الربانيون
سؤال: ماذا تعني كلمة “ربَّاني” الواردة في القرآن الكريم، ومن هم الربَّانيون، وما هي أوصافهم؟
الجواب: كلمة “ربَّاني” عُرِّفَت في المعجم بأنها تدلُّ على رجل الدين العالم العابد لله.. وعُرّفت في التفاسير بأنها تدل على رجل الحق العارف بالله المجهز بالحكمة والعلم[1]، وزيادة في التوضيح يمكننا تعريف الربَّاني بأنه رجل الحق الذي يبتغي رضا الله وحده، ويعيش منفتحًا على الاعتبارات الميتافيزيقية والروحانية، ويترك الحياة الحيوانية والجسمانية، ويسير ويسيح في مدارج حياة القلب والروح، وإن مفاهيمَ مثل “السير إلى الله” و”السير في الله” و”السير مع الله” و”السير عن الله” الواردة في التصوّف تعبر عن هذا بطريقة ما، وبمنظور آخر: فإن كلمة “ربّانيّ” تُطلق على المؤمن الذي تخلى عن رغباته وشهواته في سبيل الدعوة التي يؤمن بها، وربط كل أموره بحسابات الله وخططه، وأدرك أهمية الطاعة، وعزم واجتهد أن يواصل حياته في هذا الاتجاه.
نعم، إن الربَّاني -بهذا المعنى- مؤمنٌ كامل يمثِّل في شخصه الإخلاص لـ”الرب” إضافة إلى أنه في الوقت نفسه مرشد كامل يرشد الآخرين إلى الطريق الموصلة إلى هذا الأفق، فهو مرشد يبذل جهدًا وسعيًا حثيثًا كي يجعل “الإنسان العادي” إنسانًا حقيقيًّا واضعًا في عين الاعتبار دائرة ربوبية الحق تعالى، لذلك أطلق على أهل الله، وعلى المربين والمرشدين الحقيقيين أناسٌ ربانيُّون، وهذا أيضًا هو السبب في إطلاق لفظ رباني على “الإمام الرباني”، أي المعلِّم الذي يتحرّك وفق القوانين الجارية في الكون، ويعلّم الناس كيفية معايشتها، ويؤمِّن تحرّك الناس بسلاسة وراحة بين طياته، وتأملهم في الكون، وقراءتهم هذا الكتاب، والوصول من خلاله إلى الأفق المنشود.
ويرد ذكر كلمة رباني في ثلاث آيات من القرآن؛ فيجري الحديث في الآيتين 44 و63 من سورة المائدة عن ربانيّي أهل الكتاب، أما الآية الأخرى الواردة في سورة آل عمران فَتَنُصُّ على أن جميع الأنبياء عليهم السلام دعوا محاوريهم ليكونوا ربانيين:
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/79).
يمكن لأي شخص أن يكون ربّانيًّا بقدر ما تسمح به ملَكَتُه وقدرتُه، ويستطيع أن يرتقي إلى عرش كمالات نفسه، غير أنه يحتاج من أجل هذا إلى تنشيط بعض أنظمته الروحية والمعنوية، وإثارة مشاعره وحماسته، والابتعاد عن الحياة الجسمانية، وتقديمه رضا الله على رغباته الخاصة، وتخطيطه حياته كلها وفقًا لحسابات الله متخليًا عن حساباته الشخصية.
ليس من السهل على إنسان يحمل نفسًا بين جنبيه، ولديه رغبات وشهوات، وخصمٌ أبديٌّ مثل الشيطان؛ أن يصبح ربَّانيًّا، فهذا يتطلّب كفاحًا ومجاهدةً حقيقيّةً وجادّة، وعلى مَن يدخُل في مثل هذا الطريق أن يحافظ على علاقاته بالله قوية للغاية، ويجب عليه أن يعرف كيف يحطم اعتباراته وحساباته الخاصة قطعًا إذا ما خالطت الأمر، ولنفترض أنه يؤدي نافلة، فإن كانت ثمة فكرة أخرى تخالط صلاتَه غير مراعاة الله؛ فعليه ترك تلك الصلاة، والانزواء إلى غرفته، والبدء فيها من جديد بعد التركيز التام، ولا يمكننا قول الشيء نفسه بالنسبة للصلوات المفروضة؛ لأنه في هذه الحالة يتعذر تحمل الأمر، غير أنه من يريد أن يكون ربَّانيًّا مضطرٌّ إلى تحقيق الإخلاص في كل أعماله التي تقربه إلى الله، وأن يُسلم قلبه لله عز وجل.
وترد في القرآن أيضًا كلمة “رِبّي” التي تشبه كلمة “ربّاني”: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/146).
وعند مطالعة التفاسير، يُلاحظ أن كلمة “رِبِّي” غالبًا ما تفيد معنيين مختلفين عزوًا إلى أصلها، أولهما: المجتمعات الكبيرة؛ أما ثانيهما: فهو مَن نذروا أنفسهم لـ”الرب”، وفي هذا المعنى الثاني، تشبه كلمة رِبّي كلمة رَبَّاني، ويذكر بعض المفسرين أن اختلاف المعنى بين هذين اللفظين على النحو التالي: بينما يُطلَق لفظ رِبِّي على كلِّ من ينذر نفسه لله فإنَّ كلمة رباني تُطلق على منْ أحرز صفة الإرشاد والتبليغ أيضًا.
ومن ثم يُطلق الربّي على من ينذر نفسه لإعلاء كلمة الله، ويركض دون تردد لرفع اسم الله في جميع بقاع الأرض، ويسعى إلى إعلام الجميع بمحاسن الدين، ويقابل صابرًا شتّى المشاكل التي يواجهها على هذا الطريق.
يُذكر في الآية أن من نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله لن يملوا ولن يهِنوا، ولن يضعفوا، ولن يخضعوا لأعدائهم أمام الصعوبات والمشقات التي ستعترض طريقهم؛ لأنهم يدركون صعوبات هذا الطريق الذي يسلكونه، وقد قطعوا وعدًا منذ البداية بأن يواجهوا هذه الصعوبات، إنهم يعيشون أوفياء مرتبطين دائمًا بهذه العهود طوال حياتهم؛ فيواجهون بابتسامة كلَّ مصيبةٍ تصيبهم في سبيل القضية التي يمثلونها، فيصمدون في مواجهة الصعوبات والمتاعب، ولا يُصدمون ولا يصابون بالذعر، ولا ينساقون أبدًا لفكرة “متى سنتخلص من هذا الأمر؟” وأكثر ما قد يبدر من أفواههم جملة كهذه: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/86).
نعم، إن الإنسان الذي يؤمن بالله لا يلجأ لشيء سوى الركوع والسجود له تعالى، ويمرغ وجهه على الأرض بين يديه عز وجل، ولا يمكن تصور أن يكون المؤمن -الذي بلغ هذه المرتبة- عبدًا لأحد سوى الله تعالى، ولا أن ينحني أمام غيره ويعيش تحت وصايته، إنه يقول مثل بديع الزمان سعيد النورسي: “إنني أتمكن أن أعيش من دون طعام ولكني لا يمكن أن أعيش من دون حرية!”[2]، إنه لا يضحّي أبدًا بحريته في مقابل أي شيء، ولا يستعين بأحد غير الله، ولا يطلب العون من أحد غيره.
وفي نهاية الآية الكريمة التي ذُكر فيها الربيُّون يُذكرُ أن الله تعالى يحب و يكون دائماً مع الصابرين؛ فإذا كان الله تعالى معكم فمَن عليكم؟ فلتوقنوا فلتؤمنوا بأنه لن يضيعكم أبدًا، وهنا يمكنكم أن تتذكروا كلمات نبينا صلى الله عليه وسلم التالية التي قالها تسرية عن ابنته الزهراء رضي الله عنها التي حزنت وبكت في مواجهة الأذى الذي مُورس تمت ممارسته ( عانا منه )ضده عليه الصلاة والسلام: “لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّة، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ”[3].
وعقب تلك الآية: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/146)، يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/147).
في هاتين الآيتين، يُكشف عن النموذج المثالي للإنسان الذي نذر نفسه لله، وهكذا نكون قد رأينا ما يفكرون به ويقولونه، وكيف يواجهون أنفسهم، وكيف يتوجهون إلى الله تعالى، وكيف هو موقفهم في مواجهة الصعوبات والمشقات، وانطلاقًا من هذا المشهد المعروض، يمكننا تحديد موقفنا وقياس أنفسنا ووزنها، ورؤية الفرق بين المكان الذي نقف فيه والمكان الذي يجب أن نقف فيه، ونفهم ما إذا كنا أناسًا نذروا أنفسهم في سبيل الله، أم لا.
الربّانية والربّية وجهان لحقيقة واحدة، فثمة علاقة وثيقة لأحدهما بالآخر، وبينما الربانية تعني التعمق في الداخل والارتباط القلبي بالله عز وجل، تعني كلمة الربيّة الانفتاح على الخارج أكثر، والعزم على تبليغ اسم الله سبحانه وتعالى للعالمين، فيتعذر أن تكونوا مخلصين ناذرين أنفسكم بالمعنى الكامل ما لم تكونوا ربانيين، وإذا ما عجزتم عن إحراز الإخلاص التام الكامل في تبليغ اسم الله سبحانه وتعالى فلا تستطيعون إظهار الأداء والقوة اللازمين اللازمتين في طريق الربانية، والقصورُ في أحدهما يؤثر على الآخر، ربما تكونوا قد سلمتم أنفسكم لسبيل الله وترقيتم إلى حد ما، ولكن إذا لم تركزوا ولم تتقيدوا تمامًا بالرضا قصرتم في دعوة إعلاء كلمة الله.
وحاصل الكلام أن واجب المؤمن هو أن يُسلم نفسه تمامًا للحياة القلبية والروحية، وأن يسير دائمًا في سبيل الله بحواسه الظاهرية والباطنية معاً، ومن جهة أخرى ألّا يُضحيَ لصالح أيِّ شيءٍ بشرفه الذي يحمله بفضل الدين، وأن يتصرّف دائمًا بروح التفاني في هذا الشأن أيضًا؛ فَنَيلُ رضاء الله تعالى ورؤية جماله مرهونان بالوفاء الكامل بمتطلبات الطريق المؤدي إلى ذلك.
[1] لسان العرب، مادة “رب”؛ الطبري: جامع البيان، 6/540-544.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: ملاحق، ملحق أميرداغ، ص 210.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية، 1/416.
- تم الإنشاء في