سـورة القصص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾(القَصَص:76)

جاء في بعض روايات التفسير -استناداً إلى هذه الآية- أن قارون كان من أقرباء النبي موسى عليه السلام، فقال بعضهم إنه كان ابن خاله، وقال بعضهم: كان ابن عمته. وقد تكون مثل هذه التفاسير، والبحث عن قرابة مع هذا النبي هو للتأكيد على أنه مع كونه بهذا القرب من النبي موسى عليه السلام فهو لم يستطع الاستفادة منه. والحقيقة أنه لا توجد أي إشارة لمثل هذه القرابة لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية.

إذن يجب البحث عن تفاسير أخرى:

يحتمل أن قارون كان من بني إسرائيل، لذا قال القرآن الكريم ﴿كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾. أو كان من بين الأمة التي وجه إليها موسى دعوته. أي كان ضمن من شملتهم دعوة موسى عليه السلام. وقد يكون -مثله مثل السامري- من الأشخاص الذين اهتم بهم النبي موسى عليه السلام، ورآه ممن يجب بذل عناية خاصة به. ولكن قارون لم يستطع تقييم هذا الاهتمام ولا تقييم الثروة المعطاة له لكي يكسب بهما الجنة.

وتستمر الآية فتقول ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ (القصص: 76). ولنقل من البداية بأن تعابير القرآن الكريم منـزهة عن الكذب، وكذلك عن المبالغة التي تعد كذبا ضمنيا. إذن عندما نقوم بتصور هذه الحقيقة التي يعبر عنها القرآن، أي تصور كنوزه التي تنوء العصبة أولي القوة من حمل مفاتحه ندرك ماذا تعني مثل هذه الثروة الطائلة.

إن كنوز قارون هذه كانت بمقادير تكفي لملء متاحف عديدة حاليا.

إن قارون تجاه هذه الثروة الطائلة التي وهبت له تجبر وتكبر وطغى واستعلى على قومه، لذا قال له بعضهم: ﴿لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ (القصص: 76). ولكنه لم يعبأ بهذا التنبيه بل استمر على انحرافه،ثم أجابهم متبجحاً: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ (القصص: 78).

وليس هذا الوضع خاصا بقارون. فكم من شخص في التاريخ القديم وفي أيامنا الحالية أيضا قد أطغته الثروة والغنى وحرفته عن الطريق القويم، وهم يكررون نفس ما قاله قارون. لذا ليس من الصحيح تضييق إطار خطاب القرآن وحصره بقارون. وقال الذين كانوا يغبطون قارون على ثروته ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (القصص: 79).

ولكن عندما خسف الله بقارون وبداره الأرض:

﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ (القصص: 82).

كان مصير قارون الذي لم يُعَيَّرْ سلوكه وينظمه كما يجب تجاه النعم المهداة له هو أن الله خسف به وبداره الأرض. ويرسم القرآن هذا الأمر بالمشهد الآتي:

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ﴾ (القصص: 81)

والحقيقة أن قارون قد أخطأ في ناحيتين:

الأولى: إنه انحرف إلى الغرور بسبب هذه النعم التي أنعمها الله عليه، واستعلى على الناس وعلى الله، وسقط في هوة الكبرياء والغرور وهو من الصفات الحائلة بين المرء وبين الجنة. وفي مقابل دعوى الكبرياء والغرور عاقبه الله بخسف الأرض من تحته. وبتعبير آخر بينما كان قارون يعتقد بأنه هو صاحب هذه النعم المقدمة إليه، وأنه سيملكها إلى الأبد، خسف الله به الأرضَ. بينما كان من الأنسب له إبداء التواضع "من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله".[1]

الثانية: إنْ كَثُرَ في أي مجتمع قارون وأمثاله وَمَنْ على شاكلته، وسيطرت ذهنيتهم على المجتمع بدأت بوادر تمزق وتفتت في ذلك المجتمع. أي لو أصبحت ذهنية الذين يربحون ويكسبون الأموال الطائلة ولا يرون لأحد أي حق في هذه الأموال، ولا يحركون ساكنا إن مات غيرهم من الجوع، أي لو سادت فلسفة الأشخاص الأنانيين في المجتمع، وأصبحت هي التي تشكل طراز حياة الناس، ظهرت فروق هائلة بين طبقات المجتمع. ويمكن الوقوف عند الرأسمالية والشيوعية كأمثلة على مثل هذه الهوة الواسعة بين الطبقات. ففي أمثال هذه النظم كانت هناك في السابق وحاليا هوة واسعة بين طبقات الشعب، مما أدى ويؤدي إلى مآسٍ إنسانية كبيرة، وإلى مصائب. لذا فإن الله تعالى لكي يمنع من انتشار هذه العلة وهذا المرض وسريانه بين أفراد الشعب عاقب قارون بالخسف به وبداره الأرض لكي يكون عبرة لمن يأتي من بعده.

كما أن الله تعالى أراد أن ينبه الناس إلى أن الذين يهتمون بزينة هذه الحياة الدنيا وزخرفها يقعون في خطأ كبير، فإن مال الدنيا زائل، والله تعالى الذي وهب هذه الأموال وهذه الزينة يستطيع سحبها متى ما شاء. والخلاصة أن قارون كان يملك أمتعة كثيرة من الذهب والفضة، ولا يهم هنا عن أي طريق حصل عليها.وكانت خزائنه هذه موجودة في غرف عديدة ومتداخلة ولكل منها مفاتيح ومزاليج لجعلها محفوظة ومصانة جيدا. وهذه المفاتيح والمزاليج الكثيرة تشير إلى صفة الحرص والبخل عند قارون. ويجوز أنه حصل على هذه الثروة الكبيرة عن طريق التنقيب عن الخزائن المطمورة سابقا والعائدة للملوك السابقين، أو عن طريق الربا. وهذه الثروة الكبيرة والفجائية التي حولها إلى سلطة ونفوذ كبيرين وإلى استخدام العبيد والحراس جعلته يطغى ويتكبر ويتجبر، لذا قال له بعض قومه: ﴿لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ (القصص: 28/79).

والسهولة التي حصل بها على هذه الثروة أو بخله وشحه أعمى بصره فلم ير لأي أحد حقا فيها. وكل التصرفات السلبية التي صدرت منه ترجع في الأساس إلى عمى البصيرة هذه، واعتقاده بأن الدنيا ستسعده وتشبعه وتكفيه. وما يطمئن للدنيا ويركن إليها إلا مَنْ كان قد فقد التوازن القلبي... وكان قارون أحد هؤلاء.

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القَصَص:77)

فهمت هذه الآية الكريمة من قبل الكثيرين على أنها تشير إلى طلب الدنيا على الدوام. ولكن من يعرف شيئا قليلا من اللغة العربية يعرف خطأ هذا الرأي. فمن يدقق في سياق الآية وبدايتها يرى المعنى الآتي:

تقول الآية ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ﴾، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل "وابتغ" هنا يعني شيئا أكثر من "واطلب"، لأنه يعني: اطلب واستعمل ما آتاك الله من قلب وحس وشعور وإدراك وصحة ومال وولد... الخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية ﴿وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ لموازنة المسألة. أجل علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء. إذن فتناول الشق الثاني من الآية فقط وتوجيه الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط خطأ فاحش. لأن مثل هذا المعنى يتعارض مع الآية الكريمة ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَّنّةُ﴾ (التوبة: 111). ومن يقل به يجعل القرآن كتابا ينقض بعضه بعضا والعياذ بالله.

ويمكن النظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى: اطلبوا الدنيا حسب قيمتها، واطلبوا الآخرة حسب قيمتها. يمكن أن يكون هذا قاعدة من القواعد. إذن فالقرآن يعطي الإنسان بهذه الآية مقياسا، ويطلب منه استعماله.

أجل!... يجب فهم الآية بهذا المعنى. لأن الدنيا حسب القلوب المطمئنة كيوم عرفات. والأيام الماضية للدنيا بالنسبة للعيد كيوم عرفات. أما العيد الحقيقي فوراء الأفق بل وراء وراء الأفق. لذا يجب المحافظة على هذا التوازن وصيانته، وعيش يوم عرفة حق عيشه. ومن يفقد يوم عرفة في الحج يستطيع إدراكه بعد عام واحد، ولكن من يفقد يوم عرفة الآخرة -عندما نشبه هذا اليوم بالحياة الدنيا- وفاته ذلك اليوم فلن يستطيع إدراكه مرة أخرى.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث له: "ما لي وما للدنيا. ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح فتركها".[2]

ولو تأملنا لرأينا أن ترك الدنيا ونبذها تماما غير مطلوب كما أن اعتبارها كل شيء غير مطلوب كذلك. وفي حديث آخر: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء".[3]

فما كان لكافر ينكر وجود الله وينكر يوم القيامة أن يتمتع بنعم الله تعالى. فهذا مغاير للعدل الإلهي. ولكن هناك عالم أبدي وراء هذا العالم، ومقابل العقاب الذي سيلاقونه هناك، لا يريد الله تعكير صفو حياتهم في هذه الدنيا ويتجلى برحمته عليهم فلا ينقص من سعادتهم شيئا هنا.

ونظرة الأستاذ سـعيد النورسي للموضوع هي: "إن نتيجة الايمان بالله ومحبته سبحانه هي: رؤية جمال مقدس وكمال منـزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى.. هذه الرؤية التي تساوي ساعة منها ألف ألف سنة من نعيم الجنـة..[4] ذلك النعيم الذي سـاعة منه تفوق ألف ألف سـنة من حياة الدنيـا الهنيئة، كما هو ثابت لدى أهل العلم والكشف بالاتفاق".[5]

هذه هي الحياة التي نطلبها ونسعى إليها. إذن فما قيمة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة لكي نوازن بينها وبين الآخرة؟. متوسط الحياة الدنيوية هو ستون عاما، يمضي ثلثه في النوم... فما قيمة مثل هذه الحياة؟ لذا فالخروج من هذا الإطار وإعطاء الحياة الدنيوية قيمة أكثر مما تستحق والقول: "هذه هي قيمة الحياة في الدنيا، وهذه هي قيمة الحياة في الآخرة" ليس إلا تعبيراً عن عدم فهمنا للنصوص.

وهناك إلتفاتة من قبل الأستاذ النورسي في هذا الموضوع لم أرها عند أحد غيره. فهو يقول إن للدنيا ثلاثة أوجه: الوجه الأول متوجه للأسماء الإلهية الحسنى، والثاني متوجه نحو أهواء الإنسان وشهواته. والوجه الثالث هو الوجه المتوجه نحو كسب الحياة الآخرة. وهي إلتفاتة عميقة.

إن جانب كون الدنيا مرآة مجلوة لتجلي الأسماء الإلهية يجعل الدنيا شيئا ثمينا جدا، بل يجعلها لا تقدر بثمن، ونحن نحب الدنيا من هذا الجانب، بل نعشقها. ولو لم تكن الدنيا مزرعة للآخرة لما كنا مرشحين للحياة الأخروية، وما كنا من أهلها، ولما كسبناها. والدنيا من هذا الوجه أيضا جنة وبستان. أما وجه الدنيا المطل على أهواء النفس وشهواتها، فهو أقبح من كل قبيح. أي إن الإنسان إن كان متعلقا بأهواء نفسه ورغباتها، ونسي الآخرة لهذا السبب فالدنيا في هذه الحالة مذمومة.

هناك تقييم آخر للأستاذ النورسي حول الدنيا. فهو يقول: يجب ترك هذه الدنيا قلبياً وليس كسبياً. وهذا الذي يقوله النورسي يجعلنا نقترب أكثر لنرى عدم وجود أي خصام لنا مع الدنيا، ولا يمكن أن يكون. أجل إن عمل الإنسان وفق هذا الإطار استطاع أن يربح ويكسب مثل أهل الدنيا وإن كان غنياً مثل قارون... ولكن عندما تقتضي الضرورة عليه أن ينفق كُلَّ ما اكتسبه في سبيل الله، تماماً مثل ما فعل عبد الرحمن بن عوف حيث أنفق سبعمائة بعير مع أحمالها في سبيل الله. ولم يقل له الرسول شيئا ولم يعنفه أو يوبخه لغناه. ولكنه نبهه فقط حول وجوب إعطاء حق هذا الغنى ثم بشره وشوقه. هناك قصة رمزية حول النبي إبراهيم عليه السلام ورد فيها أن الملائكة قالت مستفسرة من رب العزة: يا رب أنت تقول عن إبراهيم عليه السلام إنه خليلك. ونحن نريد أن نعرف أتتلاءم وتتوافق الخلة مع الثروة والغنى؟ فقال لهم ربهم: اذهبوا وامتحنوه. فذهب الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام وهم في هيئة من أتى من سفر بعيد مضنٍ، وبملابس رثة وأخبروه أنهم جياع. فقام إبراهيم عليه السلام وذبح لهم شاة، وعندما قربها إليهم ومد الملائكة أيديهم ذكروا -بدلا من بسم الله- دعاءً خاصاً بالملائكة وهو: "سُبّوحٌ قدّوسٌ، رَبّ الملائكة والرُّوح"، ويسحر هذا التسبيح ذلك القلب المؤيد بالوحي إلى درجة يدفعه للتوسـل إليهم: "ليكن ربع أغنامي لكم إن قمتم بتكرار هذا التسبيح". فكرر الملائكة، فقال إبراهيم عليه السلام: "ليكن لكم نصف أغنامي إن كررتم التسبيح"… وهكذا حتى يهب في المرة الرابعة جميع أغنامه لهم. إذن فالنبي إبراهيم عليه السلام -إن صدقت هذه الرواية- لم يكن تاركاً الدنيا كسباً، بل قلباً.

والحقيقة لا يمكن رؤية أي بيان صريح لسـيد الأنبياء في ذم الغنى والمال والملك بالمعنى المطلق. صحيح هناك بعض الإسـتثناءات، ولكنها متعلقة بالأوضاع الخاصة لبعض الأشخاص. فإن سُئل عن عدم غنى الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء من عائلة فقيرة. ولو كان غنياً بعد أن أصبح نبياً وممثلاً لدعوة عظيمة وسامية لربما كان غناه هذا يلقي ظلا على دعوته. ويثار سؤال: "من أين لك هذا؟". وقد يؤدي هذا إلى اهتزاز ثقة أصحاب النيات الصافية. لذا رجح الرسول صلى الله عليه وسلم -من زاوية دعوته بشكل إرادي، أو بجبر ولطف قدري- الفقر على الدوام… هذه هي زاوية النظر التي يجب أن ننظر من خلالها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى العلماء والأولياء والأصفياء الذين جاءوا من بعده.

والخلاصة أنه يجب ترك الدنيا قلبياً وليس كسبياً. يجب ألا تدخل الدنيا إلى قلوبنا وآلا تسكرنا، أو تعكر نظرنا، أو تنسينا الآخرة. فإن حققنا هذا ملكناها وحكمناها. وإلا حكمتنا الدنيا وعشنا حياة خالية من الشـعور والإحساس، كل دقيقة فيها هباءٌ في هباء.

هناك أشياء كثيرة تقوي وتغذي إرادتنا للفوز في هذا الامتحان، ومن الضروري تماماً تحريكها وتشغيلها،وجعلها فعالة. فمثلاً معرفة الله عامل مهم جداً في تقوية الإرادة والإيمان. وإذا كان لنا أن نوضح هذا بمثل نقول: لنفرض أنك تريد أن تحيا حياة المترفين، وبدأت بترتيب أمورك على هذا الأساس، ثم دخلت في سعي محموم لرفع مستوى حياتك. في هذه الأثناء تسرع معرفة الله لنجدتك. هنا أود ذكر حادثة وقعت لأحدهم. ومن يدري فقد لا تجدون في ما سأذكره شيئاً موضوعياً. ومع ذلك فسأذكرها. صحب أحدهم هذا الشخص إلى بيته وجلسا في الشرفة المطلة على البحر. في تلك اللحظة وقعت في قلبه رغبة شديدة في العيش في مثل هذا المكان الجميل. ويشهد أصدقاؤه بأنه قام فجأة من مكانه، وغادر المكان عازفاً عن الجلوس في هذه الشرفة. لأن ذلك المنظر الجميل الخلاب غذى شعور طول الأمل عنده، وإلى توهم الأبدية والخلود، لذا تهب معرفة الله لنجدته وتذكره بأن دقيقة واحدة من تأمل الجمال الإلهي يعادل آلاف السنوات من العيش السعيد في الجنة، وتخلصه من تلك الورطة.

لذا ففهم آية ﴿وَلاَ تَنْسَى نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ كما يريده البعض لا ينسجم مع المفهوم الكلي للقرآن الكريم. وأنا أرى أن الإنسان يجب أن يحس بالشوق للبقاء في الدنيا، ولكن بشرط العيش فيها حياة مليئة كحياة الأستاذ النورسي، وأن يكون مرتبطا بفكر ورغبة إيصال أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكمالات الإنسانية. يجب امتلاك الدنيا باسم الحق وخدمة الأمة ولكن الحياة يجب أن تكون حول محور الآخرة على الدوام. ومثل هذه الحياة الدائرة حول محور الآخرة تُبقي الفرد ضمن الكسب الحلال على الدوام وضمن اللذة المباحة. ومن المعلوم أن الكسب غير المشروع، واللذة غير المشروعة تجلب معها على الدوام آلافاً من الآلام في الوقت نفسه.

ولنختم هذا الموضوع بحديث خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم: "فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت. فوَالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".[6]

صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى الملائكة المقرَّبِين وعلى عباد الله الصالحين.

﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾(القَصَص:85)

هنا يرد توجيهان، أو تفسيران، أحدهما تذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم لقاء الرفيق الأعلى، وهو اليوم الذي كان ينتظره بشوق ولهفة، لذا يقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ مذكرا إيـاه بيوم فراقه لبيته ووطنه، وللكعبة التي كان يحبها محبة تجل عن الوصف، ولكنه في ضمن هذا التذكير المشوب بهذا الحزن الرقيق يبشره ببشارة كبرى توافق فطرته السامية، بشـارة بلقاء وبرضوان لا يمكن للعقل تصوره أو إدراك ماهيته، فجاءت الإشارة إليه بتنوين التنكير في كلمة "معادٍ"... معاد هو آخر مستقر ومقام له، ليزيل بذلك كل حزن أو غم عنده.

 والآخر هو أن الله تعالى من بداية سورة القصص حتى هذه الآية كان يذكر لمحات مهمة من حيـاة النبي موسى عليه السلام، وكفاحه مع فرعون، وعلاقته مع قومه وطائفته، وبعد التذكير بأن التاريخ يتكرر، وأن هذه هي سنة الله في الكون كان يشير إلى أن الرسـول صلى الله عليه وسلم سيضطر -مثل موسى عليه السلام- إلى ترك بلده ووطنه وبيته، ليستقر ويقيم في بلد آخر. وأن هذا قانون وسنة لا تتغير. وإذا أتينا إلى علاقة هذه المسألة بهذه الآية نقول إن هذه السورة مكية، أما الآية أعلاه فقد نـزلت في أثناء الهجرة حسب إحدى الروايات. أي أن القرآن بهذه الآية كان يخفف عن النبي المحزون من فراق مكة ويهون عليه الأمر من جهة، ويبشره بأنه سيرجع إلى مكة ويعود إليها من جديد بعد تسع سنوات. وهذا التوجه والتفسير هو الأقوى وهو يتضمن إخبارا عن الغيب ودليلا من دلائل النبوة.

وعندما جاء الميعاد المقدر تم فتح مكة ونكس الأعداء رؤوسـهم من الذل، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخر الكائنات فقد تحقق له ذلك "المعاد" الذي سبق وأن بُشر به من قبل. لذا فالأصح أن كلمة المعاد هنا تعني هذا الأمر وهذه البشارة بعودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة.

الله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

الهوامش

[1] المسند للإمام أحمد، 3/76؛ ابن ماجه، الزهد 16.

[2] الترمذي، الزهد 44؛ ابن ماجة، الزهد 2؛ المسند للإمام أحمد، 1/201.

[3] الترمذي، الزهد 13؛ ابن ماجة، الزهد 3.

[4] "فإن الله إذا صير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ليس ثم ليل ولا نهار قد علم الله عز وجل مقدار تلك الساعات فإذا كان يوم الجمعة في وقت الجمعة التي يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم قال فينادي مناد يا أهل الجنة اخرجوا إلى دار المزيد فيخرجون في كثبان المسك قال حذيفة والله لهو أشد بياضا من دقيقكم فإذا قعدوا وأخذ القوم مجالسهم بعث الله عليهم ريحا تدعى المثيرة فتثير عليهم المسك الأبيض فتدخله في ثيابهم وتخرجه من جيوبهم فالريح أعلم بذلك الطيب من امرأة أحدكم لو دفع إليها طيب أهل الدنيا ويقول الله عز وجل: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب وصدقوا رسلي ولم يروني سلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة إنا قد رضينا ويرجع إليهم في قوله لهم يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي فهذا يوم المزيد فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة أرنا وجهك ننظر إليه قال فيكشف الله تبارك وتعالى الحجب ويتجلى لهم تبارك وتعالى فيغشاهم من نوره لولا أن الله قضى أن لا يموتوا لا حترقوا ثم يقال لهم ارجعوا إلى منازلكم فيرجعون وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره تبارك وتعالى فلا يزال النور يتمكن حتى يرجعوا إلى حالهم أو إلى منازلهم التي كانوا عليها فيقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا بصورة ورجعتم إلينا بغيرها فيقولون تجلى لنا ربنا عز وجل فنظرنا إلى ما خفينا به عليكم قال فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام وهو يوم المزيد" (مسند البزار، 7/289-290).

[5] الكلمات لبديع الزمان سعيد النورسي، الكلمة الثانية والثلاثون، الإشارة التاسعة.

[6] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، 18/116.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.