التوازن بين الروح وبين الجسد

الحياة الحقيقية هي حياة القلب. والإنسان الذي يحيا بحياة القلب يصبح كياناً فوق الزمن ويستطيع دق أبواب الماضي والمستقبل ويراهما وجهين لعملة واحدة يمكن فتحهما. فمثل هذا الإنسان لا يأبه بآلام الماضي ولا بتهديدات المستقبل.

أما الذين لم يجدوا أنفسهم في قلوبهم فتراهم -وهم يتقلبون في حياتهم الضحلة- في شكوى دائمة، وتشاؤم مستمر. فالماضي في نظرهم قبر رهيب، والمستقبل بئر لا قعر لها... فهم في عذاب مستمر سواءً أعاشوا أم ماتوا.

إن علاقة الإنسان بالماضي البعيد وبالمستقبل الذي لا نهاية له مرتبطة فقط بدرجة وبمستوى إدراكه لحياة القلب والروح. والأرواح المحظوظة التي تعيش في هذا المستوى الرفيع للحياة وتدرك علوها ترى الماضي خيمة وسدة حكم للأجداد وترى المستقبل طرقاً ممتدة نحو حدائق الجنة، وتعب من مياه الكوثر التي تفجرها في وجدانها وهي تعيش في دار هذه الحياة حتى وداعها لها.

أما البائسون الذين لم يدركوا الحياة هذا الادراك ولم يفهموها هذا الفهم فحياتهم أسوأ من الموت، وموتهم كظلمات جهنم بعضها فوق بعض.

هناك علاقة تساند وتنظيم وانضاج بين عمل الفرد وسلوكه وبين حياته الجوانية. ونستطيع أن نسمي هذه العلاقة أنها علاقة دائرة خير على عكس "الدائرة المفرغة". فكما ينعكس سلوك الإنسان المتسم بالعزم والإصرار والثبات على عالمه الداخلي وينوره، كذلك يقوم الوجدان المتنور للإنسان بشحذ إرادته وعزيمته ويفتح أمامه آفاقاً جديدة.

والمحظوظون الذين يكونون تحت إمرة الروح يتوجهون دوماً للحصول على رضا الله وعلى الفضائل الإنسانية، وبوصلتهم تشير على الدوام نحو المحراب نفسه، ونحو الدرب نفسه. قد يحدث عندهم أحياناً انحراف ضئيل عن الطريق، ولكن ندم من أعماق النفس، وأنين من أعماق الروح يكفيان لإذابة الآثام المحيطة بالقلب... إذابة هذه الآثام في أرواحهم، ثم الاستمرار على الدرب نفسه وعلى الطريق نفسه.

هؤلاء المحظوظون الذين يقومون بأداء جميع واجباتهم وفرائضهم حتى أدق تفاصيلها بكل عناية واهتمام، لا ينسون وهم يوفون حق أعمالهم الدنيوية ويقومون بوظائفهم فيها بكل عناية ونظام ودقة... لا ينسون عالمهم الداخلي حيث يسمون ويرتفعون ارتفاع عطر البخور حتى كأنهم يشاركون الملائكة كل يوم بضع مرات في مجالسهم.

فكرة الأبدية هذه التي دخلت شعاب وشغاف قلوبنا منذ عصور عديدة والتي أوقدت فيها حب ووجد الأبدية والخلود، تركت مكانها بمرور الزمن إلى مجرد رفع شعارات شكلية جامدة والى تصوفية متخدرة خالية من الروح.. ولم يكن دور هذه الأفكار المنحوسة -التي حسبت شراراتها الضئيلة الشبيهة بشرارات اليراع نداً ومساوية لشمس الوحي- منذ ذلك التاريخ حتى اليوم ما تزال تنفث الضباب والدخان في طريقنا المضيء لتعكير دنيا إنساننا وزيادة ظلامها.

بعد كل هذا فإننا نستطيع وصف رجل الحقيقة هكذا:

هو رجل يستطيع مجابهة ومقاومة كل الدواهي ببدنه وبأعصابه الفولاذية. أما فكره وعقله فقد مزج في بوتقة واحدة معارف ومفاهيم عصره بالحقيقة الأزلية وصهرهما معاً، أي هو مثل عالم كيميائي ينشئ في كل آن تركيبة جديدة. أما ملكاته الروحية والقلبية فهي بنفس نكهة القابليات والملكات التي سحّتْ من أمثال مولانا جلال الدين الرومي[1] ويونس أمره[2] إلى بوتقة واحدة وانصهرت فيها ونضجت.

أي هو في النهاية قلب ناضج عارف، بينما يرى نفسه إنساناً وفرداً عادياً بين الناس. فإنه يستطيع أن ينسى بل يضحي بلذاته وحظوظه من أجل خير وسعادة الآخرين.

الهوامش

[1] جلال الدين الرومي: ( 1207– 1273) من أعظم شعراء التصوف. درس على أبيه بهاء الدين. رحل إلى بلاد عديدة. التقى في مدينة " قونية " بأستاذه ومرشده " شمس الدين التبريزي" فكان له تأثير كبير عليه. من أهم آثاره ديوانه "ديوان شمس تبريزي"، وديوانه الكبير "المثنوي" وكتابه المشهور "فيه ما فيه ". وهو مؤسس الطريقة المولوية. (المترجم)

[2] يونس أمره: ( 1238- 1320): من أشهر شعراء التصوف في الأناضول. عاش في عهد سقوط الدولة السلجوية في الأناضول نتيجة غارات المغول، وفي عهد زادت فيه الهجرة من ايران وخراسان إلى الأناضول هربا من المغول. درس العلوم الفلسفية وتعلم العربية والفارسية. خدم في تكية "طابتوك أمره" ثم ساح في الأناضول. لا يعرف أين توفي، لأن هناك عدة أضرحة تنسب إليه في الأناضول. له مؤلفات "رسالة النصيحة" و"الديوان". أشعاره رقيقة ومؤثرة، وأسلوبه واضح لا تعقيد فيه. (المترجم)

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.