قَدَرُ الطريق

قَدَرُ الطريق

في مواجهة المظالم المعيشة في يومنا، يعاني الكثير منا المشاعر نفسها ونحمل الأفكار عينها في كل حركاتنا وسكناتنا؛ فينقضُّ نومنا، ونئنّ ألمًا وحزنًا، ومع ذلك نؤمن تمامًا بأنه إذا استطعنا أن نواجه بصبرٍ ورضًا البلايا والمصائب التي نتعرّض لها، فإن جميع المشاكل والصعوبات التي نعانيها في هذا العالم ستكون وسيلة مهمة لفوزنا في الآخرة، وإن الشرور التي تعتبر مهلكات بالنسبة للظالمين هي ذاتها ستصبح منجيات بالنسبة للمظلومين.

لم يخلُ التاريخ قطّ من وجود الظالم والمظلوم، والظالمون محكومٌ عليهم بالخسارة، هنا أو في الآخرة، أما المظلومون فسيكونون الطرف الفائز بالتأكيد، إذا كان المسار الذي يسلكونه صحيحًا.. وبغض النظر عن مظهر الظالم في خضم الأحداث أو وفقًا للأحكام الظاهرية للحياة الدنيوية، فهو الخاسر دائمًا.. ومن ناحية أخرى فإن مظاهر الظلم والأذى والاعتقالات التي يتعرّض لها من يناضلون في سبيل المثل العليا ويصمدون لصالح الحقّ والحقيقة بصفةٍ خاصّة ويتعرّضون لكلّ أنواع الاضطهاد والتعذيب بسبب ذلك، وسيلة لفوز هؤلاء المظلومين أنفسهم.

وعندما ننظر إلى قصص الأنبياء في القرآن، نرى أن الأحداث نفسها تقريبًا تتكرّر في كلِّ عصر، ولطالما كانت السنَّة الإلهية على هذا النحو منذ الأزل؛ فالأنبياء الذين هم أصفى عباد الله قد تعرّضوا لشتى الإهانات والاضطهادات، وقيل عنهم -حاشاهم- “سفهاء” أحيانًا، و”كهنة” أحيانًا، و”سحرة” أحيانًا أخرى، فمنهم من طُرِد من موطنه، ومنهم من رُجم بالحجارة، ومنهم مَن أُلقي في النار، ومنهم من شُقَّ نصفين بالمنشار، فمهما تغيّرت السيناريوهات والمخططات بحسب الوقت والظروف والأحوال، إلا أن فلسفةَ الشرّ لم تتغير قطّ.

ليس الأنبياء وحدهم، بل أيضًا ممثّلوهم المخلصون عانوا من المصير نفسه، ويمكنكم في ذلك أن تتأمّلوا أصحاب الأخدود الذين ورد ذكرهم في القرآن، والأخدود يعني الخندق؛ فأصحاب الأخدود الذين طُلب منهم تغيير دينهم أُلقوا في خنادق مليئة بالنار لأنهم قاوموا وصمدوا، ولهذا أطلق عليهم ذلك الاسم، ولقد ارتُكبت أفظع المظالم -التي تُدمي القلب وتؤلم النفس- بحقِّ الصحابة الكرام، ثم إنه لم يتغيّر شيءٌ.. كيفيّةُ الظلم فقط هي التي تغيّرت وتطوّرَت وفقًا لاختلاف الزمان، فالظالم يمارس ظلمه دائمًا، والمظلوم يعاني ويتألّم، ومن يدري ما الذي سوف يفعله أيضًا طغاة المستقبل بحقّ المضحّين الذين يقفون شامخين في سبيل الله ويتصدون لشتى الصعوبات التي يواجهونها في سبيل جعل الاسم الإلهي الجليل يخفق عاليًا كراية خفاقة!

ويَلفت القرآن الكريمُ الانتباهَ إلى الامتحانات المختلفة التي قد يتعرّض لها المؤمنون، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (سورة العَنْكَبوتِ: 29/2).

وقال أيضًا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/214).

موقفنا في مواجهة الامتحانات والابتلاءات

إن الله تعالى، وفق المعنى الصريح للآيات، يفضّل الماس على الفحم بإخضاعه لامتحانات قاسية، وكذلك الامتحانات التي يفرضها على البشر، فإنها يُظهِر الضعيف مِن القوي.. وتُظهِرُ مَن صِلَتُه وثيقة بالله ومن هو ضعيف الصلة به.. وقد تحقّقت هذه التصفية في كلِّ عصر؛ فقد هوى الساقطون، وغُربِل الخاسرون، بيد أن البعض وقف صامدًا ووفّى بحقّ إنسانيته وإيمانه، فإذا كنتم تؤمنون بأن الطريق الذي تسلكونه صحيح، فهذا ما يجب عليكم فعله.

إن الامتحانات تقوِّي الإنسان وتهيّئ المناخ لظهور القوى والقدرات المكنونة في طبيعته، وإذا كان الإنسان يفكّر بطريقة رتيبة وثابتة في وقت الراحة والاستقرار، إلا أنه ملزم بالبحث عن طرق بديلة للتغلّب على تلك الصعوبات في وقت الشدّة والأزمات، ومضطرٌّ لإعمالِ عقلِه وإجبار نفسه على ذلك، وهذا يوفّر له فرصًا كي يُطوِّر قدراته المكنوزة فيه، وينمّي مهاراته وإمكاناته الكامنة في طبيعته.

وكما نقول دائمًا: فإنّ الشخصَ المهموم غالبًا ما يجد أفكارًا أصلية لا تخطر ببال العباقرة، لأنه يفكر أثناء قيامه وقعوده، ونومه واستيقاظه، وبينما يأكل ويشرب، وفي كل حال وزمان؛ كيف سيتخلص من المشاكل التي يمر بها، ويغيرها، ولا يخلو ذهنه من هذه الأفكار ولو لحظة.. ومن ثم يريه الله تعالى فرجًا ومخرجًا، أي إن الألم والضيق والمعاناة وسائلُ مهمّةٌ لتنمية الإمكانات البشرية والوصول إلى أفق الإنسان الكامل.

ولما كانت الامتحانات حقيقة ثابتة بالنسبة لمن يسيرون في سبيل الله؛ فإن واجبنا في مواجهة الحوادث القاسية المعيشة هو ألا نقع في الفوضى، وألا نأبه بالإهانات، وألا تثبطنا المظالم والضغوط، وأن نستمرّ في السير على الطريق الصحيح رغم كلّ شيءٍ، فإن تقفوا عند هذه المساوئ وتنشغلوا بها طوال الوقت، فسوف تهدرون طاقتكم وتبدّدون قوّتكم وقدرتكم عبثًا، ولن تبقى لديكم طاقة للوفاء بالتزاماتكم الأصلية؛ وبالتالي تهملون واجباتكم ومسؤولياتكم.

نحن مخلوقات لا حول لها ولا قوة، قوّتُنا محدودة، لا يمكننا حتى القيام بأمرين في وقت واحد بشكل صحيح، لهذا السبب يجب أن نخصص الإمكانات التي نمتلكها لأهم الأعمال ونركز عليها، وعلينا أن نفكر فيما يمكننا القيام به لتحقيق حلمنا ومثلنا السامية في ظل الظروف الحالية، وأن نضع الخطط والإستراتيجيات السليمة وفقًا لذلك، ونسير في هذا الاتجاه.

هذا لا يعني وجوبَ تجاهل المظالم المرتكبة وألا نفعل شيئًا ضدّها، على العكس من ذلك، ينبغي أن نتمتّع بحقوقنا القانونية حتى النهاية؛ وأن نفعل كلّ ما هو ضروريٌّ للدفاع عن حقوقنا، ويبرز العاملون في كل مجال الأداء اللازم فيما يتعلق بمجالهم، لكن انشغال كلِّ امرئ بأيِّ مسألةٍ خلاف هذه -سواء كانت ضرورية أو غير ضرورية- يعرّضنا للفوضى كأن يُلقم الإنسان حجرًا لكلِّ مَن ينبح، ولا تستطيع أعصابُنا تحمُّلَ هذا القدر من العبء، ونتيجة لذلك فسنواجه إخفاقات متتالية في الأعمال الصالحة التي نضطلع بها.

من المهم جدًّا أن تكون قادرًا على تحديد ما يجب فعله ومتى تفعله، فالمؤمن إنسان ذكي، يحسب جيدًا نتائج كلِّ خطوة يخطوها، ويعتبر الانشغال بأشياء فارغة وغير ضرورية مضيعة للوقت، لا يفعل أشياء تنقلب عليه وضررُها أكبرُ من نفعها، إنه يحاول من خلال كلِّ كلمة تخرج من فمه، وكل حركة يقوم بها، أن يخدم غايته المثالية.. لا يستهين بأية خدمة يفعلها في سبيل الله، ولا يستقلّها أو يستصغر نتائجها، لأنه يعلم أن الله هو من يخلق النتائج ويجعل الأعمال مفيدة، فالله يجعل الآحاد آلافًا، والقطرات بحرًا إذا شاء.

الاستمرار على الطريق

التفاني والتضحية هما أهم صفاتنا وديناميكياتنا؛ أي تجاهل شعور العيش لدينا رغبةً منا في إحياء الآخرين، نحن نعيش من أجل الإحياء، نعتبر أن واجبنا الأساسي هو أن نمدّ للآخرين يد العون المادي والروحي، ونعتبر أن أهم واجب ووظيفة هي إبلاغ منظومة القيم التي ورثناها من الماضي وإيصالها إلى القلوب المحتاجة والهرعُ إلى مساعدة وإنقاذ الأشخاص الذين تعرّضوا للدمار أو الإهمال أو المعاناة في بقاع مختلفة من العالم..

نحن نؤمن بأهمية مكافحة “الجهل والفرقة والفقر” في جميع أقطار الدنيا، ونحاول إنشاء جزر السلام وبناء حواجز الأمواج في مواجهة الصراعات والنزاعات التي تعاني منها الإنسانية، ونعتقد أن الإنسانية بحاجة إلى الحوار والسلام والمحبة أكثر من أي وقت مضى، ونبحث عن طرق مختلفة حتى يتسنى تحقيق ذلك، ونعتبر كل هذا أحد أوامر ديننا وضرورة إنسانية أيضًا، فإن لم تكن لدينا شكوك حول صحة هذا الطريق الذي نسير فيه، وجب علينا ألا نسمح لأنفسنا بأن تتأثر بما تلاقيه من قمعٍ وظلمٍ وتعذيبٍ ولو مثقال ذرة، وألا نتراخى، وألا نغيّر اتجاهنا، وألا ننحرف، وألا نغيّر موقفنا، وعلينا أن نستمرّ في طريقنا مهما كان الثمن.

قد يقطع البعضُ عليكم طريقكم الذي توقنون أنه صحيح، ويضع العقبات أمامكم.. وعليكم أن تعرفوا كيف تتغلّبون على هذه العقبات كالأنهار المتدفّقة، وتجدوا طرقًا جديدة لأنفسكم؛ فلا الحجارة ولا الصخور أو غيرها من العوائق يمكنها أن تقطع على الأنهار طريقها؛ فهي تتجاوز العوائق التي تعترضها، من فوق بعضها أحيانًا، ومن تحت بعضها أحيانًا، ومن جانب بعضها أحيانًا أخرى، وأحيانًا تجرف تلك العقبات أمامها، فإن لم تنجح تبحث لها عن سبُلٍ جديدة لتصل إلى البحار بطريقة ما..

أنتم أيضًا يجب عليكم أن تجدوا لأنفسكم ممرًّا عن يمين ويسار ومن فوق وأسفل العوائق التي تعترض طريقكم، وأن تواصلوا مسيركم، فإذا أصبحت الطرق غير سالكة تمامًا، تباطأتم، وتحركتم حيث أنتم، وانتظرتم ما يقدره الله بشأنكم من عناية ولطف، لكن عليكم ألا تهلعوا وألا تخافوا وألا تستسلموا وألا تتراجعوا بأي شكل.

إن تتمكّنوا من الحفاظ على هذا الشدّ المعنوي، فلن تتمكن أية شبكة فساد ولا فكرة نفاق من الوقوف في طريقكم؛ لأنه لم تتمكن أي قوة إلى اليوم من أن تمنع الناس من السير على الطريق الصحيح؛ فقد نال البحر الأحمر ممن أرادوا أن يُعيقوا سيدنا موسى عليه السلام، وأغرق الطوفان من أرادوا أن يقفوا أمام سيدنا نوح عليه السلام، لقد تكررت مثل هذه الأحداث منذ عهد آدم عليه السلام، ولن تنقطع أو تتوقف، وإن الله تعالى لم يتخلّ قطُّ عن السائرين في طريقه والمثابرين الصامدين.

عاقبة الطغاة المريرة

هناك تشابهٌ بين طغيان الطغاة منذ القدم؛ فقد أخضعوا من اعتبروهم معارضين وأعداء لهم لأقسى انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال القوانين التي سنوها حسب هواهم بغضّ النظر عما إذا كانت تتوافق مع القيم الإنسانية العالمية وفكرة العدالة أو لا تتوافق.. فهذه الأرواح البائسة، التي ترسم لنفسها مواقع سامية ومقدّسة، جربت كلَّ وسيلة لاستعباد الناس وإخضاع الجميع لوصايتها، وكم من شرور ومظالم ارتكبوها لخنق وتقييد وإخراس من لا يفكرون مثلهم، لكن في النهاية التفَّت الأشياء التي فعلوها حول أقدامهم وعاشوا انكسارًا إثر انكسار.

وعندما ننظر إلى نهاية الطغاة الذين عاشوا في الماضي، نرى كيف سقطوا جميعًا في حالة يرثى لها وكيف انهار على رؤوسهم الحكم الذي أقاموه؛ فلم يتركوا ظلمًا إلا ارتكبوه حين استولوا على السلطة، لكن جاء يوم جرفتهم الأكاذيب والافتراءات التي أتوا بها، والمظالم التي ارتكبوها، وألقت بهم بعيدًا مثل السيل، وعلى الرغم من أنهم سعوا وراء الشرف والتصفيق طوال حياتهم، إلا أنهم ماتوا في خزي وعار، لم تنقذهم قصور الرخاء والسعادة التي شيدوها، ولا الرجال الذين وثقوا بهم، ولا السلطنات التي أقاموها، ولن تختلف عن ذلك عاقبة فَراعِنة ونماردة هذا العصر؛ لأن الله يُمهل ولا يُهمل، والظلم لا يستمرّ أبدًا حتى لو استمر الكفر.

أؤكد لكم أن عاقبة الظالمين الذين جثوا اليوم على وطننا المبارك مثل كابوس لن تكون مختلفة عن ذلك، وإنني آمل ألا يتسبب هؤلاء في كارثة للبلاد مثل الحرب العالمية الأولى عبر دخولهم في حرب هنا وهناك أو إيقاعهم بين أفراد الأمة، تمامًا مثلما ضحّى الاتحاديّون بدولة عظيمة كالدولة العلية انهزامًا لمشاعرهم الخاصة.. لقد قضى الاتحاديون على دولة كاملة كانت ذات يوم على رأس العالم؛ فكانت عنصر توازن مهمّ في التوازن الدولي حتى في وضعها الأخير.. نرجو من الله ألا يضحّي هؤلاء ببلدنا -الذي هو بالفعل في دوامة المشاكل- من أجل مغامرة أخرى، وإلا فإن هذه الأمة لن تتمكن من النهوض مجدّدًا بسهولة ويسر، نسأل الله ربنا الرحيم ألا يُهيئ فرصة كهذه لهؤلاء الجهلة.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.