سـورة طه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(طَه:13)

إن اختيار موسى عليه السلام للنبوة في بني إسرائيل مرتبة مشرفة لا يمكن الوصول إليها من جهة، وامتحان من جهة أخرى. ونال هذا المنصب الرفيع السامي مكافأة مقدمة وأجرة عاجلة على عزمه القوي وشجاعته وإقدامه في المستقبل، وعلى شعور تام بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه ولتواضعه وصدقه وإخلاصه ووقوفه بجانب الحق على الدوام مما خلد هذا الرأسمال الأخروي. فقد نشأ موسى عليه السلام في قصر فرعون كالأمراء تحوطه العناية والاهتمام ويلقى الاحترام والتبجيل.لذا فإن رجوع مثل هذا الشخص إلى الناس الذين كان فرعون يحتقرهم ويعدهم عبيدا له بل لا يتورع عن قتلهم بكل بساطة، ثم التمازج والائتلاف معهم ليس شيئا هينا على النفس أبدا، بل مشكلة كبيرة استطاع موسى عليه السلام تجاوزها، ووصل من هذه الزاوية الإنسانية -التي لم يستطعها أحد سوى أشخاص بعدد أصابع اليد الواحدة- إلى الذروة. وهذه الماهية والصورة الإنسانية التي كان يتمتع بها كانت ضمن أسباب الاختيار للنبوة "وأنا اخترتك" ومن بين أسباب المدح الإلهي له.

لم يكن هذا الاختيار من قبل بطانة القصر ولا من قبل بني إسرائيل، بل كان انتخاباً سماوياً من قبل الله تعالى، ليكون أهلاً للخطاب الإلهي وممثلاً له أولاً، ثم ليؤسس عالماً جديداً تحت رعاية عالم الغيب وإشرافه. ولهذا ذكرت الآية الكريمة ﴿وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾. فبجانب المدح واللطف الإلهي هناك توجيه وفتح باب لتشكيل أمة بناء على تلك الهمة الفردية العالية ومتناسبا معها.

في هذا الخطاب نرى أن الانتخاب والاختيار متداخل مع التنبيه للمسؤولية، ومع بشارة الاختيار نرى التذكير بالمسؤولية. وعندما يكون الكلام هو كلام الحق تعالى، والمخاطب هو النبي الكليم يكون من الطبيعي وصول العبارة إلى مثل هذا الظرف واللطف.

﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾(طَه:43-44)

يبلغ الله تعالى نبيه هنا بأسلوب يليق بالنبي بأن الداعي إلى الله يجب أن يبلغ دعوته بأسلوب لين حتى ولو كان من يدعوه من الذين سدوا على قلوبهم سبل الهداية والإيمان من أمثال فرعون ونمرود وشدّاد. وهنا يوجد أيضا أمر مهم آخر وهو إن كان هذا القول اللين قد أصبح وصفا وسمة أصلية عند الداعي والمبلِّغ وممتزجا مع أفكاره ومشاعره تماما كان هذا سببا في زيادة تأثيره على الناس وعلى من يدعوه. ولو سلك مسلكا مغايرا لهذا فلا بد من حدوث العديد من المشاكل ومن حالات الفشل. أي إن لم يكن القول اللين ممتزجا في فطرة الداعي والمرشد وفي خلقه الأصيل، ولا يعيش هذا الخلق بشكل طبيعي فإن طبيعته الأصلية ستطفو على السطح -عاجلا كان أم آجلا- عندما يتعرض لأي إثارة، وعندئذ يخرب كل ما بناه من قبل، أي يتحول التعمير إلى تخريب. والذيـن يتعرضون لغضبه وحدته سيبتعدون عن الفكرة التي يمثلها وعن دعوته.

لذا فجعل القول اللين طبيعة وفطرة مهم جدا، ولن يتحقق هذا إلا بالحال اللين، والسلوك اللين والقلب اللين.

ولكن إن كان الموضوع هو "البغض في الله"، فأنتم حتى ولو شعرتم بالامتعاض نحو أحدهم عليكم أن توجهوا هذا الامتعاض نحو الصفات، على أن تحرصوا على اللين والرقة ولا سيما في أثناء وظيفة الدعوة. ولا تنسوا بأنكم عندما تقومون بدعوة شخص متمرد وقاسي القلب إلى الهداية تكسبون الأجر سواء اهتدى ذلك الشخص أم لم يهتد.

ثم إن الله تعالى يوصي هنا ويأمر بذهاب شخصين إلى فرعون، وهذا إشارة إلى أن بعض الأعمال تُنجز بشكل أفضل في حالة التعاون الجماعي ولا سيما عند مجلس من يدعي العظمة والكبرياء. فهذا يفيد في الإسناد المعنوي وفي معاونة أحدهما للآخر من جهة، ومن جهة أخرى تتم هنا عملية الإشهاد أيضاً. وهو مهم في التخلص من القلق والشعور بالوحدة الظاهرية أيضاً.

وتوصية النبي باستعمال الكلام الليّن -حتى مع كون الشخص المخاطَب متمرّدًا غاية التمرد- تنبيهٌ عليه بعدم تغيير هذا الأسلوب -المتوافق مع الفطرة ومع الطبيعة الخلقية له- لأسباب عارضة، ودعوةٌ بسلوك سبيل نـزيه مع شخص لم يتعود على سماع الكلام الخشن أو الجارح لكي لا يدفعه هذا إلى النفور والبعد. وقد كان هذا الأسلوب اللين والخطاب اللين أوجب لموسى عليه السلام فهو قد نشأ وترعرع عندهم ولهم عليه فضل، لذا كان عليه -اعترافاً بفضلهم- خطابهم بكل رفق ورقة وهو يقوم بواجبه السماوي هذا ولا سيما وهو يريـد تذكيرهم بالآخرة وبالحياة الأبدية. وربما كان استعمال هذا الأسـلوب الرقيق هو السبب في أن الآيـة انتهت بـ ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 44). فمع أن بعضهم كأفراد لا يرعوون ولا يهتدون، إلا أن هناك أملاً في هدايتهم على مستوى النوع.

﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾(طَه:58-59)

كم من الأسرار والأنوار تشع إلى قلوبنا من هذه الآيات المتعلقة بسيدنا موسى عليه السلام كليم الله. فقد عاش أولا حادثة محفوفة بالأسرار في الطور. فقد شاهد هناك عصاه وهي تنقلب إلى حية تسعى، ويده وهي تصبح بيضاء للناظرين. فأصبح أفق اليقين الواقعي عنده متطابقا مع أفق اليقين الكامن عند هذا النبي العظيم الذي كانت ثقته ويقينه بربه كاملا. لقد أصبح يقينا كاملا بأنه مهما فعل سحرة فرعون فإنه سيغلبهم ويهزمهم. لذا كان ينظر بالفطنة الخاصة بالأنبياء إلى المسألة هكذا ويحلها بالشكل الآتي:

1- إن هذا الموضوع من القيام بإحقاق الحق وإبطال الباطل يجب ألا يتم خلف أبواب مغلقة، بل أمام كل الناس يحضره ويراه جميع أهالي مصر بسهولة مكانا سوى.

2- يجب اختيار يوم عيد ومناسبة احتفال، لكي يستطيع جميع الناس الذين يكونون في عطلة آنذاك من حضور هذا المكان.

3- وأنسب وقت لهذا التجمع هو وقت الضحى، ففيه يكون الجميع قد تخلصوا من حالة النعاس، ويكونون في نشاط ويقظة ويستطيعون إصدار حكم صحيح آنذاك.

وهكذا وفي وقت الضحى جاء المصريون أفواجاً إلى مكان اللقاء ليشاهدوا السباق الذي سيجري بين السحرة وبين موسى عليه السلام. كان السحر في ذلك العهد مهنة محترمة ذات مستوى عال. لم يكن هؤلاء السحرة أناساً بسطاء أو عاديين. كانوا أشخاصا متصلين بالجن يأخذون منهم الأخبار، ويعرفون تحضير الأرواح ويجوز انهم كانوا يعرفون بعض المبـادئ الأولية والبدائية للبراسايكولوجي. أي كانوا يعدون من الطبقة المثقفة في ذلك العهد. لذا فإن هزيمتهم أمام النبي موسى عليه السلام ثم إيمانهم به بعد ذلك كان يُعد آنذاك بمثابة انقلاب في معسكر الإيمان. وهذا هو ما حدث بالضبط. فالسحرة الذين أدركوا وأيقنوا تماما بأن ما جرى على يد موسى عليه السلام لم يكن من أعمال السحر أعلنوا إيمانهم أمام الملأ وأمام جميع الأنظار على الرغم من قيام فرعون بتهديدهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وبعد إيمان العامة وجمهور الناس -عدا أناساً من المتعصبين- الذين شاهدوا إيمان السحرة بموسى وتسليمهم له، وانتشار الشك والتردد بين الباقين، كان المقصود قد حصل وتم. لقد انـهدم الكفر الصراح والكفر البواح. لقد أصبح الناس في وضع يستطيعون الاختيار بين موسى عليه السلام وبين فرعون.

والشيء الأساسي الذي نريد الوقوف عنده في تحليلنا لهذه الآية هو موضوع المكان والزمان اللذين اختارهما موسى عليه السلام لهذا التحدي المهم. ويستطيع المسلمون اليوم استخلاص دروس وعبر مهمة من هذه الحادثة. فالمؤمن يجب ألا يقع في التشاؤم وهو يرى الإمكانيات المحدودة لديه. وعليه أن يستعمل ما أعطاه الله من فضل استعمالا حكيما وألا يستعمله دون حساب. أي يقوم بـ"ضرب عصفورين بحجر واحد" كما يقال في المثل الدارج. أجل! على المسلم أن يخطط على الدوام ويبرمج كيف يضرب بحجر واحد مئات العصافير، مثلما نرى في العديد من الإجراءات الربانية. فكما نحصل من بذرة واحدة نبذرها في الحقل على سبع، أو سبعين أو سبعمائة من البذور، علينا أن نخطط في كل خدمة نريد تحقيقها في سبيل الإيمان وفي سبيل الملة للحصول على سبع، أو سبعين أو سبعمائة ضعف. وهذا هو ما فعله موسى عليه السلام. فحسب ثقته بالله وتوكله عليه، لم يشأ أن يفعل ما فعله أمام أنظار فرعون وهامان فقط وخلف أبواب مغلقة، بل اختار مكاناً ووقتاً مناسبين وأمام أنظار الناس جميعاً. فاسـتطاع بذلك أن يسحب وراءه الآلاف، ومئات الآلاف.

وبينما يذكرنا القرآن الكريم بكل هذا، تقوم السنة النبوية بتعميق هذا الموضوع بمثال آخر،[1] فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أريد قتل غلام لم يدخل في دين أحد الملوك. ألقوه من فوق قمة جبل عال، فرجع إليهم ماشياً. أرادوا أن يغرقوه في اليم فتخلص من أمواج البحر العاتية ورجع إليهم سالماً. ومهما حاولوا قتله فلم يفلحوا وتخلص الغلام في كل مرة. وأخيراً "فقال الغلامُ للملكِ إنّك لا تقتُلني حتّى تصلبني وترميني وتقولَ إذا رميتني "بسمِ اللَّهِ ربِّ هَذَا الغُلامِ". قال فأمَر به فصُلبَ ثُمّ رماهُ فقال "بسمِ الله ربِّ هَذَا الغلام". قال فوضعَ الغلامُ يدهُ عَلَى صدغهِ حين رُميَ ثُمّ ماتَ، فقال أناسٌ "لقدْ علمَ هذا الغلامُ علماً ما علمَهُ أحدٌ فإنَّا نؤمنُ بربِّ هَذَا الغلامِ". قال فقيلَ للملكِ "أجزعتَ أنْ خالفكَ ثلاثةٌ فهَذَا العالمُ كُلُّهمْ قدْ خالفوكَ". قَالَ فخدَّ أخدوداً ثُمَّ ألقى فيهَا الحطبَ والنَّار ثُمَّ جمعَ الناسَ فقال "منْ رجَعَ عَن دينهِ تركناهُ ومنْ لمْ يرجعْ ألقيناهُ في هَذِهِ النَّارِ". فجعلَ يلقيهمْ في تلكَ الأخدودِ".[2] هذا هو المنطق الصحيح للإيمان، فهو سيموت لا محالة في نهاية المطاف، إذن فعندما يذهب إلى الطرف الآخر، عليه ألا يذهب بشكل رخيص ودون مقابل. هذا هو الموضوع. منطق العمل في سبيل الله حتى في الرمق الأخير وهو على أعتاب اللقاء بالله. فإن قمنا بتقييم الموضوع من هذه الزاوية، رأينا أن مثل هذا التفكير والتخطيط يسبق ويتجاوز حتى الرغبة في الشهادة -مع كونها مرتبة عالية-، أي أن الإنسان يستطيع إفادة ملته ووطنه ودينه بخدمات -في عمقها الأخروي أيضاً- قد تتجاوز مرتبة الشهادة نفسها. وعليه أن يفكر على الدوام في الطرق التي يستطيع فيها الحصول على مثل هذا الكسب. ومثل هذا العمل قد يسبق الشهادة نفسها على ما أظن. أجل كان الغلام سينال مرتبة لو مات عند إلقائه من الجبل أو عند غرقه في البحر، ولكنه كان يكسب شيئاً واحداً فقط، كان يكسب مرتبة الشهادة في حياته الأخروية. أما في الشكل الآخر من الموت في سبيل الله وأمام أعين الناس بالكيفية التي شرحناها سابقاً فإنه أصبح وسيلة لإيمان مئات الناس.

لذا كان على الإنسان، ولا سيما المسلم أن يعرف قدر نفسه وكم هو مخلوق وكائن ثمين، وأن هذا الكون الهائل مخلوق من أجله، وأن كل شيء مسخر من أجله، لذا فعندما يرحل من هنا، عليه ألا يرحل بشكل رخيص، وأن يقول في نفسه: حسناً أنا راحل، ولكن هذه الدنيا التي أخلفها ورائي لابد وأن تصل من بعدي إلى الخط وإلى الأفق المتوافق مع سر الخلق، وعلى الموت أن ينقلب إلى مفتاح سحري بحيث عندما ينطفئ ضوء صغير يلتمع بدلا منه المئات بل الآلاف من الأضواء القوية.

الهوامش

[1] مسلم، الزهد 73.

[2] الترمذي، تفسير القرآن، تفسير سورة 76.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.