الفصل الثال تجربة الخدمة...لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة

فهرس المقال

إعادة تركيب كيان الأمة

إن إعادة تركيب كيان الأمة لا يعني بالنسبة للمفكر كولن افتكاك زعامة تغدو بها تركيا على رأس الأقطار والأوطان، كلا إن الغاية هي التمكين للأمة أن تحتمي حين تتجمع في كيان قوي، من دواهي الضياع الذي عانته تركيا وسائر البلاد والإسلامية الأخرى على شرِّ ما عانت أمة من طوائل المحق والتبعية والهوان.

التغريب الذي داهم تركيا نكَّلَ في العمق بالشعور القومي والكرامة الوطنية. لقد تحولت العثمانية نتيجة المخادعات إلى رجل أوروبا المريض، ثم أُطيح بمجدها، ثم أُلحقت تابعًا للأطلسي، ثم حين تفكك المعسكر الشرقي وُضعت على الهامش في قائمة الانتظار.. تلك هي بعض ما يستشعره الإنسان التركي الأصيل حين يسترجع وقائع الثمانين عامًا الأخيرة من تاريخ بلاده، وذلك ما يجعله يُبدِي كل هذه اللهفة على العودة إلى الديار.

لقد خرج بقناعة لا مراء فيها، استمدها من تحليل سديد للمآل الذي عرفته التحالفات على إثر انتهاء الحرب الباردة، واستمدها أيضًا من تقدير سليم لمتطلبات العولمة، وهي أن المطمح الأيديولوجي لم يعد الغاية التي تراهن عليها الأمم؛ إذ الأيديولوجيات تتبدل وتتفكك ولا تدوم، فهي مجرد نار حصيد، تلتهب ثم تخبو. وإن السياسة الحكيمة هي التي تبني استراتيجيتها على شروط ومقومات ثابتة لا تنال منها التغيرات، ولما كانت الرابطة المتينة والثابتة والمتجددة في كل عهد، هي رابطة الانتماء العضوي، والتجانس الحضاري، والأخوة الروحية التي لا تنفصم، والمؤهلة بالحكمة والتدابير لأن تذود عن الحظيرة والكيان والمصالح المشتركة، كان أمرًا طبيعيًّا أن تمد النهضة التركية الحالية يدها إلى الأشقاء.

فالأتراك بعد أن استعادوا وعيهم المِلِّي، باتوا متيقنين من أنه لن يكون لتركيا مستقبل ما لم تتحصن في كيان قومي كبير، وضمن امتداد جيوسياسي بحجم فضاء أقطار الأمة، فهي أضحت قوة اقتصادية يُحسَب لها الحساب، ولكي تكفل الاستمرار لنموها، والدوام لتقدمها، ورواج إنتاجها المتزايد، ولكي تضمن وفرة الاحتياط والمقدرات، لا بد أن تندمج في بنية وفي كينونة عضوية أصلية هي كينونة الأمة الإسلامية.

ولا يغيب عن المتفحص أن ما تدعو إليه تركيا اليوم وتلح عليه، من إقامة قواعد بناء وترابط واندماج ومشاركة، هو مطلب يخدم سائر أقطار الأمة؛ لما يوفره للجميع من أسباب المَنَعة، ومن الإمكانيات المساعدة على النمو والقوة.

وإذا كنا لا نزال نرى عدم الاستجابة لدعوات الوحدة والتشارك، وتقوية عوامل التقارب بين البلاد الإسلامية؛ فذلك لأن النظم المتخلفة  لا يخدمها الاندماج.

إن الرؤية التوحيدية التي تلح عليها كتابات كولن، ترمي إلى بث الوعي في الأوساط المسلمة، والمستنيرة خاصة، وتحسيسها بالمنهج التكاملي الذي يضمن شروط صون الأمة والنهوض بها.

والمؤكد أن تركيا -بحكم سبقها إلى الاستفاقة الراهنة، نتيجة الخبرة التي اكتسبتها من خلال تلاصقها بالغرب جغرافيًّا وتفاعليًّا، وما استفادته من دروس ووعي بفعل الضربات القاسية التي أصابتها وهي تقف على أبواب الغرب تنتظر الاعتراف بعضويتها، وفي ضوء إدراك ما تتيحه العولمة لمن يحسن استغلال الفرص.. إلى ما هنالك من إرث تاريخي ومن جدارة حضارية ترى نفسها في موقع من يبادر إلى التحرك في اتجاه الدعوة إلى الالتجمع ولمِّ الشمل.

إن بيداغوجية التحسيس بالإمكانيات والمكاسب التي ستجنيها الأمة من بناء سياسة التجمع والتحالف والتقاسم المصلحي، تهدف إلى بيان سبل التقوية، والاحتماء بالأسوار المنيعة التي يكفلها تفعيل روابط الانتماء والإخاء، إن اللطمات التي طفق الغرب يوجهها لتركيا ردًّا على طلبها الانضمام إلى حظيرتها، تجد الرد الطبيعي والسديد في التحول بالخيار الانتمائي إلى مجراه الحضاري الأصلي، وإن الإشراقة الإسلامية التي انبلجت في تركيا اليوم والتي ينشّطها رجال الخدمة بإدارة روحية للداعية كولن، لَتعمل باستماتة صادقة في هذا الاتجاه.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.