حوار أخبار اليوم المصرية مع الأستاذ فتح الله كولن
في حين يَعتبر أردوغان الأحداث الجارية في تركيا انقلابا، أطلقتم عليها بأنها إنها مسرحية، فعلام استندتم في هذا؟
إنني أقول هذا بناء على المعلومات التي تناثرت هنا وهناك، ولكني لا أتَّهم أحدا بشخصه.. فقد قُدِّر لي أن أشاهد كل الانقلابات التي جرت منذ العام 1960، وعايشت أجواءها كلها، وكنت هدفا للبعض منها وعانيت كثيرا بسببها، لذلك أعرف ما يمكن أن يطلق عليه “انقلابا” نوعا ما. وبناء على كل ما عايشته خلال الانقلابات السابقة يمكنني القول إن هناك لعبة ما في تفاصيل هذا الانقلاب المزعوم، فمثلا لم يبدأ أي واحد من الانقلابات السابقة بإغلاق للجسور، ولا تتم الانقلابات في وضح النهار أو في ساعات الذروة من الليل، والتي تكون الجماهير فيها لا تزال في الشوارع كما حدث في الأخير. لكن وصفنا له بالمسرحية لا يعني أبدا الاستهانة بالأرواح التي راحت ضحية لهذه الأحداث، سواء من المدنيين أو من أفراد الشرطة والجيش، فأنا أدعو الله أن يتقبلهم عنده من الشهداء.
قد تختلفون معي في وجهة النظر هذه، لكن اسمحوا لي أن أقول: إن الانقلاب له منطق معين، فهو يبدأ بمن هم على رأس الهرم، لأنهم الهدف النهائي. لكن الأمور لم تجر على هذا النحو في تلك الليلة، مما يعني أن الانقلاب نفسه لم يكن هدفا، وإنما الهدف هو إخراج الأحداث في صورة انقلاب لتحقيق أهداف أخرى من ورائه، ما كانوا ليحققوها في الظروف العادية. ولذلك قاموا بهذا الانقلاب الصوري فألقوا القنابل في مبانٍ فارغة، وبدلا من الذهاب إلى أماكن المسئولين بدأوا يهاجمون الشعب، ولم يحدث أي مساس بأي سياسي، لذا رأينا السياسيين يستعرضون عضلاتهم على شاشات التلفزة لساعات طويلة، بينما الأحداث تجري على أشدها في الشوارع بين الجماهير وأفرادٍ وآليات من القوات المسلحة. لم تحدث أية مداهمة لأي مبنى تلفزيوني سوى مبنى التلفزيون الرسمي TRT بشكل عرضي ولفترة محدودة، في الوقت الذي كانت تبث فيه قنوات التلفزة الأخرى خطاباتِ وتصريحات المسئولين الحكوميين ونداءاتهم للشعب وتحريضهم له على الخروج لمواجهة الجيش. لهذا كله شككت في كونها انقلابا حقيقيا، إذ لم يكن واحد من الانقلابات التي عشتها من هذا القبيل.
فمنذ بداية الأحداث فَهِم َكل من له مسكة من عقل ممن رأوا هذا المشهد ولديهم اطلاع على ماهية الانقلابات، أو شاهدوا إجراءاتها من قبل، أن ما يحدث ليس من الانقلاب في شيء.
أضف إلى ذلك، العدد المحدود جدا من الآليات كالدبابات ومركبات الجنود التي تواجدت في الشوارع، والتي اعتلتها الجماهير في مشهد استعراضي وكأنها أُرسلت لذلك. بل إن بعضا من المدنيين اقتحموا هذه الدبابات وقاموا باستخدامها وقيادتها، مما يلقي نوعا من ظلال الشك على نوعية هؤلاء المدنيين، وطريقة تواجدهم في هذه الأماكن تحديدا
فمنذ بداية الأحداث فَهِم َكل من له مسكة من عقل ممن رأوا هذا المشهد ولديهم اطلاع على ماهية الانقلابات، أو شاهدوا إجراءاتها من قبل، أن ما يحدث ليس من الانقلاب في شيء.
كما أن الجنود الذين كانوا يتواجدون في الشوارع لم يكن لديهم علم بطبيعة المهمة المكلفين بها، فقد قيل لهم: “إن هناك تطبيقات عسكرية”، لذلك كانوا لا يعرفون إلى أين يتجهون، بل إن أحد الجنود عندما سئل عن وجهته أجاب: “إن هناك إرهابيا سنذهب إلى اعتقاله، وانتظِروا منا الخبر”.
إن عدد الجنرالات المعتقلين على خلفية هذا الانقلاب المزعوم يبلغ نحو 150 جنرالا، تحت قيادتهم مئات الآلاف من الجنود والضباط وضباط الصف، بينما لم يتواجد في الشوارع من هؤلاء الجنود سوى بضعة آلاف حسب الروايات الرسمية فأين ذهب بقية الجنود والضباط؟ ولماذا لم يكونوا في مسرح الأحداث؟
لقد قضيت سنتين من عمري أؤدي واجب الجندية في صفوف الجيش التركي، ولديّ إلمام بطبيعة العمل في هذه المؤسسة، ومدى الجدية والانضباط في تلقي الأوامر والتعليمات من القيادة، وكل الذين أدوا واجبهم الوطني في الجيش يعلمون هذا. فإذا قيّمنا كل هذه الأمور تقييما شاملا فسيتبين لنا أنه عمل مدبر من قِبَل أناس لا يتحلون بجدية الجندية، وأنه أشبه بسيناريو أُعدّ خصيصا لتحقيق أهداف معينة.
بناء على هذا التحليل، مَنْ -في رأيكم -كاتب هذا السيناريو؟ ومَنْ الذي قام بإخراجه؟
هناك من ردد بأن هذا العمل قام به “القوميون-العلمانيون”، ومنهم من ذكر “الكماليين المتطرفين”، ومنهم من ذكر ثلاث فئات، ومنهم من ذكر خمسا.. وهناك جهات ذكرت أنه تم الدفع بمجموعة من المتدينين في المقدمة ليكونوا في الواجهة ويحمّلوهم المسئولية. على كلٍّ لابد من إجراء تحقيق شامل عادل ونزيه للكشف عن ملابسات هذا الانقلاب وفضح من وراءه. ولكن إجراء تحقيق بهذه الأوصاف في ظل الأوضاع الراهنة في تركيا أمر يصعب تحققه، اللهم إلا إذا انعقدت لجنة دولية للتحقيق في الأمر، ساعتها يمكن الوصول إلى نتائج سليمة. ومن جهة أخرى لابد أن ننظر إلى الأمور بنظرة أكثر شمولية حتى نقف على المخططين الاستراتيجيين لهذه المحاولة، ومن هم المستفيدون منها بدلا من الغرق في التفاصيل.
لقد مر وقت ليس بالقليل على الأحداث حتى الآن، ومع كل هذه الإجراءات التي اتخذوها نستطيع القول: إن الجهود المبذولة بغرض الكشف عن المخططين والمنفذين الحقيقين لا تسير بصورة جدية حتى الآن. بل على العكس فرغم أن الذين قاموا بمحاولة الانقلاب الفاشلة هذه على حد قولهم أفرادٌ من وحدات الجيش العسكرية إلا أن إجراءات الاعتقال والفصل من الأعمال، وسحب الجوازات ومصادرة الأموال وتأميم الشركات والتعذيب في السجون، ومعاملة الأبرياء من المعتقلين معاملة المجرمين، بل والإفراج عن عدد كبير جدا من المجرمين الحقيقيين من ذوي الأحكام بعفو عام لاستيعاب عدد آخر من الأبرياء، كل هذه الإجراءات تمتد لتطال قطاعا كبيرا من المدنيين أكبر بكثير ممن استهدفتهم داخل الجيش. فقد استهدفت قرابة مئة ألف من المعلمين والقضاة والمدعين العامين وأفراد الشرطة والعمال وأصحاب الحرف وأعضاء الجمعيات الخيرية والإعلاميين.. حتى طالت الأطفال وكبار السن والنساء والمرضى، ولا تزال تلك الانتهاكات مستمرة دون توقف بذريعة الانقلاب.
وكل هذه العمليات تكشف للمراقب أن النية مبيتة على الاستمرار في التغطية على الفاعل الحقيقي وعدم الكشف عنه، فمؤسسة الجيش من أكثر المؤسسات في البلاد انضباطا ودقة في تطبيق التعليمات والأوامر، وليس من الصعب الكشف عن أصغر قضية فيها وتحديد أطرافها، لذا نرى من التناقض أن يتم الزج بهذا العدد الكبير من المدنيين في السجون والمعتقلات واتهام مجموعة كبيرة أخرى بأنهم وراء هذا الانقلاب في قطاعات مدنية مختلفة منذ اللحظات الأولى للانقلاب، وألا يتم في الوقت نفسه الإفصاح عن أسماء المتورطين أو الكشف عن الفاعلين والمدبرين لهذا الأمر من أفراد الجيش، وإعلان أسمائهم للرأي العام على الرغم من مرور هذا الوقت الطويل.
إن الجهود المبذولة بغرض الكشف عن المخططين والمنفذين الحقيقين لا تسير بصورة جدية حتى الآن.
هناك جهة في الجيش تُدعى “مجلس السلام الوطني” يُعزى إليها محاولة الانقلاب الفاشلة، ولكن إلى الآن ليس لدينا أي معلومات عنها، كم عددهم؟ وما ارتباطاتهم؟ من الذين استخدموا الدبابات والطائرات؟ وممن تلقوا أوامرهم؟ ومن حرض طلاب المدارس العسكرية السذج حتى خرجوا إلى الشوارع على هذا النحو؟ من استغل عواطفهم البريئة وقام بحشدهم؟ من احتجز الجنرالات من هيئة الأركان بل ورئيس الأركان نفسه؟ تداولت وسائل الإعلام تصريحات متضاربة في كل هذه الأمور، تسمع أن فلانا هو من وراء هذا الانقلاب، ثم في اليوم التالي يتحدثون عن بطولته في إفشال هذه المحاولة. وهكذا كلما زادت التصريحات زادت معها التناقضات بدلا من العكس. يقولون إن كل الأمور باتت تحت السيطرة، فما دام الأمر كذلك فلماذا لا يعلنون النتائج بشفافية على الرأي العام؟
برغم كل هذه الأمور التي ذكرتموها لابد أنكم قد تشكلت لديكم قناعة حول الفاعلين الأصليين، فإلام توصلتم في هذه القناعة من خلال تجاربكم السابقة وتخميناتكم الحالية؟
لست مطلعا على كافة التفاصيل، هناك ادعاءات تتردد في الأوساط الإعلامية لم يتبين لي مدى صحتها
تشير إلى أن مجموعة من “العلمانيين القوميين” هم من وراء هذه المحاولة، وأن هناك اعتقالات لبعض من المعروفين بتأييدهم لـ”دوغو برينتشك” رئيس حزب الوطن القومي المتطرف الذي كان معتقلا على خلفية قضية الأرجنكون، وتم الإفراج عنه بعد تفاهمات مع الحكومة الحالية.
ومن جهة أخرى كتبت مجلة “فوكس” (Focus) الألمانية استنادا إلى مصادر من الاستخبارات الإنجليزية أن هذه العملية قام بتدبيرها مجموعة من السياسيين بغرض إدانة حركة الخدمة، وأعتقد أنه في القريب العاجل سترشح معلومات ودلائل أخرى تشير إلى الفاعلين الحقيقيين. لكن وحتى تظهر تلك الدلائل فالحكومة هي المسئولة أمام الرأي العام المحلي والعالمي عن البحث والتدقيق الجاد لكشف ملابسات هذه الأحداث، والإفصاح عن المخططين والمنفذين الحقيقيين لهذه المحاولة. لكن يبدو أن الحكومة لا تسعى سعيا جديا في هذا المجال، فعمليات القبض والاعتقال العشوائية، والاستمرار فيما يسمى بمطاردة “الساحرات”، والدعايات الإعلامية التحريضية، وسائر ألوان الظلم والاضطهاد وأعمال التعذيب الوحشية والانتهاكات الجسدية، بالإضافة إلى تعرض عائلات المقبوض عليهم والمعتقلين من نساء وأطفال ومرضى وكبار السن لصنوف شتى من الإيذاء، كل هذا يشي بأن الحكومة ليس في نيتها الكشف عن المخططين والمنفذين الأصليين لهذه العملية.
لماذا الخدمة؟
إن محبي الخدمة والمتطوعين فيها قد نأوا بأنفسهم عن الانخراط في العمل السياسي، وابتعدوا تماما عن كل ما يمت بصلة للإسلام السياسي. لكنه بعد وصول المنتمين إلى فكر الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، وتمكنهم من مراكز القوة وصناعة القرار بدأوا ينظرون إلى كل الحركات ذات المرجعية الإسلامية، والناشطة في المجتمع المدني بأنهم يجب أن يعلنوا لهم ولاءهم، ويقوموا بمبايعتهم على غرار نظام البيعة التقليدي المشهور في التراث الإسلامي.
فالشخص القابع الآن في سدة الرئاسة زار كثيرا من الشخصيات عندما كان بصدد تأسيس حزبه عام 1999، وقد زارني أيضا لطلب الدعم وتلقي النصائح، وقدمت له بعض التوصيات بناء على ما أبداه لي من جدية وإخلاص، لكن تبين لاحقا أنه كان مخادعا، فقد حكى عنه بعد مدة أحد الذين رافقوه في هذا اللقاء أثناء مغادرته وهو في المصعد قوله:” ينبغي القضاء على هؤلاء أولا.” وهذا يعني أنه ما كان يُكِنّ لنا أي ود من الأساس، وأن تصريحاته في مدح حركة الخدمة والثناء على أنشطتها ما هي إلا مراوغات من سياسي احترف الخداع. لقد كان دعمنا له في البداية بناء على ما قطعه على نفسه تجاه الشعب التركي من وعود، فقد وعد بدعم الحريات واحترام القانون وتعديل الدستور، وتعزيز الديمقراطية والسعي قدما في سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتلبية المتطلبات المتعلقة بذلك في ملفات الديمقراطية والحقوق والحريات واحترام الإنسان. لكن مواقفه تغيرت كليا عقب الاستفتاء العام على الدستور عام 2010. فقد علق الوعد بتعديل الدستور على دعمنا له في النظام الرئاسي، ثم طووا ملف تعديل الدستور هذا كليا، وطالبونا بالدعم العلني للنظام الرئاسي، وتأييدهم مطلقا في كل مواقفهم، وأن ندور معهم في تقلباتهم حيث داروا.
كتبت مجلة “فوكس” (Focus) الألمانية استنادا إلى مصادر من الاستخبارات الإنجليزية أن هذه العملية قام بتدبيرها مجموعة من السياسيين بغرض إدانة حركة الخدمة،
لم يستطيعوا أن يفهموا أن دعمنا لهم أو انتقادنا لأدائهم ليس مرتبطا بهم بقدر ما هو مرتبط بمبادئنا التي نتمسك بها دائما. لقد قلبوا لنا بعدها ظهر المِجَنّ، وأفصحوا عن وجههم الحقيقي تجاهنا، لم يتحملوا أن يكون هناك اتجاه في البلد له تأثير في الرأي العام بمقتضى نشاطاته وفعالياته المجتمعية ولا يمكنهم التحكم فيه، لذا قرروا التخلص منا تماما. بدأوا أولا بتوفير مؤسسات بديلة للخدمة من أموال الشعب ومن ميزانية الدولة، وبذلوا كل ما في وسعهم في سبيل ذلك، سواء في الداخل التركي أو على مستوى العالم. ولما فشلوا في ذلك لأنهم لم يكن لدى أفرادهم الروح نفسها التي يتحلى بها أبناء الخدمة المتطوعون فيها قرروا الاستيلاء على هذه المؤسسات التي أنشأها المجتمع بنفسه. وبدلا من حيازتها وإدارتها إدارة حكيمة من طرف الدولة أعلنوا إفلاسها وأغلقوها ثم وزعوها فيما بعد على المقربين منهم، وهم الآن يحاولون الشيء نفسه في الخارج، لكن باءت كل محاولاتهم تلك بالفشل، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
إذا كان أردوغان لديه كل هذه السلطات الواسعة، فلماذا يلجأ إلى مثل هذه الوسائل؟
إن القائمين على شأن البلاد الآن يسعون منذ خمس سنوات بذرائع مختلفة لتوسيع صلاحياتهم، وجمع كل السلطات في يد واحدة، تمهيدا لإقرار النظام الرئاسي. وقد بدأوا هذا عن طريق الإعلام، فأنشأوا آلية معروفة الآن باسم ” الحوض الإعلامي”، نقلوا من خلالها كثيرا من وسائل الإعلام المستقلة أو المملوكة لأفراد لا يُظهرون الدعم لهم إلى ملكية رجال أعمال موالين، من خلال إفلاس مالكيها الأصليين، أو الحجز على ممتلكاتهم. حتى القنوات الإعلامية التي استطاعت أن تحافظ على حياديتها بالرغم من تلك الإجراءات كلها، قاموا بإرهابها مستغلين في ذلك أحداث ” جيزي بارك” التي وقعت في تقسيم.
وبدلا من تقديم الفسدة والمرتشين إلى العدالة بعد انكشاف فضائح الفساد في 17-25 ديسمبر 2013، زعموا أن الخدمة هي من قامت بهذه العملية بغرض إحداث انقلاب مدني على الحكومة، وبدأت ماكينة الإعلام سالفة الذكر تشتغل على هذا الموضوع، واستغلوا حينها الفرصة وقاموا بتغييرات شاملة في جهازي الشرطة والقضاء، أبعدوا فيها كل من كانوا يجرون التحقيقات في هذه القضايا من القضاة والمدعين العموم، وقاموا بعزل وإبعاد كثير من غيرهم، وعينوا مكانهم موالين لهم، حتى صار الجهازان الشرطي والقضائي تحت وصايتهم تماما.
ثم اتجهوا بعد ذلك إلى المؤسسة العسكرية يطالبون بتطهيرها على حد زعمهم مما يطلقون عليه “الكيان الموازي”، وقد قاموا قبل ذلك بتصفية بعض الجنرالات بعزلهم من مناصبهم أو اعتقالهم في القضيتين الشهيرتين اللذين أطلق عليهما “أرجنيكون” و”باليوز” (المطرقة)، واعتقدوا أن الأمور ستتم بنفس السهولة التي حدثت في جهازي الشرطة والقضاء، لكن المؤسسة العسكرية طالبتهم بتقديم الأدلة على انتماء هذه القوائم المعدة سلفا للخدمة، وأصرت على العمل في إطار القوانين في مقاومة منها لدخول المؤسسة العسكرية تحت وصاية الحكومة، والحفاظ على استقلاليتها. لذلك لم يكن أمامهم من سبيل إلا تدبير محاولة من هذا النوع لبسط النفوذ الكامل على مؤسسة الجيش.
وإن الناظر لما آلت إليه الأمور والإجراءات بعد الانقلاب فسيجدها تسير جميعا في هذا الاتجاه، فإعادة هيكلة الجيش، وإدخال عناصر مدنية إلى مجلس الشورى العسكري لأول مرة، وعزل الآلاف من مختلف الرتب وتسريحهم من مناصبهم، وتعيين موالين مكانهم وإغلاق المدارس والكليات العسكرية ما كان ليتم دون وقوع عملية من هذا النوع.
عكست وسائل الإعلام خلال بثها لمهرجانات الديمقراطية عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة توحد المعارضة مع أردوغان فكيف ترون ذلك؟
قبل محاولة الانقلاب الأخيرة كانت السلطة قد أحكمت قبضتها بما يعادل 95 % تقريبا على وسائل الإعلام في البلاد، وتحول الإعلام إثر ذلك إلى أداة للدعاية للحزب الحاكم وعلى رأسه أردوغان.
وبعد المحاولة الانقلابية بات كل من يفكر في معارضة السلطة أو التعليق على أدائها يصنف في عداد الخائنين. فعدد كبير الآن من كبار الصحفيين أو الكتاب الذين كانوا يعبرون عن رأيهم في أداء الحكومة إما في المعتقلات أو قيد الإقامة الجبرية ولا يسمح لهم بمغادرة البلاد. ففي مناخ جنوني كهذا هل تعتقد أن هناك من يتجاسر على المعارضة أو حتى يناقش الأحداث بموضوعية دون أن يكون أمنه وسلامته وسلامة عائلته معرضة للخطر؟
إن الدعاية الإعلامية الكاذبة في أوروبا أيام هتلر وموسوليني كانت هي العامل الأول والرئيسي في حشد الجماهير نحو أهداف بشعة، وسيأتي يوم تكتشف فيه جماهير شعبنا كيف أنهم تم تضليلهم واندفعوا إلى ارتكاب بعض الحماقات بسبب تلك الدعاية التحريضية الكاذبة، وإلى أن يحين هذا الوقت سيبقى عدد كبير منهم للأسف ضحايا هذا التضليل الإعلامي المحرض.
إن الدعاية الإعلامية الكاذبة في أوروبا أيام هتلر وموسوليني كانت هي العامل الأول والرئيسي في حشد الجماهير نحو أهداف بشعة
قلتم إن أكثر المستفيدين من هذه العملية هو أردوغان، وهذا يعني أن هناك مستفيدين آخرين، فمن هؤلاء حسب رأيكم؟
عقب فشل المحاولة الانقلابية جرت عمليات تصفية واسعة في صفوف المؤسسة العسكرية قبل التحقيق في أحداثها والكشف عن ملابساتها، وتم استدعاء مجموعة من العسكريين الذين أدينوا وتمت محاكمتهم في محاولات انقلابية من قبل، ليحلوا محل هؤلاء المُسَرَّحين.
من جهة أخرى أفادت بعض التقارير التي أعدها الخبراء أن عمليات التصفية والتسريح شملت أيضا كل من لم يدعم السلطة الحالية في محاولاتها جر البلاد إلى مغامرات مجهولة العواقب، حتى ولو كانوا من مؤيديهم. إنني لست على علم بكافة التفاصيل والمجريات لكن يمكنني القول: إن هناك آلافا من العسكريين الذين ليس لهم علاقة بالانقلابات ولا يؤيدونها قد جرى تصفيتهم، وإذا ما نظرتم إلى هوية هؤلاء الـمُسَرَّحِين ونوعية الذين حلوا محلهم في رتبهم يمكنكم حينئذ الاطلاع على المستفيدين.
هل تعتقدون أن الجيش التركي سيظل صامتا إزاء تلك الممارسات التي تم القيام بها في الشوارع؟
من واجب الحكومة أن تسارع بالكشف عن الذين قاموا بهذا العمل وتقديمهم للقضاء، وبذلك ستتم تبرئة من لم يشارك في الانقلاب وتُنْفَى عنهم التهم. لكن الواقع يشهد بأن الإجراءات المتبعة والممارسات التي تجري على الأرض تسير عكس هذا الاتجاه. لقد وقعت منذ البداية أحداث مؤسفة، فقد تعرضت سمعة الجيش التركي للإهانة من خلال عرض صور على شاشات التلفزة الموالية للحكومة لضباط رفيعي المستوى في صورة مهينة،
وعليهم آثار التعذيب أثناء التحقيق معهم. كما تم ضرب أحد الجنود الذين كانوا يتواجدون في الشارع حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، في حين أن هذا الجندي لم يكن على علم أساسا بسبب خروجه إلى الشارع.
وبالتأكيد مثّلتْ كل هذه الممارسات إهانة للعسكرية الوطنية، ولا شك أن كل من شاهدها أو اطلع عليها من أفراد القوات المسلحة مهما كانت هويته قد أصيب بنوع من الأذى وخدش الكرامة.
اللافت في الأمر أنه كان هناك فئة بين الجماهير التي خرجت بإخلاص لإنقاذ الوطن من شر الانقلاب كما صُوّر لها تقوم بالسيطرة على الشوارع، وتمارس هذه الأعمال الوحشية، يظهرون بين الناس وكأنهم أفراد من شعبنا العاديين، في حين أن مكانة الجيش في نفوس الشعب التركي لا تسمح له بممارسة هذه الأفعال.
وقد أشارت بعض التحليلات والكتابات إلى ذلك، لقد كانت هذه الفئة التي انخرطت في صفوف الجماهير يبدو عليها أنها مدربة ومجهزة سلفا للقيام بهذه الأفعال، فملابسهم وطريقة تعبيراتهم وخطاباتهم تشبه إلى حد كبير تعبيرات وملامح المنظمات المتطرفة من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما. هذا فضلا عن أنهم كانوا مدربين على قيادة آليات ومركبات صعبة كالدبابات، ممن لا يتسنى للمواطن العادي أن يكون على دراية بها. والسؤال هنا: هل قاموا بدعوة هؤلاء الذين أعدوهم من قبل ليلعبوا دورا في هذه المسرحية؟
لا أستطيع أن أخمن ماذا يمكن أن يقوم به الجيش بعد هذه المرحلة؟ لقد كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحافظ على تقاليدها وثقافتها رغم الضغوط التي مورست عليها.
تعيش السلطة الحالية الآن حالة من جنون القوة، لذا تتسم إجراءاتها وعملياتها التي تقوم بها إزاء الجيش حاليا بالسرعة، ومن شأن هذه التحولات السريعة التي تقوم بها أن تأتي بنتائج عكس ما تتوقع، وتمهد لظهور نوع آخر من المشاكل لم يكن في حسبانهم، لأن اتخاذ قرارات بلا دراسة أو تأن وروية تجاه مثل هذه المؤسسات الجادة يفتح أبوابا من المشاكل يستمر أثرها حتى زمن طويل.
إن تركيا بحكم موقعها الجغرافي تكتسب أهمية كبيرة في المنطقة، ومن جانب آخر فعضويتها في كيان دولي كبير كالناتو يضفي عليها طابعا آخر من الأهمية ويفرض عليها في الوقت نفسه شروطا معينة، لذا فإن هذه الأهمية وهذا الوضع سيحتم على المجتمع الدولي دورا تجاه تركيا، حتى لا تنزلق فيما انزلقت فيه دول الجوار من الفوضى والاضطراب.
كما آمل أن تُلقي ثقافة “الدولة” بثقلها في هذا الموضوع وتدفع المسئولين إلى التعقل لإنهاء هذا الوضع المتردي الذي لا يفتأ أن يخرجنا من دوامة للأخطاء ليدخلنا في دوامة أخرى، وألا يجعلوا الجيش ميدانا لتصفية حساباتهم مغلبين في ذلك مصالح دولتهم وأمتهم على المصالح الشخصية الضيقة، حتى لا يؤدي عدم الحرص في هذا الخصوص إلى الإضرار بمكانة الجيش وسمعته التي يستحقها.
كيف تفسرون عدم انتفاضة الشعب التركي ضد هذه الإجراءات التعسفية التي يمارسها أردوغان وحكومته؟
أحب أن أوضح هنا نقطة مهمة وهي أنه ليس في ثقافة الشعب التركي ولا من أعرافه فكرة التمرد، خاصة إذا كانت هذه الإجراءات التعسفية التي تُمارَس ضده تتم من قبل الدولة، فإنه يميل إلى تقبل الأمر الواقع حتى ولو لم يكن راضيا عنه.
وقد أشارت بعض التحليلات والكتابات إلى ذلك، لقد كانت هذه الفئة التي انخرطت في صفوف الجماهير يبدو عليها أنها مدربة ومجهزة سلفا للقيام بهذه الأفعال، فملابسهم وطريقة تعبيراتهم وخطاباتهم تشبه إلى حد كبير تعبيرات وملامح المنظمات المتطرفة من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما.
أضف إلى ذلك أن الإجراءات التعسفية الأخيرة لم يشهد لها التاريخ التركي القريب مثيلا، ففرض الوصاية الكاملة التي تحدثنا عنها على وسائل الإعلام، وتحويلها إلى جهاز يضخ الدعاية السوداء ضد أي فئة أو فصيل يحاول الاعتراض حتى ولو كان من المقربين منهم بالأمس، ومصادرة المؤسسات الإعلامية، والزج بالصحفيين المستقلين في غياهب السجون والمعتقلات، والتضييق على كل الوسائل التي يمكن أن يعبر فيها الإنسان عن رأيه حتى وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا أدى في النهاية إلى أن أصبحت وسائل الإعلام الحكومية الموالية ومن يدور في فلكها هي المصدر الوحيد للمعلومات؛ ومن ثم فالشعب الذي يتابع هذه الوسائل لا يمكنه تقييم الوضع إلا في ضوء هذه المعلومات المفلترة التي تقدمها له وسائل إعلام أردوغان وفريقه؛ إذ ليس له من سبيل آخر يمكنه من الاطلاع على حقيقة ما يجري من أمور.
وبعد فضائح الفساد في ديسمبر عام 2013 والإجراءات التي اتخذوها في سلكي القضاء والشرطة التي تحدثنا عنها آنفا لم يكتفوا بذلك بل وجهوا نوابهم في البرلمان لإصدار قانون أسموه” الاشتباه” أو الشبهة المعقولة، وهو قانون يتيح للقضاء إصدار مذكرات اعتقال في حق من تحوم حوله “الشبهات” دون وجود أدلة تدينه. كما أسسوا محاكم خاصة تتكون من قضاة مقربين أطلقوا عليها محاكم “الصلح والجزاء”، يحال إليها هؤلاء المعتقلون بناء على تلك الشبهة المعقولة، فصارت القوانين والمحاكم والاعتقالات بذلك أداة للعقوبات السياسية.
وفي سلك الشرطة أيضا قاموا بالتخلص من خيرة رجال الشرطة الذين تلقوا تدريبات عالية المستوى في أوروبا وأمريكا، ولديهم خبرة عالية في الكشف عن الجرائم والتعامل مع مرتكبيها ومنع العمليات الإرهابية قبل حدوثها، فضلا عن رعاية القوانين واحترام حقوق الإنسان، واستبدلوا بهم آخرين من المقربين. وبدلا من أن تكون الشرطة جهازا لخدمة الشعب، يمثل الحقوق والعدالة صارت أداة في يد الحكومة تبطش بها كما تشاء، وعاد التعذيب مرة أخرى إلى السجون والمعتقلات بعدما كانت حديثا يتناقله الناس عن الماضي.
وفي هذا الجو المرعب الذي بات يخيم على البلاد لا يمكن أن يجازف الناس ويفكرون بالخروج.
فسابقا كانت الجماهير تخرج بكثرة للاعتراض حتى على المشاكل البسيطة كما خرج الناس للحفاظ على البيئة في منتزه “جيزي بارك” بتقسيم، عام 2013، وجرى قمعهم بشدة على يد حكومة الحزب الحاكم الذي كان يتزعمها أردوغان آنذاك. ومن بعدها خفت حدة هذه الاعتراضات حتى تلاشت تماما بسبب الإجراءات التي قاموا بها والقوانين التي سنّوها. والآن وبعد محاولة الانقلاب دع عنك فكرة توجيه النقد إلى الحكومة بل بلغ التعسف حدا أن يعدّوك من الخائنين إذا لم تشترك معهم في الهجوم على خصومهم، وتبني خطابهم.
ولست أدري هل يكون من المنطقي في مناخ كهذا أن نتوقع من أبناء الشعب أن ينزلوا إلى الشوارع لإدانة هذه الممارسات التعسفية التي تمارسها الحكومة؟
إن الكفر قد يدوم لكن الظلم لا يمكن أن يدوم. إن دائرة الظلم في البلاد آخذة في الاتساع، وبالتأكيد ستطال شرائح أكبر من المجتمع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل، ووقتا ما سيشعر الشعب التركي بالحاجة إلى التعبير عن رأيه تجاه هذا الظلم، وسيسعى لإسماع صوته للآخرين.
هل تعتقدون أن الولايات المتحدة ستسلمكم إلى نظام أردوغان مقابل صفقات سياسية بين الطرفين؟
إن موضوع المطالبة بتسليمي ليس أمرا جديدا ظهر بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، بل قام رئيس الجمهورية الحالي عقب فضائح الفساد في ديسمبر 2013 الذي كان حينها رئيسا للوزراء بمطالبة أمريكا علنا أمام حشود من مؤيديه بتسليمي لهم، ورغم مرور زمن طويل على هذه التصريحات الجماهيرية لم تتخذ الحكومة التركية أي إجراءات رسمية في هذا الشأن. وحسب ما أوردت بعض وسائل الإعلام فقد كان المسؤولون الأتراك في معظم لقاءاتهم التي تجمعهم مع نظرائهم الأمريكيين يبحثون معهم هذا الطلب، ويقدمون لهم بعض الحوافز لتحقيق ذلك، وأحيانا يربطون هذا الملف ببعض المصالح الاستراتيجية المشتركة. لكن المسئولين الأمريكيين لم يعيروا اهتماما لهذا الابتزاز، كما أن المنظومة القضائية هنا تعمل بشكل حيادي ومستقل، ولا تخضع لهذا النوع من الابتزاز والتهديدات. ولا أظن أن أمريكا ستغامر بسمعتها في ملفات حقوق الإنسان والعدالة لا سيما على أراضيها من أجل إرضاء رغبات شخصيات متقلبة كهذه.
لقد أرسلوا مؤخرا إلى هنا تقارير ملفقة تم ترتيبها في وقت مسبق تمتلئ بمزاعم لا دليل على صحتها. أعتقد أن المؤسسات القضائية تدرس تلك التقارير، وتناقش ما إذا كانت تتضمن وثائق جادة. ولكن أرى أن القناعة السائدة لدى المتابعين لهذا الشأن في أمريكا أنه لا يوجد أدلة مقنعة تقتضي تسليم العبد الضعيف لهم.
وأجدها مناسَبة لأكرر ما سبق ورددته سابقا في جميع لقاءاتي الإعلامية: لتؤسَّسْ لجنة دولية من قِبَل أطراف محايدة، تكون مهمتها التحقيق في ملابسات ما جرى في تركيا، على أن يوفروا لهؤلاء المحققين المناخ الآمن بحيث يضمنون سلامتهم الشخصية هم وعوائلهم، وساعتها سأرضى بكل النتائج التي تقرها اللجنة، وإذا كان من بينها إدانتي فسأعود بكل طواعية إلى بلادي مسلما نفسي للعدالة لتتخذ في حقي ما تشاء. وأعتقد أن هذا طريق أيسر من الضغوط وممارسة أساليب وطرق سياسية ملتوية.
لتؤسَّسْ لجنة دولية من قِبَل أطراف محايدة، تكون مهمتها التحقيق في ملابسات ما جرى في تركيا، على أن يوفروا لهؤلاء المحققين المناخ الآمن بحيث يضمنون سلامتهم الشخصية هم وعوائلهم، وساعتها سأرضى بكل النتائج التي تقرها اللجنة
إذا كان هناك احتمال أن تسلمكم الولايات المتحدة، فهل تفكرون في القدوم إلى مصر؟
مصر تتمتع بمكانة مهمة في العالمين العربي والإسلامي، ولا شك أن زيارتها والجلوس بين علمائها رغبة عزيزة لكل طالب علم، وقد بلغتني أنباء عن توجيه بعض الوجوه الثقافية والسياسية للعبد الفقير دعوة بالقدوم إلى مصر، وهذا موقف يستحق الإشادة والثناء وتوجيه الشكر لمن فكروا فيه.
وبهذه المناسبة، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير للقيادة المصرية على موقفها النبيل والشهم حيث وقفت حائلا ضد استغلال تركيا لمنظمة التعاون الإسلامي في محاولاتها لإدراج الخدمة ضمن الكيانات الإرهابية، فهذه الوقفة الحازمة من مصر ذات الثقل في المجتمع الدولي لا يمكن أن تنسى، بل هي جميل لن أنساه ما حييت.
لكن كما ترون فأنا هنا أعيش منزويا مع بعض من طلابي نتدارس معا كتب التراث الإسلامي، ولا أغادر المبنى الذي أسكن فيه إلا لحاجة ملحة كالتداوي أو تلقي الرعاية الصحية، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أكون سببا لأي فرد أو دولة في أي أزمة يمكن أن تقع، كما لا أتصور نفسي مصدرا للحرج لأي بلد أتواجد فيه ولا سيما بلدا عزيزا على قلبي كمصر.
إذا قررت الولايات المتحدة ترحيلي من هنا أو تسليمي إلى تركيا لأية اعتبارات فستكون وجهتي القادمة هي تركيا فحسب بكل تأكيد. وإلا فأنا لا أفكر في مغادرة هذا المكان الذي أقيم فيه والتوجه إلى بلد آخر،
وأنا هنا أردد مع الشاعر “نفعي” قوله: “لم نلق من الدنيا صفاء، ولا نتوقع من أهلها شيئا، ولا حاجة لنا سوى باب ربنا”.
كيف تفسر التناقض الحاصل في شخصية أردوغان، ففي الوقت الذي يطبّع العلاقات مع إسرائيل من جديد يصرح بعدائه لمصر إدارة وشعبا في كل محفل؟
إن هذه الشخصية التي تدير البلاد في تركيا حاليا تعيش في أوهام السلطنة والخلافة. فرغم عدم تصريحه بذلك على الملأ، فإنه يحلم بإمارة المؤمنين، وكثيرا ما يلقبه المقربون منه بالسلطان أو أمير المؤمنين لأنهم يعلمون أنه يحب أن يُدعى بذلك، وهو أيضا يرى نفسه أهلا لقيادة العالم الإسلامي، ومن ثم كان يظن أن العالم الإسلامي سينقاد لرغباته تلك. إنه يتكلم عن الدعاء في قبر صلاح الدين الأيوبي والصلاة في الجامع الأموي وكأنه يتكلم عن أجزاء من سلطنته. لقد قدم الدعم للمنظمات الإرهابية التي تقاتل على الأرض السورية أملا في إسقاط النظام هناك وخضوع البلاد له. كما كان يحلم أن يفرض هيمنته على مصر إبان حكم الإخوان ظنا منه أنه سيتمكن من ذلك. وعندما أخفق وخابت مساعيه بدأ ينقل هذا الملف داخليا يجتذب به أصوات الناخبين وبدأت آلته الإعلامية تقدمه على أنه نصير المظلومين وصوت المستضعفين في كل مكان، في حين أنه لم يقدم لهم شيئا يذكر سوى شعارات جوفاء.
لكن المرير في الموضوع أنه اتخذ من مصر هدفا في كل محفل أو مناسبة ينال منها، ويحرض مؤيديه على توجيه العداء لها، وهناك تقارير إعلامية تقول إنه قد توجه إلى ما هو أبعد من ذلك.
إن الشعبين التركي والمصري تربطهما روابط وعلاقات وثيقة تشكلت عبر قرون ممتدة من الزمان، لذلك فإنني أعتبر ما يجري الآن من تصرفات وتصريحات غير مسئولة من الجانب التركي في حق الجانب المصري نوعا من العبث والهذيان. لكني على ثقة بأن هذا العبث سيتوقف عند نقطة معينة، وسيواصل الشعبان مسيرتهما الأخوية من جديد، في ظل وعي كل منهما بأهمية المكانة التي يتمتع بها كل من البلدين.
إذا قررت الولايات المتحدة ترحيلي من هنا أو تسليمي إلى تركيا لأية اعتبارات فستكون وجهتي القادمة هي تركيا فحسب بكل تأكيد. وإلا فأنا لا أفكر في مغادرة هذا المكان الذي أقيم فيه والتوجه إلى بلد آخر،
لقد تاجروا بقضية سفينة “ماوي مرمرة” واستغلوها في محافلهم الانتخابية أيما استغلال، كسبوا بإعلان عداوتهم لإسرائيل التعاطف الداخلي وحصدوا كثيرا من الأصوات، الشعب التركي عاطفته الإسلامية تجاه قضايا أمته جياشة، لقد أنكرنا عليه في هذه القضية “ماوي مرمرة” أن يتصرف وهو مسئول عن قيادة البلاد تصرف الناشطين السياسيين، وبحكم مسئوليته كان عليه أن يتخذ التدابير اللازمة لحماية أرواح مواطنيه، وألا يعرضها للهلاك بدفعهم إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، لقد تألمت كثيرا لهذه الأرواح الطاهرة البريئة التي استشهدت في هذا العمل واستنكرت على من قاموا بهذا الفعل غير الإنساني.
كان هذا رأيي ولم أتردد في إعلانه، حفظُ الأرواح مقدم على حفظ الدين، لقد كان كلامي ساعتها موجها إلى الحكومة، أخذوا هذا الكلام وحرفوه عن سياقه، وبدأت ماكينات إعلامهم تشتغل على التشويه والتخوين والاتهام بالعمالة لإسرائيل، ووجدوها فرصة للمتاجرة بهذا الملف واستغلال مظلومية إخواننا من الفلسطينيين لحصد الأصوات في الداخل التركي ومغازلة العالم الإسلامي بشعارات جوفاء في حق القضية الفلسطينية ونصرة إخواننا الفلسطينيين في حقوقهم المشروعة، بينما التعاون مستمر على أشده بينهم وبين إسرائيل في الخفاء.
إنهم وبعد استغلالهم لهذا الملف أيما استغلال لإحراز بطولات دونكوشوتية وهمية تراجعوا عن كل شروطهم
واختاروا طريق التطبيع مع إسرائيل، ولم يقدموا لغزة أي شيء يذكر، وضيعوا حقوق الضحايا الأبرياء الذين قضوا في هذه العملية، فلم يفكوا الحصار عن غزة، ولم تجر محاكمة الجناة في المحاكم الدولية على النحو الذي كانوا يشترطونه. والأعجب أنهم راحوا يسوّقون هذا التطبيع في تركيا ودول المنطقة على أنه انتصار لهم،
ومما يحز في النفس أيضا إغلاقهم لجمعية كيمسة يوكمو التي كانت تقوم بدور مهم في تقديم المساعدات المالية والطبية لإخواننا في غزة. فكل ما سبق يبين لك مدى ما تنطوي عليه سريرتهم من خداع ومراوغة لا يليقان بالمؤمن حقا.
هناك من يؤمن بأن حركة الخدمة قريبة من خط الإخوان؟
إذا كان المقصود بخط الإخوان هو الإسلام السياسي، فنحن منذ بدايتنا بعيدين كل البعد عن هذا الخط، لم يكن قط أبناء الخدمة طالبي سلطة أو ساعين إليها، ولم يدر في خلدنا قط أن نكون فاعلين في إدارة البلاد من أي زاوية. لقد كان همنا الأول والوحيد ابتغاء مرضاة الله من خلال العمل على إنشاء جيل يتحلى بالعلم والفضيلة لنعالج بهذا الجيل ما تفشى في أمتنا ومجتمعاتنا من أدواء الجهل والفقر والنزاعات.
لقد كان أحد النواب في بدايات تأسيس الجمهورية التركية مصيبا حينما عبّر في إحدى خطبه قائلا: إن الحكام هم انعكاس لما يحمله أفراد المجتمع من قيم، فإذا كان الناس كالحليب فإن حكامهم هم زبدته، فالمجتمع الذي يتشكل من أفراد فضلاء لا شك أن حكامهم سيكونون كذلك أيضا. هذه رؤيتنا التي تبنيناها، ومن ثم قام أبناء الخدمة بفتح مساكن للطلبة ومعاهد تحضيرية ومدارس وجامعات، وشجعوا القادرين على التكفل بالفقراء من الطلاب من خلال توفير المنح الدراسية لهم، وفتح مراكز مجانية للمطالعة والمدارسة والتقوِّي في موادهم الدراسية، لحض المجتمع على تعليم أبنائه، وإزالة العوائق من أمام أولياء الأمور غير القادرين في سبيل تعليم أبنائهم، للقضاء على مشكلة الجهل. كما قاموا أيضا بحثّ الأغنياء على توسيع نشاطاتهم الاقتصادية في الداخل والخارج، وتوفير مزيد من فرص العمل للقضاء على مشكلة الفقر. فتخرّج من هذه المدارس أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة، يجيدون لغات مختلفة ولديهم اطلاع على ما جد في العالم المعاصر من علوم وتكنولوجيا. وحصل طلاب هذه المدارس على الجوائز الأولى في أولمبياد العلوم والرياضيات والمخترعات الحديثة، وصارت هذه المدارس ماركة في مجالها في داخل وخارج تركيا، حيث توسعت نشاطاتها لتمتد إلى 170 دولة. وقد لاقت في كل الدول التي حلت فيها ترحابا كبيرا من المسئولين وأبناء الشعب لما لمسوه من جدية واحترافية في المجالين التربوي والتعليمي.
وقد أسهمت هذه المؤسسات التربوية في تأسيس روح الوفاق بين الأقطاب المتنازعة، ففي البوسنة مثلا جمعت مدارسنا بين البوسني والصربي والكرواتي في صف واحد وهم الذين كانوا بالأمس متحاربين، وأسهمت بذلك في تقليص الخلافات وتعزيز الاتفاقات، مما نتج عن ذلك كله اهتداء أبناء الخدمة إلى تأسيس منتديات للحوار والتعارف والتقارب بين الحضارات والثقافات والأعراق والأديان، عملا بقوله تعالى:” لتعارفوا”.
إن أرضية الإخلاص وبذل الجهد والتضحية التي أسسها إخواننا بعرقهم ودموعهم ودأبهم اجتمع عليها من الأعراق والأطياف والثقافات والأديان مالم يجتمع على أرضية أخرى من قبل، ذلك لأنهم يتوخون خدمة الإنسان أيا كان لونه أو عرقه أو دينه دون تفرقة أو تمييز، ولشعور المجتمعات بإخلاصهم في هذا المجال تعاونوا معهم وأفسحوا لهم قلوبهم وأوطانهم.
في الستينيات جاءني أحد أقطاب الإسلام السياسي في تركيا، وعرض عليّ المشاركة في تأسيس حزب سياسي، لكني رفضت عرضه وأصررت على مواصلة العمل في المجال المجتمعي، وبعدها عُرضت علينا فرص كثيرة للانخراط في العمل السياسي، وطلبوا منا ترشيح من نراه مناسبا لتولي وزارات بعينها، لكنا لم نستجب لذلك أيضا. لو كانت لنا مآرب سياسية لكنا قد قطعنا فيها شوطا كبيرا، أو لكان لنا حزب سياسي مستقل، لكن كل هذا يتناقض مع رؤانا وأفكارنا التي نؤمن بها. ومن ثم لم يكن لنا علاقة بأي حزب ولم ندعم في حياتنا سوى المبادئ الإنسانية والديمقراطية التي نؤمن بها؛ لذلك كانت الأحزاب السياسية هي التي تخطب ودنا بالتقرب إلى ما نؤمن به من قضايا مجتمعية، ومن كان صادقا منهم في التقرب إلى هذه القيم والمبادئ كان يلقى منا الدعم والتأييد أيا كانت مرجعيته وخلفيته التي جاء منها. فبالأمس دعمنا تورغوت أوزال وهو وسط اليمين، وبعده بعض إجراءات ومشاريع بولنت أجاويد وهو يساري، ثم كان دعمنا لحزب العدالة والتنمية في بداياته الأولى، وذلك لأن كل هؤلاء كانوا يتحدثون معنا بنفس اللغة التي نتحدث بها.
أقول كل هذا لأبين أننا لم نقف يوما في موقف قريب من خط الإسلام السياسي، ولا يعني هذا أننا ننكر عملهم في هذا المجال ما داموا مخلصين للأطر الديمقراطية. بل إن مبدأنا الرئيسي هو احترام أفكار كل العاملين في الحقل الإسلامي الوسطي المعتدل مهما كانت انتماءاته، لكن خياراتنا في البعد عن هذا الخط منذ البداية هو ما سِرنا عليها وسلكنا طريقها، ولا نفكر في تغيير هذا المسار بعد ذلك أيضا.
كيف ترون مستقبل تركيا؟
إنني على يقين بأن المستقبل سيتغير إلى الأفضل، فهذه الممارسات العابثة التي تجرف بمقدرات الأمة نحو المجهول ستتوقف عند نقطة معينة. كما أنني أعقد الأمل على صحوة الشعب التركي واستفاقته من غفلته، فالأوضاع الجارية الآن من مظالم وانتهاكات واضطرابات محلية وخارجية ستدفع تركيا إلى الانعزال عن محيطها، وهو ما لا ينبغي أن يكون. فمكانة تركيا العالمية والجيواستراتيجية والمعاهدات والاتفاقات التي وقعت عليها تركيا مع جميع الأطراف تقتضي ألا تستمر تركيا في هذه الأوضاع حتى لا تفرض عليها عقوبات دولية تضر بالشعب وبسلامة أراضيه.
لذلك يحدوني الأمل بأن يتحكم المنطق السليم، وأن يُغلّب منطق الدولة على منطق الأشخاص المغامرين، وتحتكم البلاد إلى أعرافها المتبعة في مثل هذه الأحوال، وتعود إلى المسار الديمقراطي الذي بدأت تنتهجه في بدايات حكم العدالة والتنمية، سعيا إلى تحقيق متطلبات شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في بدايات الألفية الثالثة.
- تم الإنشاء في