سـورة فصلت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾(فُصِّلَتْ:30)

الاستقامة تعني اتباع الطريق المستقيم طوال الحياة واتباع الشيء الصحيح والحق طوال العمر. والقرآن الكريم يقول: "فاستقيموا" آمراً وموصياً إيانا بسلوك الطريق والصراط المستقيم. والآية أعلاه بشارة لمثل هؤلاء السالكين الصراط المستقيم. وأكثر الطرق والسبل استقامة هو الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمره ربه بالاستقامة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أمِرْتَ﴾ (هود: 112، الشعراء: 15). لكي تظهر الاستقامة الموجودة بالقوة في فطرته إلى استقامة بالفعل في الواقع. والاستقامة المطلوبة منه بهذا الأمر الإلهي هي الاستقامة المعتبرة عند المقام الإلهي. والحقيقة أنـه من الصعب جـدا فهم وتطبيق الاستقامة المطلوبة من قبل الله تعالى حق الفهم وحق التطبيق وبالمعنى المقصود من قبله تعالى. لذا جاء الأمر بصيغة مطلقة وتم تنبيهنا أن نكون مسـتقيمين عند رعاية أوامر الله ونواهيه قدر استطاعتنا. أجل!... هذا هو المطلوب منا. وهناك حديث للرسـول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا حيث يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما اسـتطعتم"[1] والملاحظ هنا هو الإشارة إلى الاستطاعة والقدرة على تجنب المعاصي، والقدرة والاستطاعة على فعل الخير والمعروف.

الاستقامة تكفل سعادة الدنيا والآخرة وهي أساس بشائر مهمة وردت في القرآن الكريم. ولأننا تناولنا هذا الموضوع بشكل أكثر تفصيلا في السابق[2] فإننا نكتفي هنا ببعض النكت الأخرى لهذا الموضوع:

1- الاستقامة بالنسبة لإنسان في بداية الطريق -أو لجماعة أو لأمة أو لدولة إن استطعت تناول الموضوع بالمقياس الكبير- زاد مهم. والذين يخرجون للطريق من غير زاد الاستقامة سيبقون في منتصفه ولن يصلوا إلى هدفهم أبداً. بينما المهم بالنسبة للمؤمن هو الوصول إلى الهدف الذي بينه الله تعالى. قد يكون هذا الهدف شخصياً أو عائلياً أو اجتماعياً...

أجل!... إن الاستقامة ركن لا يمكن الاستغناء عنه في النجاح، سواء النجاح في حياتنا الفردية أو في حياة امتنا. وحتى لو استطاع بعضنا إحراز بعض النجاح بالكذب والتمويه، وجر الجماهير وراءهم، فإن الحقائق ما أن تظهر واضحة وصريحة فإنهم يفقدون كل ما اكتسبوه في السابق شيئاً فشيئاً. كما يفقدون إمكانية وفرصة استعادة ما فقدوه من جديد. إن الاستقامة رصيد إن فقدته قام من عرف ذلك بسحب كل ما كان قد أكسبه لك حتى ذلك اليوم. ولكون توفر الاستقامة يؤدي إلى الكسب بهذه الدرجة، ويؤدي غيابها إلى هذه الدرجة من الخسارة، قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "شَيّبَتنِي هودٌ وأخَواتُها"[3]، وكيف لا وهذه السورة تشمل آية ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود:112). إذن فحتى النبي لا يزول عنه قلق الوصول إلى الاستقامة التامة. وعندما يسأل أحد الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "قُل آمنتُ بالله ثم استقم".[4]

إن بقيت في إطار الاستقامة فلا يضرك التهم التي سيطلقها الأعداء أو الحساد عنك، لأنه سيأتي اليوم الذي تظهر فيه براءتك، وتكسب حينذاك أضعاف ما خسرته في الماضي. المهم أن تبقى على خط الاستقامة على الرغم من كل شيء.

2- إن لم يكن الشخص مستقيماً فهو يعيش حياته قلقاً، لأنه يخشى في كل آن أن ينكشف غسيله القذر. فإذا كان هناك من شـاركه في آثامه وأخطائه أصبح هذا القلق والخوف ملازماً له في حله وترحاله وفي منامه ويقظته لا يدري متى سيطعن من خلفه. يتلوى من هذا الخوف لأنه حسب المثل القائل: "إذا اختلف السراق ظهر المسروق". وهـو يضطر لمداهنة ومداراة هؤلاء ويبقى في خوف وفي قلق دائمين.

3- والآن لنعرض رأياً للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي حول بُعد آخر للاستقامة:

عندما يستعرض النورسي أسباب تخلفنا يقول: "أحياناً يحاولون الوصول إلى هدف وإلى غاية صحيحة عن طريق استعمال أساليب ووسائل خاطئة. بينما يجب الوصول إلى الأهداف الصحيحة عن طريق الأساليب والوسائل الصحيحة". بتعبير آخر: "لا يمكن الوصول إلى هدف صحيح وصالح وحق عن طريق وسائل باطلة". مثلاً: لا يمكن الوصول إلى رضا الله تعالى أو تحقيق منفعة للمسلمين بالألاعيب السياسية. والشيء نفسه وارد بالنسبة لاستغلال عاطفة الجماهير لتحقيق أمر ما، فهذه وسيلة باطلة، والإنسان بهذا يخدع نفسه. كما لا يمكن الوصول إلى الحقيقة عن طريق معالجات مصطنعة. إذ لا نجد هذا لا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في تاريخ الإسلام وأدواره عندما كان الإسلام حياً. إذن يجب اتباع طريق واستعمال طريقة يكون الصدق والاستقامة أساساً لها على الدوام، وإلا ذهبت جميع الجهود المبذولة -غير المستندة إلى الاستقامة- أدراج الرياح، وسـيحاسب الله على هذه الخيبة والفشل. لأنه مع كون النيات صالحة، إلا أن الجماهير وجهت نحو طرق خاطئة، قد تشوه صورة الدين الإسلامي، وأُعْطِيَ بيد أعداء الدين السلاح والتبرير لكي يزيدوا من شراستهم.

بينما مثل هذه المسائل المتعلقة بالمجتمع تتطلب المشورة، وتبادلا للأفكار على صعيد واسع. فإن لم تقم بالمشورة ولم تتبادل الأفكار مع الآخرين، فهذا يعني أنك قمت بجر الجماهير إلى مغامرات غير محسوبـة العواقب بأهوائك. والله تعالى سيحاسب على هذا بالتأكيد. ومع الأسف فإن اقتراف مثل هذه الأخطاء هو ما يجري في أنحاء العالم الإسلامي الآن، ونرى الأمثلة البارزة على هذا في بعض البلدان الإسلامية.

والخلاصة إن الاهتمام بالاستقامة في الشعور وفي الفكر وفي العمل يشكل الناحية العملية للإيمان. وقد اهتم السلف الصالح والذين خوطبوا بالقرآن للمرة الأولى بجانب من جوانب الاستقامة، فمنهم من فسر آية ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت: 30؛ الأحقاف: 13) بأنها تعني الذين وحّدوا الله تعالى ولم يدخلوا في الإثم؛ وفسرها آخرون بأنها الذين استقاموا في سلوكهم ولم ينحرفوا إلى الحيلة والخديعة؛ وفسرها آخرون بأنهم هم الذين وصلوا إلى العبودية المخلصة لله تعالى؛ وقال آخرون بأنـها تشير إلى المؤدين لكامل الفرائض، والتكامل ظاهرياً وباطنياً. ومثل هؤلاء تحفهم الملائكة وتنـزل عليهم بالسكينة والاطمئنان. أجل!... فكما تقوم الأرواح الشريرة والخبيثة والشياطين بزيارة من ملئت أرواحهم بالنوازع والمشاعر الشيطانية، كذلك تقوم الأرواح الطيبة بزيارة أصحاب الاسـتقامة وتسوق لهم البشائر: ﴿تَتَنَـزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30).

ويرى بعضهم أن تنـزل الملائكة وبشارتهم هذه يكون عند الاحتضار والموت، ويرى آخرون بأنه يكون بعد البعث من الموت وما يصاحبه ويعقبه من زحام الحوادث. وقال البعض الآخر بأنه سيتحقق في أثناء الموت وفي أثناء البعث بعد الموت أيضاً. ومن يدري فربما تقوم الملائكة -بجانب أدوار الموت والبعث- بالتنـزل على المؤمنين في جميع صفحات حياتهم، وأن هذا هو السبب في كون هؤلاء المؤمنين يعيشون حياة اطمئنان وسكينة. ولكن مثل هذه المشاعر والأفكار التي هي نتيجة لبذرة الإيمان الموجودة في قلوبهم طوال حياتهم، ستتوضح وتلتمع وتتعمق أكثر في أثناء الوفاة، وتنكشف أكثر عند المحشر، وتصل إلى أبعادها الأخروية الحقيقية بمعونة القدرة والرحمة الإلهية.

الله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فُصِّلَتْ:53)

تذكر هذه الآية أولا بأن الآيات الدالة على صدق هذا القرآن وكونه حقاً لا مراء فيه ستظهر الواحدة بعد الأخرى في الآفاق وفي الأنفس، وأن التناغم الموجود بين الآفاق والأنفس يشير إلى الله تعالى ويعلن عنه، وتبشر المؤمنين الذين كانوا آنذاك في ضيق شديد بأن قلوب أهل مكة ومن في خارجها ستنفتح، وسينتشر نور الإسلام في الشرق وفي الغرب، وأن الروح المحمدي سيفرش جناحيه على العالم، وتومئ إلى أن الجو خارج مكة سيكون أفضل وأكثر ملائمة لهم.

إن أسـلوب هذه الآية يفتح أمامنا أفق تفكير واسـع جدا، ويهيئ لنا إمكانية رصد الحقائق. وكما هو معلوم فإن الأدلة المقدمة لإثبات الحقيقة تنقسم إلى مجموعتين: الأدلة الآفاقية المستقاة من الكون وما يتعلق به من حوادث، أي الأدلة من خارج النفس. ثم الأدلة المتعلقة بالعالم الداخلي للإنسان من فكر وحس وحدس، والتقييم الشخصي لها.

الهوامش

[1] البخاري، الاعتصام 4؛ مسلم، الحج 412؛ الفضائل 130؛ النسائي، الحج 1.

[2] ورد هذا في كتاب آخر للمؤلف تحت عنوان "التلال الزمردية" 116/1.

[3] الترمذي، تفسير السور (56) 6.

[4] مسلم، الأيمان 62؛ المسند للإمام أحمد، 3/413، 4/385.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.