هل يتكرَّرُ “عهد الفترة”؟

هل يتكرَّرُ “عهد الفترة”؟

لا أحد يستطيع أن يطّلع على خاتمة أحد، هل مات على الإيمان أم على الكفر؟ فقد ورد في الحديث الشريف: “…ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا، ويَعيشُ مُؤمِنًا، ويَموتُ كافِرًا، وَيُولَدُ الرَّجُلُ كافِرًا، ويَعيشُ كافِرًا، ويَموتُ مُؤمِنًا…”[1]، فالله تعالى لا يضيع حتى أصغر الأعمال الصالحة، وإنّ رحمتَه سبقت غضبَه، فقد يشرح الله عز وجل في اللحظات الأخيرة صدورَ بعضِ الأشخاص إلى الإسلام مع أنهم قد ولدوا على النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو أي دين آخر ويعيشون وفقًا لدينهم، وذلك بسبب بعض ما قدموا من أعمال صالحة، فيقدِّرُ لهم الموت والانتقال إلى الآخرة مسلمين.

بينما من ناحية أخرى قد يفقد بعض المؤمنين إيمانهم في اللحظات الأخيرة -حفظنا الله- لضعف إيمانهم أو ببعض ذنوبهم ومعاصيهم؛ لذلك لا يمكننا أن نعرف يقينًا خاتمةَ أيِّ شخص أو نوعَ المعاملة التي سينالها بعد الموت، وبما أننا لا نعلم ذلك فإننا نترك الحكم النهائي لله تعالى.

“أهل الفترة”

عند التعامل مع مثل هذه المسائل، ينبغي ألّا ننسى معالجات العلماء أمثال الإمام الغزالي وبديع الزمان حول “أهل الفترة”، كما هو معروف، فإنهما يؤكدان على احتمال أن يكون هناك عهد فترة بعد مبعث مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم إلى البشرية جمعاء، وأن الأشخاص الذين لم يتلقوا الرسالة الإسلامية بهويتها الأصلية هم عند الله جل جلاله في عِداد أهل الفترة ويعامَلون معاملَتَهم.

ومما يستدعي الأسف أن الإسلام اليوم لا يُقدَّم بطريقةٍ تتناسب مع العقل والمنطق والوجدان والعواطف، فكما أنه لا يُمثَّل بشكلٍ جيّد فإنه لا يُداوَم أيضًا على تمثيله، فهناك عدد غفير من الناس يعيشون مدًّا وجزرًا بين الحانة والمسجد إذا جاز التعبير، ومَن اهتدى مِن الناس فقد اهتدى بنعمة من الله تعالى ولطفٍ خاص، وإلا فإن الذين يبحثون عن الحقيقة وعن الإسلام في الحالات الطبيعية قد يعودون أدراجهم من حيث أتوا عندما يروننا، ويزهدون بالإسلام عندما يشاهدون تجسيدَنا له، وهذا كله يفتح السبيل أمام تشويش الأذهان وتكديرها.

لذلك فإنه من الجائز أن يُنظر إلى بعض الناس اليوم على أنهم أهل الفترة، ومن ثم يكون هذا عاملًا آخر يمنعنا من إصدار حكم جازم بشأن عاقبة ومصير المتوفى، غير أنه من الضروري أن يُستبعد من هذا التقييم من يُعلنون كفرَهم ويرفعون رايته في كل فرصة داعمين ذلك بالأسس العلمية.

وبما أن القاعدة الدينية تقول: “نحن لنا الظاهر والله يتولّى السرائر”، وبما أننا لا يمكننا أن نشق على قلب أي شخص وننظر ما بداخله؛ فإننا نحكم على الظاهر، فإذا كان الإنسان قد عاش مسلمًا ولم يكن لديه ما يغيِّر فكرتنا عنه حتى اللحظة الأخيرة، فإننا نكفنه ونجهزه بعد وفاته وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية وندفنه في مقابر المسلمين.. من ناحية أخرى إذا أنكر شخصٌ ما اللهَ جل جلاله ورحل إلى الدار الآخرة على إنكاره، فستكون معاملتُنا له وفقًا لذلك، ومن ثم يكون طلبُ أبناء المتوفى أو أقاربه أو أصدقائه الرحمة والمغفرة لمن مات على الكفر أمرًا يجانبه الصواب.

الدعاء بالمغفرة لغير المسلمين

إنّ طَلَبَ الإنسانِ العفوَ والمغفرة من الله تعالى لِمَنْ علِمَ أنهم ماتوا على الكفر لَيعني أنه يفرِضُ وصايتَه ورغباتِه ومشاعرَه على إرادة الله في هذا الأمر، وإذا جازت الشفاعة أو الاستغفار أو حسنُ الشهادة لمن مات وانتقل إلى الآخرة دون إيمان، لَفَعَلَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع عمِّه أبي طالب الذي كان ظهيرًا له طوال حياته، ولم يجد منه سوءًا قط.

وفي هذا الصدد فقد حظر القرآن الكريم بشكل جازم طلبَ العفو والمغفرة لمن مات على الشرك، يقول تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/113).

كما أن المعلومات التي قدمها القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في هذا الصدد مهمة أيضًا لفهم الموضوع جيدًا، فيذكر القرآن الكريم الدعاء الذي دعا به سيدنا إبراهيم لأبيه، فيقول تعالى: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/86)، بينما آيةٌ أخرى تُبيِّن أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد وعد أباه في حياته أن يستغفر له، فيقول تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/47)[2].

وفي سورة التوبة أوضح القرآن الكريم أن استغفار سيدنا إبراهيم لأبيه الذي مات مشركًا، كان بسبب موعدةٍ وعدَها إياه، ومع ذلك فإنه عندما تبيَّن له كفرُ أبيه تخلى عن طلب المغفرة له، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/114).

المعيار هو الرحمة الإلهية!

عند الحديث عن مثل هذه الأمور يجب أن يكون المرء ملتزمًا بمحكمات الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى يحرص أشدّ الحرص على استخدام الأسلوب الصحيح حتى لا يتسبب في جرح مشاعر الناس أو الإساءة إليهم.. يجب أن نكون منتبهين عند التحدث إلى الأشخاص الذين لم يُكرَم والداهم أو أقرباؤهم بالإسلام، بل ومن الممكن أن نعبر أمامهم عن الحقيقة وعن رغباتنا ومرادنا دون جرح مشاعرهم بتعبيرات مقيَّدة وحذرة مثل: “إذا انتقلوا إلى الله تعالى عارفين به ومؤمنين به، فإننا نرجوه عز وجل ألا يضيع عملهم هذا برحمته التي وسعت كلَّ شيء”.

ومع ذلك يجب في مثل هذه الحالات الحرص على عدم إساءة الأدب مع الله بطلب ما لا يجوز طلبه منه تعالى كأن يُطْلَبَ مكانٌ في الجنة لأشخاص ما، فلو قلنا في مثل هذه الحالات التي لا نعرف فيها عاقبة الشخص: “اللهم ضع فلانًا في جنتك، وأسعده بفردوسك”، نكنْ بذلك قد استبدلنا مرادنا بمراد الله جل جلاله، والأفضل في هذه الحالة هو عدم تجاوز محكمات الدين، وأن نَكِلَ الأمر إلى الله عز وجل، وألا ننسى أن الله هو أمنّ عليهم وأرحم بهم منا، وكما يشير الأستاذ بديع الزمان: “فَأَيُّ رحمةٍ زائدةٍ عن الرحمة الإلهية هي في الحقيقة جفاء”.


[1]  سنن الترمذي، الفتن، 26؛ مسند الإمام أحمد، 17/228.

[2]  انظر أيضًا: سورة الممتحنة: 60/4.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.