الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

صورة الخراب وصفات المعماري في وعي كولن

"إن التغيير الذي يطرأ على الإنسان فيفسده ويذبله، يطرأ تدريجيًّا، وبشكل صامت وبطيء، وقد تؤدي غفلة صغيرة.. إلى ضياع كامل. ولكن أمثال هؤلاء الذين يتوهمون أنهم لا يزالون على الخط نفسه، والموضع نفسه، لا ينتبهون إلى سقوطهم من مواقع مرتفعة ارتفاع المآذن إلى قعر عميق عمق البئر" . "إنْ حرمان دعوة من الأوفياء المخلصين الواعين الذين يحافظون عليها ضد هجوم اعتداءات أعدائها، فمصيرها إلى الزوال والانهدام عاجلاً أو آجلا" .

ظلت صورة الخراب حاضرة في ذهن كولن، تعكس-من جهة- وعيه العميق بمدى الرثاثة الكاسحة التي نالت أرصدة العز، وتعكس من جهة أخرى، مستوى العزم الحاسم والرهان المؤكد على إعادة تجديد ما تخرَّب. ولم تترمَّد المدنية الإسلامية ويَلحقها الكسوف، إلا بعد أن قَحَلَتْ مواجدُ الإنسان المسلم، وخملت فيه نوازع العزة، واستنامت الدافعية، ورضيت بمصير الحطة. فروح المسلم هي التي تهشمت واستكانت للترديات والدمار.

من هنا آمن كولن بأن الروح كيانٌ يستوجب التعمير، وأن من أرضية الروح تنطلق أعمال تشييد النهضة. ولا ريب أن كتابه "ونحن نقيم صرح الروح" يشكل مجموعًا فكريًّا بيداغوجيًّا وترشيديًّا، يركز على مقتضيات تصنيع الكيان الملي، انطلاقًا من خطة بناء، ينفذها مهندسو الروح.

ومن المؤكد أن الإيمان بحقائق القرآن هو أُسُّ كل نهوض يراهن على إنجازه طلائع الأمة. ولقد مثلت هذه المُسَلََّمة (محورية القرآن عقيدةً ونهجًا للنهوض)، قطب الرحى في كتابات كولن. بل لقد رأينا الوجدان يجعل من مناشدة القرآن واسترحام الخالق مُنْزِلِ القرآن، إحدى أبرز لوازم النجوى التي يداوم عليها كولن في كتاباته، كوجه من أوجه تبديد الحزن، وتسلية القلب، والتنفيس عن الخاطر: "أيها النور الذي نزل في مكة، وفاض في المدينة المنورة، ليس من شأنك الاحتجاب، فلتفصح عن وجهك النوراني" ، "انزل أيها الخطاب الأزلي الإلهي.. لكي تستفيق القلوب، وتتفتح عيونها على العالم الأحمدي مرة أخرى" ، "انهمر علينا كالمطر وكالغيث، فقد جفَّت نفوسنا وشفاهنا، وبلغت القلوب الحناجر" ، "العالم الذي لا توجد أنت فيه، عالم قُصت فيه أجنحة الإرادة، وضَربت الفوضى أطنابها في عالم الأحاسيس" .

ومن الطبيعي أن يعقد كولن بناصية أطباء الروح مهمة التصدي للعلة الكارثية التي عليها الأمة، وأن يرشدهم إلى العلاج، بأن يستخلصوا من أدوية القرآن ما يفيد الروح والقلب؛ استصلاحًا للكيان، وإعادة للحيوية إلى أوصاله.

ولأنه يدرك أن الإنجاز النهضوي الشامل، مشروط من حيث القيمة، والأصالة، بمستوى وطراز النوعية التي تتولاه وتنهض به من المهندسين، لبث يلح في سائر ما كتب، على إبراز المعالم الروحية والخصائص السيكولوجية والمواصفات الوجدانية التي ينبغي أن تتوفر في البنَّائين المهندسين، أولئك "الذين يقضون أعمارهم في إخلاص ووفاء واهتمام بالآخرين، إلى درجة إهمال أنفسهم من أجل إحياء الغير، هم الوارثون الحقيقيون للحقائق التاريخية، الذين نودع أرواحنا وديعة مأمونة عندهم، أولئك الذين لا يطلبون أن تتبعهم الجماهير، ولكن وجودهم نداء جمهوري (هذه بالتأكيد صفته هو)، وأي نداء، فأينما كانوا يهرع الجميع إلى أولئك الربانيين، وكأنهم مركز الجذب، وقد يستقبلون الموت بسعادة وراء راياتهم" .

فهو لا يفتأ يرصد النعوت والفضائل والسجايا الاستثنائية التي يرى أنها الأقوم والأجدر بالمجندين في معركة الانبعاث واسترداد العزة.وهو-أحيانًا أخرى- يستفيض في عرض شمائل الكرام البررة من الصحابة ورجال السلف ممن سجّل التاريخ لهم الصحائف الرائعة في خدمة الأمة ورفع رأسها، يفعل ذلك لأجل إشهار النموذج الأكمل في مجال الاستماتة وافتداء الأمة، وإعادة بناء كيانها.

إن وازع استدعاء أسماء المرجعيات -وأكملها وأبهرها الرسول -صلى الله عليه وسلم-- والكشف عن الأمجاد والرمزيات، قد شكل منحًى فكريًّا بارزًا في كتابات كولن. ولا بد أنه كان يجد في ما تعكسه تلك المرجعيات والرموز الطاهرة، من وهج يجلّي الهوية أكثر، ويقدمها للأجيال في صورتها الحق، فلذا طفق يستفيض في استدعاء الأسماء المعبرة، ويلون في عرض الشواهد التاريخية من مختلف العهود.

ومثلما دأب على استحضار الأسماء التاريخية، وبيان عظمتها، كان يستحضر الأماكن المطهرة، خاصة المساجد وما توحي به من فخار، ويبسط صحائفها؛ ذلك لأن كولن كان يدرك أن الحديث عن الأماكن المباركة (أو المحافل المعمارية) يستثير مكامن الشعور الجمعي، لاسيما وأن الحديث عن تلك المعالم كان يسعفه في أن يستدعي الأسماء الخالدة التي عرفتها تلك الأمكنة، واحتفظت لها بآثار خطاها فوق أديمها..

لقد مضى يتصيد السوانح، ويترصد الوجوه الندية، من صناع التاريخ، فكلما نبعت في خلده صورةٌ لقمةٍ من قمم المجد، استرسل يستعرض مآثرها، ولا يغادر السياق إلا إذا أردف عليها بتشكيل من أسماء الأماجد، ويصنع منهم باقات من الشعر، كل ذلك لأن الداعية شديد الحرص على تقديم المستويات الأولى من أهل الرفعة والشموخ؛ تهييئًا لمعايير القدوة والأسوة لصالح الجيل المهندس.

لقد رأيناه كثيرًا ما تقترن لديه في التمثل، صور الأركان المرجعيين (النبي وصحبه الكرام) بمعالم الجهاد والفخر العثمانيين، بمن فيهم الأفذاذ أرباب التراث المعماري، وأكثر ما رأيناه يوازي بين سياقات التغني بأسماء أهل الاصطفاء، وبين مظاهر الارتكاس التي تعمّ المجتمع، يتأسى ويتخفف من الوطأة.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.