العلم والدين

السؤال: لقد انتشر في أيامنا تفسير الإسلام بالعلوم، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟

الجواب: أجل، لقد تم اعتياد النظر إلى جميع الحوادث والأشياء بمنظار العلوم بفروعها المختلفة، أي أصبحت هذه العلوم مثل عدَسة تفحص جميع الحوادث والأشياء ومنها المسائل الدينية. فمثلاً عندما نقول "إن الله تعالى موجود" نقول إن علم الفيزياء يشير كموضوع علمي بحت إلى وجود الله تعالى، وإن علم الكيمياء بالقوانين الفلانية والطرق الفلانية يشير إلى الشيء نفسه، وإن علم الفيزياء الكونية يعلن في المسائل الفلانية وجود الله تعالى. وأحياناً نأخذ هذه العلوم جميعها والحوادث الجارية على مستوى الذرة وعلى مستوى الكون، ونفتش عن الأدلة التي تبرهن على وجوده سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته.

لقد سبق وأن قرأت كتابا بعنوان "الطب محراب الإيمان" فأعجبني العنوان كثيرا، إذ أنني لا أتصور أن يَدرس أيّ إنسان علم الطب ثم لا يؤمن بالله. ففي محراب هذا العلم هناك مسائل إيمانية عديدة، ذلك لأن الإنسان مخلوق بدقة مذهلة تُحيّر العقول وعلم التشريح يبين هذا. فإذا نظرتَ إلى أي عضو من أعضاء الإنسان ذهلت من روعة تركيبه، فلا تملك إلا أن تقول: "الله أكبر"، وهكذا فالطب محراب الإيمان حقّا.

عادة ما نقوم بإيضاح ديننا استناداً إلى علوم مختلفة. ونستعمل العلوم كوسيلة لجلب الأنظار إلى إعجاز القرآن. فمثلاً نرى أن المراحل التي يعيشها الجنين في بطن أمه موضَّحة في القرآن. وهي تتطابق تماماً مع المراحل التي توصَّل إليها العلم الحديث. فكيف كان باستطاعة شخص أميّ أن يصل إلى هذه الحقائق العلمية قبل 14 قرناً دون أن يملك الأجهزة الحديثة وأجهزة أشعّة إكْس والأجهزة الأخرى التي لولاها لَما أمكن الوصول إلى معرفة هذه المراحل؟ فلو كان هذا الأمر متعلقاً بقدرة إنسان لَما كان ممكناً. إذن فالقرآن الكريم لا يمكن صدوره من الرسول صلى الله عليه وسلم. ونتوصل بعد كل هذه الأدلة العلمية إلى أن القرآن هو كلام الله تعالى.

وعندما نُبَرهن بالأدلة على أن القرآن هو كلام الله، فإننا نبرهن أيضاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا نستطيع تناول المسائل الأخرى للإيمان على هذا المنوال. ولكوننا فصلنا الكلام سابقاً في موضوع إعجاز القرآن فإننا نكتفي هنا بهذا القدر ولا نرى حاجة للتفصيل ولكننا نريد هنا أن نقول:

إننا نراجع مختلف العلوم ونشرح ديننا بواسطتها، لأن عقل الإنسانية الآن مرتبط بها. وأعداء الدين من أصحاب الفكر المادّيّ يحاولون استعمال العلم كوسيلة للإلحاد والإنكار. لذا فنحن مضطرون لاستعمال السلاح نفسه لإزالة الأوهام والشبهات التي تجول في أذهان البعض من المخدوعين، وإثبات أن العلم لا يناقض ولا يعادي الدين. وبعبارة أخرى فعلى عكس قيام المادّيّين من أمثال "ماركس" و"أنجلز" و"لِينِين" بتقييم العلم وجعله واسطة للإنكار والإلحاد فقد وجب علينا أن نستعمل العلم كأداة إثبات وبرهنة على صحة الدين.

وأنا لا أجد أي محظور في هذا الأمر، بل إنني أدعو دعاة الإيمان إلى التزود بهذا السلاح، لأن آيات القرآن الكريم تأخذ بِيَدنا وتجول بين النجوم والمجرّات لتعرّفنا ببدائع السماوات وبدائع الكون، وببديع صنع الله تعالى وقدرته وسلطانه. وتُلْفت أنظارنا إلى أعضائنا وروعتها، وتبسط أمام أنظارنا الوجود بأكمله، وتذكّرنا بأن العلماء هم الذين يخشَون الله حقّاً، أي تقوم الآيات القرآنية بتشويقنا لاستحصال العلم، وتُومئ إلى مسائل علمية أخرى، وتدعو الإنسان إلى التأمّل والتفكر في ملكوت السموات والأرض.

ولكن يجب ألا يغرب عن البال أبداً أن هذه المسائل ينبغي أن تتم حسَب الروح القرآني، وإلا نكون قد قُمنا بتحريف القرآن باسم القرآن. لذا فهناك نقاط يجب أن نضَعها نصب أعيننا من ناحية المنهج.

أولاً: يجب استعمال هذا الأسلوب في شرح حقائق الإسلام كوَسيلة وأداة فقط، والابتعاد عن محاولة استعماله لإظهار عِلمنا والتّفاخر به، لأن القضية تتغير آنذاك، ولن يكون لكلامنا أي تأثير على المستمعين. فهذه الحقائق النورانية الخارجة من أفواهنا تَفْقد أنوارها وترجع إلينا كالِحة إن لم تكن النيّات في قلوبنا خالصة وصادقة. وإذا كان كلامنا موجَّها لا لإقناع المخاطبين بل لإلزامهم وإفحامهم فإننا لن نستطيع كسب قلوبهم أبداً ولن نكون مؤثِّرين إيجابيّاً. وإنْ تصرفنا بعكس ذلك استفاد الذين يحتاجون إلى هذا الموضوع من المستمعين دون أن نشعر، لأننا في هذه الحالة كنّا نحمل نية إيصال الحقائق إلى الآخرين وليس إبراز أنفسنا. وأحيانا ترى أن حديثا بسيطاً منك تعتقد أنك لم تُوفِّ فيه الموضوع حقَّه أثَّر في نفوس الحاضرين أكثر من خطبة بليغة خطبتَها في مُناسبة أخرى. إذن فإن الغاية الوحيدة عند شرح هذه المواضيع يجب أن تكون موجَّهة لاستحصال مرضاة الله تعالى ومخاطبة الناس حسب عقولهم.

ثانياً: يجب ألا ندخل في عقدة أن الجميع يتكلمون عن العلم وعن التقنية، وألا تكون هذه العقدة وراء شرحنا للمواضيع الإسلامية. فهذا أمر غير صحيح. كما يجب ألا نبدو ونحن نتناول هذه المواضيع وكأننا نرتاب في مبادئنا، لذا نتهالك للاستعانة بهذه العلوم لتقويتها. فهذا يشكل عدم احترام لمبادئنا. أما اعتبار العلم والتقنية أصلا ثابتا ومبادئنا شيئاً تابعاً يحتاج إلى تصديق العلم فأمر غير مقبول أبداً.

نستطيع تلخيص الموضوع كما يأتي: إن العلوم تعد وسائل لكنس الغبار المتراكم على الحقائق الكامنة الموجودة في ضمائرنا. أما إن قُمْنا -والعياذ بالله- بعدّ ما تشير إليه العلوم حقائق، وجعلنا الآيات والأحاديث تابعة لها، وتعسفنا في التأويل والتفسير لكي تتطابق الآيات والأحاديث معها، فإننا سنسوق أنفسنا ومخاطبينا إلى الشكّ والارتياب في المواضيع التي لا يتم الاتّفاق عليها بينهما.

بينما يجب أن يكون أسلوبنا كالآتي: إن كلام الله تعالى وكلام رسوله حقّ لا ريبَ فيهما. والعلوم صحيحة بقدر تلاؤمها معهما، وغير صحيحة بدرجة انحرافها عنهما. وحتى القسم الصحيح من العلوم لا يُعد قواعد أو مستنداً تستند إليه الحقائق الإيمانية. فهي تلعب دوراً في زيادة التأمّل والتفكّر في المسائل الإيمانية. أما الذي يضع نور الإيمان في قلوبنا فهو الله سبحانه وتعالى. وهذه النتيجة التي تتحقق بفضل نعمة الله لا يمكن توقعها من العلوم. ومثل هذا التوقع والأمل ينـزل ضربة قاتلة بحياتنا القلبية والروحية بحيث لا يفلح بعدها من تلقّاها. ذلك لأن مثل هذا الشخص الذي يقضي عمره في جمع الدلائل الكونية حول الله يتصرف طوال عمره هذا كشخص مرتبط قلبه بالطبيعة وقوانينها المادية ومفاهيمها. سينظر إلى الماء وسينظر إلى جمال الربيع، ولكن لن تنبت في قلبه نبتة إيمان خضراء. وطوال عمره لن يحسّ بوجود الله تعالى في وِجدانه ولو مرة واحدة خارج الأدلة التي جمعها. ومع أنه قد يبدو في الظاهر وكأنه ليس من "الطبيعيّين" إلا أنه يقضي عمره كله كـ"طبيعيّ" (Naturalist).

لذا يجب النظر إلى العلوم وإلى جميع الأدلة العلمية وعدّها تابعة واعتبارها وسيلة لإزالة الغبار فقط عن الحقائق. وعندما ينفث الشيطان وسوسته في الصدر يمكن الرجوع إلى هذه الأدلة لإزالة هذه الوسوسة. لأننا نقول بأنّ نور الإيمان في قلوبنا قوي إلى درجة أن أصحاب هذه الأدلة لن يستطيعوا إضافة أي شيء ولا زيادة هذا النور.

الإنسان مؤمن بالإيمان المستقر في قلبه، ليس بالمعلومات المتراكمة في عقله. لذلك فإن ما يستطيعه هذا الإنسان المشغول بجمع الأدلة في الآفاق وفي الأنفس هو تحقيق قَفزة صغيرة فقط. فإن لم يستطع الخلاص من أسر هذا لم يستطع الترقّي أبداً في مدارج القلب والروح. أما إن نَحّى هذا جانباً -بعد وصوله إلى مرحلة معيَّنة- وسار في نور القرآن فإنه سيصل إلى الانشراح القلبي الذي يطلبه وتملأ الأنوار قلبه وروحه. يقول أحد المفكرين الغربيّين "لكي أؤمن بالله حقّ الإيمان فقد شعرتُ أنّ عليّ أن أَرْمي ورائي بجميع الكتُب التي قرأْتُها".

لا شك أنّ تأمّل كتاب الكون وتأمل الإنسان كتابَ ماهيته وقراءة الكتب التي تشرح هذه الأمور شيءٌ مفيد، ولكن ما أن تقوم هذه الكتب بإيفاء حق وظيفتها، على الإنسان أن ينحّيها جانباً ويبقى وحده مع إيمانه. وكل ما شرحناه آنفاً مسألة مستندة نوعاً ما إلى تجربة شخصية. والذين لم يمرّوا بتجارب وجْدانية لتعميق الإيمان قد يبدو لهم هذا الكلام شيئاً نظريّاً. ولكن الأرواح المشتاقة إلى ربّها عز وجل والتي تملأ الأنوارُ لياليها يفهمون ما نقول.

الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.