أمثلة من الواقع
المثال الأوَّل: خرجت من المسجد في فجر يوم من الأيام، بعد صلاة طيِّبة، بآيات من كتاب الله حكيمةٍ، ومباشرةً عند الباب، حيث كان الناس يلتقطون أحذيتم، رأيت رجلا وقورا، تبدو عليه ملامح الهدوء والوقار... غير أنه ما لبث أن غير هذه النظرة في ذهني، حيث ألقى بنخامته أرضا، ولم يحسَّ أي تقزُّز أو ذنب أو مخالفة لمبدأ من مبادئ الشرع.
السؤال هو: كيف نصف هذا الانفصام عند هذا الرجل، بين صلاة الفجر جماعة، والإخلال بخلُق عظيم من أخلاق الإسلام، وبخاصَّة أنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا لم تنهه صلاته عن خلق منكر، ومخالفة حضارية؟
هل نقول عن الرجل: "إنه ليس مؤمنا"، أو "ليس مسلما"؟
لكن النصوص لا تُواتِينا، ولا تسمح لنا بذلك؛ فالرجل مبدئيـًّا لم يقترف جُرما عقديا، أو مخالفة فقهية، فهل نُخرجه من دائرة الحكم، كما هو معتاد في سياق الفكر العام؟
هناك اقتراح ثالث، وهو أن نعبر عن هذا الموقف بنموذج "الرشد"، فهذا الرجل لما يبلغ بعد مستوى الرشد والرشاد، ولم يدرك بعد مرتبة النضج والحكمة، فهو مسلم غير راشد، مؤمن غير ناضج... ولعلَّ هذا الحكم أقرب ما يكون إلى ما يعرف "بخوارم المروءة" عند علماء الحديث، في "علم الجرح والتعديل".
المثال الثاني: في كندا شاهدت موقفا هالني، ذلك أنَّ الناس جبلوا على النظافة، وعلى احترام الأماكن العمومية، فهم من هذه الجهة -أي النظامية الخلقية الجمالية- بلغوا مرتبة الرشد الحقيق، ومن بين الكنديين الآلاف من العرب والمسلمين، جلُّهم من الإطارات الراقية الواعية العالمة، صاحبة المناصب المرموقة في شتى مجالات الحياة...
لكن، في المطار، وأنا متوجِّه إلى بلد عربي، شاهدتُ شبابيك التسجيل للسفر إلى هذا البلد، فإذا أمامها أوراقٌ وأوساخ مرمية تُفسد جمال المطار، وتُذهب رونقه، وتخدش نظافته...
تساءلت: ما الذي دهاهم، وما الذي دفع هؤلاء وهم في هذه البيئة، إلى أن يتصرَّفوا بهذه الطريقة الغريبة الخرقاء؟
أننفي عنهم صفة الإسلام، أو نلغي عنهم حكم الإيمان؟
طبعا، لا، ولكن كيف نفهم المفارقة أنَّ شبابيك بلاد ملحدة، وشبابيك بلاد لائكية... بل كلّ شبابيك العالمين في المطار تتميز بنظافة الأرض حولها، إلا شباك هذا البلد المسلم، ولعلنا لا نستثني بلادا عربية مثيلة؟
هل نظلم الدين؟ أو نشك في الإسلام؟ أو نقول: إنَّ الإسلام دين جاء ليضمن الآخرة، ولا شأن له بالدنيا، كما يحلو لبعض الأفكار والاتجاهات والحركات أن تُفهمنا؟
لا هذا، ولا ذلك... بل إنَّ هؤلاء المهاجرين، رغم أنهم غادروا بلادهم، وتأقلموا مع بلاد متحضِّرة، راشدة ماديا، لكنهم للأسف لم يغيروا "نماذجهم الإدراكية"، فالذي يضبطهم هو النظام والقانون والصرامة، فإذا ما أحسُّوا بالأمن من هذه المهدِّدات تحوَّلوا إلى مناظيرهم وطبائعهم التي تطبَّعوا عليها.
إذن، إنهم لم يرشدوا بعد، والبيئة وحدها لا يمكن أن تحوِّل الإنسان من فرد غير راشد إلى شخصية راشدة ناضجة واعية...
المثال الثالث: بعد سنوات من تولِّي الرئيس الفرنسي جاك شيراك خدمة بلده، وبعد تنحِّيه من السلطة، بدأت فضائح تزويره وخداعه للشعب وللقانون وللأخلاق تطفو على السطح، وتنشر في وسائل الإعلام، وتحدث ضجَّة عالمية عجيبة.
فبماذا نفسِّر هذا التصرف من أعلى نقطة في هرم أحد أعرق البلدان حضارة؟
إننا نقول أولا: إنَّ الرجل لم يؤمن بما كان ينضبط به، لكنه مرغما ومقهورا كان يأتي ما يأتي ويذر ما يذر.
ونقول ثانيا: إنه لم يرشد خُلقيا، وعاطفيا، ودينيا... فهو -على مكانته- قد بقي مراهقا إلى آخر يوم في حياته، ولذا لم تنفعه أي روادع، ولا مواثيق، ولا قسَم بالأيْمان... ولا مراقبة إعلامية لصيقة... لم يمنعه كلُّ ذلك؛ لأنـَّه كان قادرا على إخفاء ما يريد، وكان فوق القانون، وفوق العيون... وكان مع ذلك دون مستوى الرشد... وكم من مسؤول سامٍ، يُحسب له ألف حساب، تجده في هذه الحال من عدم الرشد، وما كتاب "فضائح رؤساء العالم"، و"نساء يدرن دواليب الحكم"... إلخ، إلا دليلا آخر على ما ذهبنا إليه.
- تم الإنشاء في