الباب الثاني: خصائص الأنبياء

أ . الربانية

ما قام أي نبي أو رسول بدعوته نتيجة تفكيره الذاتي أو قناعته بفلسفة خاصة أو نظام معين رآه صالحاً... لم يقم بهذا أي نبي ولا يمكن أن يقوم. فالله سبحانه وتعالى يختار شخصاً معـيّناً من بين الناس ليجعله رسولاً... وعندما يحين الوقت المناسب يكلف الله تعالى هذا الشخص المصطفى بمهمة الرسالة، ويبلغه بأداء وظيفة النبوة، فيقوم هذا الشخص بإعلان نبوته. نعم.. يأتي كل نبي بالوحي... ويعيش بالوحي... ويموت بعد انقطاع الوحي؛ فالوحي بالنسبة لهم شيء أساسي كالهواء والماء والخبز بالنسبة إلينا... فنسيم "الأنس الإلهي" غذاء أرواحهم، ومن الفيوض القدسية تهبّ عليهم نسائم مثل ريح الصبا؛ وهم يتحمّلون البقاء بين الناس ما دامت هبوب تلك النسمات، فإذا ما انقطعت طاروا بأجنحة الشوق إلى ربهم وبارئهم، أو انتظروا الرحيل إلى ذلك العالم المضيء؛ فهم أناس سلّموا أنفسهم لله، فلا يتحدثون من أنفسهم أبداً بل ينطقون فقط بما أراده الله منهم وبالأسلوب والكيفية التي أرادها الله تعالى. والدين الذي أتوا به هو الدين الذي وضعه الله تعالى، ودورهم قاصر على الاضطلاع بتبليغ رسالة الربانيين والقيام بوظائفهم.

وعند دعوتهم الناسَ لا يكلفون هدايتهم، فسواء آمن الناس بهم أم لم يؤمنوا فليس هذا من اختصاصهم؛ لأن وظيفتهم هي التبليغ المبين، وهم في أدائهم لهذه الوظيفة لا يعبؤون بما يقوله أو يفعله أعداؤهم ومعارضوهم. ولا تجدهم عند قيامهم بهذه الوظيفة يتنازلون عن أدنى شيء في دعوتهم مهما كان المقابل «لو وَضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أَترك هذا الأمر ما تركتُه أوْ أَهلِك دونه.»[1]

ب . التجرد والتوجه إلى الله وحده

عند قيام الأنبياء والمرسلين بمهمتهم لا ينتظرون أي أجر أو مقابل، مادياًّ كان أم معنوياً. فشعارهم الموحد كما بينه القرآن في آيات عديدة وفي مناسبات مختلفة على لسان معظم الأنبياء والرسل ﴿اِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ﴾ (يونس: 72 وهود: 29). إننا قد ننتظر أجراً معنوياًّ إن لم ننتظر الأجر المادي. أما هذا الأمر غير وارد مطلقاً مع الأنبياء، فهم لا ينتظرون أجراً من أحد، إذ إن ما يفعلونه يكون لأنه أمر من الله تعالى. ولو فرضنا المستحيل وقلنا بأنهم عرفوا أن مصيرهم سيكون الاصطلاء بلهيب جهنم لما ترددوا أبداً عن أداء مهمتهم لحظة واحدة، ولما انحرفوا عن غايتهم قيد شعرة.

إن الأنبياء والرسل أشخاص في الذروة، مستعدون للتضحية بكل مشاعرهم المادية والمعنوية في سبيل دعوتهم، فليس حب الجنة ونعيمها وخشية النار وجحيمها هما الحادي لهم لتنفيذ هذه المهمة الشاقة والقيام بهذه الوظيفة الصعبة؛ بل إن الحصول على رضا الله تعالى وحسن قبوله هو أسمى غاية لهم.

أجل، إن جميع أعمال الأنبياء خالصة لله عز وجل، ويبلغ هذا الأمر عند رسولنا صلى الله عليه وسلم مبلغ الذروة. ففي الدنيا قال «أمتي» وعند المحشر يوم القيامة يقول: «أمتي!.. أمتي!...»[2] فتأملوا درجة إخلاصه أن أبواب الجنة مفتحة له على مصراعيها تنتظر تشريفه لها، غير أنه منشغل الفكر بمصير أمته يبتغي أن يوصلها إلى الجنة، من أجل ذلك يرجح البقاء في جو ذلك المحشر الرهيب على التنعم بنعيم الجنة. وهو لا يفعل هذا لأصهاره ولأقربائه فقط، بل لأمته جميعاً حتى المجرمين منها.

أجل، إن منافذ أرواحهم منفتحة على غاية واحدة لا غير، هي الحصول على رضا الله تعالى، ومغلقة أمام جميع المنافذ والأبواب الأخرى.

إن الذين يقومون بمهمة التبليغ والدعوة اليوم -وهي مهمة الأنبياء والمرسلين كما قلنا- يجب أن ينتبهوا لهذا الأمر ويكونوا شديدي الحساسية تجاهه، فهو في غاية الأهمية وشديد الخطورة. فتأثير الكلام والخطاب لا يرتبط بمدى بلاغته وفصاحته بل بمقدار ما يتضمنه من إخلاص وتجرد.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا فيقول: ﴿اِتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (يس: 21).

أجل، اتبعوا الأنبياء الذين يحلقون في سماء التجرد والهداية؛ لأنهم لا يطلبون منكم أجراً دنيوياًّ. وفكِّروا مليا قبل أن تسيروا وراء أي شخص، فالشخص الذي تسيرون وراءه وتتبعون خطاه يجب أن يكون متجرداً لله، وأن يكون حب العمل في سبيل الله شاغله ليلا ونهارا لا يلتفت إلى زخرف الدنيا، بل يصب همه في تهيئة طرق النصر للأجيال القادمة. فلا يكون لحب الدنيا وزينتها أي ظل على قلبه المنطوي على التجرد لله... ومن ثم فلتفتشوا لزعامتكم وقيادتكم عن مثل هذا الشخص ولتسيروا وراءه.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصاً متجرداً لله، لم يشبع حتى من خبز الشعير، وربما تمر أيام وأسابيع بل شهور فلا توقد في بيته نار لطبخ طعام أو عمل حساء.[3]

يروي أبو هريرة رضي الله عنه: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً، فقلت: يا رسول الله أراك تصلي جالساً فما أصابك؟ قال: «الجوع.» فبكيت، فقال: «لا تبكِ يا أبا هريرة، فإن شدة الحساب يوم القيامة لا تُصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا.»[4]

وتروي أمنا عائشة رضي الله عنها فتقول:

دخلتْ عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية، فانطلقتْ فبعثتْ إليّ بفراش حَشْوُه الصوف، فدخل عليّ رسول الله فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قالت: قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلتْ عليّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت إليّ بهذا فقال: «رُدِّيه.» قالت: فلمْ أَرُدّه وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات. قالت: فقال: «رُدِّيه يا عائشة فوالله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة.»[5]

أجل، فلو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم لعاش حياة لينة ومرفهة ولكنه لم يرد ذلك.

يروي أبو هريرة رضي الله عنه: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينـزل فقال جبريل هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة. فلما نزل قال: "يا محمد! أرسلني إليك ربك أفملِكاً نبيّاً أجعلك أوْ عبداً رسولاً؟" قال جبريل: "تواضعْ لربك يا محمد" قال: «بل عبداً رسولاً.»[6] فما رُئيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل متكئاً حتى لحق بربه. وعن أبي أُمامة قال: كانت امرأة تُرافِث الرجال وكانت بذيئة فمرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل ثريداً على طربال فقالت انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأيُّ عبدٍ أعبد مني؟»[7]

إن صفحات حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بأمثلة التجرد لله، ومن أراد الاطلاع على هذه الأمثلة وتفاصليها فهناك مئات من الكتب حولها. أجل، لقد عاش جميع الأنبياء -وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- حياة تجرد ووهبوا أنفسهم لله، ولم يطلبوا مقابل خدماتهم التي أدّوها أي أجر دنيوي أو أخروي؛ وهذا هو السر الذي يكمن وراء قابلية الإقناع عندهم وقابلية التأثير. إن من يرغب أن يكون لكلامه تأثير ومفعول كمفعول إكسير الحياة فعليه ألا يطلب أو ينتظر أجرا مقابل الخدمات التي يؤديها.

ج . الإخلاص

معنى الإخلاص هو أن يكون كل ما تعمله أو تتركه من عمل في سبيل الله. والأنبياء أشخاص وصلوا إلى مرتبة الإخلاص منذ بداية مهمتهم. نعم إن الأشخاص العاديين يمكنهم أن يصلوا إلى درجة معيَّنة من مرتبة الإخلاص إن هم بذلوا جهدهم، إلا أن النهاية التي يصلونها هي درجة البداية عند الأنبياء. فكأنهم هم لب الإخلاص وجوهره... لذا، فهم من مرتبة "المخلَصين". ويشير القرآن الكريم إلى هذه الدرجة من الإخلاص في الأنبياء ويذكر أسماء بعضهم كنماذج لهذه المرتبة السامية: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً﴾ (مريم: 51). ويقول عن يوسف عليه السلام: ﴿...إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: 24). ويخاطب أمة رسول الله في شخص رسول الله فيقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين﴾ (الزمر: 2). ويطلب منه أن يذكر ويقول: ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي﴾ (الزمر: 14).

وسبب العبودية راجع لأمر الله تعالى، ونتيجتها رضا الله وثمرتها في الآخرة. وهذه العبودية تحتضن الحياة بأكملها ويبدو تأثيرها ومفعولها في جميع تصرفات العبد وسلوكه.

يقول مفكر العصر وهو يعرِّ ف الإخلاص ويبين أهميته:

"فيا نفسي!! إن كنت تأبين أن تكوني مثل الأحمق الأبله، فأعطي باسم الله... وخذي باسم الله... وابدئي باسم الله... واعملي باسم الله... والسلام."[8] والإخلاص هو عنوان الإنسان المستقيم، فالمخلص لا يعرف الطرق الملتوية؛ لأن حياته المعنوية والروحية حياة مستقيمة وهي في ارتقاء دائما نحو السمو؛ ومن ثم فهؤلاء يحافظون على طهارة الإخلاص الذي بدأوا به حياتهم... ولكن ما أقل أمثال هؤلاء!

هناك شخصية فريدة فقط في تاريخ الإنسانية وصلت إلى سامق قمة الإخلاص وإلى شاهق ذروتها، وإلى الأفق الذي لا أفق بعده... وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم... كيف لا؟ وهو الذي لا تجد فرق قيد شعرة بين إخلاصه وتواضعه في أول يوم لبدء دعوته وإخلاصه وتواضعه وهو يدخل مكة فاتحاً.

لقد تم فتح مكة صلحا، هذا إذا استثنينا بعض الحوادث المنفردة التي لا يصح تشميلها. وعندما دخل فخر الكائنات إلى تلك المدينة المباركة التي أخرج منها قبل سنوات، لم يدخلها بصورة القائد الفاتح الظافر، بل دخلها وقد حنى رأسه حتى كاد يلامس ظهر بغلته.[9]

وفي المدينة لم يغير سلوكه قط. فها هم الصحابة كانوا يقومون أجلالاً له عند دخوله عليهم... كان يجب أن يقوموا... بل لو مرّ على ميت لكان عليه أن يهبّ من رقدته ويقف أجلالاً له؛ فقد كان أهلاً لكل احترام وتوقير وتبجيل، ولكنه لم يكن يرضى لصحابته القيام إذ يضيق صدره فيقول لهم منبِّهاً:

«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّمُ بعضها بعضاً.»[10]

أجل، فلقد أتم مهمته المقدسة بنفس السلوك الذي بدأ به؛ إذ مرت سنوات حياته مثل لحن متناغم، فما كان يبدأ بعمل شيء إلا أتمه، وقد كان هذا نجاحاً منقطع النظير... ويمكن القول أنه بدأ اللحن الإلهي بعزف الطبقات الهادئة من الموسيقى التي سرعان ما تصاعدت حتى تزلزلت منها الأرض والسماء.

لقد نذر حياته كلها ونفسه في عبودية خالصة لله... حتى فاضت نفسه بمعرفته... لقد سرح ناظريه في آثار خلقه وعظمته فامتلأت روحه باللذائذ المعنوية حتى أترعت.. فصحا على الحقيقة وفتح أشرعة قلبه نحو الحق، ولم يفتُر أبداً عن ذكر الله... ذلك لأنه كان رجل إخلاص وتجرد، وكان شعور الإحسان عنده يُضيف له بُعداً آخر، فقد عرّفه صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تَعْبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»[11]

د . الموعظة الحسنة

لم يدخل الأنبياء في المراء أبدا أثناء قيامهم بمهمتهم في التبليغ والدعوة، بل كانوا يقتربون من الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. والقرآن الكريم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً له: ﴿اُدْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125). أي اشرح حِكَم الأشياء وأسرار الخلق بشكل هين لين، وبأسلوب مقنع دون أن تمس مشاعرهم بأذى، محاولا إشباع عقولهم.

لم يُقبل الأنبياء على الجدل والمراء والنقاش، ولم يهتموا بالأسلوب الفلسفي، إذ لم تؤد هذه الأساليب -لا في الماضي ولا في الحاضر- إلى هداية أي شخص، ولا إلى تقديم أي فائدة للإنسان، وقد صانهم الله تعالى من الانشغال بأي عبث، ومن ثم كانت مهمتهم في التبليغ تنحصر في الدعوة إلى الله بالحكمة وبالموعظة الحسنة.

إن الإنسان ليس عقلاً وفكراً فقط، بل له قلب وروح... فيه سرّ وخفيّ وأخفى... وكل لطيفة من لطائفه تحتاج إلى إشباعها؛ ومن هنا يتناول الأنبياء الإنسان بكل جوانبه محاولين إشباع جميع هذه الأحاسيس والمشاعر عند قيامهم بمهمة الدعوة. وهذه الدعوة التي لا تُهمِل أيَّ جانب من جوانب الإنسان وأي شعور من مشاعره أو لطيفة من لطائفه تفضي في النهاية إلى إزالة جميع الشبه أمام الإنسان المخاطب ليصل إلى وحدة الإيمان التي هي غاية الوجود الإنساني.

إن الذين يتخرجون من مدارس الأنبياء يحملون إيماناً متميزاً ويقيناً ثابتا؛ فأعينهم التي تُطلّ على العالم تنفتح بجانبها بصائر أخرى يرون بها ما لا يرى الناس. فلو امتلأت الدنيا بالشبه والشكوك لَما أثّرت فيهم ولَما أثارت لديهم سوى مشاعر الإشفاق؛ لأن هذه الشبه والشكوك لا تستطيع النفوذ إلى ضمائرهم وقلوبهم المملوءة بالمعرفة الحقة والعلم اليقين. والله تعالى يبارك علمهم ويضاعفه لهم ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون. [12] فنسيم الإلهام السماوي يهبّ على قلوبهم فيحوّلها إلى سماء؛ وعندما يعمل هؤلاء بما يعلمون يجدون أنفسهم على مركب "الكلمة الطيبة" المنطلقة في أبعاد السماء... فتسمو بهم وترقَى... [13]

حتى إنه ينشأ من بينهم شخصٌ مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال: "لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً"[14]. أي لو رفع ستار الغيب وشاهدت كل ما يمكن مشاهدته لما كان هناك احتمال وصولي إلى مرتبة أعلى في الإيمان والمعرفة، ذلك لأنني على يقين بأني في ذروة الإيمان بالغيب.

وهذا الكلام الذي قاله رجل كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه هو من باب التحديث بنعم الله، وقد أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -بتقدير من الله- أباً للأولياء حتى يوم القيامة، فقد رباه في كنفه وزوَّجه أفضل النساء وأجملَهنّ وأظرفهنّ وزهرة حديقة النبوة التي فاقت الحور العين في جمالها وهي ابنته فاطمة رضي الله عنها. ومن هذا الزواج المبارك جاء ريحانتا الجنة الحسن والحسين، ومن هذا النسل المبارك جاء جميع الأولياء وجميع الأقطاب. ومثلما كان علي رضي الله عنه بهذه المنزلة، فإن كل حلقة من حلقات سلالته، وكل حفيد من أحفاده يعد كل واحد منهم مثال البطولة في التاريخ؛ ولا يَبلُغ هذه المرتبة إلا منْ بلَغ مرتبة الإحسان بإيمانه وإسلامه، وعند ذلك يكون من الذين تَصدُق عليهم هذه الآية الكريمة وهم في الدنيا ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد﴾ (ق: 33).[15]

وهذه الفراسة التي يُطلِق عليها الغربيون اصطلاح "Sihashsti" عندما تبدأ بالعمل داخل الإنسان ينقطع عمل العالم الخارجي عنده، حيث يستولي عليه هذا الإلهام الداخلي وقابلية الحدس؛ ذلك لأن الحقيقة آنذاك تكون قد استقرت داخل النفس فما الحاجة إلى البحث عنها في الخارج؟ والنبي صلى الله عليه وسلم الذي سما بطلابه وجعلهم يبلغون هذه المرتبة العالية كان قد اتخذ من الموعظة الحسنة أساساً في دعوته وفي بنائه للنفوس.

وما نحاول نحن أن نشرحه في هذا الصدد قامت هذه الآية الكريمة ببيانه بأوجز صورة وأعمقها ﴿كَمَا أَرْسَلنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151).

وإننا نرى من الأفضل عدم الإطالة هنا؛ لأننا قمنا بإيراد الأمثلة حول مدى اهتمام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ومدى حساسيته في هذه الناحية. ولكن إن أردنا تلخيص الموضـوع في جملتين أو ثلاث فيمكننا أن نقول:

لقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل إنسان حسب مستواه العقلي ووضعه النفسي دون زيادة ولا نقصان، وبأسلوب حكيم بحيث لا يترك ذلك الإنسانُ مجلسه إلا وهو مطمئن القلب مكتسب الإيمان. وكثير من الأشخاص الذين عاندوا في الإيمان كأبي جهل والوليد بن المغيرة وعُتبة بن ربيعة كانوا أسرى غرورهم وعنادهم، وبعضهم أسرى خوفهم، أي أن سبب الإنكار كان يعود إليهم وليس إلى أي قصور في طريقة تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان منهم -مثل الشاعر الأعشى- مَنْ قَبِل كل شيء إلاّ أنه لم يكن يستطيع التخلّي عن كل ما ألفه سابقاً من عادات، لذا طلبوا منه إمهالهم، ولو مات أحد من هؤلاء قبل وصولهم إلى الهداية التامة لكان معنى ذلك أن كتاب القضاء والقدر سبق إليهم؛ وهنا أيضاً لا نجد قصوراً أو إهمالاً في التبليغ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ﻫ . الدعوة إلى التوحيد

قام الأنبياء جميعاً بدعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ اِلٰهٍ غَيرُهُ﴾(هود: 84). فكل دعوات الأنبياء تبدأ بالدعوة لهذه الحقيقة وتنتهي بها.

واتفاق كل هؤلاء الأنبياء على هذه الحقيقة رغم اختلاف أزمنتهم وأماكنهم وبلدانهم يدل دلالة قاطعة لا شبهة فيها على أن هذه الحقيقة ليست من بنات أفكارهم. بل هي الرسالة التي بلَغتهم من ربهم وأُمروا بتبليغها للناس، إذ لا يعقل أن يتفق أناس لهم قابليات مختلفة واستعدادات مختلفة وعاشوا في أزمنة مختلفة وفي أمكنة مختلفة... أن يتفقوا مثل هذا الاتفاق في موضوع واحد. فلو تتبعتَ أيّ مدرسة فلسفية أو فكرية معينة لرأيت خلافات واسعة حتى في الأمور الثانوية والفرعية بين أنصار هذه المدرسة، مع أنهم يعيشون في عصر واحد وفي بلد واحد.

وهذه الاختلافات الموجودة في التيارات الفكرية الإنسانية، وهذا الاتفاق في النظم الإلهية التي جاء بها الرسل بالوحي الإلهي تدلاّن على أن الهوى هو المنبع في الأولى، والوحي هو المنبع في الثانية.

أجل، إن إجماع الأنبياء على حقيقة التوحيد من خصائص مقام النبوة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.»[16]

الهوامش

[1] انظر إلى «السيرة النبوية» لابن هشام 1/285

[2] البخاري، التوحيد، 32؛ مسلم، الإيمان، 326

[3] البخاري، الرقاق، 17؛ مسلم، الزهد، 28

[4] «كنـز العمال» للهندي 7/199

[5] «البداية والنهاية» لابن كثير 6/60

[6] «المسند» للإمام أحمد 2/231؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/18-19

[7] «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/21

[8] «الكلمات» لبديع الزمان سعيد النورسي ص8؛ «اللمعات» لبديع الزمان سعيد النورسي ص242

[9] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/47-48؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/169

[10] أبو داود، الأدب، 152؛ «المسند» للإمام أحمد 5/253

[11] البخاري، الإيمان، 37؛ مسلم، الإيمان، 5، 7

[12] انظر إلى هذا الحديث: «من عمل بما يعلم ورّثه الله عِلْمَ ما لم يعلم.» («حلية الأولياء» لأبي نعيم 10/15)

[13] انظر: ﴿إلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ﴾ (فاطر: 10).

[14] «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري ص193

[15] مسلم، فضائل الصحابة، 61

[16] الموطأ، القرآن، 32، الحج، 246؛ «كنز العمال» للهندي 5/73

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.