انطلاق الملتقى الدولي: فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح الله كولن
بالشراكة ما بين جامعة الجزائر ومجلة حراء التركية انطلقت أمس الثلاثاء بفندق الهيلتون بالجزائر العاصمة فعاليات الملتقى الدولي الرابع عشر حول "فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح الله كولن" تحت شعار: "نحو ترشيد الفعل". وفي يومه الأول عرف الملتقى جلستان علميتان تناول من خلالهما الكلمة أساتذة ودكاترة من داخل وخارج الجزائر، مُبحرين بالحاضرين في شاطئ المفكرين العظيمين المحترقيْن: مالك بن نبي رحمه الله وفتح الله كولن أطال الله في عمره.
وشهد اللقاء الذي يدوم يومين وتشارك فيه أكثر من 16 دولة، جلسة افتتاحية ومن بين المتدخلين فيها نذكر:
الدكتور مصطفى أوزجان رئيس هيئة الإدارة السابق لجامعة الفاتح بإسطنبول / تركيا: بّين أن الإنسان لو استطاع أن يوجه إرادته للخير سيبني حضارة وإلا فسيهدمها.. فمالك بن نبي استطاع أن يكون رمزا للفكر الإنساني العميق والأصيل، كذلك هم علماء الجزائر من أمثال: ابن باديس والإبراهيمي، وكذلك هو فتح الله كولن من خلال مشاريعه والتي هي فعل وليست ردة فعل؛ فمن وحي المنظومة الإسلامية أسّس في 160 دولة مدارس تقدم رؤية حديثة وتجسّد فكرة الخُلق، الأخوة... ذلك أن الإسلام ومبادئ النبي صلى الله عليه وسلم هي فعل علينا تمثله بلسان حالنا فنحتضن الإنسانية أجمع دون تمييز. والأمة اليوم تحتاج لمشاريع علمية نهضوية أين تُمثّل الإسلام بأبهى الحلل.
وفي إطلالة سريعة أشار الدكتور عبد الحميد مدكور من جمهورية مصر العربية لأهم نقاط الاتفاق بين المفكرَين ابن نبي وكولن: فكلاهما مهموم بحاضر الأمة ومستقبلها، وجاهد ويجاهد في سبيل الخروج من واقعها المؤلم، يستكشف ويحدد الرجلان أوجه القصور في حياة الأمة دفعا للفعل والحركة، فالغاية واحدة هي الدعوة للانتقال من الفكر إلى العمل... ويختم بالقول أن كلاهما جندي في كتيبة الإسلام التي شرّفنا الله تعالى للانتساب إليه.
من جهة أخرى بيّن الدكتور سليمان عشراتي في أوّل محاضرة بهذا الملتقى تحت عنوان: "خطة النهضة الحضارية المعاصرة: قراءة في المنظور الفكري لكل من: مالك بن نبي وفتح الله كولن" أن مالك بن نبي قد استوعب الحس والشعور الوطني وأدمجه في رؤية شمولية مِليّة؛ إذ أنه يتحدث عن الأمة ككل، فالحياة التي عاشها وأجداده جعلته يعلم أن النهضة ليس تتم في قطر أو بلد، لذا فقد نظَّر لنهضة شمولية وفق خط طنجا - جاكرتا. كما يشير المتدخّل بأن تباشير كثيرة تدل على أن الفجر سيطلع حتما، إن بهمَّتنا أو بهمة أحفادنا؛ إنه الخط الصعودي الذي بشّر به مفكرنا بن نبي منذ خمسين سنة ويخوض غماره اليوم الأستاذ فتح الله كولن، إذ أنه يحترق، وبكاؤه مظهر من مظاهر الفاعلية.
ويِؤكد الدكتور عشراتي أيضا أن المفكران قد اتجها الاتجاه الصحيح نحو الفعل؛ فقوانين الكون تنطلق بداية من تفعيل كلمة "اقرأ" التي تعني "افعل"، ثم "باسم ربك" أي: بالإيمان، وهو ما تحرّك منه مالك بن نبي ويجسده كولن؛ إذ أن مشاريعه كتبٌ، وكتبه مشاريع، إنه يضع تجربة -يضيف- ويراهن عليها، فهو يعلم بأنه آن الأوان ليقظة تسري كالفجر في كنف الأمة التي نامت طويلا. فنحن لسنا لقطاء، -يؤكد- نحن أمة قال فيها البارئ سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، إذن نحن مبشّرون بحول اللواء بإذن الله.
أخيرا يستعرض المحاضر بعض نقاط التقاطع بين فكر المفكرين، ومن بينها أن كلاهما: دعوته عملية، تجاوز الفكر، جلس في حلقة، يركز على الجذوة الروحانية... ويختم بالقول أن الفكرة كانت لبَّ ما جمع الفكرين، فهي بالنسبة لابن نبي تنتقم من صاحبها إذا أساء استخدامها، أما كولن فيقول أن الأفكار تُنقل بجذورها، وإذا لم تُخلق لها التربة المناسبة تتحوّل للسّم القاتل، كل ذلك وهما يلفّان تلك الأفكار التي يدعوان لها برضى الله سبحانه وتعالى، ذلك أنه لا جدوى من عمل أو حركة لا تكون مستندة لرضوانه تعالى.
وفي مداخلة بعنوان: "من ابن خلدون إلى مالك بن نبي: عبقري المغرب الصابر" أكد البروفيسور بروس لورونسBruce Lawrence من الولايات المتحدة الأمريكية أنه لا يوجد شبيه للمفكر بن نبي لا بأوروبا ولا أمريكا بل في المغرب العربي وهو ابن خلدون، حيث أخذ منه ابن نبي أنه لا يمكن أن تكون نهضة دون تفسير الروح والعقل. وأوضح المحاضر أن ابن نبي قد ركّز على الإنسان في المجال العام والخاص، كما يشترك فكره مع الأستاذ فتح الله كولن في رؤيته للمستقبل التي لا يمكن اختزالها لمتناقضات.
لقد استوعب ابن خلدون -يضيف- الفكر العقلاني عبر الفلاسفة القدامى، مستخدما الأدوات العقلية والافتراضات المادية للفلسفة الإغريقية كأدوات للعلم معتمدا على المنطق، وعلى البرهان الذي يعتبر الشكل الأساسي للاستنتاج العقلاني. ويقول ابن خلدون عن المقدمة أنها تقدّم مدخلا للمجتمع البشري، وقوانين الحضارة بالنسبة إليه تعكس طابع المجتمع البشري.
وأبرز البروفيسور لورنس أن ابن نبي يستعمل المنهجية والعقلانية التي عند ابن خلدون، فتكلم هذا الأخير عن الله وعن القرآن الكريم وهو ما تطرق إليه كولن كذلك.
أشار المحاضر في الأخير لكتاب: "أزمة الحضارة الإسلامية في2010م" للدكتور "علاوي" الباحث العراقي، والذي كرّس فيه فصلا كاملا للأستاذ ابن نبي معتبرا إياه ممّن فكروا في جذور الحضارة الإسلامية، فضلا عن اهتمامه بالمبادئ الأساسية للحضارة، وأنه لا يمكن أن نكون فقط مسلمين بل عقلانيين، ونعتمد أيضا المبادئ الأخلاقية. مضيفا أنه علينا أن نرى لما هو في الماضي من ابن خلدون، وكذلك لمشروع مالك وكولن، والتفكير في عظمة الحضارة الإسلامية والافتخار بكل ما فيها مع التأكيد على أن التربية هي الأساس.
وبعد فترة راحة قصيرة واصل المؤتمر جلسته الثانية إذ افتتحتها الدكتورة فريدة بلفراق من جامعة الجزائر حول: "المفهوم الحضاري لمالك بن نبي"، فالمداخلة كانت عن "مالك بن نبي" وفكره، ولم تتطرق إلى فكر فتح الله كولن فيها، فبيّنت حقائق مختلفة عن المفكر مالك بن نبي، منها أنه عاش أزمات الوطن العربي الإسلامي، وواقع العالم الإسلامي عموما، ومما قاله في أواخر عمره -لمن حوله-: "إن الناس لا يفهمونني الآن، ولكن سأعود بعد ثلاثين سنة"، وأشارت إلى أن الحضارة عند مالك بن نبي مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي والبيولوجي، وأنه يرى بأن السقوط الحضاري للأمة طبيعي وهي مراحل تمر بها كل الشعوب، ولقد عالج الحضارة من زاوية تاريخية ذلك أن الإنسان متأثر بموروثاته الثقافية متفاعلة مع واقعه، وقال بأن المجتمع إذا تحرك صنع تاريخا.. وتحدث عن مشكلات عدة منها: الخجل من الماضي، والخيانة والتخلف وتقديس الماضي... ويقول عن العالم الإسلامي بأنه أخطأ من البداية ولم يعرف كيف يستغل ظرفه ويفهمه فينهض من جديد..
كما عرضت المتدخلة أن مالك بن نبي دعا إلى العلاج الشمولي لمختلف المشاكل وليس التجزيئي.. وأنه يرى أن من عوامل التخلف اعتراض بعض علماء الدين على الاجتهاد الفقهي في الاقتصاد مثلا، ومن عوامل النكوص، بث أحاديث نسبت إلى الرسول الأعظم عليه السلام، تقلل من شان المبادرة والعمل والسعي والاجتهاد، ولا شك بأن الدين منها بريء.
وفي الأخير قالت عن المفكر أنه يرى بأن المعجزة التنموية لا تقف على حقنة مالية أو دعم خارجي، بل من خلال الإمكان الحضاري الذي ينطلق من الفرد، وهو المفهوم الذي بلْورته منظومة الرشد، والذي يقول بذاتية اتباع الأسباب.
وتعرض د. محمد باباعمي، معهد المناهج: "محورية الأخلاق عند مالك بن نبي وفتح الله كولن"، إذ استهل مداخلته بسؤال قال بأنه كبير، وهو "لماذا نحن هنا، ولماذا هذه الأوراق؟" فنحن نريد أن نعالج ظاهرة حضارية ليس من خارج الإطار ولكن من داخله.. فنحقق بداية مفهوم الفعالية الذي دعا إليه من التقينا بسببه.
فاستعرض الدكتور محمد باباعمي مجموعة حقائق مختلفة جوهرية في الموضوع، وأشار بأن الأستاذ فتح الله كولن لقد ذكر مالك بن نبي في إحدى كتبه، بأنه وفيّ وبار، وعند ذكره له بكى وتأثر -كما اخبر بذلك بعض جلسائه-، فالوفاء والبر شرط للنهوض الحضاري.
وتوقف المحاضر على الثلاثية المحورية والعلاقة بين الدين والأخلاق والحضارة، وأنه لا يمكن أن تنفصم هذه الثلاثية في موضوع الحضارة، فمالك بن نبي يقول "ليس لدي وقت لأعالج الأخلاق نظريا، وإنما نعالج وضعا أخلاقيا".
قال بأن الدكتور المسيري قطب فكري آخر، من طراز بن نبي وكولن، وركز المحاضر أن هناك قيما يمكن أن نحتكم إليها، فالأخلاق لا تعالجَ عقلانيا، ولا يمكن للعقل أن يناقش الأخلاق فهي الثابت المشترك، إذ أن الأخلاق محور الحضارة، كما نبه إلى أن الأستاذ "فتح الله كولن" لا يُقرأ من مقالات منتشرة وإنما بمشاريع منجزة وأفكار تستلزم التفرغ والتعمق.
قال المحاضر: عالجتُ مصدريا 24 عنوانا للمفكر مالك بن نبي، و13 عنوانا مصدريا للأستاذ فتح الله كولن، ومالك بن نبي يرى بأن العالم الإسلامي في وضعه يُعتبر أحسن موجود، ولكن الأمة عندما انغمست في السياسة أهملت ما جاءت من أجله.. وعن الأستاذ كولن قال المحاضر: تتبعتُ مفاهيم فوجدته يأخذ المفهوم ثم ينطلق إلى التفعيل، تتم معالجته ثم يعيده إلى الواقع، وكل ذلك في جماعة مفكرة وفاعلة. فكولن غير موجود هنا ولا في سيبيريا، ولكن فكره هو المتحرك.. فعيد الأضحى الفارط تحرك 130 ألف رجل أعمال بقَرابين، وتحركوا بأرجلهم ليوزّعوها، فالظاهرة أعمق من أن تعالج ظاهريا... ففي كتاب "ونحن نقيم صرح الروح" يعرض الأستاذ كولن مشروعه في نموذج متكامل، ومما قاله أن الملحد هو ردة فعل لأثر من التدين.. وختم المحاضر بأن الأستاذ كولن ينبّهنا أن من مضعيات الوقت الجدل النظري الذي لا ينتهي بفعل، وأن كل فكر دون خلُق سم زعاف.
وفي مداخلة الدكتور عبد الحميد مذكور من مصر حول: "أثر العقيدة في فكر العلَمان مالك بن نبي وفتح الله كولن"، افتتح المحاضر مداخلته بانطباعه عن الملتقى قائلا بأن ما أشاهده مزيج من القوة والجسارة والفتوة، وذكر مقولة عن الأستاذ كولن أنه: لا توجد أخلاق دون وحي، والأخلاق ثمرة ولا بد لها من جذور لبناء الفرد والمجتمع، وهي العقيدة.
فأكبر ما اتفق عليه العلمان أن الإسلام بدا حضارة، ولكن وفقا لواقع أمتنا الإسلامية، الأصوب أن نقول أنها تتكلم عن القرآن وليست تعيش معاني القرآن، والدين وفق مالك بن نبي هو الموسط المشغل للكهرباء.. فالماركسية تحولت إلى الرفوف، عندما خَفُتَ طرحها الديني. فالدين مزود بالقيم الأخلاقية، وهو القادر على البناء الحضاري مرة ثانية.
عن الأثر العملي للفكر والعقيدة، أشار المحاضر أن مالك بن نبي يؤمن بالمنطق العملي للأفكار، والأستاذ كولن تحدث عن التآكل الروحي، إذ الفرد المسلم ضحّى بالدين من أجل الدنيا، والإسلام فيه من عوامل القوة ما يمكن أن تحقق الأمان للعالم، فله أثر سلوكي، وأنه ينظر إلى الإنسان بعين الخالق تعالى، ليكون حائزا على السعادة الدنيوية والجنة الأخروية، فهو يمثل مائدة سماوية ربّانيا وشلالا هادرا شديد التأثير في القلوب، فلا يزال طاهرا نقيا، وهذا هو الإسلام في طرح مالك بن نبي كذلك.
أخيرا أشار إلى دور مفهوم "جماعة الخدمة" أنها هي مَن حملت كل هذه الأفكار إلى أعمال ومشاريع، لفتح العالم بنموذج معاصر، والعمل بدوره يساعد على تصويب الفكر مرة أخرى، بأن يضعوا أنفسهم أمام مشكلات واقعية، وبغير هذه الحركية بين الفكر والفعل سيموت الفرد في دوامة البرامج الميتة ويكون في أهداف أعداء الأمة. وبهذا يسمون "ورثة الأرض"، فهم يحاولون تمثل عصر الصحابة عصر النور التام، بالتفاني الجميل وإنكار الذات والتواضع... فمالك بن نبي مفكر فلسفي في الواقع والوقائع، وفتح الله كولن مفكر في الدعوة والفعل والحركة الميدانية.
المصدر: مونية الديغوسي - حياة بومزبر - عيسى عيسى، موقع فيكوس الجزائري، 21 نوفمبر 2012.
- تم الإنشاء في