ب . عهد مظلم

كل عهد اهتزت فيه عقيدة التوحيد يعد عهداً مظلماً، ذلك لأن الإيمان بالله عز وجل الذي هو نور السموات والأرض، إن لم يحكم جميع القلوب، سيطر الظلام على الأرواح، واسودّت القلوب؛ فمثل هذه القلوب المظلمة تبتلى بقصر النظر عند مراقبة الأحداث، وتكون رؤيتها متعكرة وغير صافية، ويعيش صاحب مثل هذا القلب كالخفافيش في دنيا الظلام.

ففي هذا العهد الذي اهتزت فيه جميع أسس الدين من قواعدها، وحرفت فيه الديانات السماوية من قبل أتباعها، لم يبق هناك سوى فئة قليلة من الموحّدين الذين كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولكن دون أن يدركوا صفاته وأسماءه الحسنى، لذا فما كانوا يعرفون كيف يوفون وظيفة العبودية لله حقها.

1- بصيرة عمياء

كان المشركون يعبدون الأوثان والأصنام التي ملأوا بها الكعبة، ويفخرون بهذه العبادة، ويجدون فيها السلوى. والذين كانوا يملكون نصيباً قليلاً من العلم كانوا يقولون بأنهم لا يعبدون هذه الأصنام إلا لتقربهم إلى الله. والقرآن الكريم يشير إلى هذا فيقول عن لسانهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى﴾ (الزمر: 3).

وهكذا، فإن شعور العبودية الذي أودع في فطرة الإنسان كأمانة مهمة تعرّض للخيانة وسوء الاستغلال.. فكيف يمكن أن يعبد الحجر والشجر والتراب أو الشمس والقمر والنجوم؟ بل كانوا يعبدون حتى بعض أصناف الأطعمة التي يعملونها بأيديهم كالحلوى والجبن، وبعد عبادتها لفترة من الوقت يقومون بأكلها إذا جاعوا.

ويشير القرآن الكريم إلى مثل هذا التفكير الفاسد والفهم البالي فيقول: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي اْلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (يونس: 18). و﴿أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر: 3).

ثم ها هم يبحثون عن عذر لهذا التفكير المنحرف، وأكبر عذر يجدونه هو القول بأنهم وجدوا آباءهم لها عابدين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنـزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170).

2- براعم تُوأد

والقرآن الكريم يشير إلى شر آخر من شرور الجاهلية: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (النحل: 58-59).

أجل، فما إن يبشَّر أحدهم بميلاد طفلة له حتى يربدّ وجهه غضبا، ويعروه السواد خجلا من وقع هذا الخبر الأليم، فلا يستطيع أن يغشى الناس. فالخبر عنده بلغ من السوء حداًّ حدا به إلى الرغبة في التواري من القوم، ويوقن بأن عليه أن يختار أمراً من أمرين، ولكنه متردد لا يدري أيهما يختار: أيختار الإبقاء على حياة الطفلة، وتجرّع آلام الهوان من المجتمع، أم يقوم بغسل العار (!) بقتل تلك الطفلة ووأدها؟

تلك كانت المنـزلة المهانة للمرأة في الجاهلية. ولم تكن مهانة المرأة هذه، وتحقيرها والحط من شأنها قاصرة على عرب الجاهلية وحدهم، فالوضع نفسه كان موجوداً في الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية. لذا، يمكن القول بأن ما قام به الإسلام فيما يتعلق بعالم المرأة بين عرب الجاهلية، يعدّ عملا لا مثيل له في قضية المرأة على نطاق العالم بأسره.

أجل، فقد كان القرآن أول من يقف في وجه مثل هذه الوحشية، فيحرّم قتل الأطفال تحت أي ذريعة من الذرائع: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ (الأنعام: 151). فكأن الله تعالى يقول لهم: لِمَ تقتلون أولادكم؟ إنني أنا الذي أرزقكم وإياهم.. ألا ترون أن وجه الأرض حافل بمئات من موائد الأطعمة المزجاة لكم؟ ألا ترون أن السماء تهرع لنجدتكم، والغيوم فيها مساقة لإنـزال الماء والثلج عليكم؟ وهذه الملايين من أنواع النباتات على وجه البسيطة، من أنبتها غيري؟ وعلى الرغم من رؤيتكم لكل هذا، فأيّ عقل وأيّ ضمير وأيّ وجدان يسوقكم للخوف على رزقكم، فتقدمون على قتل أولادكم؟ إياكم أن تنسوا أن من يقترف مثل هذا الجرم لن يكون أهلاً لخطاب الله تعالى له أبدا، بل سيخاطب الله تعالى هؤلاء الأبرياء، ويسألهم عن الجرم الذي اقترفوه وكان سبباً لقتلهم؛ سينال الظالمون جزاءهم العادل لاقترافهم هذا الظلم الشنيع، والآية الكريمة: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير: 8-9) تبين لنا بأسلوب يقشعر منه البدن طبيعة أخلاق ذلك العهد.

حضر مرة أحد الصحابة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر له هذه الوحشية الجاهلية، وقال:

يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلمّا أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً فاتّبعتني، فمررت حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها، فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: "يا أبتاه! يا أبتاه!" فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف[1] دمع عينيه، فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحزنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم!" فقال له: «كُفَّ،[2] فإنه يسأل عمّا أهمّه.» ثم قال له: «أعِدْ عليّ حديثَك» فأعاده، فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته ثم قال له: «إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنفْ عملَك.»[3] فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصد من تكرار هذه الحادثة إفهامهم: "هكذا كنتم قبل الإسلام.. وما قمت باستعادة الحادثة إلا لأذكركم بالقيم الإنسانية التي منحها لكم الإسلام."

من هذا المثال الأليم المفجع، تدرك مدى الأزمة التي كان يعيش فيها إنسان ذلك العصر.. فإلى جانب آلاف الفظائع الأخرى، كانت تُحفَر هناك حفر عميقة في ظلام كل يوم في تلك الصحراء، ويرمى فيها أطفال أبرياء ليلقوا هناك حتفهم. أجل، لقد سبقت البشرية الضباع في الوحشية بمسافات كثيرة.. فالذي لا يملك المخلب والناب، كان مصيره الافتراس والقتل من قبل ذي المخلب والأنياب، وكان المجتمع يتقلب بين آلام أزمات حادة، ولم يكن هناك من ينهي هذه الأزمات، أو يجد لها حلاًّ ودواء.

في هذه الأثناء، يعتكف نبينا في غار حراء -الذي سيكون اسمه بين أمته فيما بعد "جبل النور"- ويفارق مجتمع الناس؛ هناك يثبت ناظريه في الأفق، وينتظر فجر الخلاص.. والظاهر أنه كان يضع جبهته على الأرض، ويبتهل لربه ساجداً لساعات طويلة، يسأله خلاص الإنسانية، وإرسال منقذ لها، ذلك لأن الشيخين عندما يقصّان هذه الفترة يستعملان تعبير "فيتحنث فيها"، وهذا التعبير يعني أنه قد اعتزل عن الناس وأسلم نفسه للعبادة.

أجل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبقى أحياناً هناك، ولا يرجع إلى مكة إلا عندما تنفَد مؤونته، ثم يرجع إلى الغار مرة أخرى حاملاً معه ما يكفيه من الزاد.[4] لا شك أنه كان في الغار يتأمل الوجود، وما وراء هذا الوجود.. يتأمل الخلق والكائنات، والغاية من هذا الخلق، والهدف منه.. ثم يتأمل ما آلت إليه الإنسانية من حال مفجِعة تقشعرّ منها الأبدان، وتتفطر لها القلوب.

3- قيم متغيرة

أجل، لقد كان المجتمع منحدراً إلى هاوية مظلمة، إذ تغيرت فيه جميع القيم الإنسانية، وانقلبت رأساً على عقب، فأصبحت الفضيلة عيباً، والعيب والنقيصة فضيلةً وفخراً.. الوحشية تُمجّد، والرحمة والإنسانية تُمتهن.. قد وضعت الذئاب نفسها موضع الرعاة، أما الأغنام التي لم يعد لها حول ولا قوة، فتئن في أيدي هؤلاء الرعاة القساة وتتوجع، وما لها من سامع.. وشاع الفحش والزنا والانحلال الأخلاقي، ولم يكن شرب الخمر ولعب القمار عيباً، ولم يكن الاحتكار شيئاً غريباً، بل أمراً مألوفاً.. أما طرق النهب والسلب، وامتصاص دماء الناس، فكان يعدّ ذكاء ومهارة وحذقا.

ومن ثم، فقد كانت هناك حاجة لشخص ساحر البيان، مؤثر الكلام ليقول لكل هذا الفساد: "قف!" كانت الحاجة ملحة وشديدة إلى درجة اهتزت معها الرحمة الإلهية، واستجابت، فأرسلت فخر الكائنات رسولاً.. وبمجيئه تغير كل شيء  وتبدل، وتحقق الانقلاب الأعظم. أجل، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِياءُ    وَفَمُ الزّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ

وبعد أن كان الزمان والمكان غارقين في الظلام، إذا بثغريهما يفترّان عن بسمة وفرحة بالنور الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. وبعد سنوات كان أهل المدينة ينشدون لمجيئه، ويهللون لقدومه، مرددين في استقباله:

طلع البـدر علينا    من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا    ما دعـا لله داع [5]

4- إعداد إلهي

لقد كانت كل مراحل طفولته وشبابه ونضوجه بمثابة مقدمات وسلالم لنبوته، إلى درجة أنه ما إن أعلن نبوته ورسالته حتى آمن به من عرفه عن قرب.

فهو الصادق الذي ما جُرّب عليه كذب قط، وها هو يتكلم عن الله تعالى، وأنه رسول من عنده، إذن، فكيف يمكن لإنسان لم ينطق بكذبة واحدة في أصغر شأن من الشؤون أن يكذب في مثل هذا الموضوع الخطير، وفي هذا الموضوع العلوي؟[6] كان هذا شيئاً مستحيلاً، وأمراً محالاً. هكذا كان يفكر إنسان ذلك العهد. ومع أن الجميع لم يؤمنوا به، إلا أن من نبذ العناد والحسد، أسرع إلى الإيمان به.

صحيح أن العهد الذي كان يعيش فيه كان عهد جاهلية، ولكن صفة الجاهلية كانت بعيدة عن حياته الخاصة وخارجة عنها؛ فما عاش النبي حياة جاهلية قط، فلقد كان شخصاً أميناً، يعرفه الجميع بهذه الصفة؛ فلنفرض مثلاً أنك عزمت على السفر، وأردت أن تودع زوجتك في مكان، فإنك تستطيع دون أي تردد أن تودعها عند محمد الأمين، وأنت مطمئن البال بأنه لن يرفع طرفه لينظر إليها.. وإن كنت ترغب في إيداع مالك عند أحد الناس، فإنك لا تتردد لحظة واحدة أن تذهب، وتسلمه إليه، وأنت على يقين تام بأن ذرة واحدة من مالك لن يصيبها أي ضرر، وأنه في غاية الحفظ وأتمه.. وإذا أردت العلم اليقين في أمر من الأمور، فما عليك إلا المسارعة إلى الصادق الأمين، لتستمع إليه، وتُقيم الموضوع على ضوء بيانه، وأنت مرتاح البال؛ لأنه لم ينطق بكذبة واحدة طوال حياته.

أتريد دليلاً على هذا؟ حسناً.. ها هو يصعد الصفا، ويسأل الناس حواليه: «أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلاً تَخرج من سَفْح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟»، قالوا: "ما جرّبنا عليك كذبا." حتى عُتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهم من أعداء الدين، كانوا من ضمن هؤلاء المجيبين والمصدقين.[7] فالجميع يسلمون بصدقه واستقامته وأمانته.

فقدَ أباه في بطن أمه، وفقد أمه في سن السادسة من عمره، فكفله جده عبد المطلب، وما أن بلغ الثامنة من عمره حتى توفي جده كذلك.. كأن القدر كان يجرّده من كل شيء، ويهيئه لتسليم أمره كله لله سبحانه وتعالى؛ فكل من مدّ يده إليه، أو أخذه في حمايته كان سرعان ما يرحل.. فكأن القدر كان يومئ بالحماية الإلهية الفعلية والمباشرة في ظل نور التوحيد، وتجلي سر الأحدية.. كان عليه أن يحس بكلمة التوحيد، وبجملة "حسبي الله" في أعماق وجدانه، وينطق بها.. كان من الضروري أن تفقد الأسباب الظاهرية قيمتها عنده.. ولقد حدث هذا فعلاً.

جاء إلى الدنيا من أب اسمه "عبد الله"، وأم اسمها "آمنة"؛ وليس هذا تصادفا، بل تقديراً إلهيّاً؛ فأمّ يحمل اسمها معنى الأمن والأمانة، وأب يحمل اسمه معنى العبودية لله تعالى، تهيئةربانية، وإعداد إلهي، لينشأ الأمين قبل الرسالة في جو من معاني العبودية.

نشأ يتيماً.. فلقد كان هناك في انتظاره عبء ثقيل، ووظيفة هامة، وكان عليه أن يتهيأ لها منذ الآن. كان عليه بلوغ الذروة في التوكل على الله، والاستعداد لمواجهة جميع الصعاب والمشاكل.. وقد حفظه الله تعالى من الغنى المفرط المؤدي إلى البطر والكبرياء، ومن الفقر المدقع المؤدي إلى الذل والعجز، وأنشأه شخصاً معتدلاً ومستقيماً في شؤون حياته طوال عمره، بعيداً عن الإفراط والتفريط.

إن من المهم جداًّ للقائد أن يمر بمثل هذه الأيام الصعبة.. فمن عرف معنى اليتم، يعرف كيف يكون أباً رحيماً على أمته، عطوفاً عليها.. كان عليه أن يذوق طعم الفقر لكي يحس بمعاناة الذين يقوم بأمر إدارتهم، وتصريف شؤون حياتهم. وهكذا، فإن خُلُق مساعدة اليتامى الفقراء، ومعاونتهم، والحدب عليهم، ورعايتهم، والاهتمام بهم كان من ضمن الخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي امتدت جذوره إلى هذه المرحلة من حياته، وشربت من مائها، وتنفست من هوائها. وعندما ارتقى الذُرى فيما بعد، لم يتخلّ عن هذا الخلق ولم يتبدل، ولم يغير سمة حياته البسيطة المتقشفة، فلم يقهر طوال حياته يتيماً، ولم يرد سائلاً ولم ينهره؛ ذلك لأن هذا الخلق كان مما علّمه الله سبحانه وتعالى، وربّاه عليه حينما قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَر * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 6-11).

وأنا كلما قرأت هذه السورة خطر على بالي أن أعرض يتمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره شفيعاً لنا -مع أنني فقدتُ والدي منذ سنوات- فأقول له:”يا رسول الله! ها أنا ذا يتيم، واقف على عتبة بابك، فلا تطردني عن بابك، ولا تحرمني من شفاعتك.“

5- نور مرتقَب

كان جده عبد المطلب قد استشفّ فيه نور النبوة من زمن طويل، فقد كانت جميع أيامه معه أيام يمن وبركة؛ فكان يأخذه معه إلى مجالس الكبراء، ويكرمه هناك، فلربما رأى فيه منقذ البشرية، إذ كان يرى في نظرات عينيه عمقاً لم يره في أحد. كما أنه قد سمع الروايات المنقولة عن "لُؤَيّ" -أحد أجداده- حول ظهور نبي من نسله؛ واستناداً إلى هذه البشارة، لعله اكتشف علامات النبوة أو استشفها فيه، ولعل هذا كان هو السبب في حبه الشديد وشغفه الكبير بحفيده حتى أنه يغار عليه من عينيه. وعندما حضرته الوفاة بكى بكاء شديداً.. بكى لأنه لن يستطيع بعد الآن أن يضم محمدا إلى صدره..[8] بكى هذا الشيخ هذا البكاء، وهو الذي لم تطرف عيناه أمام جيش أبرهة، ولم تدمع عيناه في حرب الفِجار مع القبائل العديدة المعادية التي استمرت سنوات عديدة، ولكن هذا الشخص العظيم بكى مثل طفل صغير قبيل فراق حفيده السعيد. وهكذا انتهت وصاية عبد المطلب وكفالته بوفاته وتوديعه للحياة، وكان على لؤلؤة الخَلق وجوهرته أن ينتقل إلى كفالة عمه أبي طالب.

6- مكافأة جزيلة

وفى أبو طالب بوعده، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة أربعين سنة تقريباً وسانده. ولم يبق معروفه هذا دون مقابل، إذ وهبه الله تعالى ابناً مثل علي رضي الله عنه، وبينما كان نسل كل نبي يستمر عن طريقه، إلا أن نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر عن طريق علي كرم الله وجهه، وهناك رواية عن رسولنا في هذا الخصوص.[9]

كان علي رضي الله عنه يمثل جانب الولاية لرسول الله، إذ يُعدّ من هذه الناحية أمير الأولياء؛ فجميع أرباب الطرق ورجالهم سيذكرونه بالتقدير والأجلال حتى يوم القيامة وسينقادون له. فعلي المرتضى، الفارس المغوار، والحيدر الكرار، وصهر رسول العالمين صلى الله عليه وسلم كان هدية رب العالمين لأبي طالب، جزاء العناية التي أبداها لرسوله الكريم، والمؤازرة التي قدمها له. وما كان أبو طالب ووالده عبد المطلب إلا أسباباً ظاهرية، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى كان هو صاحب الحماية الحقة له، وصاحب العناية به.

فبينما كان يرفع هذه الشخصية النادرة، ويسمو به إلى مرتبة النبوة، كان في الوقت نفسه يهيئ المجتمع لقبوله، إذ أصبحت إيماءات نبوته وعلاماتها تتضح يوماً بعد يوم، وأصبح محمد عليه السلام شخصاً يتحدث عنه الكل، ويعرفه الجميع.. شخصاً ذا أهمية كرجل هذه الساعة ورجل كل ساعة.

الهوامش

[1] وكف: تقاطر (المترجم)

[2] كُفَّ: أي أمسك عن تأنيبه ولومه. (المترجم)

[3] الدارمي، المقدمة، 1.

[4] البخاري، بدء الوحي، 3؛ مسلم، الإيمان، 252

[5] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/241؛ «دلائل النبوة» للبيهقي 2/507

[6] انظر: البخاري، بدء الوحي، 3، 6؛ مسلم، الجهاد، 74

[7] البخاري، تفسير سورة (111) 1-3؛ مسلم، الإيمان، 355

[8] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/178؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 1/118

[9] في الحديث: «إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صُلبه وجعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب.» («مجمع الزوائد» للهيثمي 9/172؛ «فيض القدير» للمناوي 2/223؛ «تاريخ بغداد» للبغدادي 1/317)

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.