الشوق إلى لقاء الله

الشوق إلى لقاء الله

سؤال: كيف يجب فهمُ المقصود بالشوق إلى لقاء الله الوارد في الحديث النبوي الشريف: “مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ”[1]؟

الجواب: هذا الحديث الشريف يفيد بلازم معناه أن وجه الموت ليس باردًا كما يبدو لنا، ولا يمكن اعتباره مجرد تردٍّ في حفرة ما، وأن الموت لا يعني العدم والفناء، بالعكس إن الموت اسم وعنوان للقاء الله وإدراك معيّته.

يتحدّث أهلُ الحقّ عن الوصال مع الله تعالى وعن إدراك معيته في هذه الدنيا أيضًا، ومن أجل نيل مثل هذه المعية وضعوا طرقًا وأساليب مختلفة وفقًا لمشاربهم وتذوّقهم، إنهم يذكرون أنّ منْ يتفانى في بذل الجهد والسعي بإتقان ويقطع كل العلائق بما سوى الله، ويولي وجهه شطر الله تعالى مباشرة يمكنه أن يرتقي إلى مقامات “الفناء في الله، والبقاء بالله، ومع الله”.. ويمكن تسمية ذلك بـ”الوصول إلى المعية”، وبوسعكم أيضًا أن تطلبوا في دعواتكم “ولاية الله”، والظفرَ بحضرته الجليلة، وليس ولاية فلان، ولا مجالسة علّان.

ومع ذلك، فإن تحقُّقَ اللقاء وفقًا لجوهره وماهيته الحقيقية، وتحقُّقَ الرغبة في المعية على نحو يوافق حقيقتها أمورٌ خاصة بالآخرة، هذه حقائق ستتجلّى تجلّيًا أسمى من أن تُرى بالعين أو تُسمَعُ بالأذن أو تخطر على قلب بشر، ولذلك فإنها لا تكون في هذا العالم؛ إذ يتحقق للمرء شرف اللقاء بالله تعالى ورؤيته بعد دخوله القبر والخروج منه، والمحاسبة، واجتياز الصراط، والوقوف على سفوح الفردوس في الجنة، والمثول بين يديه سبحانه.

الجماليات الكامنة وراء الموت

نعم، لما كان طريق الوصال إلى الله واللقاء به يمرّ بالموت؛ فربما لا يُسَرُّ البعض من هذا، وقد يبدو وجه الموت البارد منفّرًا لهم، لكن الوصول إلى المحبوب الحقيقي أمر غالٍ وثمين، حتى وإن استلزم اجتياز أنهار من الدماء والصديد، وليس العبور من الموت والقبر والبرزخ فحسب؛ لأن هذا حظوة عظيمة للغاية، ومنْ يهابون الموت أو يكرهونه تعساء لا علم لهم بما يكمن وراءه من جماليات؛ فكراهية الموت تعني في الأساس كراهية الارتقاء إلى حضرة الله عز وجل.

كلُّ ما في الكون من جمال إنما هو ظلُّ ظلِّ… ظلِّ الذات الجليلة، وإن الرغبة في الوصول إلى الذات الجليلة هي في الواقع إحدى لوازم الإيمان.. دعونا نَرَ ماذا يقول بديع الزمان حتى عن لقاء نبينا صلى الله عليه وسلم، وليس عن لقاء الله: “لو قيل لك مثلًا: “إن “الإمام الرباني أحمد الفاروقي” قُدّس سرُّه ساكنٌ الآن في الهند، لاقتحمتَ المهالك وتركتَ الأوطان لزيارته، مع أن الإمام الرباني ما هو إلا نجمٌ واحدٌ من بين آلاف النجوم المحيطة بشمس النبوة المسمّى في الإنجيل “أحمد”، وفي التوراة “أحيد”، وفي القرآن محمدًا.. إنهم مجتمعون جميعًا بجوار الحق سبحانه، وما يفصلك عن اللحاق بهم سوى الموت والقبر، فلا بد أن تضعَ هذا نصبَ عينيك دائمًا”[2]، إن لقاء بارئنا الذي خلقنا جميعًا، وزود الكون بالعديد من مظاهر الجمال، وخلق الكون بترتيب ونظام بديع، هو أعمق من أن يقارن بهؤلاء، ولا يُتَصوّرُ خلوّ قلب المؤمن من مشاعر الشوق إلى لقاء ربه عز وجل.

والواقع، أن من يدرك المحاسن المختبئة وراء الموت لا يمكن أن يكرهه، ومع ذلك، فإن منْ يسيء تفسير الوجود، ويرى كل شيء عبارة عن هذا العالم فحسب، ولا يستطيع أن يرى ما وراء العالم المادي، ويعتقد أن الدنيا هي الهدف المقصود بعينه ويلقي بنفسه إلى حضنها تمامًا، فسيجد صعوبةً بالغة في التخلي عنها؛ لذلك يكره الموت، وكما أنه لا يدرك الجمال الذي يمكن الوصول إليه بالموت، فكذلك لا يملك العزم والنية للوصول إلى المصدر الحقيقي لما يراه ويتذوّقه من جمال في الدنيا.

إننا نفهم من الحديث السابق المتعلق بمن يكرهون لقاء الله أن الله عز وجل أيضًا يقابل كرههم لقاءه بالمثلِ فيكرَه لقاءهم، لذا فإنه لن يأخذهم إلى حضرته، ولن يُشرفهم بمعيته، ولن يكرمهم بتجلياته.. ولأننا لا نعرف معنى “الكره” المنسوب إلى الله تعالى؛ فإننا نتناول الأمر على أمن باب “المقابلة” كما في علم البلاغة ليس إلا، ونرجح أسلوبًا كهذا، ولأنهم يكرهون الجسور الموصلة إلى الله مثل الموت والمحشر والصراط، فالله أيضًا يقابل كرههم هذا بالمثل، ويردّ عليهم بالمثل من باب المقابلة.

إن تُحِبُّوا تُحَبُّوا

ومن ناحية أخرى، فإن أهل الحقيقة يرون أن ما في قلوب الناس من محبة الله أو رغبة في لقائه تعني في الأساس انعكاسًا -لو جاز التعبير- للشعور الذي يحمله الله تجاههم فيظهر في صورة إحساس يشعرون به في أفئدتهم، فإذا كان الله لا يحبنا، فلا يمكننا أن نحبه نحن أيضًا، إن الله يشتاق إلى عباده شوقًا مقدسًا ومنزهًا عن التمثيل، وبطريقة تليق بكماله سبحانه؛ فكما قال الأستاذ بديع الزمان، كل فنان يحب فنه، وبما أن الإنسان هو أثر كامل انبثق من فرشاة قدرة الله وإرادته ومشيئته، وخُلق في أحسن تقويم، فإن هناك حبًّا خاصًّا يشعر به الله تعالى إزاء الإنسان، وحب الله عباده وشوقه إليهم أعلى بكثير مما يشعر به عباده تجاهه عز وجل.

حسنًا، فكيف يمكن للإنسان أن يقيس ويعرف مكانته عند الله؟ طبعًا بقدر شدة حبه إياه تعالى.. أي إنه يجب عليه أن ينظر إلى مدى اهتمامه بالله ومحبته إياه ومدى ما به من شوق وعشق للوصول إليه.. ما مدى صدق حبنا لله؟ كم نتحرق وننشغل بحلم لقائه؟ إلى أي مدى تنساب وتلوح هضاب الجنة في أعيننا؟ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثٍ له: “مَنْ اَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللهِ فَلْيَنْطُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ الله عِنْدَهُ“[3].

إذًا فإن الشوق إلى لقاء الله هو في الأصل أمر مرتبط بالإيمان الصحيح بالله، وبحبه، والشعور في الوجدان بمتعة الوصول إليه، وهذه أيضًا أشياء تتحقق بجهد الإنسان وسعيه، وبصورة أدق، إنها أشياء مرهونة بإرادته وتصميمه وفكره.. بالطبع يمكن أن يغرس الله -إلى جانب هذا- توجّهًا في قلب عبده، فقد يُنعم على بعض ذوي الفطر السليمة بألطاف زائدة.. إنه يهب ما يشاء إلى من يشاء، ولا يجرؤ أحد -حاشا وكلا- أن يقول: ” لمَ أعطيت هذا فلانًا!”، بيد أن واجب الإنسان هو أن يعطي إرادته حقها، ويسعى إلى إحسان الإيمان بالله، وتعميق ذلك بالأعمال الصالحة، وإيصال تلك الأعمال بشعور الإحسان إلى عمق يتجاوز كل عمق.. فإذا أعطى الإنسان إرادته حقَّها في هذا الأمر، فإن الله تعالى يخلق في داخله محبة وشوقًا إلى لقائه.

معرفة الله

إن معرفة الله لَمِنَ العوامل المهمة في زيادة الشوق إلى لقاء الله؛ فالإنسان يحب ما يعرفه، ولا يهتم بما لا يعرفه.. ويمكننا أن نوضح الأمر بمثال على النحو التالي: إذا كان أتباع الديانات الأخرى يعرضون اليوم عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو لا يحبونه، فذلك لأنهم لا يملكون معلومات كافية عنه عليه الصلاة والسلام، ولو أن مفخرة الإنسانية عُرِّف إليهم بشكل صحيح وعلى الوجه اللائق به، ولم يشوِّه المسلمون وجهَ الحقائق بمواقفهم وسلوكياتهم القبيحة لتكونت لدى أولئك البشر مشاعر مختلفة تجاه نبينا ولأحبوه يقينًا.. ذلك لأن الإنسان خُلق كريمًا باعتبار فطرته، وهو مخلوق منصف، يستحيل ألا يهتمّ بالجمال والكمال.. لكن ولأننا -نحن المسلمين- لم نستطع التعريف بنبيّنا تعريفًا صحيحًا فإننا لا نرى المودة والحب اللَّذَين نرغب أن يحظى بهما رسول الله.. ولو أننا استطعنا أن نبين بكل عمق ودقة مدى الفطنة التي يتمتع بها، وكيف أنه كان رمزًا للعصمة والعفّة، وكيف كرس نفسه لتبليغ الرسالة ورهن حياته بها؛ فلن يبقى إنسان على وجه البسيطة إلا وأحبه وتحرّق شوقًا إليه.

ولا ننسَ أن معرفة الله بشكلٍ صحيحٍ لا تتحقّق إلا في ظل رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.. فيمكن للإنسان أن يصل بعقله إلى وجود خالق، ولكنَّ معرفتَه إياه بصفاته وأسمائه يعتمد على الرسالة التي قدّمها نبينا صلى الله عليه وسلم.. فلو لم يرشدنا إلى الاستقامة، ويكشف لنا الحقيقة لما تسنى لنا الحصول على المعلومات التي نمتلكها اليوم حول معرفة الله عز وجل.

وإن معرفة الذات الإلهية من هذا الجانب أيضًا تتحقّق من خلال معرفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدخول في محيطه النوراني والانفتاح على شمولية رسالته، ومن لا يعبر من ذلك الجسر يستحيل عليه أن يعرف الله عز وجل، وحين لا يستطيع معرفته، يتعذر عليه أن يحبه، وحين يتعذر عليه أن يحبّه يستحيل عليه الوصول إلى الذوق الروحاني، وعندما لا يستطيع الوصول إليه، لا يمكنه أن يشعر بالرغبة في لقائه جل وعلا.. وعليه فإن المهمة الأساسية الواقعة على عاتق جميع المؤمنين هي تعريف الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم للإنسانية وتحبيبهما إليها مع مراعاة الأسلوب والطريقة المناسبة ومشاعر الجميع.

إن مطالعة الأوامر التكوينية من الديناميكيات المهمة من أجل الوصول إلى أفق المعرفة، وتعتبر “رسائل النور” من المصادر المهمة سُطِرت في هذا الاتجاه، وإن قراءة كتاب الوجود بشكل صحيح وتحليله تحليلًا صحيحًا والوصول إلى نتائج صحيحة يزيد من معرفتنا بالله تعالى، وكلما تعمقنا في معرفة الله أحببناه ورغبنا في وصاله ولقائه أكثر، ومن هذه الجهة، ينبغي ألا نقصّر في تحليل الأوامر التكوينية تحليلًا سليمًا، وأن نطلع على تراكيبها وتفاصيلها.

بالإضافة إلى كل هذا، فعلينا أن نداوم في دعائنا على طلب الإيمان الكامل، والإخلاص الأتم، واليقين التام، والمعرفة التامة، والعشق والشوق إلى لقاء الله، وأن نُلِحَّ كثيرًا في طلبنا هذا.. ويحكي الجنيد البغدادي أنه تمنى على الله أمنيةً ولم يحصل عليها إلا بعد ستين سنة،  ونحن بدورنا فإن لم نستطع أن نداوم على الطلب ستين عامًا فلنجرب المداومة بإخلاص تامّ لمدة ستة أشهر على الأقل، ولنرَ أي نوع من النعم سيمنحها الله تعالى لنا، وأعوذ بالله أن أرتكب بكلماتي هذه أي وقاحة أو سوء أدب مع الله جل جلاله وكأنني أختبره -حاشا وكلّا- ولكن ينبغي ألا ننسى أن أحد الأسباب المهمة وراء صحوة الرغبة في لقاء الله داخل الإنسان هو نية الإنسان وطلبه وإصراره في هذا الشأن.


[1] صحيح البخاري، الرقاق، 41؛ صحيح مسلم، الذكر والدعاء، 14، 15.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي النوري، ص 235.

[3] الطبراني: المعجم الأوسط، 67/3؛ البيهقي: شعب الإيمان، 65/2.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.