2-الميثاق من جهة الدلالة

السؤال: هل هناك دليل عقلي على ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى﴾(الأعراف: 172)؟

الجواب: هناك مسائل من الصعوبة بمكان إيضاحها عقلاً. حتى إذا شرحتْ فإنها تشرح على أنها من الممكنات، أي ليست محالاً. وفي الحقيقة مادام الله سبحانه يذكر هذا فلا يبقى إذاً عليه اعتراض قط.

يمكننا أن نتناول هذا السؤال من جهتين:

1. هل وقع أمر كهذا؟ إن كان قد وقع فكيف يمكن إثباته؟

2. هل اطلع الفرد المؤمن على هذا الخبر؟

هل أن السؤال الوارد من الله سبحانه للأرواح -في أي عالم كان- ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ وجواب الأرواح ﴿بَلَى﴾ أمر قطعي؟ هذا الموضوع ذكر في القرآن الكريم في آيتين اثنتين.

﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾(الأعراف: 172). وهذا العهد قد أُخذ إذن والحادثة وقعت. وقد ذكر المفسرون قديماً وحديثاً في تفسير هذه الآية كلاماً كثيراً.

قال قسم منهم: قد أُخذ الميثاق من الذرات التي ستتركب فيها في المستقبل مركبات ومن أرواحها معاً. وآخرون قالوا: أُخذ حينما وقع الطفل في رحم أمه.

ومفسرون مدققون آخرون يقولون استناداً إلى حديث شريف أنه أُخذ من الإنسان في أثناء نفخ الروح (الحياة) فيه.

وفي الحقيقة أن خطاب الله سبحانه وتكلّمه مع المخلوقات متنوع جدّاً ومختلف جداً. فنحن هنا نتكلم بطراز خاص وبشكل معين، وعلاوة على ذلك فلَنا طرز كلام، لحواسنا الداخلية والخارجية، ظاهراً وباطناً، ولنا تكلّم عقلي وروحي، ولنا نمط من كلام نفسي ولفظي، وكثيراً ما نتكلم بهذه الألسنة ونحاول أن نفهّم الآخرين الذين يفهمونها.

فلِلقلْب لسان خاص به. فالقلب يتكلم ولكن لا يُشعَر به. فإذا قيل لنا، ماذا تتكلمون في باطنكم، نقول: كذا وكذا. ونسرد ما تكلمناه في أنفسنا. وهذا تكلّم نفسي. وأحياناً نتكلم في رؤيانا ونفهم من الآخرين أيضاً، ولكن لا يشعر به أي شخص بجنبنا. ثم ننقل الكلام بحذافيره إلى الآخرين. وهذا طراز آخر من الكلام.

وهناك أشخاص يعرض على أنظارهم في عالم اليقظة ما في عالم المثال من لوحات ويتكلمون مع أشخاص في عالم المثال. وربما بعض المادِّيين لا يصدّقون هذا ويقولون إنه "هَلْوسة" (Hallüsinasyon) لندعهم وشأنهم. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض على نظره النبوي السامي لوحات مثالية من عالم البرزخ وعالم المثال وهو بدوره ينقل ما شاهده وفهمه وأحسّه إلى الآخرين. وهذا نوع آخر من الكلام.

أما الوحي فكلام من نوع آخر كلياً. إذ كان الوحي يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان غيره يشعر به ولا يفهمه، فلو كان هذا شيئاً ماديّاً يُسمع بالأذُن لَشعر به القريبون منه صلى الله عليه وسلم. والحال كان يأتيه الوحي وهو واضع رأسه على ركبة إحدى زوجاته أو واضع ركبته المباركة على ركبة أحد الصحب الكرام، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفهم الوحي من دون أن يشعر به أحد غيره. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ ذلك الوحي حرْفيّاً إليهم. وهذا صوت بطرْز آخر وكلام بطرز آخر.

يرد الإلهام إلى قلب الولي، فيُهمَس في قلبه شيء، وهذا طرز آخر من الكلام مثلما هو في لغة مورس "التلغراف" حيث يستطيع الموظف المختص تحليل ما يبثه هذا الجهاز من شفرات وإشارات. وقد تلقى بعض الأمور في قلب الوليّ، وهو بدوره يستخرج منها معاني شتى. فمثلاً: يقول الولي: فلان بن فلان على الباب، ويفتحون الباب فإذا بالشخص المذكور أمامهم. وهذا طرز آخر من الكلام.

وهناك التلباثي (Telephati): فعُلماء اليوم يهيئون بحساباتهم وتجاربهم أنه سيأتي يوم يمكنهم أن يتخاطبوا بالتليباثي. وهذا شكل آخر من الكلام. وتوجه القلب للقلب ووصول كلام الإنسان به بعضهم لبعض من الداخل بيان بطرز آخر.

يفهم من كل ما ذكرناه أن الله سبحانه وتعالى قد خلق أنماطاً وطرزاً كثيرة لا تعد ولا تحصى من المخاطبات.

والآن لنعد إلى موضوعنا. إن الله سبحانه قال لنا: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ ولكننا لا نعلم بأي طراز من الكلام قد قال هذا، فإن كان كدَقّات مورس -ولا مشاحة في الأمثال- كما في الكلام مع الولي، فهذا لا يمكن أن نَسمع صوته بآذاننا. إن كان هذا إلهام فليس وحياً، وإن كان وحياً فليس إلهامًا. إن كان كلاماً مع الروح فليس هو كلاماً مع الجسد، وإن كان خطاباً للجسد فليس هو من نوع الخطاب للروح.

وهذه نقطة مهمة جداً. إن ما يشاهده الإنسان ويشعر به في عالم المثال وعالم البرزخ أو في عالم الأرواح، يخطئ الناس إذا ما قاسوا تلك الأمور بموازين هذا العالم. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «العبد إذا وُضع في قبْره وتُوُلي وذَهب أصحابُه حتىّ إنه ليَسْمع قَرْع نِعالهم، أَتاه ملَكان فأَقعداه، فيقولان له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرّجل محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟...».[1]

تُرى إلى أي شيء يوجَّه السؤال؟ فسواء سئل جسده أو روحه، فالنتيجة لا تتغير. فحتّى لو شعر الميت بهذا الكلام، فالحاضرون حوله لا يشعرون به قطعاً. وحتى لو وضعوا آلة مسجّلة في القبر فلا يمكنهم أن يسمعوا شيئاً قط، ذلك لأن المكالَمة تجري في أبعاد أخرى وليست من طراز أبعادكم، كالأبعاد التي توصّل إليها أَلْبَرت أينْشتاين (Einstein) وغيره، البعد الرابع والخامس وأمثالها من الأبعاد. كذلك المسألة تتبدل بتبدل المكان، وتبرز أمامكم بهوية أخرى؛ لذا فـ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ كلام الله للروح بكلام خاص بها. ويلزم ألاّ أنتظر أن أدرك تأثير هذا الكلام أو أحفظه. بل يمكن أن أعيه بشكل إحساس منبعث من الوجدان. فنحن نستشعر بهذا بوجداننا على شكل إلهامات.

قال لي أحد الناس أثناء إيضاحي لهذه المسألة: إنني لم أشعر بهذا. قلت له: وأنا شعرتُ به، فإن لم تشعر به فأنت وشأنك. لأنني أتذكر جيّداً استشعاري به وإذا ما سُئلت "بأي شيء شعرت به" أُجيب: "بالتوْق إلى الأبَد المغروز فيّ". لقد سمعت هذا الصوت برغباتي غير المتناهية رغم أني مُتناهٍ. وفي الحقيقة أنني لا أستطيع إدراك الباري عز وجل لأنني محدود مقيّد، فكيف أُدرك المطلقَ غيرَ المحدود! ولكن أدرك عدم المقيد والمطلق بما فيّ من رغبة وتوْق نحوه. فحشَرة محدودة في هذا العالم المحدود تعيش في عالمها المحدود وحياتها المحدودة، ثم تموت. والأشياء الداخلة في حياتها هي الأخرى محدودة. وأنا مثلها في عالم محدود، ولكن أفكر في الـ"لا محدود" و"غير المتناهي". ففيّ رغبة نحو الأبَد، أحمل في روحي التوْق إلى الجنة ورؤية جمال الله. وحتى لو تملكتُ الدنيا كلَّها لا يزول همّي هذا. ولهذا قلت "أحسستُ به"، لأن فيّ هذه الحال.

فأياً كان الوجدان، فهو يترنم بذكر الله بكلياته وأقسامه ولا يكذب قط. فعندما تعطونه ما يرغب فيه يسكن ويطمئن. ولهذا لا يجد القلب الذي هو لطيفةٌ ربانيةٌ سكينتَه إلاّ إذا وجد الوجدان سكينته وطمأنينته. وإشارة لهذا تقول الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد: 28).

وهناك أمر آخر فـ"برجسون" (Bergson) وأمثاله من الفلاسفة تركوا جميع الأدلة العقلية والنقلية في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى واستعملوا وجدانهم وحده دليلاً على ذلك. حتى يقول "كانت" (Kant) في إحدى المرات: "إنني تركت جميع معلوماتي وراء ظهري كي أعرف الله معرفة تليق بعظمته". بينما "برجسون" نجده يريد أن يسلك هذا الطريق. ودليله الوحيد هو الوجدان. فالوجدان يضطرب ويقلق كثيراً من إنكار الله سبحانه، فلا يسكن ولا يطمئن إلاّ بالإيمان بالله. والإنسان عندما يستمع إلى صوت الوجدان الصادر من الأعماق، يشعر دوماً بوجود معبود أزليّ وأبدي. فهذه الحال وهذا الأداء هو الجواب بـ﴿بَلَى﴾ الذي عبّر عن نفسه بكلمات صامته في وجدان الإنسان، جواباً على سؤاله تعالى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. فأيما إنسان إذا ما راقب ولاحظ بدقة، سيجد ذلك الصدى يصعد من أعماق روحه. وإلاّ لو يبحث عنه في العقل أو الجسد، يقع في التناقض. نعم إنه موجود في وجدان كل أحد، إلاّ أن إثباته يخص ميدانه هو. فأهل التحقيق وأهل الشهود والأصفياء والأولياء والأنبياء جميعهم شاهدوه بوضوح كالشمس في رابعة النهار وأظهروه للآخرين.

أما إثباته بالعقل فإننا لا نستطيع أن نبيّن هذا لكم كما نبين شجرة من أشجار الدلب أو شجرة الصنوبر. فالذي يستمع إلى وجدانه ويشاهد ما يجري فيه سيشاهد هذا وسيدركه وسيسمعه.

الهوامش

[1] البخاري، الجنائز 87.

مجلة سِيزِنْتي التركية، مارس 1978.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.