يحلّق المؤلف في أجواء الإيمان واليقين والشوق إلى الله تعالى. فيقول: "لقد بحث الصبر ضمن ستة أقسام من حيث كيفيته وتحققه:
1) الصبر لله، لأجله تعالى، وهو أولى مراتب الصبر،
2) الصبر بالله، أي العلم بأنه تعالى هو المصبِّر (بكسر الباء المشددة)، وهو أسبق بخطوة من الأولى،
3) الصبر على الله، بعدم الاستعجال تجاه التجليات الجمالية والجلالية للحق تعالى، قائلاً: "لله في كل شيء أسرار وحكم"،
4) الصبر في الله، أي استواء القهر واللطف في الطريق إلى الله (لا يفرّق بين حال النعم والمحنة). لهذا الصبر ميزة خاصة، ويسبق الأقسام الأخرى،
5) الصبر مع الله، أي البقاء معه تعالى مع مراعاة أسرار المقام الذي هو فيه من حيث خصوصية المعية والقرب،
6) الصبر عن الله، وهو صبر عشاق الحقيقة، الذين عزموا على التحمّل عن الوصال وهم بين الخلق".
أما الرضا، فهو عدم اهتزاز قلب الإنسان للبليّات التي تصيبه، ومقابلة تجليات القدر بارتياح ضمير، أي "بقاء جهاز الفؤاد والوجدان في سكون واطمئنان مما يتألم منه الآخرون ويمتعضون منه". والرضا، إلى ذلك كله، هو ارتياح القلب واطمئنان النفس بقضاء الله وتقديره ومعاملاته بتحمّل آلامها وشدائدها وغموضها حسب تقلبات نفوسنا. يقول محمد محمد فتح الله كولن في هذا المقام: "وإذا أخذنا الأمر من زاوية الأسباب، فالبلوغ إلى مرتبة الرضا يتطلب الجد في معاملات العبد مع ربه، وأخذ النعم التي تغدق عليه من دون طلب وسائل شكر وتحدثًا بالنعمة، والتعالى على أنواع الحرمان برحابة صدر، وأداء حق مسؤولياته بانشراح تام حتى لو كان يتقلب تحت قبضة الاستيحاش والانفراد والانقباضات، وقبول أوامر الحق سبحانه ونواهيه بسرور وحبور، كأنها دعوة إلى «ليلة زفاف»... وأمثالها من الأسس، إلا أن أهم ركن للرضا من حيث المبدإ، هو توجه الفرد إلى الله في قيامه وقعوده بشعوره وفكره وسلوكه، والانتباه له والانشراح به، وإنشاؤه وسائل متجددة كل يوم للوصول إلى معرفة أعمق للألوهية".
ويبلغ المؤلف درجة عالية من الشفافية في شرحه لمقام الرضا، حيث يقسم هذا المقام إلى خمسة أقسام:
1) عدم الانزعاج من أي حكم وتقدير مصدره الألوهية والربوبية،
2) تلقّى كل ما يرد من الله بانشراح وسرور،
3) الارتياح إلى رياح القدر أينما هبت،
4) المحافظة على ضبط موازنة القلب وتوازنه حتى تجاه أفجع الحوادث وأشدها،
5) عدم التوجع من المصائب متفكرًا بتقدير الله في لوح الحقيقة المحفوظ".
والمقصود هنا التفكير في تقدير الله، وليس "بتقدير الله" حسب التعبير الذي استخدمه المترجم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. والتدقيق هنا ضروري حتى يستقيم المعنى، لأن التفكير يكون "بالعقل" في أمر من الأمور.
ولقد وجدتني أربط الصلة بين كلام المؤلف في هذا المقام، وبين حياته الحافلة بالعمل المخلص المتقن المحكم الدؤوب، من أجل خدمة المجتمع والنهوض به على أساس من الأخلاق والقيم والقواعد الإسلامية، ودونما تزمت أو تشدد، أو تهور أو اندفاع أوتنطع. فحياة الأستاذ محمد فتح الله كولن، صورة لمقام الصبر، ولمقام الرضا، والحركة التجديدية الإصلاحية الإنمائية التي يديرها بحكمته المشهود له بها، نموذج للعمل الجاد الهادف إلى الارتقاء بالإنسان وبالمجتمع وبالبيئة على جميع المستويات.
من المقامات الرفيعة التي يعرض لها المؤلف في هذا الكتاب، مقام الانبساط، وهو التوسع، الانتشار، التعمق في الداخل، استعلاء المرء على طبائعه، وانفتاح القلب للجميع، وإرضاؤهم، بطيب اللسان وطلاقة الوجه، ضمن إطار الحدود الشرعية. ومن حيث العلاقة مع الله سبحانه، هو هيمنة حالة من مزيج الخوف والرجاء على ذات الإنسان بحيث إن ذوي القلوب الواصلة إلى هذا المستوى، يكتمون أنفاسهم في هيبة الحضور، ثم يطلقونها بنشوة نسائم الحضور وبهجة سروره، فكلما شهقوا اقشعرّوا، وكلما زفروا انشرحوا. حسب التعبير الذي استخدمه المؤلف. "والانبساط ضمن ارتباطنا به سبحانه، هو استنشاق هبّات نسائم الانبساط، والعيش بالخوف والرجاء معا في الروح، بحال يفوق الأحوال. فالخوف والرجاء اللذان هما من أحوال النفس، عنوانان على علاقة المبتدئين بالله في ارتباطهم به سبحانه. أما الانبساط الذي هو حال العارفين حقًّا، فهو بعدٌ آخر لحياة القلب وحال خاصة بأرباب القلوب".
ويغرق المؤلف في بحر المحبة من دون أن يفقد طوق النجاة، وهو هنا القرآن والسنة. فيقول في إحدى تجلياته المنعشة للروح المنيرة للبصيرة: "المحبة الحقيقية إنما تتحقق بتوجه الإنسان بكيانه لله إلى المحبوب سبحانه والبقاء معه، وإدراكه له وانسلاخه من جميع الرغبات الأخرى ومن جميع الطلبات، بحيث إن قلب البطل الذي ظفر بهذه الحظوة، ينبض كل آن بملاحظة جديدة تخص الحبيب.. وخياله يجول في إقليمه الساحر.. ومشاعره تتلقى كل لحظة رسائل متنوعة منه... وإرادته تحلق بهذه الرسائل... وفؤاده يسرح في متنـزهات الوصال...".
والمحبة الحقيقية ليست على مستوى واحد لدى الجميع من حيث تعلقها بالمحبوب، فهنالك:
1) محبة العوام، وهي محبة تتردد بين الهبوط والصعود، فهؤلاء يرون رؤى الإحسان تحت ظل الحقيقة الأحمدية، ويشاهدون علامات تخص بزوغ فجر المعرفة.
2) محبة الخواص، فهم كالعقبان المحلقة في أجواء عالم المحبة يثرون عمرهم دوما بالعمق والخصب بامتثال الأخلاق المحمدية في عالم القرآن المنور، من دون أن يطلبوا عوضا ماديا كان أو معنويا.
3) محبة خواص الخواص، فهم كالغيوم المحملة بالأمطار في السماء المحمدي، بهذه المحبة يستشعرون الوجود، وبها يحيون، وبها يبصرون، وبها يتنفسون".
هكذا تجد الفئة الأولى في بابه سبحانه، الرحمة والعناية الخاصة بها، بحلم، وتصل الفئة الثانية إلى أفق إدراك الصفات الجلالية والجمالية، وتنجو من الثغرات البشرية وظلماتها، بينما الفئة الثالثة تتنور بنور وجوده سبحانه، وتنتبه إلى حقيقة الأشياء، وتربط علاقات مع ما وراء الأستار.
بهذا العمق والشفافية يكتب عن المحبة التي يختزلها في العبارات التالية: "إذا نسبت المحبة إلى الحق سبحانه فهي إحسان، وإذا أسندت الى الخلق فهي خضوع وطاعة وانقياد".
وإن مما يزيدنا تقديرا لهذا المؤلف الملهم أنه لا يكتب من صومعة منعزلاً عن تيار الحياة المتدفق، وإنما يكتب للناس الذين يحبّونه، ويثقون به، ويعملون معه من أجل تطبيق هذه القيم والمبادئ والأفكار في الواقع المعيش.
وتلك إحدى تجليات الأستاذ محمد فتح الله كولن الذي وصفته في مقال سابق، بأنه "الرجل/ الظاهرة"، أو "الرجل / المؤسسة"، أو "الرجل / القدوة" في زمن عزّت فيه القدوة.
المصدر: جريدة "العلَم" المغربية، 7 سبتمبر 2010.
- تم الإنشاء في