الشعور بالمسؤولية

الحركة والنهوض للحملة أهم عمق للصيرورة والتواجد. السكون اسم رديف للانحلال والموت. أما ارتباط الحركة بالمسؤولية فهو البُعد الإنساني الأول لها. ولا يمكن ادعاء الكمال في حركة أو نهوض لحملة من غير ضبطها بالمسؤولية.

أكثر الناس يسعون حثيثا إلى مقاصد وغايات مختلفة. ومن الهراء انتظار خير من سعي ولهاث بغير ضبطهما بالمسؤوليات. فإذا عمل طلاب المنافع، الدائرة أعينهم كالرحى طمعاً وحرصا، من غير توان وكلل، وخطب السياسيون في الأرجاء خطباً سحرية، وهَرّج الإعلام في برامج الأخبار والحوار والمنوعات الأخرى، وتنفست جهاتٌ هواءَ الابتذال أيام السنة كلها، وهرول رجال يكتسون أردية الدين نحو حق التمتع بلا فتور، واستيقظت سوق الأوراق والصرف على التوقعات وباتت مع التوقعات، وبذلت بعض دوائر الدولة الفرص لبعض الأيديولوجيات، وتطلع أهل الدراية من غير اهتمام في ذهول على كل ما يقع من عظائم الأمور، ومعنى ذلك أن من يسحق يغنم، ومن ينسحق يمضى في سـبيله مبرراً الحال "بالانتخاب الطبيعي!" ومستسلماً وراضخاً لكل شيء باعتباره طبيعيا، فإن ما يلزم عمله يومئذٍ قد تعسّر وصعب، واشتد وثقل... حتى إذا نهض رجل فقال لأبطال(!) هذه الحركات والتكونات المشؤومة، أو للبؤساء المسحوقين بين أسنان هذه الدواليب المرعبة: قفوا... إلى أين أنتم ماضون؟

محضُ كِذب إن قيل قد يحيا مجتمعٌ والحسُ فيه منعدمُ

أروني أمة ماتت معنوياتُها، ثم هم بعدها سلِموا[1]

فإن لم يصفعوه ولم يبصقوا في وجهه، فسيعزروه بكلام غليظ أو يتخذوه هزواً. وربما قالوا: "كل شاة تناط برجليها" أو قالوا في عدم اهتمام: "الربان الماهر هو الذي ينقذ سفينته"[2] مستهزئين من شعوره بالمسؤولية. بل ربما نفثوا هذياناً ينُمّ عن إنسان منفلتٍ غير مبالٍ: "ما همني أن تعيش ألف سنة حيةٌ لا تلدغني!". فيخفق وجدانه النبيه مضطرباً. ومن يدري بما يصدم فكره النقي ومشاعره البريئة في هذا القفر من شؤون وأشجان!

ليس شيء من هذا مما يخطر على قلبٍ مؤمنٍ أو حساسٍ. ولكن لا يليق بشعورنا بالمسؤولية أن نقول: سفسطة وهذيان... ثم نمضي في سبيلنا... لا يليق بمسؤوليتنا ولا يأتلف معها، لأننا محاصرون -شعباً- بالعداوات وبالأعداء. وما دمنا في أسر هذا الحصار، فلا يمكن أن نحقق ذاتنا في الحس والفكر والاعتقاد والفن والتصرف الحر، وأن نحمي كرامتنا الإسلامية وعفتنا "الملّيّة"، وننقذ سفينتنا ونوصلها إلى بر الأمان، ونبني عالمنا الخاص ونحيا كما نريد، ونكون ورثة الأرض ونصل إلى الله. فينبغي أن نفتح عيوننا فنرى الحقيقة، ونعمل ببصيرتنا فنصون خواصنا المنتقلة إلينا من أمس إلى اليوم، ونطرد ما يمضغ وجودنا وشخصيتنا من دواخلنا. وإن لم نفعل، فسوف نرى يوماً نعجز فيه عن الحفاظ حتى على حالنا الحاضر.

كان الجهل والفقر والتفرق والتعصب وما يشبه ذلك، هم أعداؤنا في زمن ماض. واليوم زيد عليهم الخداع والتسلط والسفاهة والخلاعة واللامبالاة وضياع الهوية. وليعذرني هذه المرة الذين يحملون في جنباتهم قلق النـزاهة الدينية والصفوة الفكرية والحماسة "الملّيّة"، إذ أقول بأن أجيال الشباب وقسما من أنقياء السـريرة من الشيب يضَلَّلون منذ مدة طويلة بالحماس البريء النقي، ويعيشون غـدر وعذاب الشخصية الصدوق-المنخدعة، ويُغرَّرون بأيديولوجيات منحرفة ما فيها إلا الكلمات المنمقة. ومهما انحصرت الظاهرة في شرائح معينة من الشعب، فإن هذا الانحراف الفكري والتحول والانـزلاق في الشخصية يعني احتلال هذا الوطن المبارك تارة أخرى. احتلالٌ يسـمّ محمد الفاتح، ويطعن مراد خداونديكار في أحشائه بخنجر، ويقتل يلدرم بايزيد همّاً، ويقهر ياووز سليم بكفّ الأسد.[3] احتلال فاضح يقتل روح "الملّة" التي خرجت ظافرة بالنصر من كفاح الاستقلال، لتذبح بسيئات العصر وغفلة المثقفين وإهمال الجمهور.

ونحن حملنا على عاتقنا مسؤولية بث روح جديدة في دنيانا، مشبعةٍ بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة لترسيخ الجذور المعنوية لشجرة مباركة تنمو وتزدهر أفنانها بهذه المعطيات، وتزهو حقولاً جديدة بامتداد تلك الجذور. ولا شك أن إنجاز ما تمليه هذه المسؤولية مرتبط ارتبطاً وثيقاً بأبطال يصونون مصير الوطن ويحمون تاريخ إنساننا ودينه وأعرافه وتقاليده ومقدسـاته كلها... أبطالٍ طافحين بحب العلم، مُنْشَدّين إلى الإعمار والإنشاء، متدينين أخلص من الخُلَّص، محبين للشعب، ومرابطين أبداً على أداء واجباتهم بشعور المسـؤولية. فبهؤلاء وبجهودهم ستهيمن أفكارنا، ومحصلة هذه المفاهيم والأفكار، على حيـاة شعبنا... ويعلو في كل إنسان حس نذر النفس لخدمة المجتمع، وينتعش من جديد مفهوم تقاسم الواجبات والتعاون المتبادل، وتبرز كرّة أخرى خصلة ظهور الشيء الواحد بأوجهه الكثيرة في علاقة رب العمل بالعامل، وصاحب الأرض بالزارع، والموظف برجل الشارع، وصاحب البيت بالمستأجر، والفنان بمحب الفن، والموكل بالوكيل، والمعلم بالطالب، ويتحقق كل ما كنـا ننتظر منذ عصور. نحن نعيش في زمن نسبك فيه رؤانا في أفكار مثالية، ونؤمن أن مسؤولي العصر سيحققونها بتوقيت جيد حين تَأزف ساعتها.

هذا هو أُس رؤيانا وخيالنا منذ عصور. والشعور بالمسؤولية وأخلاق المسؤولية هو أول وسيلة لتحقيق رؤيانا وخيالنا. ولما كان السكون والجمود موتاً وانحلالاً، واللامسؤولية في الحركة فوضى ولغطاً، فلا مفر من ضبط تصرفاتنا بالمسؤولية. فينبغي شد كل جهد لنا بالمسؤولية. طريقنا طريق الحق، وقضيتنا حمل الحق، وغايتنا تحري رضاء الله في كل رفّة عين. والأصل أن هذه صَدَقة كينونة الإنسان وحكمة وجود الإرادة. نحن نحسب أنفسنا مضطرين إلى التحري عن غاية الحياة في حياتنـا، والتوصل إلى العشق في أرواحنا، والوعي بشعور المسؤولية في وجداننا، وإرشاد المستيقظين على منبع نظام أساسه وأصوله الإيمان، ومصدر قوته العشق، ونوره العلم والفن والأخلاق والحكمة... فنحتسب أنفسنا عبيداً لهذه الرسالة عبودية لا انعتاق منها. وستكون بداية لنهضة عالمية ثانية، هذه الجهود التي نرجو انتشارها وتطورها في استقامة وروحانية جميع الأولياء والأصفياء والأبرار والمقربين منذ البداية إلى اليوم.

لقد كان لكل عصر كرامة. فولدت الإنسانية من جديـد بالإسلام في القرن السادس الميلادي، وعاد كثير من أقوام التـرك إلى الحياة كرة أخرى بالإسلام في القرن العاشر الميلادي، وانشقت بالاستحالة شرنقة عن فراشة في "سـوكود"[4] في القرن الرابع عشر الميلادي. وأظن أن كرامة القرن الحادي والعشرين ستظهر بملء شعبنا والشعوب المرتبطة به مكانه اللائق في الموازنات الدولية. وسيدور هذا التكون الجديد الذي يغير وجهة تاريخ العالم ومسيرته، في أفلاك الروح والأخلاق والعشق والفضيلة. نعم، نؤمن أننا بهذا الجهاد المعنوي الذي يمكن تسميته بكفاح العلم والأخلاق والحق والعدل أيضاً، سنلم شعث أشلاء "أمتنا" المباركة الممزعة البئيسة والمشردة في أرجاء الأرض المختلفة، لتجتمع الأجيال التي ظلت بلا راعٍ ولا غاية حتى اليوم في ظل الفكر، فتعيش "الانبعاث بعد الموت" من جديد في نشوة الوصل بـ "لواء الحمد".

الهوامش

[1] ترجمة بيت لمحمد عاكف، ديوان "الصفحات"، ص 272. (المترجم)

[2] المثل الأول يقال للنهي عن التدخل في شؤون الآخرين أو مسؤولية كل إنسان عن عمله بنفسه. والمثل الثاني لمن ينصرف إلى النجاة بذاته غير مبال بغيره. (المترجم)

[3] إشارة إلى دس السم لمحمد الفاتح، وطعن الصربي الغادر للسلطان مراد بخنجر في ميدان المعركة بعد نيل الأمان، وموت السلطان بايزيد هماًّ بعد وقوعه في أسر تيمورلنك وإذلاله، ووفاة ياووز سليم بورَمَ سرطاني متقيح في كتفه يسمى "شيربنجه"، والكلمة فارسية معناها "كف الأسد". (المترجم)

[4] إشارة إلى انبثاق براعم الدولة العثمانية في قصبة "سوكود"، وهي من أنحاء الأناضول التركية حالياً، والكلمة نفسها اسم لشجرة فالجملة تتزين بحُسن الجناس. (المترجم)

المصدر: مجلة "ياني أميد" التركية، يوليو 1995؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي اوغلو.