الْمحجَّة البيضاء

-1-

إذا عقد النوم أجفاني، والليل اجتواني، وطواني وآواني...
تفتّحت عين روحي، وفي الأكوان جالت، والآتي من الأزمان طالت...
فإذا المستقبل الموعود، بغلالة من نور..
يغمر الوجود، وينهلُّ بالندى الطَّهور، في صمت وهدوء...

-2-

وساعة الأرض دَقَّتْ، والكلُّ في الصفِّ انتظم..
وعن "أناه" تخلّى، وبـ"نحن" اشتغل..!
والقرون التي عانت، من سوء الصروف، وزلزلة الحتوف...
واضطراب العقول، وفوضى الأصول...
عادت اليوم، صافيةً نقية، خالصة تقية...
وضاءة الجبين، مشرقة الأسارير،
طافحة بالنور بعد الظلام،
وبالأمن والأمان، بعد الخوف والعذاب...

-3-

موطن للقلب هذا النور، وللروح حبور، وللأيام أفراح وسرور...
والنَّاس.. قبلَ أياديهم قلوبهم تتصافح، وأرواحهم قبل صدورهم تتعانق...
والكوثر الدفّاق، يغسل الآفاق، ويروي الأشواق...
ومجراه العذب، سلسلاً يجري، من عيون ذهبية...
يأتونها العطاشى ليشربوا، وبلذّة الكوثر ينعموا...

-4-5-

ومواكب الحق تتْرى، وقوافل الصديقين تَمُرُّ...
مُغَشَّاةً بالنور، مجلَّلةً بالرضى والقبول...
وعالَمًا جديدًا ينشؤون...
بدأب يعملون، لا يَفْتُرون.. وعن الحراك لا يتوقفون...
مَرْآهُمُ النّوراني، فرحة للصدور، وأُنس للقلوب...
منهم نقبس الأقباس، ومن أرواحهم نَشُمُّ الرَّوْحَ والريحان...
والأرض، كُلُّ الأرض، دُرَّةٌ لأْلاءَةٌ،
وضَّاءةٌ كالنجوم، صافية كالسماء، نقيّة كالحق،
طاهرة كبراءَة الأطفال، ونَدَى الأزهار...

-6-

أيها الفتيان..!
يا أصحاب العيون البَرَّاقة، بنظراتها للآفاق سبَّاقة...
ووقع خطاها في الآذان، من أعذب الألحان...
إذا رأيتكم، حسبتكم ذاك الزمان...
الخارق للأزمان، والآتي مع البشائر والألحان...

-7-

طلْعتكم البهية..
بطولية القسمات...
حادَّة النظرات...
عليها من الغربة غبرة...
ومن وَعثاء السفر البعيد طُرَّة...
فتذكرون، بأنكم أحفادٌ وجنود...
أوائل الأبطال، والأفذاذ من الرجال...

-8-

أنا السائح الْجَوَّال... أخو سفر، ورفيق طريق...
فطعت المفاوز، وجبتُ القفار...
ما كلَّتْ قدماي، ولا تعبتُ ولا مَلَلتُ،
حتى وصلتُ أرض النور...
من حوضه شربتُ،
ماءً سلسبيلاً... لعابر السبيل مبذولاً...
فارتويتُ، والصُّعَدَاءَ تنفستُ...

-9-

رأيتهم... كتفًا لكتف يمشون...
لا يتأخرون... ودائمًا يتقدّمون...
شاكرون... لربّهم حامدون...
وإلى الْمحجّة البيضاء يتسارعون...
كأنهم الفَرَاش...
على شموع الأُنس يتهافتون، ويحلّقون...

المصدر: مجلة "سِزِنْتِي" التركية، يونيو 1985؛ تعريب: أديب إبراهيم الدباغ.