كتاب "ونحن نبني حضارتنا"...

وقد تُرجِم عدد من هذه الكتب إلى العربية واللغات العالمية المختلفة في عمل محمود لتعريف القراء بالعربية وغيرها بفكر شيخنا الجليل. وأحمد الله تعالى على توفيقه لي بترجمة هذا الكتاب، وقبله الكتاب المعنون "ونحن نقيم صرح الروح" الذي يعد الجزء الأول من الكتاب الذي بين يديكم الآن، فموضوعهما واحد وهو عوامل النهوض بالأمة من كبوتها التاريخية نهوضاً يستدعي الاستغراق الجاد الصبور في بحار السباق الحضاري الهائجة كطوفان نوح عليه السلام لتسلق سفينة النجاة والإمساك بدفتها لقيادة الإنسانية إلى "جودي" السلام والاطمئنان والسعادة.

وأزعم أن قراءة متفحصة لهذين الكتابين، مع مراجعة تفصيل مجملهما وتوسيع موجزهما وتقصي مقاصد الإشارات، ومعاني الدلالات فيهما، بتحري كتب فضيلة الشيخ الأخرى، سوف يسهّل للمتابع الإمساك بالخيط الذي يشد جمانات العقد في فكره ومنهجه.

وأرجو القارئ الحصيف التأني والاستغراق في تفحص المعاني، فلعله أمام نمط غير مألوف في القراءات الثقافية الإسلامية، من حيث سبك عبارات غائرة المعاني والمقاصد والدلالات بأسلوب بياني رصين ورفيع مفعم بالصور والتداعيات التي ترفعه من النثر إلى مصافّ الأداء الشعري. فقلما نقرأ فكراً رصيناً وعالياً يعبَّر عنه بمثل هذا الأسلوب الأدبي الرفيع من غير التضحية بتفاصيل معانيه ودعائم مقاصده. ولا شك في أني قصرت عن نقل هذا الانسجام والقِران بين الأمرين من حاله الرفيعة في التركية إلى العربية كما هو شأن التراجم إلى اللغات الأخرى. وآمل أن يسد القارئ الحصيف الثغرة بإيقاظ خياله لتصور بدائع البيان إبان استغراقه في مقاصد المعاني ودلالات الفكر.

إن المدرسة الفكرية للأستاذ الشيخ فتح الله كولن تسمو إلى أرفع المستحصلات العقلية لأصحاب الفكر، لكنها ليست مناظرات وجدلا وإرواء للظمأ العقلي والوجداني، وليست وليدة للمِران العقلي المعزول عن الواقع والإنسان والكائنات... بل هي مدرسة فكرية واقعية وتربوية وعملية، تستهدف إعداد جيل "ممثل" للإيمان عازم على الأخذ بيد الأمة والإنسانية إلى سعادتها المأمولة، في حلقات تتسع دوائرها من البيئة القريبة إلى المحيط الأرحب فالأرحب. هؤلاء هم حملة الأمانة "ووارثو الأرض" "الممثلون" للإسلام، وهذا هو سبيل الإسلام والنبوة.

ولئن كان أسلوب الشيخ في هذا الشأن فريداً، فذلك لأسباب من جملتها أنه يقيم موازنة دقيقة في نمط كتاباته بين ما هو خاص وعام، أو محلي وعالمي، أو فردي وجماعي، وذلك من مقتضيات ابتدائه من الإنسان باعتباره إنسانا ينبغي أن يفطن إلى غاية خلقه، فلا يقف موقف المحايد والمتفرج ولاينزل للمشاركة في مسألة الوجود الكبرى واتخاذ موقف منها. وإذ يبدأ به من هنا، يدرجه في مسالك الرقي بإنسانيته، ويرفعه إلى مدار الفَلَك الدائر حول المركز، وهو تلك الغاية التي توصل الإنسان إلى الحق تعالى ومقتضيات عبوديته له. فترى الخاص يندرج في العام من غير تشتت، أو تجد العام يرجع إلى الخاص من غير ضيق، في معالجته للمواضيع كلها... مع الانتباه إلى أن حدود الخاص والعام تضيق أو تتوسع حسب المقصود أو المطلوب. وإن التعرض لقضية المسلم في هذا البلد، هو توجه لقضية كل مسلم وإنسان... وكذلك قضية كل مسلم وإنسان في هذا العالم الفسيح ليست ببعيدة عن المسلم في هذا البلد. وقواعد المعالجة الخاصة أو العامة هي كذلك واحدة. والفكر أيضا سائح وجوال بين أدنى أفق وأقصى الآفاق. فأسلوب فضيلة الشيخ وتداعيات معانيه يوازن موازنة منسجمة بين مقتضيات الموضوع: من التزام الحق، وسلامة الحكم، وعمق القصد، ومراعاة المقام، ومخاطبة الطبقات والفئات البشرية المختلفة. فأرجو القارئ أن لا يغفل عن هذه المسألة التي هي من خصائص كتاباته. فنحن إزاء خطاب يهتف للعالم وأمة الإسلام، بقدر ما يهتف لتركيا.

ولن يُستغرب -مع هذا التمايز في الأسلوب- أن يحمِّل الشيخ المؤلف كلماته معانيَ تستفيض وتتشعب حتى تغدو سمة خاصة به. ولا مناص للقارئ من أن يتتبع معانيها الطافحة في كتاباته كافة. فمثلاً: "العمل الحركي" المستمد معناه من أصل الكلمة الإنكليزية (Action) تفيد الدعوة والتبليغ والقضية والرسالة بمنهجية تتسم بالثبات والتخطيط، من أجل "الانبعاث بعد الموت" الذي يعني أن عودة الدم إلى عروق المسلم والإنسان لتدب فيه الحياة بعدما نضبت بسبب إقصاء غاية الخلق عن حياته، وذلك بمحورية "العبودية" للحق تعالى.

فالعمل الحركي سعي بلا كلل "لإِحياء الحياة"... إذ الحياة نفسها ليست سوى موت وفناء لولا الإيمان والتفطن إلى غاية الخلق. فانظر إلى المعاني الرحبة في "الانبعاث بعد الموت" و"إحياء الحياة" اللذين لا يفتأ الشيخ الجليل يرددهما حيال الصحوة أو اليقظة أو النهضة... وانظر إلى المعاني المستزادة في حاملي الأمانة الذين يحوزون حق "التمثيل" لمقومات العبودية الكاملة وخصالها السامية، وهم جيل التغيير ورجال الدعوة الذين يستحقون أن يكونوا "وارثي الأرض" بكل ما في الكلمة القرآنية من بشرى ووعد في الدنيا والعقبى... وينهضون طوعاً لحمل عبء الأمانة في "عشق" مع المنخرطين في المسيرة (التي للنبوة فيها موقع خاص) بمعان للعشق لا تقتصر على التوجه إلى الله الودود، توجهاً يغني عن طلب ما سواه، وحتى عن طلب رغائبه وأنعمه الدنيوية والعقبوية، بل يتمادى إلى أن يستحيل إلى "شوق" خالص إليه بطلب رضاه هنا بالانخراط في سلك "الخدمة" (أي خدمة القرآن كناية عن الدعوة إلى الله) طمعا في أجر أوحد هو رضى الله تعالى.

إنسان "الخدمة" هذا تتسع "آفاق" عقله وقلبه وروحه، ويسعد بهذا أيما سعادة، فلا يستطيب السكون بلا سعي في نقل هذه "الآفاق" إلى الآخرين، فيعيش أبداً من أجل "إحياء الآخرين"، مبدلاً "الفانيات" المريرات في الأصل لفنائها بـ"الباقيات" الخالدات الطيبات. وتتكرر كلمات كثيرة مشبعة بمعان شاملة مثل: "المتلقَّى" وبالجمع "المتلقَّيات" التي تعني التصورات عن شيء معين والسلوكيات والعادات والتصرفات الناشئة عن هذه التصورات. و"الأخرويات" التي لا تتحدد بالدار الآخرة كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة... بل تتسع حتى تشمل العوالم المتعددة في هذه الدنيا وفي البرزخ والآخرة، وكذلك عوالم الميتافيزيقا والروحانيات وما وراء ستار المادة وما وراء حجاب الغيب استمداداً من أصل كلمة "اوته" التركية التي تفيد عدة معان هي: الآخر، والغير، والبعيد بعداً غير شاسع يلي القريب.

أما "الواردات"، فقد تتجاوز معانيها المتبادرة في مصطلح الصوفية، إذ يُقصد منها ما يرد بالإلهام أو الاستلهام، وكذا ما يُتلقّى من "الأخرويات" بمقاصدها المذكورة آنفاً، وما يستحصل من تراكم الأعمال والتجارب أيضا. وكما تتكرر "الآفاق" كثيراً، كذلك تتكرر كلمات تفيد الرحبة والسعة والفسحة والوطادة والغور والعمق، فتلحق بالعقل أو القلب أو الروح أو العشق أو الشوق أو الوجدان أو الفكر. وأمثالها كثير، وهي مقصودة وليست استطراداً ولا حشواً.

ولعل الذي ينعم النظر في هذين الكتابين يستنبط غايات الشيخ ومراميه من تصنيفهما أوجزها فيما يأتي:

1- تربية الأنموذج المسلم بمخاطبة عقله ليدرج في مدارج الإسلام، ويرتقي في مراتب الإيمان، ويمازج بين العقل والقلب والروح، بالمعاني التي بينها في كتبه المتنوعة.

2- تربية جيل مسلم ينخرط في "خدمة" القرآن ويزج بطاقته كلها في "إحياء الحياة"، ملتزما بقواعد الإسلام في حال من "العشق"، ومشبعاً بالثقافة الإسلامية وبمتلقياتها الذاتية التي تستوعب وتنظم طاقات الخير في المجتمع الساعي في طريق "الانبعاث بعد الموت"، ليحتل موقعه في إدارة حياة البشرية جمعاء.

3- من أهم أدوات "الانبعاث بعد الموت" و"الصيرورة الذاتية":

أ) "موائل العلم" التي هي المدارس والمناهج التربوية المربية للأجيال تربية سليمة تجمع بين العقل والقلب والروح.

ب) وموائل الروح التي تتعهد برعاية روح المؤمن وترتقي به في المراتب والدرجات.

ج) وموائل القوة التي تجمعها الدولة متى ما استقامت على الثقافة الذاتية وتعهدتها بالرعاية، لتحتل مكاناً لائقاً في توازن القوى، وتقيم حضارة عمودها الفقري تلك الثقافة.

هذا كله في عملية متمادية ومتشعبة في مضمار التغيير والنهوض وذلك بصناعة الحضارة وقيادة المجتمع المسلم للبشرية جمعاء.

وقبل الختام أقدم جزيل الشكر وعظيم الامتنان إلى كل من شارك في إخراج هذا الكتاب وخاصة الأستاذين الفاضلين أديب إبراهيم الدباغ، ونوزاد صواش؛ فما ادخروا جهداً في جمع ما شت، وتصليح ما عطب، وتقويم ما اعوج. فلهم وافر الشكر وأوفاه. وأسأل الله خلوص النية ودوام التوفيق وحسن الختام.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.