ب- الموصي بالصدق دائماً

وكما عاش صادقاً فقد أوصى أمته بالصدق على الدوام، وندرج هنا بعض هذه الوصايا تبركاً بها: «اِضْمَنُوا لي ستّاً من أنفسكم أَضمن لكم الجنة: اُصدقوا إذا حَدَّثتم، وأوْفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا اؤتُمِنتم، واحفظوا فروجكم، وغُضّوا أبصاركم، وكُفّوا أيديكم.»[1]

لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم مستقيماً مثل شعاع ضوء، وأوصى بالاستقامة بعد أن حققها في نفسه إلى ذروة ما بين الإمكان والوجوب، إلى ذروة ليس وراء ها سوى الصدق الإلهي، أي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجول في عالم الصدق في أفق ﴿فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 9). فمن ناحية كان في دائرة "الإمكان" ومن ناحية أخرى كان قد تجاوز دائرة "الإمكان" وكما قال القاضي عياض في معرض المعراج "إنه وصل إلى موضع لم يدْرِ فيه أين يضع قدمه، فقيل له أن يضع إحدى قدميه فوق الأخرى." صحيح أنه كان بشراً من جميع النواحي، ولكن الصدق رفعه إلى مثل هذا المستوى. وهو يوصينا بالوصية نفسها "اِضْمَنُوا لي الصدق وعدم الكذب في حياتكم أضمن لكم الجنة."

ويقول في حديث آخر: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة.»[2] ويقول أيضاً: «وإن رأيتم أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة.»[3] أي اصدقوا وإن رأيتم أن الصدق سيجرّ عليكم الهلاك، لأنه سيؤدي بكم إلى النجاة في الحقيقة. ويقول أيضاً: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يصدُق ويَتحرّى الصدقَ حتى يُكتب عند الله صدّيقاً. وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذِب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابا.»[4]

النجاة والخلاص في الصدق. فالإنسان عندما يموت بصدقه يموت مرة واحدة بينما يموت مرات بعدد كذبه. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: "لقد نجوت بصدقي." وعندما نتكلم عن الصدق فلا يمكن ألاّ نذكره صلى الله عليه وسلم.

كان كعب بن مالك رضي الله عنه ذا لسان صادق وسيف قاطع.. كان شاعراً استطاع بشعره أن يُلقم الكفار حجراً في العَقَبة، لذا كان من أوائل الأنصار. ولكنه لم يشترك في غزوة تبوك التي كانت غزوة صعبة، تناوش فيها حفنة من المؤمنين مع الإمبراطورية البيزنطية في لهيب الصحراء اللافح... ذهبوا بهذه النية... وأبدوا تلك البسالة... كسبوا الثواب ولم يبق من الحرب سوى ذكرياتها.

قال كعب بن مالك رضي الله عنه في رواية أخرجها أحمد والبخاري ومسلم عن طريق الزهري:

"لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تَخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العَقَبَة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أَذْكَرَ في الناس منها. كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسرَ حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، واللهِ ما اجتمعتْ عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا وعدوا كثيرا، فجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أُهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان. قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلا ظن أن سيَخفَى له، ما لم يَنـزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقتُ أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجعُ ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتدّ بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتَفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأُدركهم، وليتني فعلت، فلم يُقدَّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عَذَرَ اللهُ من الضعفاء. ولم يذْكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلِمة: يا رسول الله حبسه بُرْداه ونظرُه في عِطفيه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همّي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووَكَلَ سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمت عليه تبسَّم تبسُّم المُغْضَب، ثم قال: «تعال.» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلّفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلا ولكني والله لقد علمتُ لئن حدّثتُك اليوم حديث كَذِب ترضى به عني لَيوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتُك حديث صِدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك.» فقمت، وثار رجال من بني سلِمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علِمناك كنتَ أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزتَ أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلِّفون، قد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنِّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذّب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريّ وهلال بن أمية الواقفيّ فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثةُ من بين مَن تخلَّف عنه، فاجتنبَنا الناسُ وتغيروا لنا حتى تَنكَّرتْ في نفسي الأرضُ فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بِرَدّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوَّرتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أَنشدك بالله هل تعلمني أُحِب الله ورسوله؟ فسكَتَ، فعدتُ له فنشدتُه فسكتَ، فعدتُ له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.

قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نَبَطِيٌّ من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غَسّان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعَة فالْحَقْ بنا نُواسِكَ فقلت لمّا قرأتها وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التَّنُّور فسجَرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقرَبها وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الْحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقرَبْكِ.» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صُبْحَ خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ، أوفَى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشِرْ، قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرَج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبل صاحبيّ مبشّرون وركض إلي رجلٌ فَرَساً، وسعى ساع مِن أَسْلَمَ فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نـزعت له ثوبيّ، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنُّوني بالتوبة يقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناسُ، فقام إليّ طلحة بن عُبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك» قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ عليك بعض مالك فهو خير لك.» قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمَّدتُ منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَاْلأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 117-119). فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذَبتُه فأَهلك كما هلك الذين كذَبوا فإن الله قال للذين كذَبوا حين أنـزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 95-96). قال كعب: وكنا تُخُلِّفْنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ (التوبة: 118). وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه فقَبِل منه.[5]

أجل، إن حقيقة النبوة قائمة على أساس من الصدق والاستقامة. فكل نبي صادق، ويجب أن يكون صادقاً، ذلك لأنه الشخص الذي يبلّغ الأوامر الآتية إليه من عالم الغيب إلى الناس. فلو كان هناك احتمال لأيّ خطأ مهما كان قليلاً في مهمة التبليغ، لانقلبت الأمور رأساً على عقب، لأن جميع الحقائق التي نتعلمها حول الحقيقة الإنسانية تنتقل إلينا عن طريقهم، وهذا موضوع حساس جداًّ لا يتحمل مثقال ذرة من الخطأ أو الوهم، لذا نرى الله تعالى يقول في هذا الأمر: ﴿وَلَـوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ اْلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُـمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [6]* فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقّة: 44-47).

لقد كان صلى الله عليه وسلم في موضوع أوامر الله ونواهيه مثل الميت في يد المغسل يستطيع أن يقلبه يمينا أو يساراً كيفما شاء. فوِجهته دائما هي الوجهة التي يوجهه إليها الله تعالى حتى بعد وصوله إلى ذروة القرب من الله تعالى. وما كان له أن يفقد شيئاً ولو هينا من حساسيته في هذا... بل لقد تعمقت فيه هذه الحساسية ونـزلت إلى أعماق قلبه.

لقد كان عند وعده دائما فلم يسمع عنه أحد حتى بلوغه سن الأربعين كذبة ولا جرّب عليه خلف وعد. يروي عبد الله بن أبي الحَمْساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يُبعث، وبقيتْ له بقية فوعدتُه أن آتيه بها في مكانه فنسيتُ. ثم ذكرت بعد ثلاث. فجئت فإذا هو في مكانه فقال: «يا فتى! لقد شققتَ عليّ، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك.»[7]

الهوامش

[1] «المسند» للإمام أحمد 5/323

[2] الترمذي، القيامة، 60؛ «المسند» للإمام أحمد 1/200

[3] «فيض القدير» للمناوي 3/232؛ «كنـز العمال» للهندي 3/344

[4] البخاري، الأدب، 69؛ مسلم، البر، 105؛ أبو داود، الأدب، 80

[5] مسلم، التوية، 53؛ البخاري، المغازي، 79

[6] الوتين: هو نياط القلب. (المترجم)

[7] أبو داود، الأدب، 82

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.