التحرُّك الإيجابي البنّاء وأثرُه على المجتمع
سؤال: في واقِعِ اليوم؛ كيف ينبغي لنا أن نفهم معنى التحرُّك الإيجابي البنّاءِفي ظلّ انتشار الظلم والألاعيب الشيطانية التي من شأنها أن تسوق أهلَ الإيمان إلى التحرك السلبي؟
الجواب: تُرتكب اليوم في دولَتِنا وفي كل أنحاء العالم -كما ذُكر في السؤال- صنوفٌ شتى من الظلم، وتُمارَس العديد من الدناءات والفظائع، ويُتوسَّل إلى الكثير من الألاعيب الشيطانية المختلفة.. وفي ظلّ هذا الدوران التاريخي الدؤوب تعرّضَت الإنسانية حتى الآن للكثير من الظُّلْمِ والجَور، حتى إنه قد مرت عليها فترات انفرطت فيها -كما يقول المؤرخون- حباتُ عقد المجتمعات كلية، وربما تسبب في هذا الجنون بعض المستبدين من أمثال نابليون وهتلر وستالين عن طريق إثارة شعور الجنون لدى الناس؛ فبسبب غرام هؤلاء بالسلطة تسببوا في مقتل الملايين من الناس، وبعد أن أُصيبت البنية بالضعف تسلطوا على الإنسانية، وابتدعوا لها أنظمة سَامَتْها سوءَ العذاب.
ووفقًا لقناعتي القاصرة فإن عالم اليوم يشهد فترة أخرى من الفترات التي أصيبت فيها البشرية بالجنون تمامًا، فهذا يعتدي على هذا، وذاك ينكل بذلك، والحق في يد القوي، والقوي يعمد إلى قمع الناس وقهرهم وفرض الوصاية عليهم بكل ما أوتي من قوة، إلى أن تفشَّى هذا المرض في المجتمع بأكمله، لدرجة أن من تنقصهم الكياسة والفراسة العالية التي يستطيعون بها إدارة الدولة قد أصيبوا هم الآخرون بحب الإدارة، وبدؤوا يقولون في أنفسهم: “يا ترى ألا نستطيع نحن الآخرين أن نستولي على القوة، فنقوِّم المجتمع كما نشاء؟ لماذا لا نكون من الذين يُشار إليهم بالبنان ويصفق لهم الناس؟!”، والحال أن هؤلاء لا يرغبون في الإدارة والسلطة خدمةً لدينهم وغاياتهم الوطنية ومصلحة بلادهم، بل من أجل مصالحهم الشخصية ومستقبلهم، وللوصول إلى هذه الأهداف يستبيحون كل الوسائل من الكذب والخداع والنفاق؛ إلا أنهم ولو أحرزوا انتصارات مؤقتة فإن الحق تعالى سيمنِّيهم بهزائم أضعاف ما كسبوا.
فكما يجب أن يكون الهدفُ مشروعًا فلا بدّ أن تكون السبل التي تؤدي إليه مشروعة أيضًا، ومتوافقة مع القوانين الإنسانية والأخلاقية والإلهية، واستحلالُ كلِّ وسيلة تؤدي إلى الهدف ليس بنمطٍ فكري يليق بالمؤمن، فكما أن هذا السلوك يبتعد فراسخ عن منهج الأنبياء العظام فيجب أن يبتعد فراسخ أيضًا عن وارثيهم.
أجل، لقد حاز التحرك الإيجابي أهمية خاصة في عالم اليوم، هذا العالم الذي أصبحت فيه المكيافيلية تهيمن على المجتمع بأسره، ويُتوسَّل فيه إلى الحيل والألاعيب الشيطانية، وتنحل فيه حبات عقد الإنسانية، والتحرك الإيجابي يعني عدم مقابلة التصرفات والأعمال السلبية بمثلها، والبعد عن الانشغال بالأقوال والأعمال المنفورة، وتجنب نشر الإشاعات، وعدم إهدار الوقت في الثرثرة الفكرية، والانصراف إلى الخدمة دائمًا من أجل تحقيق الغايات المثالية، والاشتغال بالإصلاح والتعمير، والسعي دومًا إلى تحقيق الوفاق والاتفاق.
عدم الوقوع تحت وطأة الحوادث
ولقد ركز الأستاذ النورسي كثيرًا على الحركة الإيجابية البناءة في مؤلفاته، وكان يوصي طلابه بها على الدوام، فالوظيفة الملقاة على عاتق رجال الخدمة اليوم الذين يستهدفون غايات مثالية معينة وينطلقون لتحقيقها؛ هي السعي وراء الإيجابيات دون التعلق بالسلبيات، فالمنشغلون بالأحداث لا يستطيعون إدارتها، ولا يقدرون على حل المشاكل التي يلزم حلُّها.
فإذا انشغلتم بالردّ على ما يُقال ضدكم من أقوال وما يُوجَّه إليكم من إهانات وما يدّعى عليكم من افتراءات، وحددت هذه الأمورُ أسلوبَ تعاملكم مع الآخرين؛ فلن تكون لديكم القدرة على عمل ما يلزم من أجل أمتكم أو من أجل الإنسانية، ولن تستطيعوا أن تُنشئُوا المشاريع التي تهدف إلى حل مشاكل الإنسانية، ولا أن توفّروا الدعم اللازم للمشاريع والخطط الحاضرة.
ولا يخلو هذا العصر أيضًا من مخالفين وأعداء لا يتورعون عن الكذب والافتراء والإهانة وتشويه صورة المؤمنين الصادقين الذين يعملون في الخدمة في سبيل الله، فلو أنكم اكترثتم بالأقوال والأفعال السلبية التي تصدر عن هؤلاء لما استطعتم أن تقوموا بما يجب عليكم القيام به، قد تهُمّون اليوم بالرد على إهانة أحدهم، ولكن سيأتي في اليوم التالي شخص آخر يتوجه إليكم بأفظع وأشدّ ممّا قيل لكم من قبل، وعندها تستغرقون في التفكير في حلّكم وترحالكم محاولين إيجاد الرد المناسب لما قاله ذاك وفعله، ونتيجة لذلك لا تستطيعون التخلص من طوق الحوادث الذي تعيشون داخله، ولا يخفى أنه من المتعذر على الإنسان الذي يعيش تحت ضغط الحوادث وتأثيرها أن يُقبل على الحياة، ولا أن يمتلك القدرة على التأثير.
من جانب آخر لو انشغلنا بالسلبيات التي تنعكس على شاشات التلفاز أو صفحات الجرائد سنكون سببًا في تكدير أذهاننا ومشاعرنا وأفكارنا، وسنعيش دائمًا مع الانفعالات وردود الأفعال والإحباطات التي تولِّدها هذه الحوادث، وسنفقد التفكير السليم، ولا نقدر على التفوّه بالكلام الحسن، وإنشاء الأفكار الجميلة، ولن نجد حلًّا للمشكلات المتراكمة التي تنتظر الحل، أما بالنسبة لتوضيح وتصحيح وتكذيب الادعاءات والافتراءات والاتهامات التي ألصقها البعضُ بنا، فعلينا أن نعهد بهذا الأمر إلى أهل العقد والدراية بدلًا من أن ينشغل بها الجميع.
فالذي ينشغل بهجوم الآخرين واعتدائهم دائمًا يدمِّر نفسه، ومن دمّر نفسه لا يُنتظَر منه إعمارٌ ولا تنعقد عليه آمالٌ، فهل من أسلم نفسه لتيار الشلال تسعه قوته أن ينقذ شخصًا على وشك الغرق؟! إن محاولته لإنقاذ هذا الشخص من المحتمل أن تؤدي إلى إغراقه بشكلٍ أسرع، ومن ثَمّ فعلى الذين نذروا أنفسهم من أجل ترميم الحضارة التي ما زالت تتعرض للخراب والتشويه منذ ثلاثة قرون ألا يستسلموا لأي نوعٍ من السلبيات؛ لأن عملية الترميم هذه لا يقوى عليها أناسٌ أجهدهم التعب بسبب صراعهم مع الحوادث اليومية، فلا يقدِر على القيام بهذا العبء إلا الأبطال الذين تخلّصوا من ثرثرة الأفكار وحازوا سلامة الروح.
النظرة الشمولية والدبلوماسية
على الذين اعتمدوا التحرك الإيجابي مبدأً لهم ألا يقابلوا السلبيات بمثلها، ولا يسمحوا باستشراء الحقد والغل بين جنبات المجتمع، بل عليهم بدلًا من هذا أن يلجؤوا إلى الدبلوماسية لحل المشكلات، وبدلًا من استخدام الشدة والعنف عليهم السعي لحل المشكلات بالمنطق والمحاكمة العقلية السليمة، وأن ينظروا إلى الحوادث نظرة إجمالية شاملة، ويضعوا في حسبانهم الأسباب وما يتولد عنها من نتائج.
فالمشكلات التي يُعتقَد أنها قد تم حلها باستخدام القوة الغاشمة والسحق والقهر هي في الحقيقة ليست حلولًا دائمة كما هو الحال في أي وقت كان؛ مثال ذلك المشكلة القائمة إلى الآن في جنوب شرق تركيا، كم من الدماء أُريقت، وكم من حروب ومعارك اندلعت، ومع ذلك لم يتمّ التغلب على المشكلة ولم تُحَلّ، حتى بعدما ظُن أنهم قد فرّوا إذ بهم يستعيدون عافيتهم ويرجعون من جديد، ويواصلون معاركهم بإستراتيجيات جديدة، لقد جُرِّبَتْ محاولاتٌ عديدة لقهرهم وسحقهم، لكنهم نهضوا من جديد، وعندما استمر التعامل مع المسألة بالقوة والعنف -وانطلاقًا من إحساسهم بالظلم والاضطهاد- حاولوا أن يجدوا لهم ظهيرًا في الخارج، ونجحوا في ذلك.
بيد أنه لو تم النظر إلى المشكلة نظرة إجمالية شاملة، ولو تم تشخيص الأسباب جيدًا، وتم اختيار العلاج المناسب لاختفت هذه المشكلة منذ وقت بعيد، ولو أنهم استخدموا الطرق الدبلوماسية بدلًا من القوة والعنف لما أُريقت الدماء، ولا تشكلت العداوات، ولا توارثت الأجيال الغل والأحقاد، فإن تجنُّبَ العنفِ، والتخلي عن التصرفات الفظة، وعدم سحق الناس وممارسة الضغط عليهم، واللجوء إلى اللين والرفق والعقل والدبلوماسية في حلِّ المشكلات؛ هو أحد متطلبات التحرك الإيجابي.
روح الوحدة والاتحاد
من الأسس المهمة الأخرى التي لا بد من التركيز عليها في هذا الصدد هو بذل الجهد في سبيل ترسيخ روح الوحدة والاتحاد بين أفراد المجتمع، فإن أمكن إرساء هذه الروح بين الناس من خلال التراجع، فالتراجع حينذاك أولى من التقدم.. يجب ألا نستصغر هذا القدر البسيط من الجهد لأجل تحقيق الوحدة والاتحاد بين الناس، فلهذا الجهد قيمة عظيمة عند الله، فنحن لا يمكننا الجزم بنوع العمل الذي يفضي إلى خلاص الإنسانية، فربما ينقذ هذا التراجعُ الكثيرَ من الناس.
إن القيامَ بتصرفاتٍ من شأنها أن تعمل على تمكين روح الاتحاد ولم الشمل مثل التقرب من الناس بالحال اللين والقول اللين والفعل اللين، والتجاوز عن أخطائهم وتقصيراتهم؛ هو أمر له أهمية خاصة عند الله تبارك وتعالى، فالحق تعالى يأخذ مثل هذه النوعية من التصرفات في الآخرة فينمّيها، فينال بها صاحبها النعم الأخروية المهمة التي يتعذر الوصول إليها.
ولهذا لا بد من حسن الظن في الآخرين، وبَذْلِ الجهد قدر ما نستطيع لجمع الناس ولم شملهم، أما انتظار أن يتشبه الناس بنا، وأن يفكروا مثلنا، وأن يسيروا على طريقنا؛ فهو نوع من الأنانية، فالمهم هو أن نجتمع حول بعض القواسم المشتركة، فلكلِّ شخصٍ صوتٌ وفكرٌ ونظرةٌ مختلفة، وقد تتشكل جوقة موسيقية متناغمة من أنغام وأصوات مختلفة.
وباجتماع أصوات شتى وآلات موسيقية مختلفة تتشكل أوركسترا كبيرة، فرغم اختلاف الأصوات والنغمات فإنها تعبر عن معنى معين لدى السامع، وهكذا فالمهم هو القدرة على جمع هذه الاختلافات والتنوعات حول روح الوحدة، أما ترقُّبُ أن يكون الآخرون مثلنا فهو أمر يتنافى مع الفطرة ويعبّر عن الأنانية، ويسوق الناس إلى التمزق والتشتت، وليس إلى الوفاق والاتفاق.
وكما هو معلوم فإن المدينة المنورة لما شرَّفها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم كان عدد اليهود بها حوالي أربعة آلاف، ومثل هذا العدد كان من المشركين، أما عدد المسلمين بقضهم وقضيضهم فكان يصل إلى حوالي ألف وخمسمائة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد سبيلًا إلى عمل وحدة مجتمعية بين هذه الطوائف، واستطاع أن يجمع اليهود والمشركين الذين يزيدون عن المسلمين خمسة أو ستة أضعاف حول وثيقة المدينة، فاستمر هذا الوفاق حتى العام الخامس من الهجرة إلى أن نقضه اليهود في النهاية.
فما يقع على عاتقنا هو أن نقبل كلَّ إنسانٍ في مكانه ومقامه، وأن نحترم فكره ومشاعره، فلو أنكم استهدفتم أفكار الناس ومعتقداتهم وحاولتم قصفها والهجوم عليها فستفرقونهم من حولكم، وتبعدونهم عن أنفسكم، وعندئذ لا تربحون شيئًا بل تكونون قد خاطرتم بسلامة الطريق الذي تسيرون فيه؛ لأن هؤلاء الذين فرقتموهم من حولكم وربما جعلتم منهم أعداء لكم لن يسمحوا لكم بالسير آمنين في الطريق الذي تسيرون فيه، بل سيظهرون لكم في كل ركن كالغيلان، يريدون تشتيت أذهانكم وهممكم وطاقاتكم، ومن ثمّ يجب أن تركزوا على الأعمال المطلوبة منكم، وإلا ستضطرون إلى الانشغال بالمشاكل التي سيسبّبها هؤلاء لكم بدلًا من الاشتغال بأعمالكم.
وهكذا فإن كنتم لا تريدون أن تتسببوا في كل هذا فلا بد أن تتحروا سبل التعايش في أمنٍ وطمأنينةٍ مع أصحاب الرؤى العالمية المختلفة، ولأجل هذا يجب أن تحترموا إنسانية الجميع، وألا تنالوا من قناعاتهم، وألا تؤذوا الناس بأيديكم وألسنتكم.
محبة المنهج لا تعني التعدي على مناهج الآخرين
ولقد جعل بديع الزمان سعيد النورسي للحركة الإيجابية معيارًا، أشار فيه إلى ضرورة أن يحب الإنسان منهجه، ولا يتدخل في مناهج الآخرين، ولا يضمر لهم العداوة والبغضاء أبدًا؛ بمعنى أن محبة الإنسان لطريقه ومنهجه لا يستلزم وصف طريق الآخرين ومنهجهم بالقبح والباطل.
أجل، ما يقع على عاتق المؤمن الصادق هو أن يحب منهجه الفكري والاعتقادي، وأن يتمسك به بجنون، وأن يرعاه ويحميه بكل كيانه، بل يجب أن يكون فكرُه وشعوره على النحو التالي: “اللهم إنني أرضى أن أموت في اليوم عشرات المرات على أن تكون راية الإسلام المبين عالية خفاقة في كل أنحاء العالم”.. هذه هي محبّة الطريق والمنهج، وقد كانت هذه هي خاصية الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، كانوا أوفياء بحق لمنهجهم، وعلى أهبة الاستعداد للموت في هذا الطريق عن طيب نفس.
ومن لم يحمِل هذه الأفكار وهذه المشاعر، ولا يقدم على أي تضحية في سبيل تبليغ القيم التي يؤمن بها إلى العالم، بل ويهدر وقته يمنة ويسرة؛ ويصب لعناته على الآخرين، ويوجه الإهانات إلى هذا وذاك، فلن يفيد عمله هذا بشيء سوى إثارة العداوات، وإرضاء الشيطان وإسعاده.
فلو كنا نريد جمع الناس والتأليف فيما بينهم فلا بد أن نراعي مشاعر الآخرين وتطلعاتهم ومواقعهم وتمسكهم ومحبتهم لِقيَمهم، ثم نتحرك بناء على ذلك، والله تعالى هو الذي يؤلف بين قلوب العباد كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/63)، فما يقع على عاتقنا هو مراعاة الأسباب دون قصور، والعمل على لمّ الشمل وتآلف القلوب، فلا نحوّل محبَّتَنَا لمنهجنا إلى عداوة الآخرين لنا، ولا نجعل اختلافنا سببًا للنزاع والخصام، بل نعمل دائمًا على نثر بذور المحبة في كل مكان، واحتضان كل البشرية، ورسمِ البسمة على وجوه الجميع.
- تم الإنشاء في