3- الدعاء

الدعاء لدى المبلّغ وصف ملازم له لا يقل أهمية عن أوصافه الأخرى. فهو لا ينتظر تأثير كلامه في المخاطب ونفوذه إلى قلبه إلاّ من الله تعالى، إذ هو المالك لكل شيء، وقلوب عباده بين إصبعين من أصابعه سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء. أما الأمر الإلهي ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾(الفرقان:77)، فيستقر في قلب المبلّغ كالبوصلة الحساسة تدلّه دائماً على محراب الدعاء والتضرع والإنابة.

نعم، لقد اهتدى أناس كثيرون بالدعاء والتضرع القلبي الخالص بينما لم يؤثر فيهم الكلام البليغ الساحر. لذا فكما أن الدعاء سلاح المؤمن فهو الحصن الحصين الأول والأخير للمبلّغ الذي يتوسل قبل كل شيء بالدعاء ومن ثم يباشر بالكلام عما يريد. ولا يعني هذا أن المبلّغ يترك طوره المنطقي المتسم بالعقل، بل يعني أن المبلّغ يعرف بدقة متناهية مواضع كل من العقل والمنطق والدعاء. ولنذكر أمثلة تكشف كيف أن الدعاء بحد ذاته إكسير عظيم في التأثير:

جرّب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كل وسـيلة مشروعة لهداية الناس، وكان ملازما للدعاء، وما ورد عنه أنه ترك الدعاء قط. فقد دعا الله أن يهدي عمر بن الخطاب، وإذا بعمر يتشرف بالهداية في يوم ليس بالحسبان. وما هذا إلاّ من بركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.[1]

وذات يوم سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهدي الله سبحانه أمه.. ففي رواية عنه: "كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره. فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي؛ قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبي عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهدِ أم أبي هريرة". فخرجتُ مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما جئتُ فَصِرْتُ إلى الباب فإذا هو مجافٌ -أي مغلق- فسمعتْ أمي خَشْفَ -أي صوت- قدمّي فقالت: مكانَك! يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء. قال: فاغتسلتْ ولبست درعها وعَجِلَتْ عن خمارها ففتحتِ البابَ. ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولهُ. قال: فرجعْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح".[2]

الهوامش

[1] انظر: البداية لابن كثير، 3/31؛ أسد الغابة لابن الأثير، 4/148؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/ 286.

[2] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، 4/328؛ الإصابة لابن حجر، 4/241.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.