9- موازين في العلاقات برجال الدولة والأغنياء

المبلّغ والمرشد، لا يكون ذا علاقة وطيدة مع رجال الدولة والطبقة العليا من الناس خارج ضرورة الإرشاد والتبليغ.

يقول الرسـول صلى الله عليه وسلم: "شرار أمّتي العلماء الّذين يأتون الأمراء، وخِيار الأمراء الّذِين يأتون العلماءَ".[1]

نعم، إن أهل الإرشاد لا يبقون تحت منّة أحد من الناس، إذ لا يكون كلام من كانت همته مَلءَ بطنه على موائد الأغنياء، والتشبثَ بأبواب رجال الدولة والتملق إليهم، مؤثراً فيهم ولا في غيرهم؛ ذلك لأن الإنسان عبد الإحسان، كما هو مقرر. ولكن إن أتى رجال الدولة والأغنياء إلى المرشدين والمبلّغين فهذا عمل يستحق التقدير كله ما لم يستغل لأمور أخرى. لأن المرشد الحقيقي هو الذي يدل أولئك ويمكنه أن يستشعرهم بما يستنشقه هو من نسائم العقبى، فهذه النسائم اللطيفة تكون استنشاقاً أيضاً لتلك الأرواح الثملة بالحياة التجارية والاجتماعية والإدارية وراحة لهم.

كان يحضر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جمعا من العلماء، ولا يتوانى عن استشارتهم رغم أنه كان أزهد منهم في الحياة، وكان رجاء بن حيوة من هؤلاء.. وكان رضى الله عنه يذهب بنفسه إلى آخرين ويشاركهم في مجالسهم حتى كان يعدّ ساعة عند عُبيد الله بن عبد الله تعدل العمر كله. ولقد كان ينصت إلى بياناته التي تبعث على الحياة بدقة متناهية، ويسعى للاستفادة منها، علماً أنه كان بحراً من العلوم وبمستوى من يتردد عليهم في الأقل. والحقيقة أن ما جعل عمر بن عبد العزيز في هذه المكانة هو هذا. حتى سعى للقيام بإجراءات تحتاج إلى نصف قرن خلال فترة خلافته التي دامت سنتين ونصف السنة.

ومع كل هذا، فهناك من يورد كلاماً يستحسن فيه التردد على الأمراء بحجة إرشادهم؛ ولكن يتضح بعد مدة أنهم مثلما لم يتمكنوا من إرشادهم أصبحوا هملاً، حتى أضاعوا ما كانوا يتمتعون به من مواهب، ذلك لأن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه حصر الإرشاد بالمثقفين فقط أو الطبقة الراقية من الناس، ولا فيه مجالستهم وحدهم دون غيرهم، وإنما يحدث ذلك في أوقات الضرورة بشرط ألاّ يكون على حساب الأصل ولتبقى المسافة أيضاً مصونة.

فحين طلب زعماء قريش من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في عهد مكة تخصيص يوم لهم لا يكون فيه أمثال عمار وبلال وصهيب، وليخصص الرسول المجلس لهم، نـزلت الآية الكريمة منبّهة وَسَادَّةً جميع الأبواب أمامهم: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذيِنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيَّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾(الكهف:28).

والحقيقة أن روح الرسول الكريم السامية هي بعيدة كل البعد من مثل هذا الاقتراح. والآية الكريمة تبين أن الوضع الحالي للرسول صلى الله عليه وسلم هو الوضع المطلوب منه، وعليه الاستمرار عليه وإلاّ لم يمل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اقتراحهم.

الخلاصة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرشد والقرآن كتاب يعلّمنا الأصول والموازين في شخص أعظم مرشد على الإطلاق. وقاعدة من تلك القواعد هي طور الاسـتغناء عن الأغنياء والمسؤولين في المجتمع وعدم الإعجاب بهم مع الاسـتمرار في تبليغهم وإرشادهم. فإذا ما وجد الناس في الوقت الحاضر مرشدين أمثال هؤلاء فقد وجدوا شيئاً عظيماً. وإلاّ سينتظر هذا المجتمع طويلاً ما داموا مستغفلين بأنصاف المرشدين.

الهوامش

[1] كشف الخفاء للعجلوني، 2/4627؛ الفردوس للديلمي، 1/155.