سـورة آل عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(آلِ عِمْرَان:21)

إن الذين أنكروا كل دين حتى مجيء الإسلام، أو قبلوا بعض أمور الدين وأنكروا الله، وأنكروا الآيات الدالة على الله تعالى وعلى وحدانيته فضلوا وأضلوا وصفوا هنا بأنـهم "يكفرون بآيات الله"، كما وصف الذين شقوا عصا الطاعة على الأنبياء الذين أرسلوا وسيلة نجاة لهم وأنـزلت الكتب عليهم بأنـهم "يقتلون الأنبياء بغير حق". ووصف الذين يعادون الذين يسعون لإقامة الحق والعدالة بين الناس، ويحاولون إزالتهم وُصفوا بصفة ذميمة هي أنـهم "يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس". والعاقبة التي تنتظر كل هؤلاء عاقبة واحدة وهي العذاب الأليم.

وأمثال هؤلاء لم يستطيعوا البقاء في الدنيا والخلود فيها ولم يستطيعوا منع ارتحالهم إلى دار أخرى ولم يتهيئوا لها، وبتعبير بديع الزمان النورسي لم يستطيعوا قتل الموت وإزالته، ولم يستطيعوا سد باب القبر، لذا يتعذب هؤلاء عذاب الموت قبل الموت، فقد انتهت آجالهم في الدنيا وضحوا بآخرتـهم، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

ولو دققنا هنا فذلكة الآية لرأينا أننا أمام أسلوب لم نعهده. أجل! فلم نعتد كلاماً حول "البشارة بعذاب أليم". لأن البشارة تستعمل عند الحديث عن شيء جميل ومفرح، وعن شيء يغرق الإنسان في السعادة، ولا تُستعمل عند الحديث عن الأشياء القبيحة والمحزنة. فلا يقال مثلاً لمن توفي والده "هنيئاً لك بموت والدك!"، ولمن أفلس "هنيئاً لك فقد أفلست!". لذا يجب هنا البحث عن حكمة أخرى وهي -والله أعلم- الاستهزاء بالكفار والتهكم منهم. ومثل هؤلاء الذين أصبحت قلوبهم غلفا تجاه الإيمان وتجاه القرآن، وامتلأت نفوسهم حقداً وغيظاً تجاههما لا شك أنـهم سينفجرون من الغيظ والغضب عندما يسمعون مثل هذه الآيات.

وإذا قمنا بتقييم سياق الآية يمكن ذكر النكتة الآتية: إن الله تعالى فتح أمام هؤلاء طرق الهداية والإيمان وأرسل لهم الأنبياء، وأرسل فيما بعد ورثة الأنبياء الذين يأمرون بالقسط بين الناس، ولكنهم أصروا على إنكار كل هذه النعم وعلى الجحود بـها. أي لم يؤمنوا وقاموا بقتل الأنبياء وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس. لذا فذكر ﴿وَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم﴾ (آل عمران: 21) هو من أجل بيان سوء عاقبة هؤلاء من جهة وإنذارهم ثانية بأنهم أضاعوا فرصة ذهبية وبشارة حقيقية.

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾(آلِ عِمْرَان:40)

قال زكريا هذا مع أنه كان قد دعا ربه من قبل ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ (آل عمران: 38). وعندما تلقى بشرى قبول دعوته قال بمزيج من الفرحة والدهشة ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾. ومع أنه قد تبدو هناك في النظرة الأولى مفارقة بين الحالين، إلا أن مثل هذه المفارقة غير موجودة. ذلك لأن زكريا عليه السلام عندما توجه إلى ربه بكل كيانه بالدعاء كان في حالة روحية عميقة، لذا لم تخطر على باله دائرة الأسباب، فتجاوز الأسباب كان يقتضيه مقام الدعاء. كما كان الدعاء يتناول أمرا أخرويا متعلقا بميراث منتظر للنبوة. ولكنه عندما عاد إلى عالم اليقظة -إن جاز التعبير- ودخل إلى عالم الأسباب وتطلع إلى المسألة من خلاله فرح وذهل فقال ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾.

هناك أمر آخر مهم يجب الإشارة إليه في هذا المقام وهو أن العديد من كتب التفاسير التقليدية يفسر قول زكريا عليه السلام ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ بأنه صيغة تعجب، بينما أرى أنه صيغة تقدير مع تحير من القدرة الإلهية. فإن علمنا بأن أعلى مقام في مراتب الولاية عند ابن عربي هو مقام الدهشة، أدركنا بأن هذه الحيرة والتعجب لا يكون منافيا لمقام النبوة. أجل! قام نبي بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر بإبداء دهشة ممزوجة بمعرفته النبوية بالله تعالى، ثم إظهار مشاعر التقدير والإعجاب والمنة للقدرة الإلهية، والتعبير عن هذه الدهشة والتقدير والمنة بقوالب من الألفاظ المناسبة لمشاعرنا وعواطفنا.

بالنسبة إلينا فليس من السنن الإلهية حمل امرأة بلغت سن اليأس وانقطعت عنها العادة الشهرية فأصبحت عاقراً. لذا فظهور مثل هذه الحادثة غير الطبيعية وخلاف العادة الجارية كان بمثابة إشارة تنبيه ممزوجة بالدهشة في روح نبي يقدر الآلاء الإلهية حق التقدير… شعور تقدير يتقدم على شعور الفرح. وهذا شيء طبيعي ويوافق منصب النبوة.

ثم كان التعقيب بآية ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 40) للإيماء بأن حوادث عدة متعلقة بمريم وعيسى عليهما السلام ستقع وستظهر. أي أنه إلى جانب الحوادث الواقعة حسب دائرة الأسباب والمسببات وحسب السنن الإلهية المطردة تقع حوادث لا ترتبط بالأسباب المنظورة، لكي تتم الإشارة إلى المشيئة الإلهية الحرة على الدوام.

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾(آلِ عِمْرَان:64)

اتخاذ موقف لين تجاه أهل الكتـاب أمر من أوامر القرآن. ليس أهل الكتاب فحسب بل أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يقول كلاما لينا لفرعون ﴿فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخْشَى﴾ (طه: 44). لذا فلا مكان أبداً في الإسلام للكلام الخشن أو اللوم العنيف للناس في الدعوة إلى الله.

والآية أعلاه أنموذج بليغ للكلام اللين القريب من القلوب، والكلام الجذاب في الدعوة. فإن تخيلنا الإسلام قلعة محاطة بأسـوار تمثل حدود الله، فلا شـك أن هناك أبواباً عديـدة لها وهناك طرق كثيرة بعدد الخلق تؤمن الوصول إلى هذه الأبواب. ويقوم الإسلام بأسلوبه الخاص باحتضان الناس في أي طريق من هـذه الطرق وفي أي نقطة من نقاطها لكي ييسر لهم الدخول من أحد هذه الأبواب. إن عدم وضوح هـذا التدرج، أو عدم إدراكه قاد البعض في السابق ولا يزال يقودهم إلى أخطاء معلومة.

وهذه الآية تستقبل أهل الكتاب في إحدى نقاط هذه الطرق وتقترب منهم بوجه بشوش وكلام حلو جميل وتقول لهم: "تعالوا إليّ!… هلموا إليّ!" وعندما تخاطبهم هكذا تقول لهم: "إن ما أدعوكم إليه ليس جديداً عليكم، وليس شيئاً تجهلونه… بل هو مما عرفتموه وأنستم به قبلنا، ولكن يجوز أنكم نسيتموه، أو تذكرتموه بشكل خاطئ". ومثل هذه الدعوة تؤسس جسراً بيننا وبين أهل الكتاب، وتلمس نفوسهم من جانب يأنسون به. وهذا الأسلوب في الدعوة إلى الإسلام مهم جداً، وتستطيعون أن تطلقوا عليه التعبير الشائع في هذه الأيام وهو "أسـلوب الحوار". أجل… إن دعوة الإسلام أهل الكتاب إلى نقطة مألوفة لديهم يمكن تلخيصها في كلمة واحدة مختصرة، لأن القرآن طلب منهم شيئا واحدا فقط، وهو اجتياز هذا الجسر المشاهَد أمام الأنظار والوصول إلى هذا الباب. فإذا وضعنا كل شيء جانباً فإن كلمة "سواء" وحدها تعبر عن هذا المفهوم الدقيق للين وسعة الصدر والرغبة في تشييد الجسور بيننا وبينهم. فما هي خواص وصفات هذا الجسر؟

هنا نرى أن القرآن بدلاً من الحديث عن القيام بتعريف المثبت يقوم بعرض المنفي أمام الأنظار فيدخل إلى الموضوع بالشكل الآتي: أولاً إن أهل الكتاب كانوا يعرفون الله في إطارهم الخاص. غير أنه بعد مرور عدة عصور تراكم الغبار على هذه المعرفة التي فقدت نضارتها وجدتـها، لذا كان من الضروري القيام بعملية تنظيف وتطهير. وعندما يتم هذا تظهر الحقائق واضحة أمام جميع الأنظار. ويمكن رؤية عملية التنظيف هذه من جملة ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ﴾. أي إن الإسلام يبدأ كل عمل بعملية تنظيف وتطهير فيخلص الأذهان من الأفكار الخاطئة ومن الانحرافات ويخلص الأنظار من الزيغ. وعندما يذكر "إلا الله" فهو يقوم قبل تعريف الشيء الإيجابي بعملية فكرية وبعملية عقلية، بل ربما بعملية تجديدية. لذا فهذه الآية بدلاً من القول "لنعمل كذا وكذا" تقول "دعونا لا نعمل كذا".

أجل! فبعض أهل الكتـاب انحرفوا بمرور الزمن إلى الشرك، فبدأوا يسندون لله تعالى أبناء وبنـات مثلهم مثل الوثنيين. ودخلوا في دوامة غير مفهومة من الأخطاء مثل القول بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. وأعطوا لأحبارهم ورهبانـهم صلاحيات إلهية مثل قبول التوبة ووضع التشريع، ومظاهر شـرك أخرى في العبادات. والتعبير الوارد في الآيـة حول اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله يتعلق بالشؤون الحياتية اليومية ويقرر بأنـهم لا يملكون حق التشريع. لذا يبدأ القرآن بتخلية القلوب والأذهان وتنظيفها من الشرك بالله تعالى، وبتوجيه العبادة إليه وحده. يجب أن تكون الصلاة والصوم والحج والزكاة لله تعالى، وأن تقدم القرابين والأضاحي له وحده. هنا قد يقول أهل الكتاب بكل بساطة: "إننا نعمل كل هذا في سبيل الله". هنا تأتي إذن مرحلة عدم الشرك بالله تعالى بأي شكل من الأشكال. أي عدم قبول أي خالق آخر سواه كالطبيعة أو الأسباب أو أي قوى أخرى. والاعتقاد بأن الخلق والموت والحياة والرزق وإدارة الكون يعود إليه وحده. وتنـزيهه من أن يلد أو يولد أو أن يكون في حاجة إلى أحد، وتنـزيهه من أي نقص أو عيب، أو أن يكون أحد كفؤاً له. فإن انـزاح هذا الستار الأسود من فوق الإيمان عند ذلك يمكن التوجه نحو مظاهر الحياة الأخرى، وذلك لكي يتم الإيمان بالله وتتم العبادة الخالصة لـه، أي يتم التوحيد بكل معانيه. وهكذا فكما يوجد تدرج في دعوة الإسلام، كذلك هناك تدرج في عملية ربط الأذهان والقلوب وربط الحياة اليومية بالتوحيد. وكما أكد الأستاذ النورسي فإن الإسلام -في وجه من الوجوه- عبارة عن تحصيل وترصين وتحكيم الإيمان. أجل! فكل شيء في نـهاية المطاف يستند إلى الإيمان وإلى التوحيد. وبعد تكوين الحقائق التي يشغل الإيمان والتوحيد مركزها يتم الاهتمام بالمسائل المتعلقة بالمحيط الخارجي وتعيينها.

إن عدم معرفة سعة دعوة الإسلام ودعوة التوحيد وعمقها وسمة التدرج فيها حق المعرفة بمثل هذا المقياس وعدم معرفة استراتيجيتها في بناء الجسور مع مختلف طبقات الشعب وأقسامه، والوقوع في فهم خاطئ في هذا الصدد أدى إلى ابتعاد الكثيرين عن الإسلام. وكانت النتيجة مظهراً مختلفاً بل مضاداً ومخالفاً تماماً لروح هذا الدين الذي يملك قوة جذب قوية تجذب الناس إليه. فمن جانب تم تشويه الرأي العام وتطلعات الجماهير، وسادت العجلة -التي هي من سمات الضعف البشري- كل شيء وأهملت قاعدة التدرج، والأهم من هذا أنه أهمل ترتيب الخطوات المتتالية المذكورة في هذه الآية، حيث تم البدء من نـهايتها ومن فقرتها الأخيرة. وكانت النتيجة التورط في اتجاه اعتبرته الجماهير اتجاهاً متطرفاً. ومن جهة أخرى تم الادعاء بأنـه حتى المنحرفين عن الطريق الأحمدي سيدخلون الجنة، وذلك نتيجة لعدم فهم وإدراك معنى ومضمون هذه الآية الكريمة حق الفهم وحق الإدراك. مع أن الآيات -ومنها هذه الآية- إن دققت جيداً تبين بأنـها تقيم فقط الجسور مع أهل الكتاب وتفتح الأبواب أمامهم. أما ما يتم بعد دخول هذه الأبواب فلا يصرح به، بل تقوم آيات أخرى بذلك. لذا لا يجوز لأحد أن يقول مشيراً إلى هذه الآية بأن أهل الكتاب إن آمنوا بالله وبرسولنا ولكن لم يسلكوا سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم "… سيكون كذا وكذا ". لأن مثل هذه الآيات هي لدعوة أمثال هؤلاء إلى سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعد دخول سبيله هذا والولوج من باب قصره فإن ما يجب عليهم اتباعه غني عن البيان. ومن أجل فهم الإسلام والقرآن جيدا واستيعابهما يجب النظر إلى القرآن والسنة نظرة شاملة وفهم الأجزاء ضمن هذا الكل ووضع كل شيء في محله الصحيح. فكما تتوجه خلايا الجنين في رحم الأم كل إلى مكانـها الصحيح دون أي انحراف أو خطأ فلا تذهب خلية العين إلى الأذن، كذلك كان من الضروري وضع كل شيء في مكانه الصحيح عند تشكيل وإنشاء طرز الحيـاة الإسلامية. وهذا يتعلق بفهم القرآن والسنة ضمن إطارهما الشامل والكلي وفهم واستيعاب كل جزء ووضعه في مكانه الصحيح. وإلا كان من المحتوم ظهور تفاسير واجتهادات منحرفة وخاطئة وتناقضات. وذلك مثل تشوه الجنين في رحم الأم أو مثل حدوث حالات الإجهاض عند الولادة.

والخلاصة أننا نستطيع القول هنا بأنه يمكن دعوة الأرواح والضمائر المختلفة والثقافات والحضارات المستندة إلى مفاهيم مختلفة، والأمم التي شكلتها وأنشأتـها الكتب المتعددة المنـزلة في أزمان مختلفة إلى خط قد نستطيع تسميته بـ"خط الصلح" يقبله كل قلب وضمير. خط يوحد ويؤلف ويتناول كل مسألة في إطار من الرحمة الواسعة الشاملة، وفي دائرة من البعد الكوني، مما يعطي لكل فكر ولكل ضمير فرصة الحل في ظل تحكيم الحق. وهكذا تستطيع الأرواح التخلص من قبضة الأهواء لتصل إلى العبودية الحقة للمعبود المطلق جل شأنه وتنقذ نفسها من العبودية لآلهة الدنيا الزائفة.

﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(آلِ عِمْرَان:86)

 إن الذين يقفون بجانب الظالمين المؤيدين للكفر وللباطل مع أنـهم شهدوا جمال الحق ورأوه وقبح الشر وشناعته ليسوا إلا أشخاصاً منحرفين وظالمين. هؤلاء أفراد بؤساء انحرفت فطرتهم وتشوهت وفقدوا قابلية الاهتداء إلى درجة أن الله تعالى لا يجعل لهم نصيباً من الهداية ولا يهديهم إلى سـواء السبيل. لا يهديهم لأن أمثال هؤلاء دخلوا في غمرة حركة مبتعدة عن مركز الإسلام، وفي حالة نفسية ترافق هذا الابتعاد وتتسم بمعارضة المركز واتهامه ويبتعدون عنه، مما يؤدي إلى تعميق اسـوداد قلوبـهم. وهـم يحسبون أنـهم بعملهم هذا وانتقاصهم للمؤمنين -الذين يدعون أنـهم يعرفونـهم حق المعرفة لأنـهم كانوا من ضمنهم- يقومون بخدمة الكفر والإلحاد وتقوية روحه المعنوية، ويقومون في الوقت نفسه بإغراق المؤمنين في الهم والحزن.

غير أن الله تعالى الذي وهب للإسـلام نوراً متميزاً -هو كنور الشمس بالنسبة للأديان الأخرى- سيجعل هؤلاء المبتعدين عن هذا النور في تيه دائم، لا يهتدون إلى شيء أبداً وسيصرفون أعمارهم وحياتـهم في هذه العماية لا يجدون شيئا ولا يهتدون إلى أي شيء. وسيكونون أنموذجاً سيئاً للأفراد والجماعات الضالة.

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(آلِ عِمْرَان:97)

كل عبادة تؤدى لله تبارك وتعالى هي شـكر في مقابل النعم العديدة التي أسبغها علينا، وربما كانت مقابلة فعلية لها بنسبة ما. مقابلة لا تتم إلا في سبيل الله ومن أجله. وهكذا هي عبادة الحج فهي تعبير عن الشكر مقابل نعمة صحة البدن ونعمة المال الموهوب. لذا يقول من نوى الحج: "أحج لله" لذا يقول القرآن الكريم في هـذا الصدد: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ﴾ واللام في لفظة "لله" هو للاستحقاق. أما حرف "على" في "على الناس" فهو للفرض. أما لام التعريف في "الناس" فهو للعهد. وهكذا كان البدء باستعمال "على الناس" نوعاً من براعة الاستهلال وإشارة إلى ما يستتبعه من قيود. أي أن كلمة "على الناس" تشير إلى بعض الناس. فمن هم؟ هم من توفرت عندهم نفقة الطريق والقوت والقدرة على السفر، إضافة إلى وجود المحرم بالنسبة للنساء.

ويذكرنا اسـتعمال حرف الجر "على" في الآيـة "على الناس" بـهذه النكتة: الحج عبادة أصعب بكثير من الصلاة ومن الصوم. فإلى جانب مشقة السفر تضطرون إلى إنفاق مبالغ كبيرة، وتبتعدون عن أعمالكم وعن أوطانكم وعن أقربائكم... الخ. وحرف الجر "على" الذي يستعمله القرآن يومئ من بعيد إلى هذه المشاق الخاصة بالحج ضمن الفرائض الأخرى.

وعلاوة على هذا فإن "الاستطاعة" هي تنفيذ الأمر برضا القلب وبنية الانقياد على أحسن وجه وأفضله. وهذا متعلق بالإرادة والقدرة والإمكانية. أي أن الاستطاعة استعملت هنا مكان أجزائها من القوة والقدرة والإمكانية. وكانت سعة معنى هذه الكلمة مصدراً وسبباً لاختلاف التفسير لدى الأئمة المجتهدين، وسبباً للتيسير والتوسعة.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(آلِ عِمْرَان:102)

تقوى الله حق تقاته يتناسب طردياً مع معرفة الله تعالى، لذا يمكن القول بأن جميع المعارف التي لا تساعدنا على زيادة هذه المعرفة ليست إلا معرفة ظاهرية وعبارة عن قيل وقال. وكذلك فكل مسامرة أو مذاكرة أو أي أسئلة وأجوبة لا تساعد على توسيع هذه المعرفة إسراف في الوقت وإسراف في الكلام. وأشار الرسـول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة عندما قال "إن الله كره لكم ثلاثاً" وفي رواية "إن الله حرّم عليكم"[1] وذكر من بينها الإكثار من الأسئلة. وذكر أنموذجاً من هذه الأسئلة "مَن خَلقَ كذا مَن خلَقَ كذا حتى يقول: مَن خلَق رَبّك".[2] ونرى من المفيد سرد نظرتنا حول الأمر الأخير. لقد مر علينا زمن تكلموا لنا فيه عن الأسباب كلاماً وكأن الله تعالى عاجز -حاشاه- وأن الأسـباب هي التي تعمل وتنفذ وتخلق وتوجد كل شيء. فعندما يذكرون السرطان يقولون: هذا مرض لا علاج له. وعندما ظهر الإيدز قالوا لا يرجى منه شفاء. وهكذا هدموا لدى المؤمن مندأ الشعور بالتوكل والتسليم. وهذا موجود حاليا -قليلاً أو كثيراً- لدى الجميع. وأرى أنه يجب علينا -عن طريق الاستقراء- الوصول من الأثر إلى المؤثِّر للحصول على الاطمئنان القلبي، وإدراك أن الله تعالى هو مسبب الأسباب كلها، وأنه هو الذي أعطى للأسباب خواصها وصفاتها، وأن نذكر على الدوام أنه قادر على الخلق وعلى الإيجاد خارج دائرة الأسباب، فنجدد باستمرار أفكارنا الإيمانية.

إن السعي لتقوى الله حق تقاته، أي تذكر مخافته ومهابته على الدوام وفي كل الأحوال، والاهتمام بكل وسيلة وسبب يؤدي إلى هذا الشعور الصادق، وعدم السماح بوجود أي ثغرات بين الحياة وبين هدف هذه الحياة وغايتها، والعثور في أي كلام أو حادثة أو حديث ما يمكن جره وتحويله للتذكير به، وإدامة الحمد والشكر له على نعمه العديدة التي لا تعد ولا تحصى ضروري للولوج إلى طريق التقوى الحق. وهذا يعني في الوقت نفسه ضمانا للمؤمن إذا مات أن يموت على الإيمان، وهو حالة مرضية وخاصة بالأنبياء الكرام وبورثة الأنبياء من أهل الخواص. وقد كان الصحابة الكرام يعبدون الله حتى تتورم أقدامهم وتنهك أنفسهم من أجل إحراز هذه المرتبة من التقوى والوصول إلى هذا الهدف، وقد عملوا ما بوسعهم على قاعدة ﴿اتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: 16) وذلك طوال حياتهم.

﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(آلِ عِمْرَان:117)

كثيراً ما ترد هذه المسألة في القرآن الكريم بصيغة ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. وكما يلاحظ فالفرق بين الصيغتين هو فعل الكينونة "كانوا".

أجل! لا يوجد فعل الكينونة "كانوا" في الآية أعلاه. وهذا يذكرنا -والله أعلم- بما يأتي:

1- ظلم هؤلاء لأنفسهم لن يكون في الخفاء وفي السـر، بل يكون صراحة وفي العلن بحيث إن ظلمهم -ولا سيما لأنفسهم- سيكون علنياً إلى درجة لن يكون هناك حاجة للتصريح به، لأن الجميع سيرونه وسيدركونه.

2- إن فعل الكينونة يفيد معنى عدم الوجود في السابق، ووجوده في الحال. أما الكافرون فهم يظلمون أنفسهم منذ القديم وحتى الآن، وهذا ما يشاهده الجميع. لذا خلت هذه الآية الكريمة من فعل الكينونة "كانوا".

3- من أجل إيضاح معنى الفقرة الثانية نقول بأن الذين أوتوا الكتاب بعد أن وصلوا بـهذه الكتب إلى الهداية فترة من الزمن زاغوا عن هذه الهداية، ووقعوا في الكفر وفي الضلالة. أي لم يكونوا ظالمين منذ البداية، لذا كان من المناسب استعمال فعل الكينونة "كانوا" في حقهم لإيضاح هذا الأمر. أما حال الظالمين منذ البداية فلا تحتاج إلى أي تقييد ولا إلى أي إيضاح آخر.

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(آلِ عِمْرَان:154)

كان طلاب النور عندما يتعرضون لأي أذى أو أي ظلم وتعسف، يذكّرهم الأستاذ بديع الزمان بضرورة تكرار قراءة هذه الآية وتفسيرها. وكشخص مثلي استفاد من درس الأستاذ النورسي لنقرأ هذه الآية مرة أخرى ولنأخذ منها الدرس الواجب أخذه.

إن استغراق أي جماعة -تعاني من خوف ومن اضطراب شديدين- في النوم ووصولهم إلى أمن وسكينة روحية وقلبية وإلى طمأنينة كاملة إنما هو لطف من الله تعالى وفضل منه لهذه الجماعة. وهو دليل ثقة من الجماعة وتسليم وتفويض واعتماد وتوكل منها على الله تعالى. وفي معركة بدر وأحد كان ظهور مثل هذا الاطمئنان وهذا الوعد الإلهي، ووقوع هذه السكينة الرحمانية بنسبة الالتزام بالدين وبنسبة توجه القلوب إلى محرابـها الحقيقي. وهذا وارد في كل وضع ولكل توجه صادق.

أجل! إن الدين هو روح الحياة، وإعلاء كلمة الله أقدس الوظائف، وصرف الحياة وإفناؤها في هذا السبيل، هو السبيل لطرق باب الحياة الأبدية والوجود الأبدي. وبمقياس وضع رضا الله تعالى كغاية الغايات ستهب في المقابل عنايته ورعايته وحمايته. وهذه العناية والرعاية معروضة في كل زمان ومكان وبنسبة مقاربة للعناية المذكورة للصحابة y كلما توفرت شروط هذه العناية وظروفها وأسـبابها. ومن كان من المؤمنين في مثل هذا المستوى من الإيمان والتسليم والتوكل يستطيع التصدي حتى لنيران نمرود بصدر مفتوح وبقلب مطمئن، بل ربما قلب تلك النيران برداً وسلاماً. وفي مقابل الحياة الهادئة المطمئنة لهؤلاء، هناك زمرة تشارك هؤلاء الظروف نفسها، غير أنـها لا تتنفس الأجواء نفسها. لذا نراها منكبة على متطلبات أهواء أنفسها، فتنعكس الشبهات الموجودة في مشاعرهم وأفكارهم لترسم لهم سبل حياة مليئة بالتناقضات المخجلة. لذا لا يـرى هؤلاء وجه الراحة والاطمئنان أبدا، بـل سـيعيشون حالة تذبذب، لكون رؤوسهم مملوءة بالأفكار الجاهلية، وحتى لو آمن هؤلاء فإن أفكارهم حول الاطمئنان إلى الله تعالى سـتكون مشوبة بسوء الظن. والآية الكريمة ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُم أَنفُسَهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ توضح حالة اليأس العكرة في مشاعر هؤلاء وما يعانونه من تردد وإحباط.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ َلآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آلِ عِمْرَان:190)

يعد مثل هذا التأمل الشامل من أهم نواقصنا!... أجل!... تأمل يجدد إيماننا ويحفظه حياً على الدوام. فكما ينتفض الجسم إن صببت عليه قطرة ماء باردة لم يألفها، كذلك علينا العثور في مرصاد الفكر والتأمل على ما يجعل إيماننا ينتفض، ويجعلنا نشاهد تجليات أسماء وصفات المالك الحقيقي للأشياء وصاحبها والمؤثر الحقيقي فيها. وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل هذه.

ولكن الشعور والسماع والفهم وتقييم الروح والمعنى والصوت والنفس واللون والزينة واللغة والشوق الذي يسري جميعها في السماوات والأرض وما بينهما لا يكون متيسراً للجميع، بل تبدو هناك الحاجة إلى من يستطيع إدراك هذا الغنى وسبر غوره في الألوان وهذا التناغم في الأصوات والموسيقى ثم تقييمه من قبل فئة المثقفين من "أولي الألباب" الذين لم تفسد عقولهم بالأخطاء والانحرافات ولم تفسد لديهم المعايير والمقاييس بالأهواء النفسية... نحتاج إلى "أولي ألباب" الذيـن يستطيعون سبر غور السماوات والأرض بجميع صفاتها التي يذكرنا بها مفهوم المكان، وما يتطلبه خلق ما فيها من الأشياء والكائنات من توجه الإرادة والاختيار من جميع نواحيها انطلاقاً من مبدأ تناسب العلية للوصول عن طريق المنطق والتحليل والتركيب إلى المسبب الكامل وإلى صاحب القدرة الكاملة جل جلاله. لقد خُلق روح كل إنسان وعقله بحيث يستطيع فهم هذا وإدراكه فطرياً، ولكن العوائق من أمثال الكبرياء وتجاوز الحد والخطأ في زاوية النظر تمنع رؤية الهدف بشكل واضح. وحتى لو بلغ الإنسان ذروة العلم فلن يستطيع الخلاص من القرارات الخاطئة ما لم يستطع الخلاص من هذه العوائق.

الهوامش

[1] البخاري، الزكاة 53؛ مسلم، العقائد 10، 13، 14؛ الموطأ للإمام مالك، الكلام 20؛ المسند للإمام أحمد، 2/227، 360.

[2] البخاري، بدء الخلق 11؛ مسلم: الإيمان 214.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.