أربعة أنواع من البلايا يُستعاذ بالله منها

أربعة أنواع من البلايا يُستعاذ بالله منها

سؤال: هل لكم أن تشرحوا وتوضحوا الأمور التي وردت في دعاء سيدنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا[1]؟

الجواب: يُعَدّ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من الأوراد الدائمة، وبإمعان النظر في هذه العبارات النبوية يتبين أنها جميعًا تحتوي على معانٍ عميقة، وقد اختزل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا معانيَ واسعةً في عباراتٍ وجيزةٍ كما هو الحال في كثير من بياناته التي هي من جوامع الكلم.

والواقع أنه يمكن النظر بهذه النظرة إلى كل كلمة تخرج من فيه المبارك، وربما تكون هذه الدقائق مفقودةً في بعض الأحاديث المروية بمعناها لا بلفظها، والحقيقة أن الصحابة رضوان الله عليهم أثناء روايتهم للحديث أَوْلوْا عناية كبيرة وفائقة بروايتها بالألفاظ التي صدرت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتوجّسون خيفةً من أن ينسبوا إليه كلمة لم يقلها، وإن المطابقة أو التشابهَ في رواية العديد من الأحاديث التي وردت بأسانيد مختلفة لتكشفُ عن مدى حساسية الصحابة واهتمامهم في هذا الموضوع، ورغم كل شيء يجب ألا نغفل إمكانية وجود بعض الفروق اللفظية في الأحاديث المروية بمعناها.

وفي الحديث الوارد هنا يستعيذ الرسول صلّى الله عليه وسلم من أربعة أشياء، تمامًا مثلما استعاذ في أحاديث أخرى من الشيطان وعذاب جهنم وشر النفس والمصائب الجسام التي يتعذر الثبات أمامها، أي إن كلَّ أمرٍ من الأمور المذكورة في الحديث آفةٌ ومصيبةٌ عظيمةٌ تتطلّب من المؤمن الاستعاذة بالله منها.

أولًا: علم لا ينفع

وعندما ننظر إلى الآفات المذكورة في الحديث نجد أوَّلَها العلمَ غيرَ النافع، فأيُّ إنسانٍ يمكنه أن يتحصّل على مجموعة من المعلومات النظرية بالتفكر في الأنفس وفي الآفاق، وبما يجريه من دراسات وبحوث حول الكون، وبالجلوس إلى معلم، وباستماع المواعظ والنصائح… إلخ. ولكن الأمر المهم أصلًا هو تحويلُ هذه المعلومات إلى واقع عملي والعملُ على أن تُؤتي ثمارها، فإذا ما اعتبرنا المعلومات المتوفرة لدينا بذرةً فإنَّ تحوُّل تلك البذورِ إلى شجرةٍ مثمرةٍ أمرٌ مرهونٌ بالعمل، وهكذا فإن الحكمة الحقيقية أيضًا تتولد من هنا، وبالمثل فإن معرفة الإنسان للذات الإلهية أمر مرهون بإدراكه النقطة الجامعة لما هو نظري وما هو عملي، واستثمار كليهما في وقتٍ واحد.

وأرجو ألا يُفهم من كلامي هذا أن المعلومات النظرية غير مهمة؛ فبها تُعرَف ماهية التطبيق وكيفيته، فعلينا امتلاك العِلمِ أولًا، ثم يجب الوقوف على الطريقة التي يمكن أن نحوّل بها هذا العلم إلى عمل في حياتنا الشخصية والأسرية والاجتماعية على حد سواء، ونجعله مفيدة ونقدّمه لإفادة الإنسانية.

وإن فهم المقصود من العلم هنا على أنه العلم الديني تضييقٌ للمسألة، فمن يشتغلون بالعلوم التطبيقية -أي من يبذلون جهدًا من أجل فهم الأوامر التكوينية- يجب عليهم أن يركزوا على جعل العلوم التي يتحصّلون عليها علومًا مفيدةً لأنفسهم وللإنسانية جمعاء؛ لأن المعلومات التي تظل عبارة عن نظريات مجردة لن تعود بالنفع على أي أحد.

بالإضافة إلى ذلك فإن النفع المذكور في الحديث يشمل المنافع الدنيوية والأخروية على حد سواء، وعليه فإنه ينبغي ألا تظل المعلومات التي تحصلنا عليها حبيسة النظرية، فبينما نسعى لإعمار الدنيا بواسطتها من ناحية، علينا من ناحية أخرى أن نسعى إلى إحياء آخرتنا بها أيضًا، والحقيقة أنكم إن قدمتم علمكم لنفع الإنسانية، ولإقامة صرح روحكم؛ عادت عليكم ثمار ذلك في الآخرة.

والحاصل أن الأصل في العلم هو تطبيقُه وجعلُه مفيدًا نافعًا، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم إن لم يكن على هذا النحو.

ثانيًا: قلبٌ لا يخشع

الأمر الثاني الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القلب الذي لا يخشع، والخشوع يعني تلوي الإنسان بين يدي الله وارتجاف قلبه عند ذكر الله وإصابته برعشة تضربه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، وبناءً على ما صرحت به الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(سورة فَاطِرٍ: 35/28) فإن العلم يقتضي خشية الله، ولكنه وكما أن العلم المراد هنا ليس العلم النظري المجرد، فإن العالم أيضًا ليس ذلك الإنسان الذي يحمل معلومات نظريةً فحسب، فالإنسان الذي لا يعيش بحسب متطلبات علمه ولا يعمل بعلمه لا يختلف عن الإنسان الجاهل في شيء.

المهم هو تحويل المعلومات النظرية المتوفرة إلى معرفة، أي جعلها ثقافة وجدان وخلية عرفان، وهذا أيضًا من شأنه أن يُنمي المحبة في الصدر؛ وحينها يشعر العبد بربه ويُحبه أكثر؛ لأن الإنسان يحب ما يعرفه بقدرِ معرفته له، فإن لم يكن لدى البعض حبٌّ وشوقٌ إلى الله فما ذلك إلا لأنهم لم يعرفوه ولم يخبروه بما فيه الكفاية، ولا يمكن لقلب مشغول بمعرفة الله ومحبته ألا يشعر بالخشوع بين يديه، فمثل هذا الشخص دائمًا ما يكون حذرًا ويقظًا، ويصاب بالقشعريرة حالما يسمع الاسم الجليل لله سبحانه وتعالى، وهذا أيضًا يثير الشعور بالشوق إلى لقاء الله، أي إن المرء ينتظر دائمًا اليوم الذي سيصل فيه إلى الله ويلتقيه، ولكن لأنه يعلم أنه أُرسِل إلى الدنيا كجندي وأن أمر تسريحه ليس في يده فإنه يظل ينتظر بصبرٍ ورضًا تلك اللحظة التي سيُسرَّح فيها، فمن ناحية يشتعل ويلتهب كالمواقد بالشوق إليه تعالى، ومن ناحية أخرى لا يشتكي ولا يبدي أي غمٍّ وحزنٍ، ويظلّ طوال حياته يعيش في هذا الإطار الثنائي، وهكذا فكل هذه الأمور قضايا تتعلق بالحكمة من جهة وبالخشوع من جهة أخرى، ذلك أنه يمكننا النظر إلى الخشوع على أنه إصلاح وإعمار وإحياء للقلب، بل والأكثر من ذلك، صيرورةُ اللطيفة الربانية والسر والخفي والأخفى في نشاط وحيوية.. وكل هذه آفاق يمكن الوصول إليها عبر استخدام العلوم النظرية التي تم الحصول عليها ابتداءً استخدامًا جيّدًا للغاية.

ثالثًا: نفس لا تشبع

ويستعيذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ثالثًا من النفس النهمة التي لا تشبع؛ فلقد خُلقت النفس مولعة بالأكل والشرب والتجوال واللهو واللعب، فالنفس التي تأكل بنهم وشره، ومهما أعطيتَها تقول دائمًا: “هل من مزيد؟”، ولا تتخلى عن جشعها هي بلاء يُستعاذ منها، فلم يُخلَق الإنسانُ لإشباع رغبات النفس ونزواتها، وإنما للعبادة والعبودية، وفي الكون مخلوقات متعددة وكثيرة تأكل وتشرب وتنام وتستريح، وألا يمكن لكائنٍ ملكاتُه على أعلى مستوى مثل الإنسان؛ ألّا يكون له همٌّ سوى الأكل والشرب فقط.

إن الإنسان الذي جعله الله مظهرًا لأحسن تقويم ينبغي أن تكون عليه بعض المسؤوليات والتكاليف التي يتطلبها هذا الخلْق المثالي.. ويصف القرآن الكريم مَن لا يقومون بهذه المسؤوليات بقوله: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/179)؛ لأن فساد الشيء الثمين ليس كفساد الشيء العادي، وأيًّا كان مقدار النعمة التي أنتم فيها، فإنكم إن لم تقدروها حق قدرها، ستدفعون لذلك غرامةً بقدر النعم التي حظيتم بها، وإذا استُضفتم في الجناح الخاص ولم تراعوا آدابه فلن يتركوكم في الردهة فحسب، بل يطردونكم إلى الخارج.. والأمر كذلك تمامًا بالنسبة للإنسان أيضًا فإنه إذا تخلّى عن ماهيته وتفسّخ وتعفّن فلن يمكنه الثبات على سطح مستوٍ؛ بل سيسقط ويتردّى في حفرة عميقة.

رابعًا: دعوة لا يُستجاب لها

ويستعيذ رسولنا صلى الله عليه وسلم أخيرًا من الدعاء غير المستجاب، يقول الله تعالى :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/186)، ففي هذه الآية يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى بأنه سيجيب الدعاء، وفي آية أخرى يحثُّ الله عباده على الدعاء فيقول:﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(سورة غَافِرٍ: 40/60).

وثمة فائدة من التذكير هنا بأن: استجابة الله لدعوات عباده لا تعني أن يعطيهم دائمًا الأشياء التي طلبوها بعينها؛ لأن الأشياء التي يريدها العبد قد تكون ضدَّ مصلحتِه أحيانًا، لذا يستجيب الله لدعاء عبده بأن يعطيه أجمل مما يطلب، وهذا يشبه تمامًا قولَ المريض للطبيب “أعطني هذا الدواء”، فالطبيب لا يصف الدواء الذي يريده المريض إن كان لا يراه مفيدًا له، وإنما يعطيه دواءً آخر ناجعًا له.

ومن ناحية أخرى فقد ورد في حديث نبوي شريف: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ[2]، ولهذا السبب فإن واجب المؤمن هو أن يرفع دعاءه إلى الله تعالى بتركيز وخشوع شديدين، ويعمل على إزالة جميع العقبات التي بينه وبين الله عز وجل، ثم يتوجه بقلبه إلى الله تعالى مباشرة.. وعليه أن يفكر في المعنى الذي تشير إليه كل كلمة تخرج من فمه، وأن تخرج كلمات الدعاء من فمِه بطريقة تؤثّر على إيقاع قلبه.

لذلك يمكننا القول إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالله من الدعاء في غفلة ودون وعي وشعور، رغم أنه لم يدعُ ربه على هذا المنوال قط، ولكنه يقول ذلك كإحدى مقتضيات رسالته وإرشاداته مثلما هو الحال في الأمور الأخرى، إنه يرشد أولئك الذين تقطعت بهم السبل وسقطوا وزلّوا أمثالنا.. فواجبُنا نحن في المقابل أن نضرع إلى الله بالدعاء دائمًا دون كلل ولا ملل، مراعين تمامًا كلَّ آداب الدعاء وأركانه.


[1] صحيحمسلم، الذكر، 73؛سنن أبي داود، الوتر، 32؛سنن الترمذي، الدعوات، 68.

[2] سنن الترمذي، الدعوات، 66.