"المعينية" إلى حد ما
إن تماسك أجيال الغد وقوامها وسعادتها، حاصل من حواصل الأرواح والأنفاس المضحية هذا اليوم. وإن انتظار مستقبل متكامل ومنظم من ركام البشر الضجر الشريد السـادر في الراحة والرخاوة، ليس إلا محض وهم وسلوان كاذب. المستقبل يتطور إلى براعم في رحم اليوم، ويربو برضاع اليوم، ليتماسك قوامه. وكما يحمل وجودنا اليوم سمات أمسنا، بخيرها وشرها، كذلك يكون الغد نسـخة من اليوم بصورتها المطورة والموسعة والمتحولة من الفردية إلى الاجتماعية. وإن حياتنا "الملّيّة" بألوانها وأحوالها الخاصة، تشبه نهراً يسيل متسرباً من جبال الماضي ووديانه، وسهوله وأريافه، فينحدر إلى المستقبل بتلوناته الخاصة. وإذ ينحدر نحو قابل الأيام، يحمل معه خصوصيات الأرجاء التي يمر منها. وسنرى إن أمعنا النظر في الشلال الذي ننحدر نحن أيضاً معه، آثار أقدام أجدادنا، وخلجات أرواحهم، ونتاجات أدمغتهم وعضلاتهم، وأفكارهم، وخفقات قلوبهم. فلا جرم أنهم منابع حياتنا، وأننا بأنفسنا وبحركيات تاريخنا، عصارة وجود الأجيال القادمة.
فإذا فهمنا هذه النكتة اللطيفة في التوارث، نعلم أن روح الأمة تحافظ على جدتها وشبابها وتبقى إلى "أبد المدة"، مهما هرمت أحوال الدنيا، وتبدل الزمان كلاً، وتغيرت العصور، وراح من جاء، وأعقب الآتون بعدهم من راحوا. ففي خط التبدل والتحول هذا، إذا انقلب أبو بكر إلى عمر بن عبد العزيز، وتحول عمر إلى الفاتح، وصار عليّ روحاً للغازي "بَطّال"، وتمثل أبطال بدر كرة أخرى بعمق محتواهم ومعناهم في "ملازكرد" و"قوصوة" و"جناق قلعة"،[1] فإن ذلك يعني انشداد كل شيء بالأبد. وعندي أن هذا هو سحر التجدد والحفاظ على الشباب. والواجب أن نجعل زوالنا غداً فرادى، أساساً وعصارة لوجودنا وبقائنا "ملةً"، فنستقبل في سعادة وفرحٍ أشد أنواع الموت رعباً، حتى نضمن الأبد بأبعاده الدنيوية والأخروية. إن الأبطال الذين يجهزون غدنا، والذين تقصر عنهم تصورات المدن الفاضلة، هم أولئك الذين يستفيدون على أتم وجه من كل فصول العمر، من يوم إدراك الألوان الوردية للدنيا إلى عوالم الشباب المتوثب المزدهر ألوانا، ومن مرحلة النضوج المتميز بالصلابة والقوة والإرادة، إلى زمن الشيخوخة المكين والمستقر، فتراهم يوازنون كل خطوة من خطواتهم، ويحيون عمراً مليء الأيـام، ويستعدون للموت في كل منعطف من منعطفات الحياة، ويموتون إذ يموتون ملتفتين بوجوههم قِبَلَ الأبعاد وغرقى في العشق. هم أولئك الأبطال المجهولون وصروح الروح المتحركة على قدمين، يسبقون إلى الأمام أبداً، ويظهرون في الخلف دائماً، يعيشون حياة من يترك ذكرى لطيفة لأجيال، ولكنهم يَجِدّون في تحقيق لقاء الموت بملاحظة أن يقال: مات مسكين ههنا!
فإن عجزنا في زماننا هذا عن إعداد أبطال كهؤلاء، أو عن منحهم فرصة تمثيل الحركيات المذكورة آنفاً، أو عن حياكة فصول العمر المختلفة بمغزل حركيات هذا الروح والمعنى، فلن نستطيع أن نَعِدَ بشيء باسم المستقبل، ولا أن نديم وجودنا في الأيام المقبلة. فإذا اقتنعنا بأن المرحلة التي نحن فيها أساسٌ للجزء الذهبي من الزمن المقبل، فينبغي أن نستفيد أقصى استفادة من هذا الأساس بالبصيرة والشعور والإدراك والصبر، وتجهيزه للمستقبل بالحفاظ على الروح والجوهر، مع إشباع جوانبه المفتوحة للتفسير بخزائن تجعله قادراً على احتضان المستقبل. ولا محيص من تلك المحذورات المذكورة آنفاً إذا ما أهملنا المتطلبات اللازمة. فلا يصح في روح الديـن وقواعد "الشريعة الفطرية"[2] إهمال الأسباب، ثم توقع حصول النتائج المتعلقة بالأسباب، أعني من جهة العلية بداهة. وما نشهده دائماً في صدر الوجود من "مُعَيَّنِية"[3] (Determination) بقدر معلوم وشروط متعلقة بظروفها، جارية في أحداث التاريخ أيضاً. إن البشر والحوادث السالفة في الماضي والتي صارت تاريخاً، هي اليوم شبيهة بالحيوانات المنوية المودعة في حضائن اللقاح، أو بالبيوض في بيوت التفقيس أو تحت عقدة الحياة... وتُعَدّ مصدراً لإضفاء الصورة على الحاضر. وإن الأسباب المنثورة اليوم -من جهة العِلّية- كالبذور على سفوح التاريخ، هي عوامل تُعَيّن نتائج الغد المتسمة ببُعْد الحكمة وصبغة العدالة وسلوكية الاستقرار ومعادلة الاستقامة.
أوَلَمْ يتكرر هذا دائماً وحتى الآن؟ أليست الأيام السوداء التي شهدناها في مرحلة معينة، وليدة "لوثيات" المرحلة التي سبقتها؟ ألم يفر تنور الطوفان في الأرض التي يدوس عليها المخبولون المعاندون للنبي نوح عليه السلام؟ أليست الأعاصير الثائرة في "الأحقاف" تدميراً من أجل تطهير الأرض التي دنستها "عاد"؟ وهل أضحية "سدوم" و"عاموراء"[4] إلاّ فدية الأرض للسماء؟ ألم تنسحق "الهند" تحت الأحذية الانكليزية سـنين في الماضي القريب بسبب اعتبار قسم من أهل الهند لآخرين منهم "منبوذين"؟ ألم يكن التفسير الخاطئ للكون والتفرق والجهل سبباً لنهش الأقوام الآسيوية بعضها لبعض في العهود القديمة على يد جنكيز خـان وهولاكو وأمثالهما؟ واكتوائهم في البأسـاء والضراء في العهود الجديدة على يد الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية؟ وما لنا نحوم في الأجواء البعيدة... انظروا إلى الذين غدروا بدولةٍ عالية، كانت عنصر موازنة في المنطقة المباركة التي امتدت عليها حتى أوائل القرن العشرين من أفريقيا إلى البلقان ومنها إلى أجزاء من آسيا، وأمة مجيدة، ألم يصبهم وبال ما صنعوا أضعافاً مضاعفة؟ وماذا عمل صراخ "قرطاجة" الآيس، ثم عويل النصارى الأوائـل المفزع، وأنين المظلومين جميعاً في الإمبراطورية الرومانية الشاهقة؟ ألم تسقط قاعاً صفصفاً؟ وانتزاع لنين وستالين وهتلر وموسـوليني من بـدن الإنسـانية كورم خبيث، بتماثيلهم وعواطفهم وأفكارهم، أليس ذكرهم باللعنات اليوم بسبب طغيانهم الذي فاق طغيان أعتى جبابرة التاريخ؟
إن المسلمين الأوائل، المظلومين والمغبونين، قد أغرقوا أعداءهم في بحر تخاصمهم فيما بينهم، ونشروا الألوية في أرجاء الأرض بعدالتهم. فكانت "بـدر" و "فتح مكة" عنوان حاكمية الحق والعدل، وكانت "أُحد" عنوان ظفر المظلوم والمغبون. وظلت الانتصارات تترى مـا دام السـيف في كنف القلب... وحتى المواقع الظاهرة بسيماء الهزيمة تحولت في تلك المرحلة المباركة إلى ظفر وفوز، وازدانت "أقواس نصر" على الطرق الموفية إلى المستقبل. ونقيض ذلك، إذا انتقل السيف إلى كف القوة، ووُثّقت ألسن القلب بالأغلال. ألم تخلف -إذ ذاك- كل حاكميةٍ مادية، متلبسةٍ بلبوس النجاح، فشلاً وهزيمة في الأرواح؟ فحولت وتيرة الظفر والفوز إلى ميادين تصول فيها الحسرة والهجران؟
فمهما كان الاسم والعنوان، فالشر يلد شراً، والظلم ينقلب إلى مظالم تدور حول حلقة مفرغة ودائرة فاسدة. والذين يزرعون الفتنة، أمس أو اليوم، يحصدون الشر، والذين يزرعون فسائل الخير يجنون ثمار الخير والبركة. وفي الواقع، ربما تعرضت نتائج مساعي الخير والشر إلى إمهال مؤقت، لكنها ظهرت وبرزت حينما أينعت، فأذاقت الظالمين الآلام في حسرتهم، وصارت وسيلة لإنقاذ المظلومين وإسعادهم. وقد تنقضي سنوات أو عصور بين السبب والنتيجة. ولكن حين حلول "الوقت المرهون"، والإحساس بالأثر، تغدو النتيجة عين الجنة للأبرياء، وعين الجحيم للعصاة والظالمين.
ويمكن أن نفسر ذلك كله بالمُعَيّنية -أو بالتناسب بين السبب والنتيجة- التي في روح التاريخ بمعنى من المعاني، أو الأصح والأصوب: أن نشرحه وفاقاً لروح العدالة في الشريعة الفطرية، أو نتقبله سبباً في تكرر التاريخ. ومع أن الأسباب القابعة خلف حوادث التاريخ كثيرة لا تحصى، لكن القدير المطلق جعل الأسباب ستاراً لمشيئته وقضائه، وأحاط دنيانا بها. فهذا لطف إلهي ذو حكمة -كما هو في الإرادة- وهبه الله تعالى للإنسان. وهو وسيلة لنا وزينة لازمة نتزين به لتنفيذ التكاليف التي علينا.
من هذه الوجهة: قد يكون دبيب تحركٍ صغيرٍ بدايةً لكيان كبير بعد سنوات وسنوات، وقد تحصل نتائج وخيمة تزلزل العصور من قناعة خاطئة أو تصرف سقيم.
ولذلك، يحق لنا أن نترقب نسيجاً مباركاً بألوان الغد السعيد يحظى باهتمام الإنسانية جمعاء، من هذه النقوش الصغيرة التي تغزلها بمغازل أفكار الخير أجيالٌ محظوظةٌ في الزمن الحاضر.الهوامش
[1] الغازي في التركية بمعنى المجاهد و"بطال غازي" من المجاهدين في جيش الدولة العثمانية، أبلى بلاءً حسناً في الحروب وأصبح بطلا أسطوريا يضرب به المثل في الشجاعة والإقدام. وملازكرد، وقوصوه، وجناق قلعة وقائع مشهورة. (المترجم)
[2] المقصود من الشريعة الفطرية مجموع السنن الإلهية التي فطر الكائنات عليها وأجراها فيها. فهي بهذا المعنى شريعة فطرية وقوانين إلهية واجبة الطاعة والمراعاة. (المترجم)
[3] المعينية: الخصلة التي تحقق ذاتية الشيء (عند هيجل)، وتختلف "وضعية" الشيء عن المعينية بأنها تحدد العلاقة بين الشيء مع الأشياء الأخرى. وفي المعينية تكون عائدية الخصال والصفات إلى الشيء بذاته وعلاقاتها فيما بينها ذاتيا وفي نفس الأمر. (المترجم).
[4] "سدوم وعاموراء هما -حسب المعلومات التاريخية- مدينتان كنعانيتان في جنوبي البحر الميت أبادهما الله لشيوع الفساد حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد. ولا زالت بعض آثارهما شاخصة. (المترجم)
المصدر: مجلة "ياني أميد" التركية، أكتوبر 1996؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي اوغلو.
- تم الإنشاء في