الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن

فهرس المقال

الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي

يغدو الدين دوغمائيّة متى تورّطت مبادئُه ومثلُه في العرقية والتعصب الفئويّ والفكري، وفي الانغلاق العقدي والانعزال الْجِيُوبوليتي.. ولا يُبَرِّئُ الدينَ -أيّ دين- من مطعن الدوغمائية إلا نزاهة تعاليمه، وتساميه إلى الآفاق التي تجعل من مبادئه قيَما تخصّ الإنسانية قاطبة، وتحض على الأخوّة والتعاون ونبذ المفاسد.

إن الدين الذي لا يشرع جناحيه ليضمّ البشرية كلها، وينظر إليها على أساس وحدة الجنس -الآدمية- ووحدة الربّ والمنطلق والمصير، هو دين قوميّ منغلق، انعزالي. فهو من ثمة يمثّل أكمل صور الدوغمائية، لأن منظومة المبادئ حين ينحصر نطاقها قوميًّا ومجتمعيا، تغدو أيديولوجية أو وعاءً لبناء الأيديولوحية؛ إذ يغدو من أول أولياتها تضخيم الاعتبار القومي حصرًا، وهو ما يترتّب عنه التمايز والتنابذ، لأن ثقافة العنجهية والاعتداد بالذاتية العرقية التي تنشأ عليها الأيديولوجيات (العقائد القومية) توطّد لدى أصحابها قاعدة الكيل بمكيالين، وبذلك تخرج روحيتها عن نطاق الإنسانية، إلى نطاق ضرب الإنسانية والاستهتار بقداسة الجنس الآدمي المكرَّم.[11]

لقد انهدرت مبادئ الإخاء الإنساني نتيجة تغليب الأيديولوجيات في العلاقات بين البشَر. فسيادة الأيديولوجيات تتنافى مع مسطرة المساواة التي تقتضيها الروح الإنسانية، إذ يترتّب عن الأيديولوجيات شتّى الانحرافات والتعارضات التي تقضي على عوامل الترابط والتواشج التي تنادي بها الديانات السماوية (الحقّ).[12]

إن العقيدة التي تمجد العرق والسلالة والقومية على حساب الجنس والآدمية، عقيدة تفتئت على الله رب العالمين، وتزرع بذور التنابذ بين الأقوام، وتصادر الطريق إلى الله.

طريقتان متعارضتان يسلكهما كل من الدين السماوي والدين المؤدلج، الأول: يضع في الاعتبار الإنسانية والكائنات قاطبة، لأن مصدر الإيمان فيه ربوبية تشمل برحمتها العالمين جميعا. والثاني: يضع في الاعتبار الشأن القومي والسلالة العرقية، الأمر الذي يتقزم معه مفهوم الربوبية ذاته، إذ يغدو الربّ ربًّا للعرق وحدهم دون سواهم، رب ينبذ بقية ما خلقت يداه.

والمؤكّد أن الدين مكون روحي وقيمي أُمٌّ، تفتح الأجيالُ عيونها عليه، فتنساق في التطبع به والتكيّف عليه. بهذه الاحتوائية التي للدين[13] يكون (الدين) أرسخ المقوّمات التي تواجه الإنسان مهما كانت علاقته بالعقيدة، إذ حتّى الذي يقضي حياته جاحدا، يظلّ يحمل في مواجده آثار البيئة العقدية التي ولد فيها وشبّ عليها، ذلك لأن الدين مفاعل قيمي وروحي يؤثر على النفس، ويفتح الحوار باكرا معها بكيفية أو أخرى، وهو ما يهيّئ الفرد للاستجابة، لاسيما إذا كان ذا استعداد وجْداني، فيضحى حرصه -من ثمة- مركزًا على تحقيق التطابق مع شرائط الدين والانضباط مع قواعده، الأمر الذي يجعل من المتدين المثالي كائنا (مستلبا) بالدين، "فانيًا" فيه، ما لم يكن له بصيرة يقظة تقوّي صلته بالحياة وبمقاصد الوجود والمابعد.

وبما أن الديانات تتعدد في هذا الكون، وبما أنّها شكّلت منذ القديم مجالاً حيويا لتفعيل القيم وقولبة المعايير، فإنه لأمر طبيعيّ أن نجد من هذه الديانات ما هو أصيل، مصون بالحرفية التي أنزل عليها، شأن الإسلام، الدين الحق، الذي حاز شرط المصونية.. ونجد منها ما هو محور، محرف، تعترف حتى بعض نصوصه بما طرأ على نصوصه من تزوير.[14]

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.