الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

القرآن وجغرافية المسجد

"لا يزال عبيرك يملأ أجواء هذه المعابد، ولا تزال القلوب تستضيء بنور مشاعلك" .

ظل نظم القرآن هو الطراز المعماري العجيب الذي يبهر العقول بهندسته، وبتسَابك شعريته، وبدائع تجلياته، بل لقد ظلت خطابيته تحدث أكبر التأثيرات على أهل الفن وأرباب التجميل المسلمين، بمن فيهم صناع العمارة. من فانتازية تعبيراته، وشمم مخاطباته، ورونق آياته، يتعلم البنّاؤون والمزخرفون والملبِّسون كيف يصبون المواد، ويسطِّرون الخطوط، ويوزعون الأبعاد، ويقيمون السواري والأقواس. "كل كلمة في القرآن.. مختارة بصورة دقيقة، ومخدومة مثل تطريز الدانتيلا" .

ظل القرآن -خلال مرحلة الإقامة- أنيسه، ونديمه، ووسيطه إلى النفس، وإلى الآفاق العُلى، ففائض الوقت كان يصرفه في التنفل، وفي التأمل، وفي تلاوة القرآن.. ومن غير شك أن الوحدة في كنف ذلك الفضاء الذي ينطق فيه الصمت، تشجع على المناجاة، ومخاطبة الله.. إن للأنفاس في تلك المقصورات الفارهة أثرًا وحضورًا تتلقاه الروح أنغامًا وأنواطًا وهارمونيك يزيدها سحرًا ما كان يجده من لذة تنبع من أنامل غير مرئية تلامس جذور روحه.

لقد عوّدته الخلوة المسجدية على الدندنة بمشاعره... مشاعر خفية، كانت تتنامى في بعض أركان صدره، ثم شيئًا فشيئًا تستوي وتأخذ شكل لحن، لا يفتأ يتلوى مع الساعات في أعماقه. فهو حينًا لحن دامع، وحينًا آخر لحن منشرح، أو متوتر، وحينًا ثالثًا هو لحن بلا صبغة، كلون البرزخ.

كانت تند عنه تلك التنويعات وهو ساهٍ عن نفسه، مسترسل في الآفاق القلبية، وحين ينتبه يجد الكلمات التي لم يفكر فيها، ولم ينشئها، ولم يحضر ميلادها، تنبعث مع نفثاته لوحدها، تصنع نغمًا غالبًا ما تمضي به البواعث الخفية إلى أقاليم الحزن، فلا تزال المواجد عالقة هناك، ولا تزال الروح سابحة، متحولة من غصن إلى غصن، حتى إذا أدركها الوهن تطارحت فوق رُبى أثيرية، واستنامت لما تجد من خدر وعذوبة.

ما أكثر ما أصغى لأصوات مجوِّدين تنبعث من جوف الصحن، وأخرى تنتهي إليه من الزمن السحيق، تقترب منه حتى تلامسه الأنفاس، ثم تبتعد وتتمادى في البعد إلى أن تنطفئ كما ينطفئ قرص الشمس لحظة الغروب، ولا يبقى منها إلا الأصداء. هنالك تنتعش الروح وتشرع بدورها في نسج لحنها على إيقاع تلك الأصداء، ولا تلبث الأرجاء أن تعمها ديباجة ساحرة تتجاوب لها المقصورات والقباب.

"في هذا البلد الذي أقفرت أرضه، وأظلمت سماؤه، لا تزال هناك معابد يؤمها الفقراء والمساكين" .

المسجد يتمثله كولن شجرة تمتد جذورها في الأرض، وتضرب ذات اليمين وذات الشمال، أو نهرًا تتفرع شرايينه عبر المحارث، وتصب في الأرض القاحلة، وتثوِّر بُورَها.. المسجد شجرة متعالية، تثقلها الثمار اليانعة.. ويلذ لفتْح الله أيضًا أن يتمثل نفسه باكورة في أدواح تلك الشجرة.

بذلك الحس الذي طورته فيه الرياضة، ومساكنة المسجد، وملابسة الخلوة، كان يعيش أطوارًا من الحياة، وأحوالاً من الوجود، وألوانًا من البرزخ، شأن أهل العشق.

كان يتصور المسجد أحيانًا قلبًا، ويتصور نفسه دفقة حياة تنساب عبر الشرايين، وتُطَوِّفُ في أطراف الكون. وأحيانًا يتصور نفسه هو ذاته قلبًا يدفق بالحياة، وصدرًا ينبض بالروح.. تلك هي بعض أحوال الترقي، تتمرس عليها النفس من مداومة العكوف. الكيان يغدو نقطة في رسم، سحابة في أفق، قطرة غيث، أحشاء نازفة بالحب، صدًى لنغم ينبثق من ناي، مئذنة توصل إلى الناس صوت الله.

ولا يزال يتسلى بالقرآن، يستطلع رؤوس الصفحات، يستفتحها، يسترشد بأسرار القرآن، ثم يجد مشاعر السلطنة تنبعث في أعماقه، وتمسه لمسة من سكر الإحساس بالأهمية في ذلك الموقع، وبأنه سلطان ذلك الصعيد..المسجد إمارتُه، وكل تلك العوالم التي تنبع منه، وفيه، وسط تلك الأرجاء العاجّة بالصمت والأناشيد، هي رعيته.

ويراقب تلك الحزم من الخطوط المورقة وهي تمضي عبر المدى، ويجد لها نفس التناغم الذي يجده للآيات وهي تتأدى في صوته.. الفصوص التي تتوزعها الأركان والجدران والقبة، هي فواصل وأسجاع وقوافٍ يجدد بها النظر صفاءه في كل حين، على نحو ما يجدد الصوت في التجويد نشوته وعنفوانه.

يمضي في وصلة الطرب، ويتأمل في الآيات، ويحلق فوق سفوح خضر، فيستحيل طيفُ البسمة على شفتيه إشراقة وتبسُّطًا وسخاءً.

ثم تخرج به الآيات إلى فضاء من تضاريس مسننة، كأنها رؤوس الحراب. تلك هي معاني الزجر والوعيد، فتترقرق العين، وتتلبد الرؤية، وتتقبض الروح.. ستار قاتم أُسدِل فجأة على مشاهد البهجة.. والجدران وتجاويف القباب عَلَتْها عتمةٌ.. ذلك لأن الروح قد تلقت سهامًا نفذت إليها من عمق ما كان يستغرقها من حال.

هكذا فجأة يتراءى له أن التغصينات المرتسمة على واجهة المنبر، والمتشابكة في القبة، والمسترسلة عبر الجدران، أضحت أقواسًا مشدودة ترميه بنبالها.. في تلك الأثناء تتحول الروح إلى مقام الاستغفار.

ما زال يفتح عينيه على القبة، وينام على منظرها، وفي أنفاسه ريح القرآن؛ إذ لا يفارق المصحفُ يده كلما ثوى إلى الفراش.. وحتى حين يطفئ نور الشمعة بأنفاسه ليخلد إلى ورده من السكينة، تظل النسخة في يده.. كم من فجر استيقظ والمصحف يضغط صفحة خدِّه في عناقٍ كعناق الحبيبين تذكي الفتوة نار الهيام بينهما.. بهجة النقوش تأخذ ألوانًا أخرى حين ينعكس عليها ضوء الشمعة، والأشياء تغير مواقعها.. جوقات أخرى وكورالات تنطلق في تلك المملكة حين يوقد صاحبها شمعته.. المنبر يتقلد تواشيح تحوله عن هيئته الصماء، وتملؤه حياة وحركة ودلاً. السواري تستغرقها رقصة الصف، فتدأب على الجيئة والذهاب، مثل سِربٍ من خيّالة فرسان، تلاحموا للحرب، فهم في حركة كرّ وفرّ، كأنهم من كتائب الفاتح.

كل شيء ينطلق من عقاله، ويموج في جو من السكر الليلي، ويتلون لسان الشمعة بألوان قرمزية وبرتقالية ولازوردية، كأنه يمتص من أصباغ القبة.. كأن قوس قزح المرتسم في سماء المسجد، أسفل القبة، قد ذاب وسالت به مدامع الشمعة، وانطبعت شعلتها بلون حُلَّتِه.. كان كولن في تلك الأثناء يستمد الدفء من أنفاس الشمعة الناعسة، وكذلك كانت تفعل حجارة النافذة، بل كان يستشعر أن من جسده النحيف ينبعث دفء إلى أنحاء المسجد.. بل لقد كان واثقًا من أن جنبات ذلك الحرم، كانت تحنو عليه بأنفاس رؤوم كالأم الرحيم.

كان أحيانًا وهو يمعن في تصفح الرسومات فوقه، يرى لنفسه موقعًا بينها، لكنه مجرد نقيطة مغمورة في بحر الجسوم المرتسمة في المشهد. إنه هناك أثر مغمور في محيط طامٍّ بالأشياء والظلال، عندئذ يتملكه أسى غريب، فهو يجد في ذاته دافعية جبارة على النفاذ والاحتواء.. يودُّ لو أنه كان قبة تنشر أجنحتها فوق المكان فتشرئب الكائنات إليها، أو لو أنه كان مثل تلك الحظيرة التي تحيط به من كل صوب؛ إذن لضمَّ الأشياء إليه كما تضم الأم رضيعها.

ويمضي في الاستقراء، ويشعر أن للنُّقطة حدودًا وأوضاعًا، ويلحظ أن لها موقعًا وعلاقات، بل سرعان ما يتبين لها وزنًا، وأهمية، ورجاحة؛ إذ تلفته تلك العضوية التي تصلها بما يجاورها في الجانب الآخر من خطوط، وتتراءى له الرابطة بينها وبين الكتل من حولها، ثم يمتد به البصر يتابع علاقة تلك اللحمة والكتل مع محيطها في المشهد، فإذا هي علاقة رفد واسترفاد، ثم يدقق النظر فإذا هي ارتكاز مكين له موطئ وحيوية ومجال، وكل ذلك يعطيها مزيدًا من التمدد والتوسع، فهي في الحقيقة مساحة ومدى ومفصل موصول ببقية الآفاق.. على ذلك النحو كان كولن يستبين الموقع الذي تتطلع النفس إلى ملئه، والصدارة التي تتوق الروح إلى تبوئها على صعيد جغرافية الخدمة والحياة..

هكذا كان يضع الخطط، ويتهيأ للدور القيادي الحاسم، ولا يزال في كل ذلك يستمد من القرآن المشورة والخبرة والتسديد.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.