الإنسان وخلافة الأرض

الإنسان وخلافة الأرض

سؤال: لقد جعل الحق تعالى الإنسان خليفة في الأرض، فما المسؤوليات التي تقع على عاتق الإنسان بموجب هذه الخلافة؟ وكيف تستشعر  روح الإنسان هذه الحقيقة؟

الجواب: ثمة آيةٌ كريمة تشير إلى حقيقة خلافة الله للإنسان في الأرض، يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/30).

وخلافة الله للإنسان في الأرض -أو لو جاز التعبير: وكالتُه له سبحانه وتعالى- تعني: أن يتصرف الإنسان في الكون باسم الله ونيابة عنه.

ويتوقّف فهمُ الإنسان لهذه الحقيقة على صلته بربه جل وعلا، وتختلف هذه الصلة اختلافًا بيّنًا من شخص إلى آخر، فيتفاوت الناس في هذا الأمر من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فكل شخص يستشعر ما ينبغي له، وينفتح على الحقائق السامية بقدر ما تسمح له جاهزيته المعنوية وبنيته الداخلية ومستواه التعليمي.. فمثلًا من المتعذر علينا أن نخمِّن أو نحسب قدر استشعار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقة الألوهية، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف للصلاة يُسمَع له أزيز كأزيز المِرْجَل[1].. فلا أحد يدرك ماهية وكمّية العوالم التي ينفتح عليها عند اتصاله بربه جل وعلا!

وكذلك فقد كانت علاقةُ سادتِنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعًا بالله سبحانه وتعالى قويةً وعميقةً إلى أقصى درجة؛ فمثلًا كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يُسمع له صوت ونشيج أثناء الصلاة يأخذ بالألباب ويؤثر حتى في رؤوس الشرك، حتى إن الواحد منهم كان يأتي متخفيًا عن الآخر ليسمع أبا بكر رضي الله عنه وهو قائم يصلي، وكذلك كان نحيبُ سيدنا عمر رضي الله عنه يُسمع من آخر الصفوف، وهكذا فإن استشعار الإنسان بحقيقة الخلافة بروحه، وتصرفَه لما تقتضيه هذه الحقيقة منوطٌ بصلته القوية بالله سبحانه وتعالى.

وكما ذكرنا آنفًا فإن الخلافة تعني تصرف الإنسان في الكون باسم الله وبالنيابة عنه، وهذا لا يعني حتمًا القيام بالشؤون الإلهية، إن الخلافة تعطي الإنسان حقّ التدخل في الكون الذي خلقه الله وسخره له، وهو ما يشبه تشجير مساحة معينة من الأرض في إطار المقاييس والمعايير التي وضعها الحق سبحانه وتعالى، فما أعظمه من فضل أن يخص اللهُ الإنسانَ بمثل هذه الوظيفة التي لم يوكّل بها لا الملائكة ولا المخلوقات الروحانية الأخرى.. إن الإنسان كائن مادي، نشأ في حضن الطبيعة، وزوِّد بقدرات تفهم لغة الطبيعة؛ ولذا أعطِي له حق التصرف في الكون بأكمله.

فما يقع على عاتق الإنسان هو أن يقرأ كتاب الكون بتفحّصٍ وتمعُّن، وأن يجري الأبحاث والدراسات حول الكائنات الحية وغير الحية، ليزيد -من جهةٍ- معرفتَه بالله تعالى، ويقدم -من جهة أخرى- خدمات وأبحاثًا تصبّ في صالح الإنسانية، بل والمخلوقات كلها.. وحدود سلطة التصرف لدى الإنسان تتوقف على هذا؛ أي على صيانته للكون على النحو الذي خلقه الله، وقيامِه بأعمال تصب في مصلحة هذا الكون.. أما تغيير الفطرة التي وضعها الله فهذا أمر يتجاوز حدود سلطته.. ولذلك إذا تجاوزت تصرفات الإنسان حدود الفطرة، وتسببت في الضرر والفساد؛ فهذا يعني أن الإنسان قد أساء استعمال السلطة التي أوكلت إليه.. فمثلًا تقدمت العلوم تقدُّمًا ملحوظًا مثل البيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية في عصرنا الحاضر، فلو أن التجارب والاختبارات والدراسات التي تُجرى في هذه الميادين تصبّ في مصلحة الإنسانية كعلاج بعض الأمراض، ووضع الحلول للمشاكل الإنسانية المستعصية، وتحقيق السكينة للمجتمع؛ فلا حرج شرعًا في القيام بها، بل وحتى إن الدين يحض ويشجع عليها.. وهذا يعني الاستفادةَ من نِعَمِ الحق سبحانه وتعالى، واستعمالَها بما يخدم هذا الكون أيضًا، بل وحتى إن بعض معجزات الأنبياء الواردة في القرآن الكريم تشير إلى هذا وتحض عليه؛ ولكن إن لم يتوقف الباحثون عند الحد المسموح لهم، فذهبوا يتدخّلون تدخّلًا خاطئًا في الهرمونات والجينات فأفسدوا الطبيعة، وأضروا بصحة الإنسان، وتسببوا في تشوه الأجسام الحية؛ وهذا يعني أنهم خرجوا عن الإطار المشروع.

ولا يغبْ عن بالنا أن خلافة الإنسان في الأرض أي إعطاءه الحق والقدرة على التدخل في الأشياء، تكشف عن طاقة كبيرة كامنة فيه، وكي يتسنى للإنسان تفعيل هذه الطاقة على أرض الواقع فعليه -من ناحيةٍ- أن يُمعن التأمل والتنقيب في الحوادث والأشياء  ومن ناحية أخرى يمضي قدمًا بأفكاره ودراساته، ولا يقف عند حدود الطبيعة، ويتجاوز المادة، ويصل إلى ربه الكبير المتعال.

إن العلوم التجريبية التي يكتسبها الإنسان بعقله وحواسه لها أهمية بالغة، ولكن حدود الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم هي أرقى من ذلك وأشمل، فما على الإنسان إلا أن يقهر المستحيلات ويصل إلى ربه القدير سبحانه وتعالى، أما إذا حصر الإنسان نفسه في دائرة المادة، وظل عاكفًا على مختبراته، ولم يتجاوز المعطيات التي حصل عليها عن طريق الملاحظة والتجربة؛ فلن يعي أنه خليفة الله؛ لأن المنُتظَر من الإنسان انطلاقًا من الطاقة الكامنة التي أودعها الله فيه هو أن يصل إلى ربه سبحانه متجاوزًا كل هذه الحدود والعقبات.

والإنسان الذي يعي أنه خليفة الله يمكنه أن يفتح المنافذ التي توصله إلى الله في كل مكان يطل منه، ويمهد السبل، وهذا هو معنى قولهم: “الطُّرُقُ الموصّلة إلى اللهِ بِعَدَدِ أنفاس المخلوقات”، وكما يقول الشاعر “رجائي زاده أكرم”:

الكون كُلُّه كتابُ الله الأعظمُ
فإذا تصفَّحْتَ أيَّ حرفٍ منه وجدتَ الله الأكرم

فمتى وعى الإنسان هذا أدرك أن النظام الرائع الذي يهيمن على هذا الكون يدل على وجود الله تعالى، فحتى وإن لم يتعرف الإنسان على الذات الأحدية ويدركها فقد زادت معرفته بالأسماء الحسنى الإلهية والصفات السبحانية.

وإن معرفة الإنسان بخصائصِ الخلافة والنيابةِ، ومرادِ هذا المقام السامي منه، وكيفيةِ أدائه لحقّه؛ يتوقف على وجود مرشد ودليل، ولا جرم أن المرشدين على مستوى الأصلية هم الأنبياء، ومن بينهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكي يتسنى للإنسان أن يتعرف بحق على الذات الأجلّ الأعلى، وأن يتفهّم المهام والوظائف المنتظَرة منه؛ فعليه التعلق بأذيال هؤلاء المرشدين، ومواصلة رحلة الحياة تحت هدايتهم ومراقبتهم.

فإذا كان الله تعالى -كما ورد في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/30)- هو الذي عهد للإنسان بوظيفة الخلافة، وأمدّه بالقدرة والجاهزية والإمكانات التي تمكّنه من أداء هذه الوظيفة، وسخر له الأرض، فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم مقدار ما سينجز الإنسان من مهام، وما يتمخض عن هذا من نتائج.. ولكن نظرًا لأن طبيعة صفة العلم لا تقتضي وجود المعلوم فإن علم الله لا يحول دون اختيارات الإنسان بمحض إرادته؛ بمعنى أن الله تعالى يخلق النتائج غالبًا وفقًا لميول الإنسان واختياراته.. وهذه مسألة أخرى.

ما أريد قوله هنا هو: إذا كان الله تعالى هو الذي أرسل الإنسان إلى الدنيا بهذه الجاهزية العالية، وأوكل إليه هذه الوظيفة السامية، وأتاح له الإمكانات اللازمة لمباشرة هذه الوظيفة؛ فهذا يستلزم عدم الوقوع في اليأس بأي حال من الأحوال، فحتى وإن تعثرنا وسقطنا أو لم تسِر الأمور كما يحلو لنا، أو لو ظهرت بعض العقبات في طريقنا فلا ينبغي لنا أن نيأس ألبتة، وبما أن الله ساقَنا إلى هذه الرحلة الصعبة فمن المؤكد أن له مرادًا في ذلك، وبناءً عليه فلا محل إذًا لليأس مهما كان الوضع، ولكن تفكير الإنسان في هذا الأمر بشكل سليم وتحديده لموقفه على أساس صحيح يعتمد على التربية والتعليم الجادّين.. أما الإنسان الذي لم ينل قسطًا كافيًا من التعليم فلا يعلم أين وكيف يتصرف! وما الأفكار والمشاعر التي ينبغي له أن يتبنّاها!

قد يبدو لنا أحيانًا وكأننا لا نستطيع مواصلة السير في طريقنا، ولكن يجب ألا ننسى أن رحمة الله وسعت كل شيء، فلو عَلِقنا ومللنا وتعثّرْنا وانقطعت أنفاسُنا في مكان ما فلا شك أن الله سيغيثنا ويمد يد العون لنا، فلا ينبغي لنا أن نقطع رجاءنا وأملنا فيه أبدًا، يشير إلى ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/87)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾ (سورة الزُّمَرِ: 39/53).

وإذا كنا قد استودعنا الله تعالى كل ما لدينا فعلينا ألّا نقع في اليأس أبدًا، فاليأسُ كما يقول فضيلة الأستاذ النورسي رحمه الله تعالى مانعٌ لكل كمال؛ بمعنى أنه أكبر عائقٍ يحول دون رقي الإنسان.. ويعبر شاعر الإسلام محمد عاكف عن أضرار اليأس بالأبيات الشعرية التالية:

اليأس مستنقع عميق الغور، إذا وقعتَ فيه فأنت غريقُ
فعانِق الأملَ بقوة، وانظر ما ستؤول إليه حالك يا صديقُ
إن من يحيا يحيا بعزيمته وبأمله المنشودِ
واليائس يغلّل روحه وضميره بقيد حديديٍّ منضودِ

لذا فعلى المؤمن المدرك لكونه خليفة الله في الأرض ألّا يقع في اليأس أبدًا.. وحتى وإن ظل وحده وانفضّ عنه كل جنوده فعليه أن يتعلق بالأمل ويقول: “طالما كانت ذخيرتي لا حول ولا قوة إلا بالله فسأتمكن من دحر كل الجيوش بعون الله وتوفيقه”؛ لأن اليأس يعني -من جهةٍ ما- تجاهلَ الإنسانِ لقدرة الله التي لا حد لها، والتغافل عن عنايته ورعايته التي لا منتهى لها، وتقييم كل شيء بقوته وقدرته المحدودة.

من جانبٍ آخر لا بد للإنسان أن يتجنب الوقوع في العُجْبِ والكبرياء والغطرسةِ عند وصولِه إلى نعم الله وخلودِه إلى السكون والراحة، ويجب ألا يعزو النجاح والانتصارات إلى نفسه.. فاليأس في الشدة والغطرسةُ في الرخاء؛ هي سلوكياتٌ لا تليق بخليفة الله في الأرض.


[1] يعني لصدره أزيز، والأزيز هو صوت بكائه ﷺ، كأزيز المرجل، يعني: كالصوت الذي يصدر من القِدر إذا استجمعت غليانًا، وصارت تغلي، يكون لها صوت، فهذا الصوت يصدر من جوفه عليه الصلاة والسلام من البكاء، وهذا بكاءٌ في غاية الأدب دون رفعٍ للصوت.