القسم الرابع : الأكاديميا والجماعة العلمية

الأكاديميا، باعتبارها جماعة علمية

يعالج "علم اجتماع العلوم" "الجماعات العلمية"[1] باعتبارها مجتمعات بشرية، ويمارس في تحليلها نظريات علم الاجتماع؛ ولعلَّ كتاب "ميشال دوبوَا"، المعنون بـ"مدخل إلى علم اجتماع العلوم" يُعدُّ مثالا حيا لهذا الحقل المعرفيِّ الخصب.

ولو أنَّ باحثا متخصِّصا أراد دراسة "الأكاديميا" باعتبارها "جماعة علمية"، معتمدًا مناهج هذا العلم في صورتها الكلاسيكية، لوقع في مفارقات لا حدَّ لها، ولاختلطت عليه المفاهيم قبل المناهج؛ وما ذلك إلاَّ للهوَّة التي تفرُق بين الجماعات العلمية "بمنظورها الغربي"، و"الأكاديميا" التي لا تخضع بالضرورة إلى هذا المنظور؛ والفرق لا يكمن في البعد النفسيِّ والاجتماعيِّ فقط، لكنَّه يتجاوز إلى الأبعاد المعرفية الإبستمولوجية، والقيمية المعيارية، بالخصوص... أي إنَّ نقطة الاختلاف ترتكز على جوهر الظاهرة وأساسها، لا على مجرَّد مظهرها وشكلها...

أروع عنوان لهذه الجماعة العلمية المختلفة، هو نفسه عنوانٌ لمقالٍ نشر في مجلة "حراء"، بقلم الأستاذ فتح الله، بعنوان: "حركة نماذجها من ذاتها"[2].

ثم إنَّ الميزة البارزة لهذا المثال البديع تتجلَّى من وصف الأستاذ في قوله: "مَن يدري! فقد يتحقَّق في المستقبل القريب، بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء، تأسيسُ الصلح بين العقل والقلب مرَّة أخرى.. فيكون كلٌّ من الوجدان والمنطق أحدهما بُعدًا مختلفًا للآخَر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادّيٌّ وما هو ميتافيزيقيٌّ، حيث ينسحب كلٌّ منهما لساحته، ويجري كلُّ شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه"[3].

قد يعترض معترض بقوله: "إنما يصف الأستاذ هنا تلك الفئة القليلة التي "ملك الحبُّ قلبها"، فقرَّرت "أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب، وإلى أرجاء الأرض جميعًا" مهاجِرةً مجاهدةً، لا تلوي على أحد.

لكني أستدرك، وأقول: "هذا الوصف بعينه يليق بجنود "الأكاديميا" وقادتِها، كما يليق بأولئك المهاجرين المجاهِدين؛ فهؤلاء مهاجرون معنويًّا، وهم يبتغون نيل رضوان الله تعالى، ثم هم مسافرون في الآفاق عبر العالم، بفكرهم وجهدهم وأثرهم، حتى وإن بدت أجسامهم مستقرَّة في مكانها".

إذن، لا سبيل للاعتراض هاهنا...

* * *

مِن شرفة مكتبي بالأكاديميا، الطابقُ الثالث، أطلُّ على مسجد عثمانيِّ اللمسات، بمئذنته الشامخة؛ ومن بعيد... عبر غابات "شَامْلِيجا" الصنوبرية، أسرح بالعين في سفوح "البوسفور" البلَّورية، وأتأمَّل بهدوء حركة الناس على جسر معلَّق جميل... جسرٍ يحمل الأجسام ويحمل الأحلام، يعبره العابرون: بعضُهم يتجرَّع الآلام، وآخرون يكادون يطوون الأرض بالآمال...

هذه الإطلالة، وهذا التأمُّل، طوَّر فيَّ فكرة "الرصد"، التي كانت -فيما يبدو- بذرة لـ"نموذج المنطاد"[4]، إذ للعلوِّ المكانيّ أثر وأيُّ أثر... ودليلُ ذلك أني التزمتُ، من هذا "المرصد المعرفيِّ"، كتابةَ خاطرة مكثَّفة كلَّ أسبوع، بعنوان "نسمات البوسفور"، لتُنشر كلَّ ليلة جمعة في موقع "فييكوس"... ولا أدري هل بلَّغت المقصود، أم أنها تستمدُّ العجزَ من عجزي، وتصطبغ بصبغة ضعفي؟!

ثم آية ذلكم الاكتشاف، أنَّ القلب استجاب لتجليات الجمال، وأنَّ العقل لمس عرف الجلال؛ فخطَّت الأنامل محاولات فكريةً معرفية، تلامس من طرفٍ خفي الأدب، ولا تدَّعي أنها أدبية... من ذلك يُذكر: "معلِّمتي... ورقة الخريف"، و"زخَّات الثلج الأولى"، و"رسالة إلى الريح الصقيع"، "وحبيبتي اللالة"... وغيرها كثير.

من هذا المكتب المعلَّق، بنظرة معرفية عقلية ووجدانية، أرصد "الأكاديميا"، نموذجا ومثالا لما قد يسمّيه البعض "مركزَ تفكير"، ويسمِّيه آخرون "الجامعة البحثية"، ويقول البعض عنه إنّه "جماعة علمية"... تتعدَّد الأسماء وتتلوَّن، والمسمَّى هو عينُه، إنَّه "الأكاديميا"، كما هي عليه، على حقيقتها... لمن يعشَق الحقيقة على علاتها، يتشرَّبها بقلبه ووجدانه، ويعانقها بعقله وفكره.

1-الوادي المقدَّس

أحسب أنَّ نزع الحذاء في مدخل "الأكاديميا" يحمل دلالة (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)(طه:12-14).

لا أعرف مصدرا واحدا عالج مراكز البحث العلميِّ، بل وحتى الجامعات، اليومَ، بصيغتها المعاصرة، باعتبارها "واديا مقدَّسا"... إذ إنَّ خلع الحذاء، مثل التجرُّد من اللباس المخيط والمحيط في الحجِّ، يشير إلى ضرورة إظهار الخشوع والتواضع، ويدعو إلى إلغاء مظاهر الفروق والرتب، شكلا ومعنى... فـ"خلْع النعل" هنا، في الأكاديميا، عنوان التجرُّد من الارتباطات والعلاقات الأرضية، وشعارُ التنصل من الأوساخ والمتعلقات الدونية، ماديا ومعنويا؛ ليكون المرء مؤهَّلا لاستقبال نور السماء، نورِ الوحي... أمَّا مَن بقي عالقا بقاذوراته الدنيَّة، ملطَّخا بآثامه وذنوبه، فإنه لن يكون أبدا أهلا للمعرفة والعلم النافع، ولا سهلا للعرفان والعمل الصالح... فأبلغ وصف له، قوله تعالى: (أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)(الأَعْرَاف:176).

* * *

العلم، بعد "عصر التنوير"، بالمصطلح المألوف "المتحيِّز" جدًّا، مرادفٌ لإنكار الدين، وثورةٌ على كلِّ دين؛ كما كان الدينُ، يوم انحرفت به القساوسة، عدوًّا للعقل والفكر، مناهضا للعلم والمعرفة... أمَّا هنا، في الأكاديميا، فإنَّ المياه تعود إلى مجاريها من جديد، بتوجيه من المرشد الخرِّيت، الأستاذ فتح الله كولن، في قوله: "إننا نراجع مختلف العلوم ونشرح ديننا بواسطتها؛ لأنَّ عقل الإنسانية الآن مرتبط بها. وأعداء الدين من أصحاب الفكر الماديِّ يحاولون استعمال العلم وسيلةً للإلحاد والإنكار.. لذا فنحن مضطُّرون لاستعمال السلاح نفسه لإزالة الأوهام والشبهات التي تجول في أذهان البعض من المخدوعين، وإثبات أنَّ العلم لا يناقض ولا يعادي الدين. وبعبارة أخرى فعلى عكس قيام المادّيين من أمثال "ماركس" و"أنجلز" و"لِينِين" بتقييم العلم وجعله واسطة للإنكار والإلحاد، فقد وجب علينا أن نستعمل العلم أداةَ إثبات وبرهنة على صحة الدين"[5].

ومنهج "الوادي المقدس" يوجب -شرعا وفقها- أن يكون العلمُ لأجل الوصول إلى اليقين في الله تعالى، وأن يكون اليقين محفِّزا شاحذا للهمَّة السامقة، مِن أجل اكتساب العلم النافع؛ في تداول حلزوني لثلاثية (العلم-اليقين-العمل)، وهذا مؤدَّى قوله سبحانه، في الآية آنفة الذكر: (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي)(طه:14)... أي هو منهج الشهادة والإشهاد...

ثم تأتي العبادات، في سياق الآية، بمعنى الشعائر: مِن إقامة الصلاة إلى غيرها، مما عرف بالعبادات في المصادر، لتكون ثمرة للتوحيد وللعلم، عكسَ ما يذهب كثير من الناس في تصرفاتهم، حين يعبدون ويقيمون شعائرهم، من صلاةٍ وزكاة، وصيام وحج... عادة وتقليدًا، لا إيمانا وإدراكا وفهما ويقينا، فتضيع العباداتُ من بين أيديهم، ويضيع المعنى من ثنايا فهرستهم...

إننا، هنا، لا ندافع عن العلم الرسميِّ الأكاديميِّ، ولا نكلِّف الناس ما لا يستطيعون... وإنما نعني بالعلم دلالتَه الشمولية، أي العلم القلبي الفطريَّ الفكريَّ، الموصل إلى معرفة الحقِّ حقَّ المعرفة.

ناهيك عمَّن يحتقر العلم، ويُدني من مقامه، تحت مسمَّى "الدين والورع"، فيخفض ما رفع الله، ويُشقي الناس وهو يظنُّ أنه يسعدهم... وما ذاك بالمسلك السديد، وأيم الله.

أكاد أجزم أنَّ في ربوع "الأكاديميا" عقولاً كغيرها في مختلف المراكز عبر العالم، بل لعلَّ الكثير من المراكز العالمية، لأسباب معنوية أو مادية أو سياسية، تأوي عقولاً جبَّارة، وتصطاد علماء أفذاذًا، مِن مختلف بقاع العالم، وهو ما لم يتسنَّ -بعدُ- للأكاديميا، إلى حدِّ اليوم، أو لعلَّ المنظِّرين لها فضَّلوا منهج "الفسيلة" رغم ما يحمله من أعباء، على منهج استيراد "الشجر" أو "الثمر"، مع ما فيه من نتائج آنية، واضحة للعيان، لمن أراد الاستعجال، وآثر الطبخة الفورية.

فالفرق إذن بين الأكاديميا وغيرها من مراكز البحث لا يكمن في نوعية العقول؛ وإنما تصنعه أسبابٌ أخرى، خارج الأسباب المادية الكمية، وهي:

• غاية العلم، أي الإيمان بالله، وابتغاء رضوانه.

• الخلُق النادر المثال... بما قد نسميه: "الخلق الأحمدي".

• الانسياب والسلاسة، في حركية الجماعة.

• مفهوم الهجرة، الصابغ لكلِّ فكر وفعل.

• رهافة الحس، والذوق الفني.

أنا اليوم محلِّل للظاهرة من داخلها، ولا يعنيني في شيء أن يوصف هذا الإجراء بالذاتية أو الموضوعية؛ لكن الذي يهمُّني هو أن أكون "صادقا" أو "غير صادق"، ومن هنا أجد الدليل، والحكم، والعلم... وكلَّ ما يمتُّ إلى ذلك من سياق، مثل النظريات، والعلوم، والتخصصات... لا يستقيم بما عُرف عند الوضعيين معيارا للتمييز، من أنه "التصديق"، ولا حتى بما أبدع فيه "كارل بوبر" من كونه "القابلية للتفنيد"؛ وإنما معيار التمييز من خلال هذا البحث أو غيره، هو "الصدق"، وهو "القابلية للصدق"... وليس "التصديق"؛ فشتان بين الصدق الذي هو معيارٌ قيميٌّ، من مصدر "فوق بشري" مطلقٍ، غير نسبي، خالد خلود الحقيقة؛ وبين التصديق الذي يخضع لمسارات منهجية بشرية منطقية، أو حتى خلُقية نفسية اعتبارية.

الصدق معيارٌ من صياغة الوحي، الذي ينكره العلم الوضعيُّ ابتداء، أمَّا المنظومة الإسلامية فتتخذه مرجعا لكلِّ فكر وفعل، قال تعالى واصفا نبيه الكريم: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)(الزُّمَر:33).

2-الخلُق النادر المثال (الخلق الأحمدي)

يأتي في المقام الثاني، بعد التوحيد والإيمان، في أسباب إدارة الجماعات العلمية، ما يُعرف بالخلق أو الأخلاق، بما في ذلك "الأخلاق المدنية"؛ لكن شريطة أن تكون ظلاًّ "للأخلاق الكلية"، وأن يكونا كلاهما تمثلا "للغاية" وإنزالا لها على أرض الواقع، بمبدأ "تمثُّل أسماء الله الحسنى وصفاته العليا"، وبمؤدى: «تخلَّقوا بأخلاق الله».

كلُّ من يدخل "الأكاديميا"، ضيفًا كان أم باحثا، أم موظَّفا، يجد نفسه مع حواريين نفَوا ذواتهم، ودفنوا أنانياتهم، فهم بمدلول "الخدمة"، يخدمون وهم مبتسمون، لا تغادرُ الكلمة الطيبة لحظةً شفاههم، فيستحيل أن تصادف أحدَهم غاضبا أو ناقما أو عبوسا؛ وهم إنما يأتون ما يأتون لا لمصلحةٍ، ولا بمقتضى الوظيف ومستلزمات فنِّ الإدارة، أو سلْفًا لأحدٍ حتى يعيده بعد حين، أو تكلُّفا، والله لا يحب المتكلِّفين؛ وإنما هذه الخلال سجيَّةٌ فيهم؛ هي طبعٌ قد جاوز حدَّ التطبُّع. ومِن ثمَّ، ولست في هذا السياق أصف وأشرح أخلاقَ هؤلاء، وإنما أحاول ربط بُعدها بفنِّ ممارسة "الجماعة العلمية"... مِن ثمَّ، يجد هذا المرتاد "للأكاديميا" صفاءً على "صفحة قلبِه"، فتتوفَّز سريرته للتفكير السليم، ويزول كلُّ انقباض نفسيٍّ منه، ليحلَّ محلَّه الانشراح والانبساط، فتأتي أفكاره، وقراءاته، وكتاباته... انعكاسا لمرآة قلبه، وظلا لحقيقة روحه.

وأحسب أنَّ هذا الجانب الأخلاقيَّ الخطير، وهذه العلاقة القيميَّة العميقة، بين شفافية القلب ونتاج العقل، مِن معرفةٍ وعلمٍ، أحسب أنَّ القرآن الكريم قد عالجه، ودفع إلى التبحُّر فيه، في آيات عديدة، منها قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)(البَقَرَة:282)، وقوله: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فَاطِر:28)... فهي إذن علاقة متكافئة، ثنائية الاتجاه بين العلم والتقوى، شريطة أن لا يُقصر العلم في جانبه التجريبي الماديِّ فقط، وأن لا تُحصر التقوى في الشعائر وكفى؛ بهذا يكون العلم سببًا للتقوى والخشيةِ من الله، ويكون الإيمان والتقوى بابًا للعلم؛ في حركة مباركة ولود.

ولقد نبه علماء التصوُّف[6] إلى مثل هذه العلاقة، وأبدعوا في ذلك أيما إبداع، لكنَّ البعض منهم راح بعد ذلك يقصر العلم في ذات التقوى والإيمان، ويلغي كلَّ علم آخر، ماديٍّ كان أم حضاريٍّ، فضيَّع الفرصة على الأمَّة لاكتشاف سرٍّ لا تزال البشرية تفتقده إلى اليوم؛ غير أنَّ ما كان عليه علماء فطاحل أمثال "ابن سينا، والفارابي، والرازي، والجزري..."، أظنه مِن هذا المقام السامق، لو أنَّ تاريخ العلوم، ونظرية المعرفة، والرؤية الكونية... لقيت منا البحث والتحليل الذاتي اللائق.

3-الانسياب والسلاسة

أمَّا السبب الثالث الذي يميز "الأكاديميا" عن غيرها من "التجمعات العلمية" التقليدية، فهو وثيق الصلة بالعمل الجماعي، وبفنِّ إدارة الجماعات، والذي تم تطويره -في هذا العصر- بمقاربتين اثنتين، هما:

• المقاربة الغربية-الأمريكية.

• المقاربة الشرقية-اليابانية.

ولكلِّ مقاربة خاصيتُها ومنطلقاتها، وأساليبها وآلياتها، ومناهجها وطرقها... ولقد أسهبت البحوث والدراسات في تحليل المقاربتين تحليلا عميقا، وقامت بحوثٌ أخرى بالمقارنة بينهما، لعلَّ عالم الاجتماع الأمريكي "إدوارد هول" في كتابيه "رقصة الحياة، زمن معاش زمن ثقافي"، و"اللغة الصامتة"، وكذا في كتبه الأخرى، قد لامسَ بعمقٍ الفروق بين السياقين والثقافتين بالخصوص.

أمَّا في الفكر الإسلامي المعاصر، فثمة انفصام وانفصال، بين النظر والفعل:

فمن جهةٍ نطالع ما يؤلَّف في تفسير معاني "الوحدة"، و"التنازع"، و"الاختلاف"، و"البنيان المرصوص"، و"السفينة"... ونقرأ الآيات والأحاديث، والنصوص الواردة في معنى "الجماعة"، و"الأمة"، حتى ما كان منها بمقاربة فقهية أو أصولية، مما عرف "بالاجتهاد الجماعي"...

ومِن جهة أخرى، نشهد ممارسات ثقافية وسياسية تكتيكية، لا تمتُّ بصلة إلى الجذور المعرفية، ولا إلى "فقه الجماعة" باعتباره منطلقا معرفيا، إسلاميا، قرآنيا، بشريا... أي أنه توجيهٌ، ورسمُ خريطةٍ، لكلِّ تجمُّع بشري، سواء أكان ذلكم التجمع علميًّا أم وظيفيًّا أم اجتماعيًّا، مهما كان نوعه، ومهما كانت صفته... الثابت الوحيد، إذن، هو أنَّ القطيعة في واقعنا المترنِّح مستحكمة قاهرة.

"الأكاديميا"، من خلال فكر الأستاذ فتح الله ورؤاه التجديدية، هي رسم وصورة وتمثُّل "للطابق الخامس"، الذي رعاه على عينه وبعنايته، ولا يزال، حتى إنه غيَّر المكان، وتغيَّرت الحال، وتبدلت الظروف، إلاَّ أنَّه لم يترك الدرس يومًا، ولم يغب عن التفقيه ساعة.

ولقد صاغ الأستاذ مفاهيم "الجماعة العلمية" ضمن مسيرة "الطابق الخامس"، وأوضح منطلقاتها، وحدَّد أبعادها، وخطَّط أهدافها وغاياتها... فجاءت تلكم "الجماعة العلمية"، من منظور "حركية الجماعة"، ذات خاصية سلسةٍ منسابةٍ، لا اهتزاز فيها، فلا هي من نوع "التنظيم الإدراي، العلميِّ، الجافِّ"، أي المؤسَّس على "نمطٍ تعاقديٍّ" صارم؛ ولا هي من طينة "الجمعية، والاجتماع، الشرقيِّ، المفتوحِ، والمتسامح، والمتحرك على وقع الاعتبارات، أي المؤسَّس على "نمط تراحميٍّ" فضفاض؛ وإنما هو نمط آخر، صغتُ له عنوانا، في مقال كتبتُه، وهو: "نمط الثالث الموضوع"[7].

فمِن حيث سلَّم الوظائف والمسؤوليات، وتقسيم المهام والمهمَّات، ومن حيث فعالية نظام المعلومات، ومن حيث اعتماد التكوين الميدانيِّ التطبيقيِّ المستمرِّ آليةً للتطوير وشحذِ المهارات... ثم، من منظور الضبط والانضباط، والوضوح، والدقة، والمحاسبة، وتحمُّل المسؤولية دون أيِّ اعتبار... وكذا، بالنظر إلى نظام المكان والزمان، واحترام الخبرة والتخصُّص، واعتبار الملكات والدرَجات، وإصدار الأمر وقبوله (أدب الائتمار)... من جميع هذه الاعتبارات التعاقدية ظاهرًا، تبرز "الأكاديميا" معلَمًا، يليق بها أن تكون نموذجا ومثالا.

أمَّا من حيث تقوى الله وخشيته، والمرونة والاحترام، والتفاني والتضحية، والقول الطيب، والفعل الحسن... أي من جهة أعمال القلوب: من حبٍّ، ونصح، ورقة، وشفقة، وعطف، وتعاون، وسماحة... وكلِّ ما يجمل وصفه من خلق حسن، وفعل صالح... من هذه الجهة، "الأكاديميا" هي ربيعه وورده، وهي سنامه وذروته... فكلمات مثل "أستاذي"، و"آبي"... ثم التحية الحيية، والابتسامة الصادقة، والنافعية، والخدمة اللامتناهية... كلُّ ذلك يأسر القلب، فيغمره بالحبِّ والأريحية... ليكون للعلم مطارا وميناء... فيأتي على إثره الحرفُ والكلمة، والعبارة والفكرة... شفَّافةً، هفهافة، نورانية، ملائكية...

لا شكَّ أنَّ هذه الخاصية مستقاة من القرآن الكريم، ومن المنهج النبويِّ الشريف، رائدها ومبدعها وجامع أسبابها جمعا مطلقا، هو سيد الوجود، ونور الكائنات، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة، وأزكى السلام... الذي يقول عنه رب الجلال والإكرام: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القَلَم:4)، ثم يقول: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(آلِ عِمْرَان:159).

ولا بدَّ لعلم الأخلاق في الفكر الإسلامي المعاصِر أن يتقدَّم خطوة، من حيث التفسير والتأويل والتنزيل، وذلك بالتبحُّر في عوالم العلم والمعرفة... تنظيريًّا، وعمليًّا، وفنيًّا، وتقنيًّا، وتطبيقيًّا... لا بمجرَّد تأليف كتبٍ سردية، وصْفية، عارضة للمحاسن... فالبشرية اليومَ ظامئة، ومَن يملك الماء أحيانا، يضِنُّ به، أو يحمله بين جنبه وهو لا يدري قدره وقيمته... فيموت عطشًا، ويموت الخلق جراءه جهلا وضلالة.

4-مفهوم الهجرة، صبغة الأكاديميا

شحذتُ همَّتي، واستفرغت وسعي، متسائلا، باحثا عن الصبغة التي لا تخطئ أحدا في الأكاديميا؛ ولقد كانت "الخدمة" هي الصبغة الظاهرة الماثلة للعيان والمعلَنة في المحافل والزيارات؛ غير أني لم أستسلم للاختزال، ولم أشأ أن أردِّد نفس ما يتكرَّر، لا لكونه خطأ، لكن لاعتقادي أنَّ لكلِّ نتيجة سببًا، وأنَّ لكلِّ سبب أسبابًا... إلى أن تنتهي عند مسبِّب الأسباب -جل جلاله- بلا شريك، عند الحقِّ عزَّ شأنه (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ)(هُود:123).

واصلتُ التنقيب عن صبغة قد تكون بذات العمق، فتبدَّت لي ثلاثة مصطلحات: "الإيمان، والجهاد، والهجرة"، ومن حسن المخرج أني قرأت نصًّا للأستاذ فتح الله بعنوان "الرحلة المباركة"، يقول فيه: "وعادةً ما يتمُّ ذكر ثلاثية الإيمان والهجرة والجهاد باعتبارها أركانا مختلفة لحقيقة واحدة"، وبالخصوص في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الأَنْفَال:72).

فرأيت الاقتصار على وجه واحد من وجوه هذه الحقيقة الناصعة الناصحة، يكون عنوانا للأوجه الأخرى، ولقد تيقنت من مدخل "نظرية المعرفة" أنَّ الهجرة هي الباب والمدخل اللائق، الشامل، الدقيق، لمثل مقامنا هذا...

فعند فرسان "الأكاديميا"، كما لدى شباب "الخدمة" عبرَ العالم، خطُّ "الهجرة"، وإيقاع الهجرة، يَسِم الجميع، ويرسم حضوره في جميع الحركات والسكنات، فالكلُّ مهاجر، والجميع معتقد ذلك، ليس هذا من قبيل المبالغة؛ إذ المبالغة نوعٌ من الكذب والتزييف، ولا هو من قبيل المدح؛ لأنَّ المادح ممقوت؛ وإنما هي حقيقة أشاهدها وأشهدها صباح مساء، عيانا.

قد يسأل سائل، وحقَّ له أن يسأل: "ما هو دليلك؟"

أقول، والله أعلم: دليلي، أنَّ الأستاذ فتح الله في بيان معنى الهجرة، ضمن مقال بعنوان "الطرق"، يقول: "الذين يخوضون هذا الطريق بعشق وشوق، والذين يسيرون وراء دليلهم، تصبح الجبال لهم قيعانا، ويصير الحزَن لهم سهلا"، إلى أن يقول عنهم: "ولا يمكن الحديثُ عن تعثُّرهم في الطريق، وكفِّهم عن السير، والنكوص على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء".

أمَّا الخلاصة في بيان صفة هؤلاء المهاجرين الأفذاذ، أنهم: "يسيرون من الخَلْق إلى الحقِّ، ولا يَحِيدون"[8].

لو كتب الله تعالى لأحدٍ أن يسعد -كما سعدتُ- بأيام في حرم "الأكاديميا"، فإنَّ النوتة والإيقاع الذي سيغمره دومًا، هو السير الحثيث، والهرولة الدائبة "من الخَلْق إلى الحقِّ"، ثم العودةُ الصادقة، والأوبة الأبيَّة "من الحقِّ إلى الخلق"... سيرٌ وهرولة، ثم عودةٌ وأوبة، كحال الحاجِّ ساعيًّا بين الصفا والمروة، متعلِّقا بالحقِّ ذهابا وإيابا، قاصدا نفع الخلق غدوًّا ورواحًا... القلبُ منه متعلِّق بالحقِّ لا يحيد، وهو يحمل همَّ الخلق بنبض لا يبيد.

أمَّا عن العمل الجاد، بشوق وعشق، فلا يمكن حصرُ أمثلته ومظاهره، ولا أدلَّ على ذلك، من أنَّ الواحد من مهاجري هذا الصرح العلميِّ، تجده لا يفرِّق بين ليل ونهار، ولا بين حرٍّ وقرٍّ، فهم يصلون أوقاتهم وأحوالهم بنبض العمل والاجتهاد، صابرين محتسبين، فلا تسمع من أحدهم "أفًّا" ولا "آهًا"، ولا "ليت" ولا "لو"... فلا ضجر، ولا اعتراض، وإنما هي الطمأنينة والهدوء، تغمرهم السعادة وهم يعرَقون، وتجمِّلهم المودَّة وهم ينصَبون.

أمَّا عن "السير وراء الدليل"، فهؤلاء يضربون للبشرية، لا للمسلمين الآخرين فقط، أروعَ مثال، وأنصع مقال... إذ هم لا يفتقدون هذا الدليل الخرِّيت، الذي يتبدَّى في الشخصية المعنوية للخدمة، يضبط سمفونيته قائد ومرشد كبير، هو الأستاذ فتح الله كولن... بتخطيط منه، وتوجيه، ومراجعة، وملاحظة... يتلقَّفون كلَّ ذلك بصدور رحبة، وسواعد غير مفلولة... منصاعون هيِّنون، منقادون ليِّنون... لكن ليس في نمطية قاتلة، ولا إذابةٍ للذات وللخصوصية، بلا وعيٍ... ذلك أنَّ منهج الأستاذ، أساسًا، يثور على "التقليد"، ويحارب "القوالب الجاهزة"، ويمقت "التنظيمات الهرمية الكلاسيكية"... دافعا إلى المبادرة، والخصوصية، والذاتية... ويكاد لا يخلو مقال أو كتاب للأستاذ من التأكيد على هذا المنحى السليم.

ولقد ضرب فتح الله أروع مثال للهجرة، بهجرته، هو، إلى أمريكا؛ ومع ذلك نمت مشاريع "الخدمة"، ولم تنقطع، رغم غيابه المكانيِّ المباشر؛ إذ إنه حاضرٌ بعقله وقلبه ووجدانه. فهذه الصورة، وهذه التجربة نادرة المثال في فنِّ القيادة والإدارة المعاصرة، مشرقًا ومغربًا؛ وهي جديرة بتسليط الضوء، والبحث الحثيث، لاستجلاء أسرارها، وكشف أبعادها. والحقُّ أنَّها تجربة قيادية مثالية، مستوحاة من سيرة نور الخلق محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ومن آثار صحابته الأفذاذ الكرام، عليهم أفضل الصلاة، وأزكى السلام.

وإنا لنعجب من تناغم جميع أفراد "الأكاديميا"، بلا أيِّ خلل، ولا أيِّ حقد أو حنق أو مَوجدةٍ، مما قد تشهده الجماعات العلمية النمطية؛ ذلك أنَّ القلوب لانت، قبل أن تنشُط العقول... ولقد ورد وصف هذا الفنِّ من فنون الهجرة، في كتاب "العصر والجيل"، في مقال بعنوان "الهجرة النبوية"، ومما جاء في مستهلِّه: "الهجرة رحلةٌ لغاية مقدَّسة ولهدف جليلٍ وكبير... ومثل هذه الهجرة ترمي إلى تحقيق مثل هذا الهدف بمدٍّ وتقوية من العقيدة والعاطفة والفكر، وتغذية وعون منه. وبمقدار درجة الإخلاص في هذه الهجرة وعمقها، تكون مساوية ومعادلة لسياحة الإنسان في السماء"[9].

الغايةُ المقدَّسة والهدف الجليل الكبير، والعقيدة والعاطفة والفكر، ثم درجة الإخلاص وعمقُه... هي عناوين أنشودة الهجرة في "الأكاديميا" خصوصا، والخدمة عموما.

ولو صدق العزم، وصفَا الفهم، لاجتهد روَّاد الأمَّة في غرس هذه المعاني الجليلة، وبذر تلكم القيم النبيلة، في جميع المؤسَّسات والتجمُّعات، وبالأخص في مؤسَّسات التربية والتعليم، بكلِّ مستوياتها، لكونها مشتلة الأمَّة، ومنبع حضارتها... وإلاَّ، فلو بقيت البرامج والمخطَّطات، آلاف السنين، تعالج الشكلَ، وتزيد في الرقم، وتحتفي بالعدد... تغيِّر المدير بالمدير، وتبدِّل الوزير بالوزير... ثم هي مع ذلك، تقدِّم الاعتبارات الجهوية، والمصلحية، والطائفية، على المقاييس العلمية والمعايير البحثية... لو بقيت برامجنا آلاف السنين على هذه الشاكلة، ولم تواجه الحقيقة كما هي.. أو حتى لو عمدت إلى استيراد نماذج غربية بحذافيرها؛ فإنَّ الفشل سيكون رأس مالها، والخيبة ستكون قدرها.

ومما يسجَّل بامتياز في "الأكاديميا"، أنَّ هذه الأبعاد السامية، وتلكم الدلالات الشامخة، لا تمارَس بأساليب خطابية، مدرسية، تلقينية... ولا تظهر في شكل لوائحَ، وبيانات، ومعلَّقات... لكنَّها تسري سريان الماء في الجذور، بشعار "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتمُّ نتاجه"[10]...

5-رهافة الحسِّ، والذوقُ الفني

تحت عنوان "الفنُّ، المفتاح السحريُّ للحضارة"، وضمن فصل "أسباب الرشد وموانعه"، من كتاب "البراديم كولن"، وردت هذه العبارة: "ولقد شهد شباب الخدمة، وتلاميذ الأستاذ، الملازمون له في خلواته وجلواته، أنه لم يدعُ إلى الجمال والفنِّ بقلمه وحبره فقط، بل عاشه في كلِّ نبرةٍ، ومع كلِّ زفرة، وعند كلِّ نظرة؛ حتى إنَّه غالبا ما أرهقهم برهافة حسِّه، وأورثهم شعورا متوتِّرا تجاه كلِّ كلمة ينطق بها، أو سكتة يسكتها، أو إيماءة يومئها...ولعلَّ هذا القدر الرفيع من الإحساس الفنيِّ والجماليِّ، ومن رهافة الحسِّ والذوق، هو من أبرز الأسباب التي ساهمت في تحويل أفكار الأستاذ إلى واقع، وصاغت مخطَّطاته ومشاريعَه بشكل يعجز القلم عن وصفه، مشاريعُ هي في روحها ربانية إيمانية، وفي ظاهرها فنية، ذات أجود المقاييس العالمية، فلا تعارض بين المخبر والمظهر، إنما هو التكامل والتعاضد والتوازن"[11].

كتِب هذا النصَّ قبل عامين تقريبا، ولم أكن أعرف أني سأكون يومًا ما منسوبًا إلى إحدى هذه المشاريع، بل إلى "الأكاديميا"؛ ثم لما التحقتُ بها، وعاينتها راصدًا من الداخل، ثم خبرتها متأمِّلا في العمق... بلا أيِّ حاجز أو حائل، ازدادتْ هذه الأوصاف التي سجلتها يومَها ثباتا وصدقا، ولم يتغير منها شيء... ومن عادة الأحكام أنها تكون "متفائلة إيجابية" في البداية، عند أوَّل لقاءٍ، ثم مع الاحتكاك والاختلاط بالمحكوم عليه، تظهر الكوامن، وتطفح النقائص، فتخفُّ سحنة "عين الرضى"[12]، وتقل حدَّة الإيجابية... ليحلَّ محلَّها بعضٌ من الأحكام السلبية المتشائمة، نسبيا على الأقل...

إلاَّ أنني، في حال الأكاديميا -وكذا في حال اللقاء بكلِّ "صادق صدوق"- لم أزدد يومًا بعد يوم، إلاَّ يقينا، وما ازدادت ملاحظاتي حول "الأكاديميا" إلاَّ تأكُّدا؛ لأنني مع نموذج شفَّاف، نابض بالحياة، يُظهر ما يخفي، ويخفي ما يظهر... لا ينمِّق ولا يزوِّق، ولا يصبغ الوجوه بالمساحيق، لأجل زيارة فلان أو علاَّن... نموذجٍ يعيش القضيَّة دوما، في كلِّ الظروف، برهافة حسٍّ، وذوق فنيٍّ رفيع... مخافةُ الله غايته ومنتهاه، لا "المكافآت"، و"حساب الرتبة"، أو الطمع في "أجرة زائدة"...

نعم، حسنُ "الأكاديميا" يُسبيك من موقعه الجغرافيِّ ابتداء، وهي قابع كالعريس على تلَّة من تلال "شَامْلجَا" الفيحاء، المطلَّة على مناظر كأنها لوحات فنّية، أو لقطات ذرِّية من جمال جنَّة الفردوس: يبدو البوسفور من بعيد، دونه تلال وسهول، خضراء ربيعا، بيضاء شتاء، وهي بين ذلك خريفا وصيفا.

وبناية "الأكاديميا" متلاحمة مع "مسجد عثمانيِّ الملامح"، وإلى جواره "إقامة للطلبة"... فالصروح الثلاثة منسَّقة في مخطَّط هندسي بديع، من تمام حسنه أنه مصبوغ بصبغة الجمال الذاتي العبِق بريح التاريخ، والمضمَّخ بالذات الحضارية للأمَّة؛ رغم أنه جمال "حضاريٌّ مدني" إلا أنه أصيلٌ غير مجلوب، خلافا لما أنشد المتنبي:

حسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية
وفي البداوة حسن غيرُ مجلوب

التجاور والمجاورة بين هذه المؤسَّسات الثلاثة[13] ليس اعتباطا، ولا هو محضُ صدفة؛ وإنما تذكِّركَ أنَّ الواحدة منها امتدادٌ للأخرى، فلا فصل ولا انفصال، بل تعانقٌ ووصال... لكأنَّ "التربية، والصلاة، والبحث العلميَّ" أركان لزهرة واحدة، هي زهرة "لالي، أو "التوليب"، رمز الأحدية والعشق الإلهي.

كم من مركزٍ للبحث، وكم من جامعة، أسِّست من منظورِ أيديولوجيات زائفة، وفهومٍ سقيمة حائفة، معتبرة مجاوَرة المسجد، أو إيواء مسجدٍ محترم، هو من قبيل التنقيص والمنقصة للبحث العلميِّ، وهو من نوع التنكُّر لحيادية العلم! وقُل مثل ذلك عن مساجد كبرى، أقصت البحث العلميَّ مِن حرمها، إلاَّ أن تكون معاهد "دينية" بالمعنى الضيِّق للدين... وآفةُ الكلِّ من الانفصام المقيت، والتفسُّخ المميت.

أمَّا داخل الأكاديميا، فتتوزَّع قاعاتٌ للباحثين، ومكتبة، وقاعات للبحث الجماعيِّ والمطالعة الموجَّهة، وأخرى للمحاضرات والمناسبات واستقبال الضيوف... وقاعة كبرى للصلاة، تعلو العمارة تاجًا على رأسها... كذا، مطعمٌ، ومؤسَّسة محترفة لخدمات الشاي والقهوة، وتوابعهما... للضيوف الزائرين، وللباحثين المقيمين.

كلُّ شيء داخل "الأكاديميا" في مكانه، منسَّق ومرتَّب بأدب ورهافة، لوحةً فنية عجيبة، وصورة ذوقية خلاَّبة؛ لا تلحظ اضطرابا، ولا وسخا، ولا تجاوزا للحد، ولا تصرفات انتهازية...

الصور الجميلة لإصدارات "مجموعة قَيْنَق"، بعشرات اللغات العالمية، واللوحات الزيتية الأصيلة الأصلية، من صلب التراث الإسلامي الثر... وغيرها من مظاهر الجمال والجلال... تُغريك، وتحضنك، وتذكِّرك أنَّ ديننا الحنيف يفوق كلَّ وصف، ويتحدى كلَّ تهمة، من الأوصاف والتهم التي تكال له ظلما وجورا... فالخلل إنما يسري إلى الأمَّة من جهتنا نحن، أي من جهة الأتباع، وذلك حين ينحرف فيهم جانب على حساب آخر... وحين يخطئون التقدير، ويسيئون التدبير...

لو أنَّ إدارة "الأكاديميا" تعاملت مع فكر الأستاذ بالأسلوب المعتاد، لنقلت نصوصا عن الفنِّ ورهافة الحسِّ، من أدبياته؛ ولجمَّلتها ونسَّقتْها وزيَّنتْ بها الجدران... غير أنَّ رجالها لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما نقشوا معاني فكر الأستاذ على سفوح قلوبهم الخصبة، فتحوَّلوا هُم، بكلِّ خصائصهم وتصرُّفاتهم، وحركاتهم وسكناتهم، وكلماتهم وعباراتهم... تحوَّلوا إلى عناوين لذلك الفكر النيّر، فالتقى الفكر بالفعل، وأثمر ربيعُ العلم النافع ثمراتٍ من العمل الصالح الطيب... ذلك أنَّ جمالية الخلق، وفنَّ القلب، يسموان على كلِّ جمال وفنٍّ، مهما كان مظهرُه وشكله ومؤدَّاه...

ومن تلكم العبارات التي لا يخطئها الفؤاد في تراث الأستاذ، وهو يزَع الناس وزعا إلى الذوق الجماليِّ ورهافة الحس، نقرأ قوله تمثيلا لا حصرًا:

"• الفنُّ من أهمِّ الطرق المؤدِّية إلى سمو الروح والمشاعر.

• الفنُّ مثل مفتاح سحريٍّ، يفتح الكنوز السرية المكتشفة؛ فوراء الأبواب التي يفتحها تكتسي الأفكار صورها، وتكتسب الخيالات أجسامها.

• يُظهر العلم الحقيق نفسه بالفنِّ..."[14].

ألا نلاحظ أنَّ العلاقة وثيقة متنية بين "الفنِّ"، و"سمو الروح والمشاعر"، و"الأفكار"، و"الخيالات"، و"العلم"... هذه العلاقة ليست لمجرَّد التبجُّح النظريِّ، أو التزويق الأدبيّ، وإنما هي واضحة وضوح الشمس في ذهن فتح الله، وهي علاقة قد لا تكون مكتملة في الواقع، من خلال "الأكاديميا" الحالية، وإنما الأمر "في بدايات الطريق"، وفي "مرحلة الجذور"، أي بتعبير القائمين على "الأكاديميا": "نحن لم نستطع أن نحقق جزء من مليون جزء من أحلام الأستاذ"... يقول أحدهم.

وما من ريب، أنّه بعد الجذور تأتي السيقان، ثم الأغصان والأوراق، ثم الثمر اليانعة الطيبة... ويومها يحلُّ الربيع، وتشرق على العالم شمس من شموس الإسلام الخالص؛ ذلك أنَّ محاسن هذا الفكر، ومباهج هذه "الجماعة العلمية"، ومفاتن هذه "الأكاديميا"... إنما هي، بتعبير الأستاذ، من محاسن الإسلام، ومباهجه، ومفاتنه... لا من ذات الأفكار والمؤسَّسات والمشاريع... وحاشا أن تنسب الأسباب الذاتية، والنتائج المرضية، إلى البشر، مهما بلغوا، ومهما سَمَوا...

من أبرز إشارات "نكران الذات، والمدد الرباني" تيقُّننا أنَّنا "كنا تائهين ضائعين مشرَّدين هنا وهناك، فأدركَنا الله برحمته وأبلغنا بفضله وكرمه مواطنَ من الخير والعطاء يتعذر أن نصل إليها بحولنا وقوتنا" بل "ينبغي أن نقنع أنفسنا أنه ليس لنا يدٌ في حصول هذا الخير العميم. فالنجاح كلُّ النجاح لطفٌ من الله وفضل من لدنه وإحسان. فإذا آمنّا بذلك فقد جنّبنا أنفسَنا شوائبَ الشرك، وأنجيناها من الأوهام التي تظل النفسُ تَضُخّها في دواخلنا لكي تضخِّم أنانيتنا. بل يحسن أن نقول: "في الحقيقة، لو لم أُقحِمْ نفسي في هذا الأمر، لوجد له رجالا خيرا مني في إخلاصهم وصدق تمثيلهم، ولقطعت القافلةُ مسافات واسعة أضعافَ ما قطعتْه حتى اليوم"[15].

صباح كلِّ خميس، يلتئم الجمع، في حصَّة خاصة، بُرمجت بعد أسابيع من التحاقي بالأكاديميا، وكان الغرض منها هو "المساعدة وتوفير الجو المناسب للتأليف"، كذا "المطالعة الجماعية لما كتبتُ بحر ذلك الأسبوع"، بغية نقده، والملاحظة عليه، واقتراح نصوص جديدة، أو ترجمة نصوص، في الموضوع الذي أشتغل فيه.

ولقد كان الاستماع الجيد من الإخوة، لما أكتبُ، مع قلَّة بضاعتي، وكثرة زلاتي... كان هذا الاستماعُ بمثابة "مرآة" يقيس عليها الكاتب حقيقةَ ما كتب، وهنا انتقلتُ بالذاكرة إلى عشرين عاما خلت، يوم كنتُ طالبا في الجامعة، وباحثا في جمعية التراث، ملازما لأستاذي الأديب الدكتور محمد ناصر، حفظه الله؛ ولقد حظيت حينها بالسَّكن إلى جوار بيته، بل في غرفة تابعةٍ لمسكنه؛ فكان الدكتور كلَّما كتب قصيدة أو مقالا طلبني إلى مكتبه، أو نزل إلى غرفتي، فقال: "سأقرأ عليك ما خربشتُ، راجيا ملاحظاتك"؛ وما يكون مني إلا أن أستمع إليه، ولا شيء عندي أضيفه، وإنما أنتشي وأجد فيَّ ثقة، مقتنعا أني لا أزال طالب علم مبتدئ، ولن أزال...

اليوم، وأنا أطالع ما "أخربش" على الأساتذة في الأكاديميا، بتُّ أعرف لماذا يحتاج الدكتور إلى سامع، حتى ولو كان ذلك السامعُ دون المستوى المطلوب، مثلي.! فما بالك لو كان المستمع من "أرباب المستوى"، كحال فريق "الموسوعة الكونية"، في الأكاديميا؟!

ولقد تكرَّرت عبارة من الأستاذ نوزاد صواش، وهي قوله: "أنا مستمع جيد"، وهذا لا يعني أنه لا يلاحظ، ولا يقترح، ولا ينقد... وإنما هي الخلال الحسنة، والسجية الطيبة، والانسيابية المتّزنة، تضبط إيقاع الأعزة.

فحين قرأت العناوين الأولى من "فصول ذاتية موضوعية"، على الإخوة، وجدتهم يسألون: "عن أي أكاديميا تتحدث؟!"، ويقول البعض منهم: "لو أنَّ ما كتبت جاء مع "الأكاديميا" الجديدة".. حتى إنَّ منهم من سأل: "وهل لدينا أكاديميا؟! هذا مجرد مركز صغير، لا يمثِّل شرو نقير مما يخطط له الأستاذ، وما يأمله الكبار من أعضاء الخدمة؟!".

غير أني، مع ذلك، أجد أن لا فرق بين "الأكاديميا" في حالها اليوم، و"الأكاديميا" التي شُرع في تشييدها، وهي في مساحتها تعد بعشرات الآلاف من المترات المربَّعة، وتحوي مباني ومرافق يفوق وصفها الخيال؛ ولقد شاء الله تعالى أن أشاهد شريطا يعرض المجسَّم في أبعاده الثلاثة، ثم قدَّر الله أن أزورها مع وفد من الضيوف، وهي ورشة في معمعة نشاطها؛ ولا يملك العقل إلاَّ أن يبهت بالمشروع، واللسانُ إلا أن يلهج بالدعاء، والقلبُ إلا أن يخفق على وقعه راجيا مؤمِّلا، مستبشرا مهللا.

لا فرق، لأنني لا أصف الحجم، ولا البناية، ولا الضخامة، ولا الكثرة... ولكني أحرص على تشريح "الغاية"، و"الروح"، و"الخلق"، و"المعنى"، و"الرسالة"،... أي أنَّ هذه القيم هي قلب "الأكاديميا"، سواء في مرحلتها هذه، أم في مرحلتها الثانية، أو الثالثة... متيقّنا أنَّ الأستاذ فتح الله يوم يكتب الله تمام "الأكاديميا" الجديدة، سينظر إليها على أنها أقلُّ بكثير من المرجوِّ، وأصغر من أن تحمل الهمَّ لوحدها، وسيدعو إلى غيرها... وغيرها... في نهم لا يعرف الشبع، وهمة لا تعرف النهاية.

ولذا، وجدتُ من المناسب محاولة عرض الأكاديميا، كما يراها الأستاذ فتح الله،[16] في وظيفتها، والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، والمنتظر منها معرفيا وحضاريا؛ وذلك من خلال بعض النصوص، المنشورة في جملة من مؤلَّفاته، بالخصوص "نظرية التطور"، و"نحن نبني حضارتنا".. إذ الأوَّل كتبه في الثلاثينيات من عمره، والثاني من آخر ما نشر له بالعربية؛ الصورة هي ذات الصورة، لم تتغير ولم تتبدل، بل لم تجد طريقها إلى الواقع بعد.

ففي هذه الأسطر، إذن، سأعرض نصوصا غير مباشرة، كأنَّ الأستاذ من خلالها يرسم خلفية "قلمية" للَّوحَة المتوخَّاة والمتخيلة، ويأتي بعدها تمام الألوان والتفاصيل والجزئيات، ولا يكون ذلك إلاَّ في أوانه؛ فكم من مشروع كتمه الأستاذ، متيقِّنا أنه لم يحنْ أوانه بعدُ، ثم أفصح عنه بعد أمد.

مراكز البحث، وجدلية "الدين، والعلم، والأيديولوجيا"

ضمن كتاب "فتح الله كولن، جذوره الفكرية، واستشرافاته الحضارية"، للأستاذ أنس أَرْكَنَه، المتخصِّص في مشروع "الخدمة"، وتحت عنوان "الدين والعلم والأيديولوجيا"، نقرأ جملة من النصوص الهامَّة والمرجعية، حول "صورة العلم" عند فتح الله، وعلاقته بالأيديولوجيا من جهة، وبالدين من جهة أخرى، ومن خلال هذه النصوص يمكننا استجلاء بعض معالم "الأكاديميا" أو "مراكز البحوث" كما يتصوَّرها الأستاذ ويتخيلها.

يقول فتح الله: "والآن تخيَّلوا مركزًا للعلم -الذي هو في الحقيقة مكانٌ مباركٌ مثل المعبد- إذا ارتبط بشكل أو بآخر بتيار فلسفيٍّ معيَّن، أصبح أسيرًا له. وبالتالي فإنَّ هذا العلم لم يعُد حرًّا بل أسيرًا في قبضة فكرٍ متعصِّب. عند ذلك يكون هذا العلم ملعونًا أكثر من أيِّ جهل أو جاهلية. وإذا أريد من أيِّ دين أن يكون وسيلةً سياسية أو غير سياسية لمنفعة حزب ما، انقلب معبد ذلك الدين إلى مِلْكية ومكان صغير لذلك الحزب، وتكون العبادة فيه نوعًا من مراسيم التشريفات. عند ذلك تكون السمة الربانية لذلك الدين والديانة قد جُني عليها تمامًا.. أجل، إن كان البعض يدَّعي تبنِّي العلم في مجتمع ما، ويستعمل دُور العلم أداة لرغباته وأهوائه، وواجهة لأيديولوجياته، فإنَّ تلك الدور تخرج عن كونها أماكن مباركة كالمعابد، وتتحوَّل إلى ميادين للرغبات والأهواء الجامحة ولمشاعر العداء والخصام..."[17].

فالملاحظ أنَّ الأستاذ دفع العقول إلى "تخيُّل" مركز للعلم، وضع له أسسه ومبادئه، وشرَّح خصائصه وأبعاده، ثم بيَّن أوجه الانحراف التي يمكن أن تطاله، فهو بالتالي:

• مكان مباركٌ مثل المعبد.

• العلم فيه حرٌّ غير أسير لفكر متعصِّب، أو لأغراض حزبية.

• سمته وروحه هي "الربّانية".

• متحرُّر عن سجن الرغبات والأهواء.

• لا يخضع لأيِّ أيديولوجية، مهما كانت.

• لا يحمل مشاعر العداء والخصام.

وإذا سألنا عن السبب الذي يجعل الناس يحوِّلون العلم أو الدين إلى أيديولوجية، وبالتالي يوظِّفون مثل هذه المراكز لخدمة أغراضهم الأيديولوجية الشنيعة، يكون الجواب -كما يقول الأستاذ أنَس أَرْكَنَه- أنَّ فتح الله كولن يرى "أنَّ تحويل العلم والدين إلى أيديولوجية، هو نتيجة لضعفٍ بشريٍّ. ويقول بأنَّ بعضهم يقومون بهذا، لكي يستروا ضعفهم البشريَّ أو يسدُّوا الثغرات الضعيفة فيهم. واستعمالُ الدين والعلم في عملية السدِّ أو الحشو، يتعارض مع سموِّ العلم والدين. ويرى فتح الله كولن أنَّ السبيل الوحيد في الخلاص من هذا الضعف هو الالتزام بعشق الإله وعشق الحقيقة، وباحترام العلم. ولم تذق البشرية مثل هذا العشق إلاَّ عن طريق الأنبياء والمرسلين"[18].

فالسبب إذن هو: الضعف البشريُّ، ومحاولة تغطية هذا الضعف زورًا. أمَّا الخلاص والمخرج الوحيد فيكمن في "عشق الإله، وعشق الحقيقة"؛ ومن ثمَّ فإنَّ مركزنا، وأكاديميتنا، تتخذ هذا المعنى شعارا لها، وأساسا لحركيتها، وباعثا لوجودها، وحدًّا فاصلا بين صوابها وخطئها، وغايةَ مُناها، ومنتهى آمالها... إنه "عشق الإله، وعشق الحقيقة".

وإنا لنسأل اليوم عن مراكز البحث عبر العالم، وعن الجامعات، وعن المدارس... وعن كلِّ تجمع أو جماعة بشرية حول "العلم"، هل حقيقتها وشرعيتها مستمدة من "عشق الإله، وعشق الحقيقة"، أم هي مستلة من أغراض وغايات أخرى؟

وإنا لنبحث عن مثل هذا النوع من المؤسَّسات والتجمُّعات، المتعلِّقة بالله وبالحقيقة، عشقا وشوقا، جهادا واجتهادا، فلا نجده إلاَّ في "الأذهان"، و"التخيُّلات"، و"التصورات"، و"التنظيرات"... إلاَّ ما شذَّ، وهو نادر ندرة اليورانيوم، أو الذهب الإبريز، ومع افتراض وجوده لا يزال غير مؤثر، وبالتالي لا يمثِّل التوجه العام، ولا النزعة الغالبة؛ وإنما هو "شاذ"، يحفظ، طبعا، ولكن لا يقاس عليه، ولا يعطى أيُّ حكم على العموم من خلاله.

وفتح الله يعرف هذا، ويدفع الناس إلى التفكير فيه بلا توان، ولا تهاون.

وينتقد فتح الله الفلسفة الوضعية، التي "أبعدت الدينَ -ومنذ قرون عدة- عن قيمه العليا" ومن ثم فإنَّ "فتح الله كولن يحاول توسيع إطار العلم من جديد، وإدخال العشق فيه وفتح مساحة ميتافيزيقية له"[19].

فالمراكز المنشودة، لا تخضع للرؤية الكونية المادية الوضعية، التي فصلت العلم عن القيم، وتنكَّرت للعشق وللماوراء؛ وإنما تتخذ هدفا لها "فتحَ مساحة للميتافيزيقا"، ولقد أبدع كارل بوبر، حين بيَّن أنَّ "العلم الوضعيَّ" لا يستطيع أن يقول شيئا عن "الميتافيزيقا"، وقد فصل ذلك في كتابه "منطق الكشف العلمي"؛ لكنه، لم يصل بالضرورة إلى ذات النتيجة التي وصل إليها فتح الله.

وما أروع استنتاج أنَس أَرْكَنَه في هذا الشأن، حين قال: "لقد وُضعَت -منذ الماضي- مفاهيم عديدة -مثل الحبِّ والمحبَّة- خارج ساحة البحوث العلمية. وعندما وَضع فتح الله كولن هذه المفاهيم الميتافيزيقية والتصوّفية في هذه الساحة من جديد، إنما أعاد الإشارة إلى النظرة "الكوسمولوجية" (Cosmologist)، (علم الكونيات) القديمة التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون. والنظرةُ الكوسمولوجية القديمة كانت تقيم علاقة عليا دائمة بين الإنسان والكون والله. ولكن عند ولادة العلوم الحديثة أُهملت هذه النظرة، حيث غرقت العلوم في خضمِّ المادة، وأصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أُحادي. ويصف فتح الله كولن هذا العمى بأنه انحراف واستيحاش"[20].

أمَّا عن مصادر المعرفة، كما تسمَّى في "نظرية المعرفة"؛ فهي، حسب نظرة المفكرين المسلمين، على مرِّ العصور، ثلاثة:

1. الحواس السليمة (أي الأمور التي تدخل في نطاق الحواس)

2. العقل.

3. الوحي، بشقَّيه: القرآن الكريم، والسنة الشريفة.

ولقد انحرف الفكر الوضعي عندما "عَدّ المصدرين: الأول والثاني أساسًا للعلم، وأهمل الوحي وعدَّه خارج نطاق العلم. ثم أنتج هذا الموقفُ تيارين قويّين في الفكر العلماني الغربي هما: "الوضعية" (Positivism)، و"العقلانية" (Rationalism)"..

ويؤكِّد فتح الله، على غرار العلماء المسلمين الآخرين، على العلاقة الوطيدة بين المصادر الثلاثة؛ ولكنه عندما يشرح هذه المصادر الثلاثة يقف أيضًا عند عناصر فرعية لها.

ومن ثم، فإنَّ هذا المركز أو "الأكاديميا"، يجب عليها أن تعتمد مصادر المعرفة كلِّها، بلا إقصاء، ولا تعصُّب، ولا اجتثات، ولا بتر... وكذا عليها أن تنظر إلى تفريعات هذه العناصر بعين التدقيق والتحقيق، ولا تهمل أيَّ تفصيل مهما بدا صغيرا؛ لأنَّ الاختلاف في المصدر مشوِّه للمورد، لا محالة.

وهل مراكز البحث مقتصرة على "النخبة"؟ وبتعبير آخر: هل للجمهور والمجتمع حظٌّ في هذه العملية، أم لا؟ وهل ذلك مقتصر على الجانب النظريِّ، أم يتجاوزه إلى العمل والفعل والحركية؟

يجيب فتح الله: "لا بدَّ أيضا من نشر هذا العلم المأخوذ عن طريق هذه المصادر بين المجتمع وتطبيقِه في الحياة العملية، وتنظيمه في الحياة اليومية، من انتشار حبِّ العلم والشوق لتحصيله عند الجماهير"[21].

وعن العلاقة بين مراكز البحث والجامعات، يؤكِّد فتح الله "على أهمية مراكز البحوث العلمية وعلى ضرورة وجود أعداد كافية منها إلى جانب الجامعات. وفي حالة غياب هذه المراكز البحثية ستقوم الجامعات بإنتاج أفكار نمطية. ومع الأسف فإنَّ جامعاتنا أنتجت -لمدة طويلة- أفكارًا نمطية بدلا من العلم. وهذه الأفكار النمطية تقتل العلم والبحوث العلمية"[22].

ففتح الله دوما يمقت "النمطية"، ويدعو إلى "الحرية"، في إطار من القيم والضوابط القيمية، والنمطيةُ جريمةٌ في جميع مجالات الحياة: هي جريمة على الدين، وعلى العلم، وعلى الأخلاق... إنها الحالقة؛ ويكاد النص أعلاه يرتجُّ من "الأسف" الذي أطلقه فتح الله من أنَّ جامعاتنا، لغياب مثل هذه المراكز المنشودة، صارت "نمطية"، ومن ثم "قتلت العلم والبحوث العلمية".

فالمراكز ليست فقط مطلوبة لذاتها إذن، وإنما هي ضرورية: للمجتمع، وللجامعة، وللدين... بل، وحتى للفرد، الذي حمَّله فتح الله "عينيا" وجوبَ التفكير في المراكز، أو ما سماه "المعابد"، "لذا كان من الضروريِّ أن يكون هدف الحصول على العلم والقيام بالبحث العلمي غاية كلِّ شخص في المجتمع، فإن لم يتحقق هذا انتشرت الأنانية في المجتمع"[23].

على ضوء "الموازين"

"الموازين" حِكم مركَّزة، دوَّنها فتح الله قبل الثلاثين من عمره، وحين صدور مجلة "الرشحة" (Sızıntı-1979) راح ينقلها من دفاتره، وينشرها واحدة واحدة، ثم جمعت في كتاب يدلُّ اسمه على حقيقته أيما دلالة؛ ولقد وصف البعض الموازين بأنَّه "بذور فكر الأستاذ" وباقي أعماله هي الأشجار، والأثمار، والجِنان... أمَّا آخرون فوصفوه بأنَّه "فهرست" أعماله، فكلُّ عنوان في الموازين تجد له -بعد ذلك- تفصيلا وتوسيعا، وشرحا وبسطا، في غيره.

ولا يتخلف هذا الحكم في موضوع "الأكاديميا" ومراكز البحث، كما تصوَّرها الأستاذ، وإن كنَّا نأمل في أعمال أخرى أن تحلَّل "صورةُ العلم" في فكر فتح الله تحليلا إبستمولوجيا؛ لأنَّ لها علاقة وطيدة بصورة مراكز العلم عنده، ولذا نكتفي في هذه الفقرات بما به الحاجة، سائلين الله تيسير السبل لما هو أوسع وأعمق، ولعلَّ مشروع "نموذج المنطاد" يكون هو الحاضن لهذا التحليل المأمول.

فعن العلوم الوضعية، لا يتخذ الأستاذ موقفا راديكاليا منها، أي القبول التام أو الرفض المطلق؛ وإنما يقبلها ويدعو إلى الاهتمام بما فيها من حقٍّ وخير، وهو كثير؛ كما ينبِّه إلى ما تحمل من باطل وشرٍّ، وهو كذلك كثير؛ فيقول: "الابتعاد عن العلوم الوضعية بحجَّة أنها تؤدِّي إلى الإلحاد تصرُّفٌ صبيانيٌّ. أمَّا النظر إليها وكأنها تعادي الدين وأنها وسيلة للإلحاد وطريق إليه فهو حكم مسبق وجهل مطبق"[24].

فالأكاديميا، إذن، يجب أن تحوي جانبا بارزا من العلوم الوضعية، وأن لا تهملها مهما كانت المبرِّرات، ولعلَّ هذا الإهمال قد أصاب المسلمين أوان عدائهم للعلوم الوضعية، بلا تريث ولا تثبت، ولا أثرة من علم وحكمة.

ويقول من جهة أخرى: "رَدُّ جميع العلوم الوضعية والادِّعاء بأنها بأجمعها لا تساوي شيئًا أنموذجٌ للجهل وللتعصُّب. أمَّا ردُّ كلِّ شيء خارج هذه العلوم فسذاجة وتعصُّب أحمق. أمَّا الإدراك بأنَّ كلَّ معرفة جديدة تأتي بأكوام من المجاهيل والأسئلة فهو الإدراك اللائق بالتفكير العلميِّ الصحيح"[25].

نعم، لا تردُّ العلوم الوضعية على علاَّتها، لكن كذلك، لا يجوز الانسياق مع الاتجاه الوضعيِّ الرافض لكلِّ ما هو خارج إطارها، ويقصد بهذا: الوحيَ، والميتافيزيقا، وكلِّ ما لا يثبت بالحسِّ والعقل.

فمراكز البحث المرومة، تتبنّى إدراكا لائقا بالتفكير العلميِّ الصحيح، حين تتخذ المعرفة الجديدة سُلَّما لأسئلة جديدة، وحقول جديدة، ومجاهيل جديدة... في حركة دائمة دائبة، وعقول سائلة مستشكلة، وقلوب متقبِّلة متواضعة... بهذا فقط ترتسم معالم "الأكاديميا" الجديدة. فهي لا تؤسَّس لتقول "القول الأخير"، أو لتصوغ "القول الفصل"؛ وإنما تمامها هو بدايةٌ لغيرها، وبدايتها بداية لبدايات لا حصر لها...

ولو أنَّا سألنا عن الهدف من العلم، من خلال "الأكاديميا" المنشودة، فإنَّ فتح الله يجيب: "العلوم مفيدةٌ لنا بدرجة قيامها بتأمين سعادتنا والارتفاع بنا إلى المستوى الإنساني اللائق. أمَّا إن أصبحت العلوم والتكنولوجيا الكابوسَ المرعب لبني الإنسان، فليست إلاّ شيطانًا رجيمًا تقطع علينا أمامنا الطريق"[26].

فالهدف، بهذا، يكون سعادة الإنسان، وكرامة الإنسان؛ لا أن تكون هذه المراكز معاول لهدم كلِّ ما هو إنسانيٌّ، أو أشباحا ترعبُ بني الإنسان؛ فإنها إن تحولت إلى هذه الحال حقَّ لنا أن نلقب أصحابها بلقب "الشياطين" لا "العلماء".

ولا يترك فتح الله الفرصة تفُوته، لينبِّه مرَّة أخرى إلى العلاقة بين العلم والدين، ولكنه هذه المرَّة يستشهد من مقولة لعالم العصر "أنشتين"، فيقول: "لقد قال عالم العصر للماديين القصيري النظر الذين حاولوا تأليه العلم في بداية عصرنا الحالي: "العلم دون دين أعمى، والدين دون علم أعرج". وهكذا انتقد هذا العالم الهذيان المرعب الذي ساد عصرًا كاملاً انتقادًا لطيفًا. ولا أدري ماذا كان سيقول لو شاهد من هو أعمى وأعرج في الوقت نفسه من بعض معاصرينا الحاليين"[27].

وفتح الله يحذِّرنا من "نظريات الفوضى"، ومن "ما بعد الحداثة"، ويدقُّ ناقوس الخطر ليوقظنا من سباتنا، ويهزَّنا لمواجهة خطر جارف، متمثِّل في "اللاّمعْيار"، و"اللاّقيمة"، والعداء لكلِّ "ثابت"، ولجميع "القيم"، ومن ثمة العداء للدين وللعلم على السواء.

ويتعرض فتح الله حتى للتفاصيل، في العلاقة مع التخصص، وضرورة الاهتمام بما "يفيد الفرد والمجتمع"، وعدم الإغراق فيما لا طائل منه، أو فيما هو من قبيل الترف الفكري، وفي هذا يقول: "للعلم وللعلوم الوضعية والتجريبية فروع مختلفة، ولكلِّ فرع فوائده. ومع أنَّ جميع هذه الفروع مفيدةٌ، إلاَّ أن عمرَ الإنسان قصير وقابلياته محدودة، لذا يستحيل عليه الإحاطة بجميع فروع هذه العلوم. لذا كان على كلِّ فرد تعلُّم ما يفيده ويفيد أمَّته، ولا يضيع عمره في ساحات أخرى غير ساحته"[28].

لكن، التخصُّص مفيد وضروريٌّ ما لم يتحوَّل إلى سجن للفهم والمنهج، يقول فتح الله: "مع أنَّ تصنيف العلوم ودرجها في الكتب شيءٌ مفيد من زاوية حفظها واستعادتها عند الحاجة؛ إلاَّ أنَّ هذا قد يصيب بالشلل ملكة الاستنباط والاستلهام لدى الإنسان"[29]. ولا مناص من إبقاء ملكة الاستنباط والاستلهام متَّقدة، هذا الاتقاد الذي يسمِّيه المسيري: "العقل التوليدي"، أمَّا موت هذا العقل، المعبَّر عنه بـ"العقل الموضوعي الفوتوغرافي المتلقي"، فهو كارثة وسرطان للعلوم وللمعارف، ولا شكَّ.

ثم إنَّ من أساليب التغلُّب على قِصر العمر ومحدودية الإنسان، مقابلَ سعة العلم وتشعُّبه، اعتماد أسلوب "الجماعات العلمية"، و"العمل الجماعي"، وتقسيم "الهمِّ المعرفي"، وطرح أسئلة "الأزمة المعرفية"، والعمل بإيقاع منتظم، لا كلٌّ على حده، وإلاَّ فأن "تكون عالما، يعني أن تكون ضمن مجموعٍ علميٍّ" كما يقول ميشال دوبوا.

ومن عادة فتح الله أن يثور على الرداءة، وعلى الدونية، وعلى التقليد، ويذكِّر بذلك مرارا، في مقالات كثيرة، وهو هنا، يتأسَّف أنه "لا يظهرُ اليوم عندنا مكتشفون ولا مخترعون... بل يظهر المقلِّدون"[30]. ثم يعلنها صريحة: "نحتاج إلى نفسيَّة متمرِّدة تقوم بتغيير كلِّ شيء تقريبًا. يجب أن يتغير كلُّ شيء: الكتاب... المدرسة... ومن أجل هذا التغيير فإنَّ البداية بالنقد هي الأساس"[31].

فمراكز البحث العلميِّ، هي حلقة في سلسلةٍ، وليست جزيرة في بحرٍ؛ ذلك أنه ما لم تتغير النفسيَّة، وما لم يهجر الناس التقليدَ، في كلِّ دوائر الحياة؛ فإنَّ هذه المراكز، ستكون على صبغة تلك النفوس، وتكون ظلاًّ لتلك المؤسَّسات، وبخاصَّة المدرسة، التي تُعتبر فسيل الجامعات، ومشتلة المراكز؛ ولعلَّ هذا مما يفسِّر اهتمام "الخدمة" بالمدارس ابتداءً، مع التركيز على جودتها، وعلى التفوُّق فيها... ثم الانتقال منها إلى الجامعات؛ و"الخدمة" هي في بدايات الطريق فيها؛ وستكون مراكز البحث، بحول الله، هي المرحلة الثالثة المقبلة؛ أمَّا العمل اليومَ فينصبُّ على البذر، لا على الحرث، والقطف...

ولقد تعرضنا في عنوان سابق إلى العلاقة بين "الخلُق الحسن" وسير الأكاديميا، وها فتح الله يؤكِّد ذلك بقوله: "عندما يتَّحد العلم مع الخلق اللين يصل إلى أعماق كبيرة"[32]. وفحوى قوله إنَّه إذا انفصلا، بقي العلم يسبح في السطوح، ويلامس الشكل، ولا يلج إلى الحقائق والأغوار والمعاني؛ والحال أنَّ هذه الملاحظة تحتاج إلى اهتمام خاصٍّ من قِبل القائمين على مؤسَّسات الأمَّة كلِّها، وما أجمل قول الشاعر، وما أصدقه، حين ربط بين بقاء الأمَّة وخلقِها، فوجودها بوجوده، وفناؤها حين فنائه:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ومرَّة تلو مرَّة، يربط فتح الله بين العلم والعمل، بين الفكر والحركية، في أكثر من مقال، وفي أكثر من مؤلَّف، وهنا أيضا في مقام العلم، وفي مقام التنظير للأكاديميا، يقول: "إن لم يستند العلم إلى العمل فمصيره الذبول"[33]. فلا بدَّ إذن من إسناد كلِّ علم، وكلِّ بحث، وكلِّ مشروع... في مراكز البحث، بمقصد "النافعية"، والثمرةِ الطيبة، والعمل الصالح؛ وإلاَّ ذبل ذلك العلم نفسه، وشحُبت على إثره مرافق المجتمع الحيوية كلِّها.

العناصر الأربعة

في سياق مختلف، حين كان الأستاذ فتح الله يخطُّ المعالم الكبرى لبناء الحضارة، ويعلن بصراحة أنه يضع العلامات في الطريق، لكن ليس لوحده، وإنما مع ثلة من خيرة أبناء الأمّة، علما وعملا... يوظِّف دلالة عميقة جدا، للتعبير عن هذه الحقيقة البارزة: "ونحن نبني حضارتنا". في هذا السياق لا يغيب معنى "العلم"، ولا "البحث العلمي" طرفة عين عن دائرة الاهتمام، ولا عن سلسلة الأسباب المباشرة.

يقول فتح الله: "إذن علينا أن نبحث عمَّا نأمله لغدنا، في نقطةٍ تتلاقى فيها: البيئة الصالحة، وعشقُ العلم، وعزمُ العمل، والبحث المنهجيُّ"[34]، ومعنى هذه العبارة المركَّزة، هو أنه "إذا ما أثارت البيئةُ الصالحة العشقَ العلميَّ وألهبت العزائمَ على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحسَّاسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوِّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معيَّنة. وبعد ذلك، تعمل "الدائرة الصالحة"؛ للارتقاء بإلهاماتٍ وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة.. تعقبها -باستمرار واطّرادٍ- الجهودُ الفكرية والنُّظُم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقةُ مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية"[35].

هل مراكز البحث هي وليدة "بيئة صالحة"، فتكون هي النتيجة؟

أم هي سبب وبيئة صالحة لميلاد العلماء، وازدهار العلم، فتكون سببا لنتيجة أخرى؟

الحقُّ أنَّ الأمرين كليهما صادقٌ؛ فمراكز البحث، في المستوى الكلِّي، ثمرةٌ للبيئة الصالحة والمحيط الخصب؛ وأمَّا في مستوى النهضة العلمية، فهي منطلق وأساس وبذرة للعلم وللبحث العلميِّ؛ ومن ثمَّ وجب السعي الحثيث لإنشائها على أصول ثابتة متينة؛ ولزم الاجتهاد في اتخاذها محاضن للفكر النيِّر، والتخطيطِ الحكيم، والتغيير المتَّزن.

فالعناصر الأربعة التي يقوم عليها تأسيس أيِّ مشروع علميٍّ، أو مركز بحثيٍّ، هي أربعة؛ إذا توفَّرت أثمرت، وإذا افتُقدت أضمرت، وهي:

• البيئة الصالحة

• عشق العلم

• عزم العمل

• البحث المنهجي

أمَّا عن البيئة الصالحة، فيعلن فتح الله أنَّها أساس كلِّ تطور، وروحُ كلِّ بحث، ويقيس ما كان عليه علماء الإسلام قبل قرون، بما صار عليه علماء الغرب أوان نهضتهم، ثم يقول: "وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلاميِّ من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خيرَ استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ"[36].

ولقد حذَّر فتح الله من اختزال النهضة في أسماء قليلة، مثل أن يقال "عصر ابن خلدون"، أو "عهد كانط"، مثلا؛ وهذه إشارة لطيفة إلى أنَّ أيَّ مركز للبحث ليس محضنا للعبقريات الفردية، ولا ينبغي له أن يكون فقط كذلك؛ وإنما هو تجمُّع لطاقات كثيرة، منها المواهب طبعًا؛ وبهذا يثمر العلم، ويؤتي البحث العلميُّ أكله: "فمن الغلط أن نحصر حاضر "الغرب" في آثار جهود علماء ذوي قابليَّات راقية، مثل كوبرْنيك، وغاليلو، وليونارد دافينْشي، وميكيل إنجيلو، ودانتي، أو أديسون، وماكس بلانك، وآينشتين؛ فلا يمكن أن نُرجع "النهضة العلمية" أمس ولا الفوران العلميُّ والتكنولوجيُّ اليومَ، إلى مساعي عددٍ قليل من أمثالهم فحسب. وإلاَّ، فإننا سنواجِه مشاكل نعجز عن إيضاح أسبابها بالقاعدة المعروفة بـ"تناسب العلِّية". فإنَّ النجاحات الخارقة للعادة، المتحقِّقة أمس واليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطةٌ -إضافةً إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولِّدِ للعبقرية، والوسطِ المناسب لتنشئة المكتشِفين، والبيئةِ العامَّة الحاضنة للقابليات"[37].

ولقد أكَّد فتح الله على ما أسماه بالشريعة الفطرية، أي ما يطلق عليه البعض اسم "السنن الكونية"؛ فليس يملك أحدٌ مناقضتها، أو السعي في الاتجاه المعاكس من سعيها؛ حتى إنَّه ليقرِّر مبدأ حضاريا معرفيا بديعا، وهو: "أنَّ العبقرية في أرضٍ غير أرضها محكومٌ عليها أن تكون كعصفٍ مأكول، كما يُحْكَمُ على البذرة بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء والقوَّة الإنباتية"[38].

وهذا لعمري مبدأٌ سنني كونيٌّ لا يغادر أيَّ فكر، ولا يتخلَّف عن أيِّ حركة، مهما كان نوعها؛ إذ الفكر والحركة وليدا "وعاء، وبيئة، وتربة، ومحيط"، إذا تعفَّن وفسد، فلا تنتظر الكثير، ولا تأمل في المعجزات والخوارق؛ ومن ثمَّ كان لزاما على أرباب التغيير والإصلاح، أن يجتهدوا في توفير هذه البيئة الصالحة للأجيال اللاحقة، ومن أبرز تلك الحواضن ما يمكن أن يسمَّى "الأكاديميات"، أو "مراكز البحث العلمي"، بأعلى المستويات والمعايير الممكنة؛ وإلاَّ بقي الحديث عن "قيمة العلم"، وعن "وجوب طلبه"، وعن "علاقته بالحضارة"... سيبقى هذا الحديث مجرَّد خطابة، أو شعارات سياسية، أو كلام فارغ، ولا فراغ فؤاد أمِّ موسى.

وأمَّا عن عشق العلم، ففي مقال بعنوان "أجيال الأمل"، من كتاب "ونحن نبني صرح الروح"، يشرِّح فتح الله الانحراف الذي سيقت إليه الأمَّة من قِبل دعاة مبشِّرين، هم منَّا، ولكنهم زاغوا بصرا وبصيرة، فهؤلاء "لم نسمع منهم إلاَّ جمًا كثيرًا من الأمنيات الخادعة عن حاجاتنا الحقيقية، مثل تفسير العصر، وتقييم العلم، وتفهُّم حكمة الوفاق والاتفاق، والتغلُّب على الفقر الذي يقصم ظهرنا منذ زمان طويل"[39].

أمَّا من يُنتظر منهم خيرٌ، ويؤمَّل من بابهم مخرجٌ، وتشرئبُّ الأعناق وجهتهم مطلع كلِّ شمس، أو من يمكن أن نسمِّيهم في سياقنا هذا "بالفِدائيّين"، هؤلاء يتحلَّون بتعشُّق العلم، ثم يتَّصفون بعشق العلم، وإذا ما أقاموا صروحا عملية أقاموها على أكتاف عاشقةٍ للعلم، وأبلغُ وصف لهم أنهم "أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيَّات، الفاهمين للعصر، والعاشقين للحقيقة، بشُبوب اشتياقهم للعلم، والمحدَودَبة ظهورهم تحت ثقل المعضلات الحقيقية الحاضرة والقلق المتصوَّر في المستقبل، والمنعكسة دواخلهم على سلوكهم وتصرُّفاتهم، والمتنفِّسين هواء قلوبهم، والمتطلِّعين دائمًا إلى ما خلف الآفاق... أبطال اللدنيات الذين يئنُّون بآلام الأجيال، إذ يسعون للنهوض بها إلى درجة معيَّنة، ويحوِّلون مستقبلها الكدِر إلى دموع في أرواحهم، فينوحون نواح أيّوب -عليه السلام-، ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم، ويَشُبّون إلى العلى بالشكر باحتساب لذائذها أنعما من الحق تعالى"[40].

فمثل هذه المراكز المبتغاة، ومثل تلكم الأكاديميات المأمولة، إذا لم تكن بهذا العيار، وفي هذا المستوى، وإذا لم يكن أربابها بهذه المواصفات، فلا حاجة للأمَّة إليها، وإنها لا شكَّ ستكون وبالاً عليها لا فتحًا لها؛ فالعلم في "الرؤية الكونية" الإسلامية له وظيفته، وله مهمَّته، وله شروطه، فهو ليس ترفا ولا شرفا، بل هو همَّة ورسالة، وواجب وجهاد.

في مقال بعنوان "الحركية والفكر"، يعالج فتح الله هذه العلاقة الوطيدة بين العلم والعمل، والتي هي خاصية "البراديم كولن" بلا أدنى ريب؛ وبهذا ينبِّه إلى أنه لو أنشئت مؤسَّسات للفكر، فلا بدَّ أن تكون وثيقةَ الصلة بالعمل، وهو ما سماه "العزم على العمل"، وفي هذا يقول: "إنَّ أهمَّ شيء وأشدَّه ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروريِّ أن نتحرَّك على الدوام في ظروف قاهرة نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات، ونفتح صدورنا أمام معضلات، الحركية المستمرة والفكر المستمر، ومهما ضحَّينا في هذا السبيل، فإنْ لم نتحرَّك نحن، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم"[41].

ولا ينهي فتح الله أسبابه الأربعة إلاَّ بالتنبيه إلى "البحث المنهجيِّ"؛ لأنه ليس كلُّ بحث في العلم "بحثا علميًّا بالضرورة"؛ إذ المنهجية لازمة من لوازم العلم الحقِّ، والفوضى لا تولِّد إلاّ فوضى مثلها، أمَّا غياب المنهجية فهادر للوقت بلا طائل، وموهِمٌ بالفكر فيما ليس بفكر، وناشرٌ لسراب البحث والحقُّ أنه ليس شيئا.

ولقد أعطى فتح الله مثالا واضحا عن مؤسَّسة افتقدت المنهجية، فكان مصيرها الزوال والانسحاق، ولذلك "لا يمكننا الحديثُ عن مبادرة تتَّصف بالديمومة والمنهجية في هذا المجال" أي المجال التربويِّ العلميِّ الفكريِّ. ودليله في ذلك أنَّ "المدارس (التقليدية) -مثلا- والزوايا والتكايا التي كانت تربّي مهندسِي فكرِنا وعمال روحنا في الماضي، لم تنتج مشاريعَ تأخذ بأيدينا إلى المستقبل. وإذ لم تنجح هذه المؤسَّسات في ذلك، فإنها قد انسحقت تحت ركام أنقاضها"[42].

وما من شكٍّ أنَّ هذه المؤسَّسات هي "مراكز البحث" أوان ازدهارها، وهي "الجماعات العلمية" زمن إشراقها؛ ولا عبرة بالأسماء والألفاظ، وإنما العبرة بالمحتويات والمقاصد.

مراكز، تكتب قصَّة الوجود من جديد

يمكن اعتبار كتاب "حقيقة الخلق ونظرية التطور" دستورَ المعرفة في فكر فتح الله، ففيه تبرز "أحلام الأستاذ" بما ستكون عليه مراكز البحث مستقبلا، وفيه تتضح الانحرافات التي طالت الفكر الغربيَّ من جهة، وسحقت العالم الإسلاميَّ من جهة أخرى؛ والحقُّ أنَّ مجرَّد تحليله فقرةً فقرةً يمكِّننا من رسم خريطة "للعلم والعلماء في البراديم كولن"، رغم أنَّ الكتاب ليس سوى "حلقاتٍ حوارية شفوية، أفرغت بعد ذلك"، ورغم أنه "من بواكير مؤلفات الأستاذ"، إذ صدر في السبعينيات، وقد نوقش قبل ذلك في الستينيات، إلاَّ أنه مكثَّف أيما تكثيف، ودالٌّ على المقصود أيما دلالة، وهو عنوان لما يأتي بعده في مجال المعرفة، ونظرية المعرفة، والرؤية الكونية... وغيرها.

ولعلِّي سأقتصر بقراءة بعض النماذج، بما يفي الغرض من هذا الفصل، تاركا التفصيل لمجاله وأوانه.

فعن كوْنِ "الظاهرة الإنسانية" ظاهرةً معقّدة، تستعصي على الفهم والبحث بالمناهج والوسائل المعاصرة، يقول فتح الله: "للوجود وللحياة ولعالم الأحياء ولاسيما الإنسان -الذي يحتل موقعًا متميزًا فيه- نواحٍ متعدِّدة تشكِّل أساسًا لعلوم مختلفة. وحتى لو تناولنا الإنسان وحده في هذا الموضوع رأينا ظهور علوم عديدة كالمورفولوجيا، والفيزيولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والطب وعلم التربية، وعلوم أخرى عديدة... وكلُّ علم من هذه العلوم اختصاص قائم بذاته، وله مختصون متفرغون له. ولكن لا يوجد للكون بأجمعه، ولا للإنسان، ولا للأحياء متخصِّصون. لذا لم يكن في الإمكان حلُّ المشكلات المتعلِّقة بالوجود وبالإنسان بهذه العلوم، أو قول الشيء النهائي والأمر الفصل فيها"[43].

فالحقيقة التي ينبغي التصريح بها إذن، هي أنَّ ثلاثية "الكون، والإنسان، والأحياء" لا تزال خارج دائرة "العلوم" في تمثلها المنهجيِّ اليومَ، وهي لم تلقَ بعد مَن ينبري لها في كلياتها، وفي تركيبيَّتها، ولذا "كانت هناك حاجةٌ ماسَّة لمراكز متكاملة تستطيع تصنيف معلومات وأفكار لفهم الإنسان، وإنتاج التكنولوجيا ووضع النظريات والأفكار العامَّة التي تخاطب الشعور الجمعي وتكون في مستوى العصر وقادرة على احتضان جميع أموره وفتح الآفاق أمامه"[44].

ولكن، هل يقتصر فتح الله على وصف المعضلة، أم أنه ينتقل إلى الفعل كعادته؟

الجواب حمله بقية النص، إذ يقول: "وأنا أتوقَّع أنَّ العديد من الكتب ستؤلَّف في هذا الخصوص في السنوات القادمة، وستطرح العديد من الأفكار البديلة في هذا الخصوص، كما ستشارك العديد من المراكز العلمية في هذا الأمر؛ لتغذِّي وجهة النظر هذه وتثريها. وسيقوم آنذاك عددٌ من المفكِّرين ومن العلماء المحظوظين بكتابة قصَّة الوجود من جديد، وسيكتشفون كلَّ شيء، وكلَّ الأحياء -ولا سيما الإنسان- من جديد، ليضعوا الحقائق حول مدى سعة عالم الإنسان أمام الأنظار، وليشرحوا بشكل واضح المواضيع التي تشكل قواعد العلم وأسسه"[45].

ففي هذه الفقرة "توقُّع"، و"استشراف"، و"أمر"، و"تخطيط"... وفيها بيان لمهامِّ "مراكز البحث مستقبلا"، حتى لا تكونَ ظلا للواقع المختزَل، ولا شبحا للفكر المتخزِل؛ ولتعرِف أنَّ أمامها مهامّ كبرى، ومسؤوليات جسامًا، أمثلُها على الإطلاق "كتابة قصَّة الوجود من جديد"، و"اكتشاف كلِّ شيء، وكلِّ الأحياء، ولاسيما الإنسان من جديد"[46].

وفتح الله، في منهجه الفكريِّ والدعويِّ، لا يُلغي أيَّ إيجابية مهما بدت صغيرة، ولا يسمح لنفسه ببخس "أشياء الناس"، ذلك أنه لم يقُل، شأنَ بعض القائلين: "إنَّ الغرب ومراكز البحث في الغرب اليومَ لم تحقِّق شيئا، ولم تفعل شيئا"؛ وإنما اعترفَ لها بالفضل فيما لها فضل فيه، فقال عنها: "نستطيع اليومَ أن نقول بأنَّ المختبرات الحديثة تقوم بفحص الأحياء بدقة غير مسبوقة. حتى إنَّ المادة والجزيئة والخلية أصبحت معلومة بمقياس كبير، وبدت السوائل وجميع أجزاء الخلية حتى أصغرها وأدقّها معروضة أمام الأنظار بفضل الأشعة السينية (أشعة أكس). كما قامت بعض المختبرات الحديثة وبعض مراكز البحوث بإلقاء الضوء، ليس على التركيب الماديِّ فقط لجزيئات البروتين، بل على طبيعة الأواصر التي تربط هذه الجزيئات الكبيرة بعضها ببعض وطبيعة عمل الأنزيمات التي تفرق وتركب هذه الجزيئات وتأثيرها، وكذلك القوانين السارية في الخلايا والروابط التي تربط الأنسجة التي تشكِّلها هذه الخلايا مع الأعضاء الداخلية، وطبيعة السوائل في الجسم كالدم والصفراء وعلاقاتها مع بيئتها، وكذلك تأثير المواد الكيمياوية على الجسم وعلى الشعور... كلُّ هذه الأمور أصبحت معلومة ولو نسبيًّا"[47].

بل إنَّ هذا المستوى الأوَّل من العلم، للأسف لم نحقِّقه نحن في عالمنا الإسلامي برمته، ولذا "على الرغم من هذا التقدم الذي يستحقُّ كلَّ تقدير في ساحة العلم (عالميًّا)، فإنَّ من غير الممكن القول بوجود مثل هذا التقدُّم في ساحة العلم أو في المراكز العلمية في تركيا أو في أي ساحة أخرى منذ عهد التنظيمات حتى الآن. فبدلاً من البحث العلمي نرى تقليدًا أعمى، وبدلاً من التدقيق العلميِّ نرى أننا في عهد من شعارات رخيصة مرفوعة تأخذ مكان العلم"[48].

ويسافر فتح الله في "حلمه الموجَّه"[49] عبر الزمن، ليشخِّص عيون الأجيال القادمة، وهي تنظر بعين الشفقة والأسى إلى عصرنا هذا، بجميع أطيافه، وبكلِّ مكوناته، وفي جميع مستوياته، ثم يعود مهموما مغموما، ليخبرنا أنه... "لا شكَّ أنَّ الأجيال القادمة ستذكر عهدنا هذا بكثير من الأسف. ذلك لأنَّ الوجود قُدِّم في هذا العهد وكأنه عبارة عن وسط من الفوضى، وكأنَّ الأشياء لعبةٌ بيد الصدف العمياء تطوح بها ذات اليمين وذات الشمال، وكأنَّ الأحياء لقمةٌ بسيطةٌ وسائغةٌ بين الأسنان الوحشية لـ"الانتخاب الطبيعي". أمَّا الإنسان فقد هُوي بمكانته وجُعل في مقعد متفرِّج نكِد الحظِّ، يتفرَّج على حلبة الموت، وحكم عليه أن يرى ويسمع ويعيش ما يجري أمامه"[50].

وهذه الملاحظة تندرج ضمن "الرؤية الكونية" في أعلى صورها؛ إذ العلم ليس منفصلا عن "حقيقة الوجود"، وعن "القيمة"، وعن "المعنى"، وبخاصَّة ما كان من شأن "الإنسان" ومكانته وقدره؛ بينما الصواب أن ينظر إلى الإنسان في كلِّ علم، وفي كلِّ جهد علميٍّ، على أنه خليفة لله في أرضه، وأنه كريم، وأنه مخلوق لله، ليس إلها، ولا شيطانا، ولا مجرد شيء ومادة. وفي ذلك يقول المسيري في كتابه "دفاعًا عن الإنسان": "ثمة أسبقية الإنسانيِّ على الطبيعيِّ؛ لأنَّ الإنسان قادرٌ على تجاوز النظام الطبيعيِّ الماديِّ وعلى تجاوز ذاته الطبيعية المادية؛ ولأنَّ فيه بُعدًا غيبيًّا يستعصي على الاختزال والتشيُّؤ"[51].

أمَّا عن الفوضى التي يدَّعيها العلم، فإنه يمارس في غرسه لهذه الصورة أيديولوجية إقصائية خطيرة، بينما "لو تم النظر من زاوية أخرى لكان في الإمكان مشاهدة حقيقة وجود تساند وتعاون في كلِّ جزء من أجزاء هذا الكون، ووجود نظام وتناغم دقيق فيه، ولظهر أنَّ كلَّ شيءٍ قد خُطِّط لهدف معيَّن، ولغاية محدَّدة، وأنَّ كلَّ شيء مرتَّب ككتاب وكمعرض رائع وكامل يذهل العقول"[52].

وأيديولوجية "الفوضى" للأسف، لم تبقَ حبيسة العالم الغربيِّ المتطوِّر نسبيًّا، في علوم المادَّة، وإنما انتقلت عدواها إلى واقعنا، مع تخلُّفه، بل إنَّ الذي انتقل إلينا هو مظاهر التخلُّف فقط، دون مقوِّمات النمو والنماء والتمدّن؛ من هنا وجب التأكيد على "أنَّ الوسط العلميَّ عندنا في عهد معيَّن قد جُرَّ إلى وسط من الفوضى، ورُبط بمحور معيَّن بحيث إنَّ العديد من مراكز البحوث العلمية والمختبرات انجرّت دائمًا وراء سؤال: "كيف؟" ولم يلتفت الباحثون إلى أسئلة من نوع: "لماذا؟" وأنشأ نظامُ التعليم أجيالاً لا تفكِّر إلاَّ في الإجابة على "كيف؟" ولا تفكِّر في الإجابة على "لماذا؟" أو "من؟". لذا فلم يظهر مِن هذه الأجيال أيُّ مفكِّر أو عالم على المستوى العالميِّ طوال هذه العهود"[53].

لو قدِّر "للأكاديميا" أن تنشأ على أسس متينة، كالتي سطَّرها فتح الله، فإنها لن تلهو على شاطئ "الكيفيَّات" المنفصمة عن "ماذا" و"من"؟ وإلاَّ فإنَّ العجز عن "إنشاء مفكر وعالم عالمي" سيستمرُّ للأسف إلى أجَل غير مسمًّى.

ويسأل فتح الله عن المشتغلين بالعمل عندنا اليوم، وعن جدوى ما هم عليه، وهم في جامعاتهم، ومراكزهم، لكنهم أنهكوا في البحث عن "كيف؟" وكفى؛ وغفلوا عن "لماذا؟ ومن؟"؛ فكان التحدِّي، على صيغة سؤال، بل أسئلة:

• "كم عالمًا استطعنا تنشئتهم لكي يستطيعوا اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين؟

• فمثلاً كم منهم وجد في نفسه الشجاعة لكي يوضِّح خطأ نظرية دارون ونقصها وجوانبها المشوَّهة، وأنها -مثلها مثل النظريات الأخرى- يمكن مناقشتها؟

• وكم منهم استطاع تجديد فكرة أنَّ الإنسان هو أشرف المخلوقات؟"[54].

ووظيفة المراكز المرتقبة، والأكاديمية المبشَّر بها، هي الجواب على مثل هذه الأسئلة، بلا تردُّد، ولا ادِّعاء، ولا غفلة، ولا وجل؛ ذلك أنه إذا لم يُجَب عنها، وعن مثيلاتها، فسيبقى التخلُّف والهوان والتبعية قدَرنا، ومصيرنا، بل ومصير البشرية قاطبة.

والمراكز التي يتصوَّرها فتح الله ليست أحادية التخصُّص، مع احترامه للتخصُّص، لكنها متعدِّدة التخصصات، متداخلة المجالات، كلية الرؤية، شمولية الفكر. ولهذا المنظور أدلة عديدة، من كتاب "نظرية التطور" منها قوله:

• "إننا إن وضعنا جانبا التساؤل حول وجود أو عدم وجود علماء دين عندنا يستطيعون تناول هذا الموضوع ومناقشته، فإنَّ التربية والتعليم الديني عندنا لم يحقق بعد الحلم الذي ساور العديدين منذ قرن تقريبا، ولم يصل إلى المستوى اللائق، ولم يشمل دراسة العلوم الوضعية أو في الأقل دراسة مبادئها الأساسية. وهذه حقيقة مؤسفة ومحزنة تقف عقبة أمامنا"[55].

• "يقول العالم سير جيمس جينز المختص في علم الفيزياء الكوني -الذي يعد من أكبر علماء القرن العشرين، والذي يُنعت من قبل الكثيرين بأنه "آنشتاين ثان"- في كتابه "الكون المليء بالأسرار" و"الكون من حولنا" المترجمَين للغة التركية: "إنَّ الإنسان المشغول بفرع من فروع العلم يصل إلى درجة الفناء في ذلك العلم. أي إنَّ الإنسان يتشرَّب بفرع العلم الذي ينشغل به إلى درجة الفناء فيه. فلا يسمع إلاَّ بأُذُن ذلك العلم، ولا يرى إلاَّ بعينه، ولا يتكلَّم إلاَّ بلسانه، ويعيش انفعالات ذلك العلم..."[56].

ثم يقول: "قام بعض العاملين في الحقل الهندسيِّ بعمل أشكال مثلثة ومربعة في صحراء شبه الجزيرة العربية وفي الصحراء الكبرى في أفريقيا وأوقدوا فيها النيران الكبيرة، فأحدثوا أنوارًا وأضوية قوية ساطعة لكي يجلبوا أنظار الكائنات الذكية الأخرى التي يرون احتمال وجودها في الكون من الذين يفكرون هندسيًا مثل الإنسان. هؤلاء العاملون في الحقل الهندسي قد ذابوا وفنوا في عالم الهندسة. ويعتقد المختصُّون في حقل الرياضيات أنَّ الصانع (جلّ وعلا) قد خلق الكون بمقاييس رياضية. وهؤلاء أيضًا فنوا في الرياضيات"[57].

"أمَّا دارْون فلكونه قد قضى حياته في ملاحظة وتدقيق ودراسة الحيوانات ومتحجِّرات الحيوانات، ولم يخرج خارج إطار هذه الساحة فإنه نظر إلى الوجود وإلى الخلق وباختصار إلى كلِّ شيء من زاوية، ومن نافذة هذه الساحة، ومِن منظارها، واستعان بتفاسير لا يقبلها لا العلم ولا المنطق ولا العقل لكي يبرهن على فرضيته. والأمر نفسه نلاحظه عند الذين تبنّوا نظريته بتعصُّب وإصرار. وقد نبّه العالم الفلكي "جيمس جينز" إلى مخاطر التخصص مع الاعتراف بفائدته"[58].

• يذكر فتح الله ضمن مقال "نظرة إجمالية إلى الإسلام"، من كتاب "ونحن نبني حضارتنا"، مبدأ الإسلام، ووجهة نظره، حول التخصُّص، فيقول: "إنَّ الإسلام لا يمنع المسلمين من تعلُّم علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفضاء والطب والهندسة والإدارة العامة وإدارة الأعمال والزراعة وأمثالها، بل يحثُّهم على التخصُّص فيها وأخْذِها والاستفادة منها من أيِّ مصدر كان، لكنه لا يريد أن يبقى المسلمون تبعًا لغيرهم على الدوام، بل يحبِّذُ لهم الاستفادةَ مما عند الأجانب من هذه الأمور، ثم التخلُّصَ السريع من استجدائها، وإقامةَ عالمهم الذاتي في الأوامر الإلهية التكوينية كما في الأوامر التشريعية"[59].

إذن، هذه هي العناصر الأربعة، التي يقوم عليها صرح العلم عموما، وصرح "مراكز البحث العلمي" بالخصوص؛ وأيُّ خلل في أيٍّ منها، سيكون سببا للبتر والقلَّة والعجز، وسوف لن يحقِّق الهدف المرجوَّ، ولا الغاية المتوخَّاة؛ وتكون نتيجة ذلك كارثيَّة على شتى مناحي حياة الأمَّة الإسلامية اليومَ. أمَّا لو اكتملت، وذلك هو المرجوُّ، ولا نظن بالله تعالى إلاَّ خيرا، فإنَّ الأمَّة ستعرف بحول الله ربيعا آخر في تاريخها، وستلد من رحمها علماء أفذاذا، وحكاما مرشدين، ومحكومين راشدين، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(الرُّوم:4-5).

منهج التدريس في حلق الأستاذ كولن

جبلت الأعين على النظر إلى الجانب الظاهر من جبل الثلج، واعتادت الألسن وصف مظاهر الأشياء والتغنِّي بها؛ إذ قلَّ من العقول ما ينقِّب في الأسباب، وندر من القلوب ما يتعلَّق بمسبِّب الأسباب؛ ولقد أنَّب الله تعالى علماء بني إسرائيل، بأنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الرُّوم:7). بل إنَّ الله سبحانه، تعليما لنا وتربية، هدانا إلى اتباع الأسباب، فقال عن سيدنا ذي القرنين -عليه السلام-: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا)(الْكَهْف:84-85)، وقال عن الشجرة الطيبة، وعن الفرع الزكي: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)(إِبْرَاهِيم:24).

ولقد قال الشاعر الحكيم:

ما طابَ فرعٌ أصلُه خَبيثُ
ولا زَكا مَنْ مَجْدهُ حديثُ

ونسب لابن دريد قوله:

ما طابَ فرعٌ لا يطيبُ أصلهُ
حمى مؤاخاةَ اللئيمِ فِعْلُهُ

لطالما زارت الوفود مشاريع الخدمة، وخطَّت كلمات صادقة، ومقالات بديعة، في بيان تميُّز هذه النقلة الحضارية عن غيرها، مبنًى ومعنًى؛ ولطالما أبهِرت الجموع بالسعة والعدد والجودة والدقة... فلهجت الأفئدةُ بالدعاء للمولى الجليل أن يحفظ القائمين عليها، ويجزل لهم المثوبة والأجر، وأن يكتب انتشار تلكم الآثار في ربوع الإسلام مشرقا ومغربا.

ولعلَّ أكثر الأسئلة تردُّدا من قبل الزوار، هو: "كيف يمكن أن نستفيد من الخدمة، فكرا وفعلا؛ وهل يمكن أن نستنسخها، أم الواجب هو تكييفها؟ وكيف يتمُّ ذلك؟"

ولعلَّ الجواب يكمن في أنَّ الشجر، والتراب، والماء، والهواء... لا يمكن نقلها من بلد إلى بلد، وأنَّ الذي يمكن نقله هو "الإيمان"، و"المعرفة"، و"الحكمة"، و"الخرِّيتية"، و"العلم"، و"المنهج"، و"الخلق"... أي إنَّ الذي يمكن نقله هو من طابع "عرفاني، معرفي، معنويٍّ" محض، وليس من طبيعة مادية صلبة صلدة مصمتة؛ وإلاَّ لَما أمكن نقل الإسلام بين عصر وعصر، ولا بين مصر ومصر؛ وما انتشر الإسلام إلا بما يحمل من المعنى، وبما يرشح به من أبعاد إنسانية، روحية، إيمانية، عميقة.

ولقد قال قائل عن الأستاذ فتح الله: "من لم يعرف ليل الأستاذ لم يعرف الأستاذ"؛ ويصدق أن نضيف: "ومن لم يعرف علاقة الأستاذ بالعلم والتعليم، لم يدرك حقيقة الأستاذ، ولا دلالة الخدمة". ونختصر الخدمة في تعريف موجز، فنقول: "هي الحياة، حين تتبدَّى في صورة: مدرسةٍ للوحي المبين، والخلق المتين، والعلم الرصين". ومن ثم صدق أن نقول: إنَّ الحياة في عرف الأستاذ مدرسةٌ، وإنَّ المدرسة حياةٌ؛ لكن ليس ذلك خطابة ورصًّا للكلمات؛ ولكنها الحقيقة حين تلامس خط الزمن.

والحق أنَّ الصفة التي لا تنفك عن الأستاذ هي صفة "المجدِّد"؛ وإذا ما رمنا تفصيلا قلنا إنه مجدِّد في الدرس والتدريس، مجدِّد في الفكر والمعرفة، مجدد في المنهج والطريقة، مجدِّد لأمر الدين والتديُّن... ولكنَّ أكثر المجالات التصاقا بحياته هي مكابدة العلم، والصبر فيه وله؛ لكأنَّه تمثَّل قولة سيدنا موسى -عليه السلام-، للخضر -عليه السلام-: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)(الكهف:69).

والكتابة عن حلق الدرس في تراث الأستاذ يستدعي ملازمة ومعاينة طويلة، ولا أعرف مقالا واحدا، بله أن يكون بحثا أو دراسة باللغة العربية، تناولت هذا الركن من فكر الأستاذ؛ ولولا مقال لأحد تلامذته الملازمين له لسنوات، والذي نشر في مجلة الأمل الجديد،[60] وترجمنا معانيه إلى العربية، لَما أمكن أن نخطَّ هذه الفقرات في بيان منهج الدرس والتدريس عند الأستاذ فتح الله كولن.

ولقد ارتأينا أن نعرضه على شكل نقاط، لا على شاكلة مقال مسترسل، لتعذُّر ذلك، آملين أن ينبري من يتولَّى مهمَّة اكتشاف الجانب المخفيِّ من جبل الثلج، وأن يبدع في عرض البذور والجذور والأسباب، التي بها اكتمل صرح "الخدمة"، وبغيرها لا يكون للخدمة رَوْح ولا ريح:

1-غاية العلم: الغاية من الدرس والتدريس عند الأستاذ تتمثل في "إيصال الإيمان إلى أفق المعرفة، وتعميق المعرفة بالمحبَّة"، فهي إذن نيل رضا الله تعالى، والاستجابة لأمره بالدعوة والإرشاد، وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2-الإقليم الروحيُّ: يذكر صاحب المقالة أنَّ ما يتميز به جو الدرس من روحانية وواردات وفيوضات يجعل مجرَّد الوصف الأدبي قاصرا عن إيفاء التجربة حقها ومستحقها، ولذا يصدق أن يقال عنها: "من ذاق عرف"؛ فحلقة الأستاذ ليست قسما كلاسيكيا، يملي المعلومات، ويعرض النظريات، ويجري الإمتحانات، وكفى. ولكنها إقليم روحيٌّ، ومعبدٌ حقيق، وميدان للشحن والشحذ القلبي والعقلي على السواء.

3-الامتداد العثماني: تضرب حلقة الأستاذ جذورها في التراث الإسلامي بعامَّة، والتراث العثماني بخاصَّة.

4-تطوير المنهج التقليدي: مِن أصول فكر الأستاذ فتح الله أنَّه يحترم الماضي، ويرنو للمستقبل، ويعمل في الحاضر؛ وهو يبغض الاجتثات من الجذور، ويمقت التهوين من تراث الأمَّة في جميع مراحلها؛ وهو مع ذلك لا يتحجَّر، ولا يقبل التنميط في الوسائل والمناهج والآليات؛ ففي منهج الدرس، إضافة إلى استفادته من المدارس العثمانية، طور تقنيات عديدة، وأضاف مصادر جديدة، وأحدث أساليب مفيدة؛ ولقد استفاد من مناهج التربية والتعليم المعاصرة أيما استفادة، ولم يقف منها موقف المنبهر، ولا موقف الناقم.

5-التواضع والخلق الحسن: من فرط تواضع الأستاذ أنه لا يستعمل ألفاظا تنمُّ عن الفرق بين العالم والمتعلم، وإنما يقول: "إننا نتذاكر مع الإخوة"، ثم إنَّ نقده لأيِّ رأي لا يأتي بأسلوب مباشر، لكن بصيغة متأدبة غير متكلفة.

6-رغبة الطالب، وفراسة الأستاذ: العلم من أرفع أنواع الحبِّ والعشق؛ فمن أحبَّ تعلَّق، ومن عشق تبحَّر؛ ولذا يحرص الأستاذ دوما على أن "يقدِم الطالب إلى الدرس ببعاعث من عنده، وبتوجُّه من قلبه"، وهو في ذلك يراعي أحاسيس الطلبة، ويتحسَّس نبضات قلوبهم، وخطرات أفئدتهم، بفراسته التي تحيِّر معاشريه. وفي الأثر: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»(رواه الترمذي).

7-اختلاف الرأي: يعبِّر الأستاذ عن رأيه للطلبة المشاركين في دروسه، منبّهًا أنه يمكن أن توجد آراء ووجهات نظر مختلفة لا تتعارض مع القواعد الأساسية للدين، بل لا بد أن توجد؛ ويعلِّل ذلك بأنَّ كلَّ شخص يعتبرُ ابن الزمان من وجهٍ؛ ثم إنَّ لكل زمان واردات هامَّة حسب الفترة والظروف التي يحيط بها في تفسير جوانب الدين القابلة للتفسير (التأويل)، من جهة أخرى. والواجب على كلِّ مسلم أن يدرس ظروف زمانه الذي يعيش فيه، حاملا معه وارداته، وأن يطبق القيم التي يؤمن بها في الواقع.

8-حرمة العلماء: يرفض الأستاذ كلَّ تنقيص أو خدش في العلماء الفطاحل، ولا يسمح بأيِّ قول ينال منهم، أو يستخفُّ بهم، كأن يقال فيهم "إنهم لم يفهموا هذه المسألة" أو غيره. ومن ذلك أنه "كثيرًا ما يؤكِّد على وجوب التأدُّب تجاه أقوال ووجهات نظر العلماء في دراسة أصل من الأصول الإسلامية؛ وإلى جانب ذلك يعبر عن رأيه في المسألة، بشرط أن يوافق محكمات الدين ولايناقضها قائلاً -مثلا-: "الإمام ابن كثير هكذا قال، إلاَّ أن هناك -قاصدًا نفسه- لابن قليل وجهة نظر"، أو "للفقير والقطمير أيضًا تعليق وملاحظة"، هكذا كان يعبر عن وجهة نظره في غاية التواضع.

9-التحضير للدرس: قال العقاد عن مؤلفاته: "إنها ليست مروحة للكسالى"؛ ويصدق أن نقول عن مجالس الأستاذ: "إنها ليست صالونا للكسالى"؛ ولذا فإنَّ الطالب الملتحق بحلق الأستاذ يصل الليل بالنهار، ولا يلتفت إلى تعب ولا مرض ولا داع للنفس والهوى؛ ومن ذلك أنه "يذاكر الطالب جيدًا قبل المجيء إلى الدرس، وقد يستغرق ذلك سواد الليل كله؛ حيث يحلل العبارات ويحاول فهمها، مستعينًا بالمنجد، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، وتاج العروس بدايةً، ثم بسائر الكتب من الفقه، والتفاسير، والشروح، وسائر المصادر والمراجع التي يحتاج إليها الطالب، ويبذل قصارى جهده في تحضير الدروس". وأثناء الدرس يقدِّم الطلبة مادتهم في حضرة الأستاذ، وهو يقوم من آن لآخر بتوضيح ما خفي، ويجيب على الأسئلة، ويضيف وجهة نظره وتعليقاته على آراء العلماء الذين يقرأ لهم، بأدب واحترام بالغين".

10-تمرُّس المعاجم والقواميس: يعوِّد الأستاذ طلبته على استخدام المعاجم لتعلم اللغة بطريقة صحيحة، وضبط الكلمات مع فوارقها الدقيقة. ويذكر أنَّ بديع الزمان النورسي كان يحفظ من القاموس المحيط عن ظهر الغيب أكثر من ألفي صفحة، حفظا متقنا.

11-العلاقة بالكتاب: ليس مثل الكتاب مدرِّسا ومعلِّما؛ ومن ثمَّ حرص الأستاذ على ربط طلبته بأمّهات المصادر، إضافة إلى مدارستها في الحلق؛ فحين يجد الأستاذ أنَّ ثمة كتابا جديرا، وهو ليس مما قرِّر في الحلقات، يأذن لطلبته بتلخيصه، ثم عرضه على المجموع؛ وبهذا عالج معضلة كثرة الكتب وندرة الوقت.

12-اختيار الكتاب: عندما ينوي الأستاذ تدريس كتاب في مجال ما يقول لطلبته: "هناك كتب حول هذا الموضوع بهذه المميزات، وبإمكانكم أن تختاروا واحدًا منها ثم ندرسه"، وأحيانًا يوجه الإخوةَ إلى كتاب معيّن لما رآه مهمًّا، ذاكرًا لهم مميزاته. وهو حريص على أن يُظهر الطلبة شوقهم لمطالعة هذا الكتاب، ومن ثم يتخذه مقررًا لهم يدرَّس في الحلق. وقد يتوافق أحيانًا اختيارُ الطلبة والأستاذ لكتاب واحد.

13-منهج التلخيص: يصل حجم المادة الملخَّصة إلى عُشر الكتاب عادة، لا يزيد على ذلك، وقد ينقص؛ ويتم العرض أمام الطلبة الآخرين، ويردفه الأستاذ بملاحظات، أو إضافات، أو يثير حوارا حول مسألة معينة؛ حتى يكون الجميع قد استوعب روح الكتاب الملخَّص، دون أن يضطروا إلى مطالعته كلية.

14-علم السؤال: الأستاذ فتح الله سؤول، محبٌّ لإعمال العقل في استثارة أسئلة جديرة؛ وهو يدفع طلبته إلى ذلك، ويشجّعهم في ذلك؛ ويؤكد على أن تكون الأسئلة المطروحة "مفيدة، عميقة، مناسبة للسياق"، كما أنَّه يتمعَّض من تكرار نفس السؤال، وهو دوما يستشهد بالأثر الذي جاء فيه: "حسن السؤال نصف العلم".

15-مواعيد الدرس: تعقد جلسات الدرس عمومًا بين صلاتَي الفجر والظهر، وفي أحايين كثيرة تعقد بعد الظهر أيضًا. وفي فترات كان الدرس يبدأ بعد الفطور بقليل ويستمر حتى الظهر، وفي أخرى يبدأ بعد الفجر مباشرة حتى الفطور ويستمر بعده. وقد سبق أن عُقدت مجالس للدروس قبل صلاة الفجر بساعة، واستمرَّت حتى الأذان، فكتاب "تحفة الأحوذي" مثلاً، قد تمت قراءته في هذه الفترات التي قبل صلاة الفجر بساعة وحتى الأذان. ولقد تمت قراءة كتاب "كنز العمال" بجميع أجزائه في رمضانٍ واحد، في المجالس التي بعد صلوات الفجر والمغرب والتراويح والسحور، ولقد تستغرق الجلسة ساعات طويلة.

16-الخطأ في الدرس: كيما يتفادى الطالب الخطأ في قراءة النص المكلَّف به فإنه يذاكره بحيث لا يخطئ إعرابيًا أو ينطق الكلمات خطأً، ولذا يستعين بالكتب التي ألِّفت في هذا المجال عند اللزوم، إذ إنَّ قراءة نصوص القرآن فالحديث النبوي وتلفُّظ أسماء الرواة صحيحًا خاليًا من الخطأ من الأمور التي يشدِّد عليها الأستاذ كثيرًا، ويعبِّر عن اهتمامه بها بقوله: "قد تخطئون في قراءة نصوص عربية، ولكن لا تخطئوا في قراءة الآيات". وإذا ما أخطأ الطالب صحَّح الأستاذ الخطأ في غاية الرفق والخجل؛ حيث يهمس بالصحيح همسًا.

17-القراءة التحقيقية: لا تقرأ المصادر أثناء الدرس قراءة رتيبة جافة؛ فالأستاذ أثناء المطالعة يحلل، ويقارن، ويحقق، وينقد... فيعطي للنص المقروء نفَسا جديدا؛ وهو يعلِّم طلبته فقه التنزيل جنبا إلى جنب مع فقه التأويل؛ ولقد يستدعي مرجعا أو أكثر للتدقيق في مسألة عنَّت، أو إشكال حصل. وهو مع ذلك يستحثُّ فكر طلبته، ويدفعهم للحرية في التعبير عن الرأي بأدب جمٍّ. ويحرص على أن يتم تنقية واردات العصر من خلال هذه المصافي، والوصول بها إلى تأويلات جديدة.

18-لكلّ فنٍّ منهجه: درَّس الأستاذ اللغة بفروعها، والفقه والأصول، والتفسير والحديث... وغيرها؛ وهو في كلّ فنٍّ يبدع منهجا لائقا به، معتبرا في ذلك نوعية المصادر، وملكات الطلبة، والحاجة العملية، والسياق الزماني والمكانيِّ... وغير ذلك.

19-فوائد مطالعة أمهات المصادر في حلق الدرس: لا شكَّ أنَّ قراءة النصوص التراثية، والمكابدة في فهمها، يكسب الطالب ملكات عديدة، منها: تغلب الطالب على مخاوفه إزاء النصوص، وتعوُّده على المصادر؛ وتطوير ملكات القراءة السلسة المنسابة؛ والتمكُّن الطالب من التبحر في الكتب الأساسية أكثر فأكثر.

20-الدعاء والدرس: للأستاذ مع الدعاء في حياته نفحات؛ ومن ذلك أنَّه لا يغادر الدرس ابتداء وانتهاء؛ فهو يستهلُّ درسه بالدعاء الملحِّ، وبالتضرُّع إلى الله أن يفتح عليه وعلى طلبته بالفهم واليقين؛ ولقد حُفظت العديد من الأدعية التي ألفها هو بنفسه، واعتاد على قراءتها أول الدرس. من ذلك قوله: "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهمَّ ربنا زدنا علمًا وإيمانًا ويقينًا وتوكلاً وتسليمًا وتفويضًا وثقةً واطمئنانًا واعتمادًا عليك، وإخلاصًا ووفاءً وصداقةً ومعرفةً ومحبةً وعشقًا واشتياقًا إلى لقائك، وعفةً وعصمةً وفطانةً وحكمةً وحافظةً دائمةً، وصحةً دائمةً كاملةً، وعافيةً دائمةً كاملةً، وقلبًا سليمًا. اللهمَّ حولاً وقوةً من حولك وقوتك، يا أرحم الراحمين".

21-وصية الأستاذ لطبته: نُقل عن الأستاذ أنه قال لبعض طلبته: "أنا ليس لي عليكم من حقٍّ، وإن كان لي ذلك كنت طلبتُ منكم أن تقوموا بمهمَّة تدريس الطلبة حتى تقبض أرواحكم..". فمهما كبر الطلبة وأصبحوا أساتذة كان يوصيهم الأستاذ بأن يبقوا طلبة دوما، وذلك بذكره مثال نور الدين الهيثمي الذي تتلمذ على يد شيخه زين الدين العراقي طوال حياته. وأحيانًا كان يقول مداعبًا الطلبة: "إنَّ الملائكة تقبض أرواح طلبة العلم بمناولتهم العسل والقشدة، ومن غير أن تؤلمهم" حاثًّا إياهم على أن يبقوا طلبة دائمًا، وعلى شوق التعلم ولهفه أبدا. ثم على أن يلازموا التعليم وتنظيم حلق الدرس طول حياتهم؛ حتى لا ينقطع حبل العلم والخير بحول الله تعالى.

قائمة الكتب التي درَّسها الأستاذ

لا شكَّ أنَّ حصر جميع الكتب التي درَّسها الأستاذ، على مدى عقود، وفي أفواج متعاقبة، يكاد يكون أمرا مستحيلا؛ غير أنَّه يسجَّل أنَّ الكثير منها درَّسه الأستاذ مرات عديدة، على أفواج مختلفة؛ ثمَّ إنَّ الأستاذ -لولا مراعاته لملكات وقدرات طلبته- لكان الشأن غير هذا الشأن، ولكَم عبر عن رغبته في تدريس جميع ما اشتهر في فنٍّ من الفنون، من جميع المذاهب والمشارب والأعصار والأمصار؛ لكن الظروف لا تسمح.

ثم إنَّ القارئ لقائمة مؤلفات الأستاذ قد يتوهَّم أنَّه تراثي صرف، إلاَّ أنَّ الصواب هو التذكير بأنَّه قد التهم مصادر في الفلسفة والفكر، وحتى الكثير من كتب الفيزياء والكمياء وغيرها؛ وهو كلما وجد كتابا ذا شأن في علم من العلم، حوَّله إلى أحد طلبته ليلخِّصه في الحلقة الدراسية؛ وبهذا جمع بين الالتزام التراثيِّ المكثف، والانفتاح العصريَّ الممنهج. ولعلَّ من المناسب -بعد هذا العرض لمنهج الدرس عند الأستاذ- أن نورد قائمة أولية لِما درَّسه الأستاذ في حلقه، داعين من الله تيسير السبل لغربلتها، وإنما يكفي أن تُعطَى صورة شفافة عن الواقع، لا أن تصاغ صورة مثالية لما قد يحتاج إلى بحث متخصص، من عالم متخصص. والقائمة، حسب الفنون، هي كالآتي:

التفسير وعلوم القرآن

• تفسير الجلالين (1 مجلد)، جلال الدين المحلّي، وجلال الدين السيوطي.

• أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2 مجلد)، نصر الدين عبد الله بن عمر البَيضاوي (685هـ/1286م).

• روائع البيان تفسير آيات الأحكام (2 مجلد)، محمد علي الصابوني.

• مختصر تفسير القرآن العظيم (3 مجلد)، تأليف: ابن كثير، اختصار: محمد علي الصابوني.

• مقدمة الكشاف، الزمخشري (1144).

• في ظلال القرآن (6 مجلد)، سيد قطب (1966م).

• كلّيات رسائل النور (14 مجلد)، بديع الزمان سعيد النورسي (1960م).

• تفسير حَقْ دِيني قُرآن دِيلِي (Hak Dini Kur’an Dili) (10 مجلد)، أَلْماليلي حمدي يازير.

• الإقناع في القراءات السَّبْع (2 مجلد)، أبو جعفر أحمد بن علي بن أحد بن خلف الأنصاري (540م / 1145م).

• تأويلات أهل السنة، الإمام الماتريدي (944).

• مناهل العرفان (2 مجلد)، الزرقاني.

الحديث

• الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأيامه (صحيح اليخاري).

• عمدة القاري في شرح البخاري (20 مجلد)، بدر الدين العيني (855 هـ/1451 م).

• فتح الباري شرح صحيح البخاري (14 مجلد)، ابن حجر العسقلاني (852 هـ/1448م).

• المسند الصحيح (صحيح مسلم) (5 مجلد)، أبو الحسين مسلم بن حجاج (261 ه/874 م).

• السنن (سنن أبي داوود) (4 مجلد)، أبو داوود السجستاني (275 هـ/888 م).

• بذل المجهود في حلّ أبي داوود (10 مجلد)، خليل أحمد السهارنفوري (1346 ه/ 1927م).

• المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داوود (10 مجلد)، محمود محمد خطاب السبكي (1352 ه/1933م).

• الجامع الصحيح (سنن الترمذي).

• تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (10 مجلد)، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (1353 هـ/1934م).

• الموطأ (2 مجلد)، الإمام مالك بن أنس (179 هـ/795م).

• التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (5 مجلد)، منصور علي ناصف.

• عقود جواهر المنيفة (2 مجلد)، مرتضى الزبيدي.

• كنز العمّال (16 مجلد)، علي المتّقي (975 هـ/1567 م).

• رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (1 مجلد)، زكريا النووي (676 هـ/1277م).

• الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2 مجلد)، القاضي عياض (544 هـ/1149م).

• اللؤلؤ والمرجان (3 مجلد)، محمد فؤاد عبد الباقي.

• الباعث الحثيث (1 مجلد)، أحمد محمد شاكر.

• مقدمة التجريد الصريح في أصول الحديث (Tecrid-i Sarih Mukaddimesi) (1 مجلد)، أحمد ناعم-كامل ميراث.

الفقه الإسلامي

• المختصر (1)، القدوري (428 هـ/1037 م).

• الاختيار لتعليل المختار (1 مجلد)، أبو الفضل الموصلي (683 هـ/1284 م).

• الهداية (2 مجلد)، أبو الحسن برهان الدين المرغيناني (593 هـ/1197م).

• ملتقى الأبحر (1 مجلد)، إبراهيم بن محمد الحلبي (1459 - 1549).

• الهدية العلائية (في الفقه الحنفي).

• فتح القدير في شرح الهداية، ابن الهمام.

• الفقه الإسلامي وأدلّته (9 مجلد)، وهبة الزحيلي.

• الفقه الحنفي وأدلّته (3 مجلد)، أسعد محمد سعيد الصاغرجي.

• مرآة الأصول (1 مجلد)، ملاّ خسرَو (1480).

• الوجيز في أصول الفقه (1 مجلد)، عبد الكريم زيدان.

• الموافقات (4 مجلد)، الشاطبي (780).

• المدخل (1 مجلد)، سيّد بك (باللغة العثمانية).

التصوف

• الرسالة القشيرية في علوم التصوف (1 مجلد)، الإمام القشيري (1072).

• المكتوبات (2 مجلد)، الإمام الربّاني السرهندي.

• الرعاية لحقوق الله (1 مجلد)، الحارث المحاسبي (857).

• إتحاف السادة المتّقين في شرح إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (14 مجلد)، مرتضى الزبيدي.

• نفحات الأُنْس، عبد الله جامي (898/1492).

• الرياضة التصوفية، عبد الحكيم الأرواسي.

اللغة العربية

• أمثلة.

• بناء (في الصرف)

• مقصود (في الصرف)

• عِزِّي (في الصرف والنحو واللغة)، عزّ الدين عبد الوهاب بن إبراهيم الزنجاني (1257).

• عوامل (في النحو)، الإمام البِرْكِوِيّ (981/1573).

• الكفاية، ابن حاجب (646/1249).

• الفوائد الضيائية في شرح الكفاية (ملاّ جامي)، عبد الرحمن جامي (898/1492).

• النحو الواضح (2 مجلد)، علي جارم – مصطفى أمين.

• شرح ابن عقيل على الكفاية لابن مالك، بهاء الدين عبد الله بن عقيل (729).

• جامع الدروس العربية، مصطفى الغلياني.

• مبادئ الدروس العربية، محمد محي الدين عبد الحميد.

• المنتخب والمقتضب في قواعد الصرف والنحو (2 مجلد)، محمد ذهني أفَندي (باللغة العثمانية).

• تعليم اللغة العربية بطريقة حديثة (5 مجلد)، فتح الله كولن.

البلاغة

• تلخيص المفتاح، الخطيب القزويني (1338).

• جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي.

• البلاغة الواضحة، علي جارم – مصطفى أمين.

علم الكلام

• شرح العقائد النسفية، سعد الدين التفتزاني.

• العقائد الخيرية، محمد وهبي أفندي.

• كليات رسائل النور، بديع الزمان النورسي.

الصورة القلمية للأكاديميا المنشودة

إذ أحاول رسم "صورة قلمية لمراكز البحث العلمي"، و"للأكاديميا" بالتبع؛ من وجهة نظر الأستاذ فتح الله كولن، أجدُ من المناسب أن أذكِّر بالعنوان الذي استوحيتُ منه هذه الدلالة، وهو "الصورة القلمية لرجل القلب"، الذي يقول الأستاذ في مستهلِّه، ملخِّصا الأبعاد التي نحن بصددها: "رجلُ القلب بأفقه وإيمانه وتصرُّفاته، يمثِّل بطولة الروح والمعنى. إنَّ عمقه وسعته ليسَا من ناحية معلوماته ومكتسباته، بل بِغِنى قلبه وصفاء روحه وقربه من الحقِّ تعالى. فقيمة المعارف المطروحة أمامه كعلوم هي بنسبة إرشاد الإنسان إلى الحقيقة"[61].

ويجمل أن تتخذ هذه العبارة شعارا، وتعريفا، وعنوانا، ورمزا... للأكاديميا الجديدة، بل لكلِّ أكاديميا رشيدة؛ إضافة إلى النقاط التي سنوردها، مستنبطة من نصوص الأستاذ وكتاباته، مرتبة حسب المصطلح المفتاح، ليسهل التعامل معها، والبحث فيها بيسر:

فالصورة القلمية للأكاديميا المخطَّط لها استراتيجيا، هي بحول الله كما رسمت في هذه القائمة، ضمن هذه النقاط، مرتبة ألفبائيا؛ وهي:

أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيات: ينتمي إليها من يصدق فيهم وصف "أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيات".

الأحياء: يختص فيها البعض لدراسة الكون والإنسان والأحياء في كليتهم وشموليتهم.

الاختراع: يتخرج فيها مكتشفون ومخترعون، في شتى المعارف والعلوم.

الأخطاء: يتم فيها اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين، وبخاصة ما كان له أثر على الرؤية الكونية.

الإدراك اللائق: تتبنى إدراكا لائقا بالتفكير العلمي الصحيح.

الآراء المسبقة: لا يتخذ فيها أي موقف على أساس من التعصب، أو الآراء المسبقة، أو التقليد... كل حكم يستند إلى المعقولية.

الاستلهام والاستنباط: لا ينبغي أن تشل ملكة الاستنباط والاستلهام لدى الباحث، بسبب التخصص أو غيره.

الاستيحاش: ترفض الانحراف والاستيحاش، المتمثل في التنكر للدين والقيم.

الأسْر:

• لا ينبغي أن ترتبط بأي تيار فلسفي؛ لكي لا تكون أسيرة.

• متحررة عن الرغبات والأهواء.

الأسئلة الجديدة: تكون المعرفة الجديدة فيها، سلّما لأسئلة جديدة، وحقول جديدة.

الآفاق: تنعكس دواخل الباحثين على سلوكهم وتصرفاتهم، والمتنفّسين هواء قلوبهم، والمتطلعين دائمًا إلى ما خلف الآفاق.

الإقصاء: لا تحمل أي مشاعر للعداء أو الخصام أو الإقصاء.

الاكتشاف:

• يتخرج فيها مكتشفون ومخترعون، في شتى المعارف والعلوم.

• يتم فيها اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين، وبخاصة ما كان له أثر على الرؤية الكونية.

آلام الأجيال: يئن من فيها بآلام الأجيال، ويحملون هم الأمة ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم.

الإله: ليس العلم إلها، ولا هو بديل عن الإله.

امتلاك الحقيقة: لا تدعي أنها ستقول القول الأخير، ولا القول الفصل، ولا أنها تملك كل الحقيقة.

الأنبياء: تسير على آثار الأنبياء والمرسلين.

الانحراف: ترفض الانحراف والاستيحاش، المتمثل في التنكر للدين والقيم.

الإنسان:

• الهدف منها هو "تأمين سعادة البشرية وكرامتها دنيا وآخرة"، فإن فقدت الهدف صارت شيطانا رجيما.

• تصنف معلومات وأفكارا لفهم الإنسان. ووضع النظريات العامة.

• يختص فيها البعض لدراسة الكون والإنسان والأحياء في كليتهم وشموليتهم.

• تقوم على أساس من العلاقة العميقة العظيمة بين الله والكون والإنسان.

• ينظر فيها إلى الإنسان، في أي علم كان، على أنه خليفة لله في الأرض.

الانفصام:

• تتزاوح العلوم الوضعية مع العلوم الكونية الماورائية الغيبية، فلا انفصام ولا تعارض.

• ضمنها يلتئم شمل العلم بالعمل، والفكر بالحركية، في تناغم عجيب.

• مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

• يتحد العلم مع الخلق الحسن، ليصلا إلى أعماق كبيرة.

• يكون فيه الدين والعلم شقيقان، لا انفصام بينهما.

الأهواء: متحرر عن الرغبات والأهواء.

أوجاع اليوم والغد: يئن مَنْ فيها بآلام الأجيال، ويحملون همّ الأمة ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم.

الأيديولوجية: ليست واجهة لأي أيديولوجية.

البحث: توفِّر الجو الملائم للبحث والتأليف.

البركة: مكان مبارك، مثل المعبد.

البرودة: يحمل فيها الجميع هما معرفيا، ولا مكان للبحث البارد والمحايد.

البيئة:

• تتمثل فيها: البيئة الصالحة، وعشق العلم، وعزم العمل، والمنهجية... جنبا إلى جنب.

• توفِّر الجو الملائم للبحث والتأليف.

• هي بيئة صالحة، ضمن بيئة صالحة.

• هي حلقة في سلسلة، وليست منفصلة عن البيئة: المدرسة، الشارع، الإعلام...

التأليف: توفِّر الجو الملائم للبحث والتأليف.

التحضير: التحضير لها لا يكون بالكلام، والخطابة، والادعاء... لكن، بتوفير الأسباب، والظروف، والبيئة.

التخصص:

• لا يكون التخصص سجنا للفهم والمنهج.

• لا ينبغي أن تشل ملكة الاستنباط والاستلهام لدى الباحث، بسبب التخصص أو غيره.

• تؤوي الباحثين المتخصصين في فروع المعارف المختلفة، تخصصا دقيقا.

• تعمل بشكل جماعي، أي على صورة جماعات علمية، بينية التخصصات.

الترف الفكري: لا تغرق فيما لا طائل منه، ولا نفع، فلا وقت للترف الفكري.

التساند: تنظر إلى الكون على أنه كل متساند متعاون، لا مكان للفوضى فيه.

التشريفات: تتنزه عن التشريفات، والمظاهر...

التصرفات: تنعكس دواخل الباحثين على سلوكهم وتصرفاتهم، والمتنفسين هواء قلوبهم، والمتطلعين دائمًا إلى ما خلف الآفاق.

تصنيف المعلومات: تصنف معلومات وأفكارا لفهم الإنسان. ووضع النظريات العامة.

التعاون: تنظر إلى الكون على أنه كل متساند متعاون، لا مكان للفوضى فيه.

التعصب:

• لا يتخذ فيها أي موقف على أساس من التعصب، أو الآراء المسبقة، أو التقليد... كل حكم يستند إلى المعقولية.

• التعصب، ينبذ الفكر المتعصب.

التفاصيل: لا يهمل أيَّ تفصيل مهما بدا صغيرا، في مصادر المعرفة.

التفكير العلمي: تتبنى إدراكا لائقا بالتفكير العلمي الصحيح.

التقليد: لا يتخذ فيها أي موقف على أساس من التعصب، أو الآراء المسبقة، أو التقليد... كل حكم يستند إلى المعقولية.

التناغم: ضمنها يلتئم شمل العلم بالعلم، والفكر بالحركية، في تناغم عجيب.

التنكر للدين: ترفض الانحراف والاستيحاش، المتمثل في التنكر للدين والقيم.

التواضع: تجمع بين الحركة الدائمة الدائبة، والعقول السائلة المستكشفة، والقلوب المتقبلة المتواضعة.

التيار الفلسفي: لا ينبغي أن ترتبط بأي تيار فلسفي، لكي لا تكون أسيرة.

الجماعة العلمية:

• لا تقوم على أسماء مفردة منبثة، بل على أساس جماعات علمية، من بين أعضائها عباقرة ومواهب بارزة.

• تعمل بشكل جماعي، أي على صورة جماعات عملية، بينية.

الجماهير:

• تسعى جاهدة لنشر حب العلم وعشق الحقيقة لدى الجماهير.

• مفتوحة الأبواب على الجماهير، ولا تقتصر على النخبة فقط.

الحاضر: يتم الاشتغال في المعضلات الحقيقية الحاضرة، مع القلق المتصور في المستقبل.

حب العلم: تسعى جاهدة لنشر حب العلم وعشق الحقيقة لدى الجماهير.

الحب والمحبة: تعاد مفاهيم أساسية مثل "الحب والمحبة" إلى ساحة البحوث العلمية، من جديد.

الحركة: تجمع بين الحركة الدائمة الدائبة، والعقول السائلة المستكشفة، والقلوب المتقبلة المتواضعة.

الحرية: تتميز بالحرية، في إطار من الضوابط القيمية.

الحزب:

• لا تكون وسيلة لسياسة أو لمنفعة حزبية.

• ليس ملكية لأي جهة، أو حزب، أو فرد.

الحقول الجديدة: تكون المعرفة الجديدة فيها، سلما لأسئلة جديدة، وحقول جديدة.

حقيقة الوجود: ليس العلم منفصلا عن حقيقة الوجود، وعن القيمة، وعن المعنى.

الحلول: لا تشتغل بالمناقشات البيزنطية، بل يؤول مَنْ فيها للحلول والمخططات.

الحواس: مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

الخصام: لا تحمل أي مشاعر للعداء أو الخصام أو الإقصاء.

الخلق الحسن: يتحد العلم مع الخلق الحسن، ليصلا إلى أعماق كبيرة.

خليفة الله: ينظر فيها إلى الإنسان، في أي علم كان، على أنه خليفة لله في الأرض.

الدين:

• ليس الدين أفيونا، ولا هو مخدّر للشعوب، بل هو نور وأي نور.

• يكون فيها الدين والعلم شقيقان، لا انفصام بينهما

الذوق الفنّي: يتسم روادها جميعهم، بالفكر الرياضي، وبالذوق الفني.

الربّانية: سمته الأساس هي "الربانية".

الرسالة: يميزها الروح، والخلق، والمعنى، والغاية، والرسالة.

الرغبات: متحررة عن الرغبات والأهواء.

الروح: يميزها الروح، والخلق، والمعنى، والغاية، والرسالة.

الرؤية الكونية:

• لا تخضع للرؤية الكونية المادية الوضعية.

• يتم فيها اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين، وبخاصة ما كان له أثر على الرؤية الكونية.

• تقوم على أساس من العلاقة العميقة العظيمة بين الله والكون والإنسان.

رؤيتنا الحضارية: تنسجم نظمها ومنهجيتها مع مقوماتنا الذاتية، ورؤيتنا ومبادئنا الحضارية.

السعادة: الهدف منها هو "تأمين سعادة البشرية وكرامتها دنيا وآخرة"، فإن فقدت الهدف صارت شيطانا رجيما.

السلوك: تنعكس دواخل الباحثين على سلوكهم وتصرفاتهم، والمتنفسين هواء قلوبهم، والمتطلعين دائمًا إلى ما خلف الآفاق.

السنة: مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

السنن الكونية: يراعى فيها الشريعة الفطرية، والسنن الكونية، ولا تؤسس خارجها.

السؤال:

• تجمع بين الحركة الدائمة الدائبة، والعقول السائلة المستكشفة، والقلوب المتقبلة المتواضعة.

• لا تشتغل بسؤال: كيف؟ بل عليها أن تلج إلى أغوار: لماذا؟ ومن؟

السياسة: لا تكون وسيلة لسياسة أو لمنفعة حزبية.

الشريعة الفطرية: يراعى فيها الشريعة الفطرية، والسنن الكونية، ولا تؤسس خارجها.

الشكر: يَشُبّ الباحثون فيها إلى العلى بالشكر باحتساب لذائذها أنعما من الحق تعالى.

الشيطان: الهدف منها هو "تأمين سعادة البشرية وكرامتها دنيا وآخرة"، فإن فقدت الهدف صارت شيطانا رجيما.

الصلاح: لا بدَّ من مقصد النافعية والصلاح، لا النفعية المادية فقط.

صورة العلم: مرتبطة أشد الارتباط بـ"صورة العلم" عند الأستاذ.

الضخامة: مهما بلغت من الضخامة، لن تكون "الأخيرة"، فهمة فتح الله لا تعرف النهاية.

العبقرية: لا تقوم على أسماء مفردة منبثة، بل على أساس جماعات علمية، من بين أعضائها عباقرة ومواهب بارزة.

العداء: لا تحمل أي مشاعر للعداء أو الخصام أو الإقصاء

عزم العمل: تتمثل فيها البيئة الصالحة، وعشق العلم، وعزم العمل، والمنهجية... جنبا إلى جنب.

عشق الإله: يرسو على أساس متين، هو عشق الإله، وعشق الحقيقة.

عشق الحقيقة:

• تسعى جاهدة لنشر حب العلم وعشق الحقيقة لدى الجماهير.

• يرسو على أساس متين، هو عشق الإله، وعشق الحقيقة.

• ينتمي إليها من يصدق فيهم وصف "الفاهمين للعصر".

عشق العلم: تتمثل فيها: البيئة الصالحة، وعشق العلم، وعزم العمل، والمنهجية... جنبا إلى جنب.

العقل: مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

العقلانية: لا ينجر وراء التيار الوضعي، ولا العقلاني.

العلاقة بالجامعة: تكون خلفية للجامعات، حتى لا تتحول هذه الجماعات إلى آلات لإنتاج الأفكار النمطية.

العلم:

• العلم كله نور، إلا ما انحرف به أصحابة، فلا يحسن أن يسمى علما.

• لا فصل بين العلم والقيم.

• ليس العلم إلها، ولا هو بديل عن الإله.

• يكون فيها الدين والعلم شقيقان، لا انفصام بينهما.

العلوم الكونية: تتزاوح العلوم الوضعية مع العلوم الكونية الماورائية الغيبية، فلا انفصام ولا تعارض.

العلوم الوضعية:

• تتزاوح العلوم الوضعية مع العلوم الكونية الماورائية الغيبية، فلا انفصام ولا تعارض.

• تحوي جانبا بارزا من العلوم الوضعية، ولا تهمل هذه العلوم مهما كانت المبررات.

العمل الجماعي: تعمل بشكل جماعي، أي على صورة جماعات عملية، بينية.

الغاية: يميزها الروح، والخُلق، والمعنى، والغاية، والرسالة.

فتح الله:

• مرتبطة أشد الارتباط بـ"صورة العلم" عند الأستاذ.

• مهما بلغت من الضخامة، لن تكون "الأخيرة"، فهمّة فتح الله لا تعرف النهاية.

الفرد: تهتم بما يفيد الفرد والمجتمع على السواء، فلا تعارض.

الفردية: لا تقوم على أسماء مفردة منبثة، بل على أساس جماعات علمية، من بين أعضائها عباقرة ومواهب بارزة.

الفكر الرياضي: يتسم روادها جميعهم، بالفكر الرياضي، وبالذوق الفني.

فهم العصر: ينتمي إليها من يصدق فيهم وصف: الفاهمين للعصر...

الفهم: لا يكون التخصص سجنا للفهم والمنهج.

الفوضى:

• لا لنظريات "الفوضى"، ولا لسخافات "ما بعد الحداثة"، نعم للمعيار والقيمة.

• ينظر إلى الكون على أنه كل متساند متعاون، لا مكان للفوضى فيه.

القرآن: مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

قصة الوجود: تكتب فيها قصة الوجود من جديد.

القلق المعرفي: يتم الاشتغال في المعضلات الحقيقية الحاضرة، مع القلق المتصور في المستقبل.

القول الأخير: لا تدعي أنها ستقول القول الأخير، ولا القول الفصل، ولا أنها تملك كل الحقيقة.

القول الفصل: لا تدعي أنها ستقول القول الأخير، ولا القول الفصل، ولا أنها تملك كل الحقيقة.

القيم:

• القيم هي قلب الأكاديميا، وأساس وجودها.

• لا فصل بين العلم والقيم.

• لا لنظريات "الفوضى"، ولا لسخافات "ما بعد الحداثة"، نعم للمعيار والقيمة.

• ليس العلم منفصلا عن حقيقة الوجود، وعن القيمة، وعن المعنى.

• تتميز بالحرية، في إطار من الضوابط القيمية.

الكرامة: الهدف منها هو "تأمين سعادة البشرية وكرامتها دنيا وآخرة"، فإن فقدت الهدف صارت شيطانا رجيما.

الكون:

• يختص فيها البعض لدراسة الكون والإنسان والأحياء في كليتهم وشموليتهم.

• تقوم على أساس من العلاقة العميقة العظيمة بين الله والكون والإنسان.

• تنظر إلى الكون على أنه كل متساند متعاون، لا مكان للفوضى فيه.

كيف؟: لا تشتغل بسؤال "كيف؟" بل عليها أن تلج إلى أغوار "لماذا؟" و"من؟".

لماذا؟: لا تشتغل بسؤال "كيف؟" بل عليها أن تلج إلى أغوار "لماذا؟" و"من؟".

الله: تقوم على أساس من العلاقة العميقة العظيمة بين الله والكون والإنسان.

ما بعد الحداثة: لا لنظريات "الفوضى"، ولا لسخافات "ما بعد الحداثة"، نعم للمعيار والقيمة.

ما وراء الوضعية: لا تردّ ما يأتي خارج دائرة العلوم الوضعية، بأي مبرر كان.

المادية: لا تخضع للرؤية الكونية المادية الوضعية.

الماوراء: الميتافيزيقا والماوراء علم أساس.

المجتمع: تهتم بما يفيد الفرد والمجتمع على السواء، فلا تعارض.

المخططات: لا تشتغل بالمناقشات البيزنطية، بل يؤول من فيها للحلول والمخططات.

المدرسة: تكون حوضا لتلاميذ يتخرجون في مدارس ناجحة، غير مقلدة.

المرسَلون: تسير على آثار الأنبياء والمرسلين.

المستقبل: يتم الاشتغال في المعضلات الحقيقية الحاضرة، مع القلق المتصور في المستقبل.

مصادر المعرفة:

• مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

• ولا تهمل أيَّ تفصيل مهما بدا صغيرا، في مصادر المعرفة.

المطالعة: تنظم برامج للمطالعة الجماعية.

المظاهر: تتنزه عن التشريفات، والمظاهر.

المعبد: مكان مبارك، مثل المعبد.

المعرفة الجديدة: تكون المعرفة الجديدة فيها، سلّما لأسئلة جديدة، وحقول جديدة.

المعقولية: لا يتخذ فيها أي موقف على أساس من التعصب، أو الآراء المسبقة، أو التقليد... كل حكم يستند إلى المعقولية.

المعنى:

• ليس العلم منفصلا عن حقيقة الوجود، وعن القيمة، وعن المعنى.

• يميزها الروح، والخلق، والمعنى، والغاية، والرسالة.

المعيار: لا لنظريات "الفوضى"، ولا لسخافات "ما بعد الحداثة"، نعم للمعيار والقيمة.

المفاهيم: تعاد مفاهيم أساسية مثل: الحب والمحبة، إلى ساحة البحوث العلمية، من جديد.

مقوّماتنا الذاتية: تنسجم نظمها ومنهجيتها مع مقوماتنا الذاتية، ورؤيتنا ومبادئنا الحضارية.

الملكية: ليس ملكية لأي جهة، أو حزب، أو فرد.

من؟: لا تشتغل بسؤال "كيف؟" بل عليها أن تلج إلى أغوار "لماذا؟" و"من؟".

المناقشات: لا تشتغل بالمناقشات البيزنطية، بل يؤول مَنْ فيها للحلول والمخططات.

المنهج: لا يكون التخصص سجنا للفهم والمنهج.

المنهجية: تتمثل فيها "البيئة الصالحة"، و"عشق العلم"، و"عزم العمل"، و"المنهجية"... جنبا إلى جنب.

الموهبة: لا تقوم على أسماء مفردة منبثة، بل على أساس جماعات علمية، من بين أعضائها عباقرة ومواهب بارزة.

الميتافيزيقا:

• الميتافيزيقا والماوراء علم أساس.

• ترفض الاتجاه الوضعي المتنكر للمميتافيزيقا.

النافعية: لا بدَّ من مقصد النافعية والصلاح، لا النفعية المادية فقط.

النخبة: مفتوحة الأبواب على الجماهير، ولا تقتصر على النخبة فقط.

النظريات: تصنف معلومات وأفكارا لفهم الإنسان، ووضع النظريات العامة.

النفعية: لا بدَّ من مقصد النافعية والصلاح، لا النفعية المادية فقط.

النماذج: تعيد للأمة نماذج مثل "ابن سينا"، و"الفارابي"، و"الخوارزمي"، و"الرازي"، و"الزهراوي"...

النمطية: إذا تحولت إلى مراكز منمطة فلتغلق أبوابها، لأن النمطية تقتل العلم والبحث العلمي.

الهدف: هو "تأمين سعادة البشرية وكرامتها دنيا وآخرة"، فإن فقدت الهدف صارت شيطانا رجيما.

همّ الأمة: يئنّ مَنْ فيها بآلام الأجيال، ويحملون همّ الأمة ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم.

الهمّ المعرفي: يحمل الجميع هما معرفيا، ولا مكان للبحث البارد والمحايد.

الهمَّة: مهما بلغت من الضخامة، لن تكون "الأخيرة"، فهمّة فتح الله لا تعرف النهاية.

الوجود: تكتب فيها "قصة الوجود" من جديد.

الوحي: مصادر المعرفة فيها، هي: الحواس، والعقل، والوحي، جنبا إلى جنب.

الوضعية:

• لا تخضع للرؤية الكونية المادية الوضعية

• لا تنجر وراء التيار الوضعي، ولا العقلاني.

• ترفض الاتجاه الوضعي المتنكر للميتافيزيقا.

[1] يعرف ميشال دوبوا "الجماعة العلمية" بقوله: «لا يكتفي أن ندَّعي أننا علماء حتى يتمَّ الاعتراف بنا بصفتنا علماء. أن تكون عالما يعني أن تنتمي إلى كلٍّ اجتماعيٍّ مشكَّل من مجموع الفاعلين، الفرديين أو الجماعيين، في الاستقصاء العلمي: أي "الجماعة العلمية"»
ثم يتساءل: "لكن ماذا يعني أن تكون منتسبا إلى الجماعة العلمية؟". ويجيب:
"أولا: أن تنتمي إلى "نسق اجتماعي"، مؤسسة محدَّدة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية.
ثانيا: أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ معيارية مخصوصة.
ثالثا: وهو يعني أخيرا، أنك موضوع لمراقبة اجتماعية»
والمصطلحات المفتاحية للجماعة العلمية وفق تراث مرتون هي: مؤسسة (Institution)، ودور (Rôle)، ومران (Apprentissage)، ومعايير (Normes)، ومراقبة اجتماعية (Contrôle social). (انظر: دوبوا، مدخل إلى علم اجتماع العلوم، ص:113).
[2] مجلة "حراء، العدد:13 (أكتوبر-ديسمبر 2008).
[3] مقال "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 13 (أكتوبر-ديسمبر 2008).
[4] نموذج المنطاد: نموذج معرفيٌّ، يعالج نظرية المعرفة، والرؤية الكونية، عند الأستاذ فتح الله كولن مثالاً؛ شرعتُ فيه، ولا أزال في بداياته؛ ومما يعالج: الإدراك، ومصادر المعرفة، والرؤية الشمولية...الخ..
[5] أسئلة العصر المحيّرة، فتح الله كولن، ص:185.
[6] مثال ذلك قول الإمام القشيري في لطائف الإشارات: "أكرم الله الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره؛ لاستبصار ما ضمنه من دقيق إشاراته وخفيِّ رموزه، بما لوَّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصُّوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحقُّ -سبحانه وتعالى-يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون، وعن لطائفه مخبرون، وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون".
[7] انظر ص: 111 من هذا الكتاب.
[8] مصداقا لمقولة بديع الزمان النورسي، في الكلمة الرابعة والعشرون، الثمرة الخامسة؛ من الكلمات: "العبادة التي هي حبلُ الوصال، أو نقطة اتصال بين المبدأ والمنتهى، تصرف وجه الإنسان من الفناء إلى البقاء، ومن الخلق إلى الحقِّ، ومن الكثرة إلى الوحدانية، ومن المنتهى إلى المبدأ".
[9] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:95.
[10] الحكم العطائية، ابن عطاء الله السكندري، الحكمة:11.
[11] البراديم كولن: فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد، محمد باباعمي، ص:158-159.
[12] إشارة إلى قول الإمام الشافعي:
وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة
كما أنَّ عين السخط تبدي المساويا
[13] بجوار هذه المؤسسات تنتصب مدرسة "جوشْكُون"، التي تزيد الالتحامَ دلالة ومعنى؛ ومما يدلُّ على التخطيط، أنَّه بجوار الأكاديميا الجديدة، كذلك، قد بنيت مدارس "جُوشْكُون". فلا سبيل للاعتباط والصدفة في منطق الفكر السليم والفعل الحليم.
[14] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:152-154.
[15] المنشور، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 24 (مايو-يونيو 2011).
[16] انظر: الملحق بعنوان "الصورة القلمية للأكاديميا المنشودة".
[17] Işığın Göründüğü Ufuk, M. Fethullah Gülen, s.10.
[18] Işığın Göründüğü Ufuk, M. Fethullah Gülen, s.10.
[19] انظر:
M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 172-188; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 16-20, 57, 65-70; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36, 97; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 19-25, 66; Beyan, 127; Sohbet-i Canan, s. 66; Hakikat Aşkı, Sızıntı, Mayıs-2004; İlim ve Araştırma Aşkı, Sızıntı, Haziran-2004.
[20] فتح الله كولن.. جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنَس أركنه، ص:213.
[21] Fasıldan Fasıla, M. Fethullah Gülen, 3/194
[22] Fasıldan Fasıla, M. Fethullah Gülen, 3/194
[23] Fasıldan Fasıla, M. Fethullah Gülen, 3/194
[24] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99.
[25] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99.
[26] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99.
[27] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99.
[28] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:100.
[29] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:192.
[30] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:191.
[31] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:191.
[32] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:192.
[33] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:192.
[34] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:15.
[35] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:15.
[36] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:14.
[37] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:14.
[38] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:15.
[39] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:130.
[40] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:131.
[41] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:57.
[42] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:24.
[43] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:19.
[44] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:19.
[45] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:19-20.
[46] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:20.
[47] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:20.
[48] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:20.
[49] . الحلم الموجه: مصطلح يستخدم في التخطيط الاستراتيجي؛ حيث يبدأ العقل (أو العقول المشتركة) بالحلم المفتوح، ثم يوجَّه رويدا رويدا؛ حسب المبادئ والظروف والإمكانات... إلى أن يصاغ على شكل "مخطَّط استراتيجيٍّ" محكم.
[50] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:20.
[51] دفاعا عن الإنسان، عبد الوهاب المسيري.
[52] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:21.
[53] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:21.
[54] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:21.
[55] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:22.
[56] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:44.
[57] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:45.
[58] حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، ص:45.
[59] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:189.
[60] هو الدكتور د. أرغون جابان، والمقال نشر في مجلة "الأمل الجديد"، العدد: 89 (يوليو-سبتمبر 2010).
[61] مقال "صورة قلمية لرجل القلب"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14 (يناير-مارس 2009).

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.