الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع

فهرس المقال

رمزية الأشياء

ولقد تبطّن خطاب الرواية بإيعازات ورموز تنفتح دلالتها على التفاؤل. ولا غرو أن يكون الأمر كذلك، فإن وازع المقاومة يجد في استدعاء معاني البِشْر والتفاؤل، وفي اللوذ بحُرمة المقدسات، ما يلبّي شيئا من حاجة النفس إلى الإسناد والثبات. ويمكن -في هذا الصدد- أن نرى في تواتر لفظ الحمام وجها من هذه الصمودية التي تقتضيها منا الأوضاع الصعبة. إن لفظ الحمام يتردد في هذا المدخل بكل ما يومئ إليه من رمزية ودلالة تجسّد مطلب البحث عن المنَعة والخلاص والتواصل والسلام. إن في مدلول لفظ الحمام إحالة إلى محيط الأشواق التي تمور في أعماق الكاتب، البعيد عن الأهل، والمقيّد بالأثقال.

إن الخطاب يشتحن بمحمول دلالي موضوعي ينساق في الوجهة التي تتوخى الرواية أن تسلكها، وهي تدوين سيرة الإمام، وهذا المحمول الدلالي الموضوعي يلابسه محمول دلالي آخر ذاتي، لا يفتأ يعترض السياقات، لينفّس عن لواعج النفس، وفي كلا الحالين يظل السياق يعرب عن تفاؤل ينسجم مع طبيعة المؤمن الذي -بفضل إيمانه- يستمد رحمة الله من صميم تعاليم عقيدته: "ارْفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرّز على موج البحر نبوءَتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: تُفْتَحُ القسطنطينيةُ أوَّلاً ثم تُفتح روميةُ!؟".

وحين يشير الخطاب إلى نص الحديث "تفتح القسطنطينيةُ أولا ثم تفتح رومية"، فإن مدلول الفتح هنا يوعز بالبعد التأييدي الذي تفيض به جوانح الأنصاري حيالَ مشروع الدعوة والتأسيس الذي ينهض به الفاتحون، ويوعز في الآن ذاته إلى المطلب الخلاصي الذي يتطلع إليه الكاتب، إذ من العقيدة ونصوصها، لاسيما من تنبّؤاتها المستقبلية (المآلية) ومبشراتها المصيرية يستلهم الأنصاري في محنته الألطاف الإلهية. فالكاتب لا يفتأ -على هذا النحو الخطابي المتراسل- يستنـزل الرحمات الإلهية، إذ لا ييأس من أن رحمة الله قريبة منه، وأنها ستتخطّى به ذلك الصعيد الحالك للمحنة التي حلّت به.

وكما رتّب القدر للإمام فتح الله موعد ولادة ثانية قد بدأَت علاماتها تلوح في الأفق من خلال الإنجازات الميدانية، فكذلك بات رهان الأنصاري يتركز على ما سيتحقق له من مولد ثانٍ مُرتجى، مولد الانبعاث وعودة العافية إلى الجسد المخترَق بالداء. والسياق الحواري يسدّد نحو نقطة حاسمة، مركزية، يريد الأنصاري من خلالها أن يعرف هل يُكتب له أن يكون من طلائع هذا الزحف الذي شرعت كتائب الفتح تنتشر في الآفاق. إنه في ذلك الموقف المشوش، يُشبه وضع موسى -عليه السلام- مع فتاه في قصة العبد الصالح. لقد تقاطعت في وجدانه صورة موسى -عليه السلام- مع فتاه، وصورته هو مع مرافقه الذي يرعاه ويسهر على خدمته: "قلت لفتاي: ويحك يا ولدي! ذلك ما كنا نَبْغ..".

هكذا يستدعي السرد مقامات الارتحال والضرب في الأرض كما جسّدتها الرموز ممن حازوا مرتبة العبْدية على معابر من نار العبودية والتمحيص. فالإحالة السردية هنا تستحضر قصة العبد الصالح مع فتاه، في سفَرهما الخارق، وتحيل إلى تجربة التمحيص التي كشفت -في جملة ما كشفت- عن تلك المشاقّ التي تَعْرِضُ لمن يراهن على تحصيل السر، والظفر بالحقيقة.

وطبيعي أن التماثل بين فتى موسى والأنصاري تماثُلٌ في المقصدية، إذ إن مطلب الأنصاري في سفره أن ينفذ إلى برزخ التجدد، فيغْنَم من رحلته تلك، ويعود إلى وطنه معافى، وصاحب حاجة، وجنْديّا قد تم إدماجه في المفرزة، عن جدارة واستحقاق: "ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المشاهَدات! أنتظر المزيد ولا من مزيد! ورجعتُ إلى وطني أنتظر الإذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور!".

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.