الفصل الثال تجربة الخدمة...لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة

فهرس المقال

أهم ما تسعى إليه المدرسة الناجحة

وتظل الناحية العقلية من أهم ما تسدد نحوه المدرسة الناجحة؛ إذ تركز على تعبئة القلب بالمخصبات العشقية وبالمواجد، وتأهيب الذهن، وشحذ الملَكات، وتنمية روح التفكير والنقد والاختراع، فبذلك يكون الفرد بما أحرزه من تجلية ذهنية في المدرسة وفي مؤسسات التكوين، إضافة نوعية، ومددًا مفعمًا بالحيوية، تغتني بها الحياة. إن ترويض وتنشئة الجيل على التفكير المنتج القائم على تعويدهم ربط أذهانهم بمجال الكون وما يحويه من معان وبينات، هو من أوكد غايات مدرسة كولن: "إن من أجدى الأمور في بناء الجيل الحاضر هو تيسير تنقلهم بين عوالمهم الداخلية، وبين حقائق الوجود؛ لتحفيز عزم التفكير المنظم لديهم، وتحبيب الإيمان والتعليم والتمحيص والتفكير إليهم، بتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح"[7].

لا شك أن المتخرج حين يكون قد ترقى عبر مراحل تكوينه الأولى في جو بيداغوجي وعلمي وروحي متكامل، سيكون على درجة من التأهل والتوازن عالية، الأمر الذي يرشحه لأن يندمج في الحياة العملية دون بوار، وسيتحول إلى المجتمع وقد اكتسب صبغة الإنسان الصالح الذي تتوطد به الفضيلة والسماحة والفاعلية.

إن هذه التجربة الناجحة التي تعمل دائرة خدمة كولن على توسيعها، لا تفتأ تُثبِت من سنة إلى سنة، وحيثما حلّت، اقتدارَها على تكوين النشء التكوينَ النوعي، وتهيئ الدفعات النبيهة، والمرشحة لأن تكون بدورها في المستقبل، قاطرة يتكرس بها الأفق المضيء"[8].

وإن مما يقع على كاهل البيئة الحية التكفل بالخرّيج، والحرص على الاستجابة لما يحمل من كفاءة واستعداد، حتى لا تنهدر الطاقات بددًا كما يحصل في نظمنا التربوية الراهنة.

وما لم توجد المناهج التطبيقية والبرامج الاستثمارية التي تستقبل المتخرّجين، وتتلقف أصحاب التحصيل، وتحولهم إلى عَمَلة وصُناع ورجال إنتاج وتعمير وتطوير، فإن المهمة التربوية تظل بتراء، وبلا سند حقيقي.

إن تقصير المجتمع الأهلي عندنا في الحراك التعميري، يديم ما نراه من نزيف في القدرات، لاسيما على مستوى جموع الدفعات التي تتخرج في كل موسم، والتي لا تزال تتلاحق وتتكدس؛ إذ تجد نفسها أمام الأفق المسدود.

إن من شأن الاستثمار الاقتصادي والثقافي والإنتاجي عامة، أن يفتح الأبواب في وجه الشباب، ويدمجهم في الحياة العملية، وإذا ما هيّأت المشاريع التي توفرها مؤسسات التوظيف ومرافق الاستقبال، مناخًا أخلاقيًّا وتنويريًّا ومدنيًّا يعزّز عملية الإدماج، فلا شك أنها ستساهم في التحول بالمجتمع إلى وجهة الصلاح، وإلى النهج القويم الذي تسوده قيم الخير والطمأنينة.

البيئة والبناء

إن دور البيئة الصالحة في بناء الشخصية السوية المتشبعة بأصالتها، دور أساس في منظور كولن، بل إنها المدرسة الطبيعية التي لا يفلت من تأثيرها أحد، ولقد "ظلت البيئة مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات.. وإن هذه القيم الثقافية التي تسود الحياة الاجتماعية هي البيئة العامة التي تحضن وجدان الأمة، وتمازج تفكيرها، وتغذّيه، وإن علاقة المدرسة بالبيئة علاقة تفاعل عضوي، وبقدر ما تكون المدرسة متوجهة نحو الهدف، ومتسمة بالعمق، تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة؛ بشرط أن تصهر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية"[9].

إن البناء يولّد المواهب والعبقريات؛ لأنه يساعد على شحذ الاستعدادات الفردية والجماعية،، بل إنه يساعد على اكتشافها، واستنقاذها من الضياع الذي يطبع البيئات المتخلفة: فإن النجاحات الخارقة للعادة، المتحققة أمس واليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطة -إضافة إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولّد للعبقرية، والوسط المناسب لتنشئة المكتشفين، والبيئة العامة الحاضنة للعبقريات.[10] فالدائرة الصالحة أي البيئة الفاعلة هي التي تخلف البيئة الموات، وتصبح أرضية فلح وخصوبة.[11]

إن المدرسة المتعصرنة اليوم، في حاجة إلى المراجعة الكلية، لاسيما على صعيد البرامج والأهداف؛ إذ ليس لها أهداف محددة، فإن وظيفتها هي في أحسن الأحوال إزالة الأمية، لكنها بالمقابل، تُورث أمية أخرى؛ إذ تشغل الناشئة -وخاصة المتسربين منهم- عن البدء مبكرًا في تعلّم الحرفة؛ لأنهم يتمدرسون أولاً، ثم حين لا يُوفَّقون يجدون أنفسهم في حاجة إلى بداية تعليم تأهيلي، من خلال تعلم حرفة أو ممارسة عمل ما.. والحال أنه -وكما أسلفنا- حتى المتخرج بشهادة يجد نفسه مضطرًّا لأن يبدأ التكوين ميدانيًّا.. ولقد زادت الهوة اليوم بين مضامين التعليم الكلاسيكي وبين النظم المعرفية والاستخدامية التي لا تفتأ سبلُها تنفتح باطراد أمام البشرية، نقصد الوسائط الافتراضية، من حاسوب، وإنترنت، ولغات، وعلوم المستقبل، وما إليها.

ولذا بات اليوم تجديد تصوراتنا إزاء المدرسة والتمدرس أمرًا ملحًّا.

وإذا كان إفلاس مؤسساتنا التعليمية في العصر الوسيط قد سبَّب اندحار حضارتنا الإسلامية، فلا شك أن أبرز العوامل التي فاقمت من الوضع التقهقري يومئذ، هو انعدام الرؤية التربوية، وغياب المشروع المستقبلي الذي يُفترض أن يرسمه كل نظام تعليمي بصير.

لقد استمرت منظومة الزوايا والتكايا والمساجد كما يسجل كولن، في مزاولة تعليم اجتراري مقطوع عن الحياة، بلا هدف، وغير معني بتاتًا بحاجة الفرد والأمة، ولا مهتم بما يتراوحها من ترديات، الأمر الذي كرَّس العقم، وسدَّ الأفق، فلا غرابة، والحال تلك، أن نرى الانحدار ينتهي بالأوساط التعليمية في تلك البيئة إلى حدّ راح فيه رجال الترشيد يقصرون مادة التعليم على تحفيظ الأدعية، والقصد هو مواجهة الانسدادات والضوائق بالضراعة وحدها، غافلين عن وصية المولى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)(الأَنْفَال:60).

لقد أشار الأستاذ كولن إلى هذا القصور الفادح الذي كانت عليه المدارس التقليدية في العصر الوسيط، فسجَّل أن مؤسسات الماضي الثقافية والروحية، ممن كانت تربي مهدنسي فكرنا وعُمال روحنا، لم تكن تواجه الحياة بمشاريع تجعل من رهان السيطرة على المستقبل مطمح الأجيال.

والأستاذ كولن يرى أن الفداحة مستمرة معنا؛ إذ حالنا اليوم بالقياس إلى ما تقتضيه منا متطلبات الجهوزية المستقبلية هو حالهم عينه بالنسبة إلى ما ظلوا يفاعلون به واقعهم: غفلة عن المستقبل، وتردٍّ في السلبية.. فنحن لا نزال سادرين في بلادة عن إنتاج رزنامة مشاريع كبرى، شاملة، وحاسمة، نراهن بتنفيذها على طي صفحة التخلف نهائيًّا، وبلوغ مستوى الانعتاق من الانحطاط.[12]

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.